ينجي المؤمنين من أهل القرى قبل نزول العذاب. فتلك درجة نالوها في الدّنيا ، وهي درجة إظهار عناية الله بهم ، وترفع درجتهم في الآخرة. والكافرون يحيق بهم عذاب الإهلاك ثمّ يصيرون إلى عذاب الآخرة. وقد تهلك القرية بمؤمنيها ثمّ يصيرون إلى النّعيم فيظهر تفاوت درجاتهم في الآخرة ، وهذه حالة أخرى وهي المراد بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] روى البخاري ، ومسلم ، عن ابن عمر ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثمّ بعثوا على أعمالهم». وفي حديث عائشة رضياللهعنها عند البيهقي في «الشعب» مرفوعا أنّ الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصّالحون قبضوا معهم ثمّ بعثوا على نياتهم وأعمالهم ، صحّحه ابن حبّان. وفي «صحيح البخاري» ، من حديث زينب بنت جحش أمّ المؤمنينرضياللهعنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج وماجوج هكذا وعقد تسعين (أي عقد إصبعين بعلامة تسعين في الحساب المعبر عنه بالعقد ـ بضم العين وفتح القاف) ـ قيل : أنهلك وفينا الصّالحون ، قال : نعم إذا كثر الخبث».
والدّرجات هي ما يرتقى عليه من أسفل إلى أعلى ، في سلم أو بناء ، وإن قصد بها النّزول إلى محلّ منخفض من جبّ أو نحوه فهي دركات ، ولذلك قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١] وقال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] ولمّا كان لفظ (كلّ) مرادا به جميع أهل القرية ، وأتى بلفظ الدرجات كان إيماء إلى تغليب حال المؤمنين لتطمئنّ نفوس المسلمين من أهل مكّة بأنّهم لا بأس عليهم من عذاب مشركيها ، ففيه إيماء إلى أنّ الله منجيهم من العذاب : في الدّنيا بالهجرة ، وفي الآخرة بحشرهم على أعمالهم ونياتهم لأنّهم لم يقصروا في الإنكار على المشركين ، ففي هذه الآية إيذان بأنّهم سيخرجون من القرية الّتي حقّ على أهلها العذاب ، فإنّ الله أصاب أهل مكّة بالجوع والخوف ثمّ بالغزو بعد أن أنجى رسولهصلىاللهعليهوسلم والمؤمنين. وقد علم من الدّرجات أنّ أسافلها دركات فغلب درجات لنكتة الإشعار ببشارة المؤمنين بعد نذارة المشركين. ومن في قوله (مِمَّا عَمِلُوا) تعليلية ، أي من أعمالهم أي بسبب تفاوت أعمالهم.
وقوله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) خطاب للرّسول صلىاللهعليهوسلم.
وقرأ الجمهور : (يَعْمَلُونَ) ـ بياء الغيبة ـ فيعود الضّمير إلى أهل القرى ، والمقصود