ثم أخذت النتيجة من البرهان بقوله : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) أي ينالكم ما ينال سائر البشر. وفي هذا تعريض أيضا بأنّ المسيح بشر ، لأنّه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف ، وزعموا أنّه ناله الصلب والقتل.
وجملة قوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) كالاحتراس ، لأنّه لمّا رتّب على نوال العذاب إيّاهم أنهم بشر دفع توهّم النصارى أنّ البشريّة مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تبعة خطيئة آدم فقال : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ، أي من البشر (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).
(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))
كرّر الله موعظتهم ودعوتهم بعد أن بيّن لهم فساد عقائدهم وغرور أنفسهم بيانا لا يدع للمنصف متمسّكا بتلك الضلالات ، كما وعظهم ودعاهم آنفا بمثل هذا عقّب بيان نقضهم المواثيق. فموقع هذه الآية تكرير لموقع قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) [المائدة : ١٥] الآيات ، إلّا أنّه ذكر الرسولصلىاللهعليهوسلم هنا بوصف مجيئه على فترة من الرسل ليذكّرهم بأنّ كتبهم مصرّحة بمجيء رسول عقب رسلهم ، وليريهم أنّ مجيئه لم يكن بدعا من الرسل إذ كانوا يجيئون على فتر بينهم. وذكر الرسول هنالك بوصف تبيينه ما يخفونه من الكتاب لأنّ ما ذكر قبل الموعظة هنا قد دلّ على مساواة الرسل في البشرية ومساواة الأمم في الحاجة إلى الرسالة ، وما ذكر قبل الموعظة هنالك إنّما كان إنباء بأسرار كتبهم وما يخفون علمه عن النّاس لما فيه من مساويهم وسوء سمعتهم. وحذف مفعول (يُبَيِّنُ) لظهور أنّ المراد بيان الشريعة. فالكلام خطاب لأهل الكتاب يتنزّل منزلة تأكيد لجملة (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ) [المائدة : ١٥] ، فلذلك فصلت.
وقوله : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) حال من ضمير (يُبَيِّنُ لَكُمْ) ، فهو ظرف مستقرّ ، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلّقا ب (جاءَكُمْ). ويجوز تعلّقه بفعل (يُبَيِّنُ) لأنّ البيان انقطع في مدّة الفترة.
و (على) للاستعلاء المجازي بمعنى (بعد) لأنّ المستعلي يستقرّ بعد استقرار ما يستعلي هو فوقه ، فشبّه استقراره بعده باستعلائه عليه ، فاستعير له الحرف الدال على الاستعلاء.