(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))
قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال أبو صالح عن ابن عباس : فلمّا قرأ عليّ (براءة) ، قالت بنو ضمرة : ونحن مثلهم أيضا؟ قال : لا ، لأنّ الله تعالى قد استثناكم ؛ ثم قرأ هذه الآية. وقال مجاهد : هم قوم كان بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم عهد ومدّة ، فأمر أن يفي لهم. قال الزّجّاج : معنى الكلام : وقعت البراءة من المعاهدين النّاقضين للعهود ، إلّا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم ، فليسوا داخلين في البراءة ما لم ينقضوا العهد. قال القاضي أبو يعلى : وفضل الخطاب في هذا الباب : أنه قد كان بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبين جميع المشركين عهد عامّ ، وهو أن لا يصدّ أحد عن البيت ، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام ، فجعل الله عهدهم أربعة أشهر ؛ وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى آجال مسمّاة ، فأمر بالوفاء لهم وإتمام مدّتهم إذا لم يخش غدرهم.
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))
قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) فيها قولان : أحدهما : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، قاله الأكثرون. والثاني : أنها الأربعة الأشهر التي جعلت لهم فيها السّياحة ، قاله الحسن في آخرين ، فعلى هذا ، سمّيت حرما لأنّ دماء المشركين حرّمت فيها.
قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أي : من لم يكن له عهد (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) قال ابن عباس : في الحلّ والأشهر الحرم. قوله تعالى : (وَخُذُوهُمْ) أي : ائسروهم ؛ والأخيذ : الأسير. (وَاحْصُرُوهُمْ) أي : احبسوهم ؛ والحصر : الحبس. قال ابن عباس : إن تحصّنوا فاحصروهم. قوله تعالى : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) قال الأخفش : أي : على كل مرصد ؛ فألقى «على» وأعمل الفعل ، قال الشاعر :
نغالي اللحم للأضياف نيئا |
|
ونرخصه إذ نضج القدور (١) |
المعنى : نغالي باللحم ، فحذف الباء كما حذف «على». وقال الزّجّاج : «كل مرصد» ظرف ، كقولك : ذهبت مذهبا ، فلست تحتاج أن تقول في هذه إلّا ما تقوله في الظّروف ، مثل : خلف ، وقدّام.
قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا) أي : من شركهم. وفي قوله تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) قولان : أحدهما : اعترفوا بذلك. والثاني : فعلوه.
فصل : واختلف علماء النّاسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ حكم الأسارى كان وجوب قتلهم ، ثم نسخ بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (٢) ، قاله الحسن ، وعطاء في آخرين. والثاني : بالعكس ، وأنه كان الحكم في الأسارى : أنه لا يجوز قتلهم صبرا ، وإنما يجوز المنّ
__________________
(١) البيت غير منسوب في «اللسان» غلى. نغالي للحم : نشتريه غاليا ثم نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا.
(٢) سورة محمد : ٤.