ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أنّ القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحثّ على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيدا لطلب امتثالهم.
وقدّم موسى ـ عليهالسلام ـ أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليهيّئ نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم ، فذكر نعمة الله عليهم ، وعدّ لهم ثلاث نعم عظيمة :
أولاها : أنّ فيهم أنبياء ، ومعنى جعل الأنبياء فيهم فيجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون ، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياء ؛ فيحتمل أنّه أراد نفسه ، وذلك بعد موت أخيه هارون ، لأنّ هذه القصّة وقعت بعد موت هارون ؛ فيكون قوله (أَنْبِياءَ) جمعا أريد به الجنس فاستوى انحصر في فرد يومئذ ، كقوله تعالى (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) [المائدة : ٤٤] يريد محمداصلىاللهعليهوسلم ، أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء. فقد كانت مريم أخت موسى نبيئة ، كما هو صريح التوراة (إصحاح ١٥ من الخروج). وكذلك ألداد ومى داد كانا نبيئين في زمن موسى ، كما في التّوراة (إصحاح ١١ سفر العدد). وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أنّ في ذلك ضمان الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم ، وفيه أيضا حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال.
والثانية : أن جعلهم ملوكا ، وهذا تشبيه بليغ ، أي كالملوك في تصرّفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبوديّة الّتي كانت عليهم للقبط ، وجعلهم سادة على الأمم التي مرّوا بها ، من الآموريين ، والعناقيين ، والحشبونيين ، والرفائيين ، والعمالقة ، والكنعانيين ، أو استعمل فعل (جَعَلَكُمْ) في معنى الاستقبال مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] قصدا لتحقيق الخبر ، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم.
والنعمة الثالثة : أنّه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وما صدق (ما) يجوز أن يكون شيئا واحدا ممّا خصّ الله به بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون مجموع أشياء إذ آتاهم رزقهم المنّ والسلوى أربعين سنة ، وتولّى تربية نفوسهم بواسطة رسله.
وقوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) هو الغرض من الخطاب ، فهو كالمقصد بعد المقدّمة ، ولذلك كرّر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء ب (يا قَوْمِ) لزيادة