آونةً ، مقبّلتها اُخرى. ولكنّك لا تلبث حتّى تشهدها وقد أوشك أن يصيبها إعياءٌ تكاد أن تنوه به ، وتنكر هي ـ بادئ الأمر ـ ما تحسّه ، ثمّ تمضي متجلّدةً تستحثّ نفسها وتستنهضها. ولكنّها رغم هذا لا تقوى ، ولا تستطيع أن تقوّم عودها.
وإذا هي تتشبّث أصابعها بأستار الكعبة ؛ تستعين بها وقد أخذت تحسّ شيئً غاب عن ذهنها ، وتقف مجهودةً لا يستقرّ بها موطئُ القدمين ، كمن على طرف كثيبٍ رخوٍ من الرمال ، وتجيل في ما حولها عيناً حائرةً لعلّها تبصر زوجها أبا طالب يسعى هنا أو هناك ؛ فتجد لديه عوناً على ما تلقى ، ولكنّها لا تراهُ لأنّ ما حضرها في هذه اللحظة غاب عن حسابه.
ثمّ لعلّك تتبعها ؛ وقد خشيت هي أن تلقفها الأبصار المتطلّعة ممّن حضر من اُناس كان دأبهم الاجتماع في أروقة البيت وفي أفنائه ، فإذا رأيتها قد انحازت ناحيةً ، ودلفتْ إلى أستار الكعبة فتوارتْ خلفها عن عيون القوم ؛ فكفاك ما شهدتَ.
وقفْ منها على ملقط السمع دون مرمى العين ؛ لأنّها شاءت أن تتّخذ من الستر المقدّس ردءاً.
واسمع بعد هذا حسيساً خافتاً يأتيك من لدنها ، وأنيناً يحكمه الجلد واصطناع الاحتمال ، وصرخات مكتومةً تكاد أن تضلّها الأذن كأنّها تأتي من مهوىً سحيقٍ بعيد القرار.
ثمّ اسمع نبرة بكاءٍ تخالط هذه الصرخات ، لها غير جرسها وغير رنّتها ، رقيقةٌ رنّانةٌ في غير حدّة ، كأنّها شدو طائرٍ تفتّحت عيناه على شعاع فجرٍ أسفر أو أوشك على إسفار.
وقد يأخذك العجب ، وتملكك الدهشة ، ولكنّه عجبٌ قصيرٌ أجله ، ودهشةٌ لن يطول بك مداها ما دامت فاطمة قد بدت ثانيةً لناظريك ، واهنةً وأشد ضعفاً