ثم ارتقى في التبرّي فقال : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ، فالجملة مستأنفة لأنّها دليل وحجّة لمضمون الجملة التي قبلها ، فكانت كالبيان فلذلك فصلت. والضمير المنصوب في (قُلْتُهُ) عائد إلى الكلام المتقدّم. ونصب القول للمفرد إذا كان في معنى الجملة شائع كقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] ، فاستدلّ على انتفاء أن يقوله بأنّ الله يعلم أنّه لم يقله ، وذلك لأنّه يتحقّق أنّه لم يقله ، فلذلك أحال على علم الله تعالى. وهذا كقول العرب : يعلم الله أني لم أفعل ، كما قال الحارث بن عبّاد :
لم أكن من جناتها علم الله وأني لحرّها اليوم صال
ولذلك قال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) ، فجملة (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) بيان لجملة الشرط (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) فلذلك فصلت.
والنفس تطلق على العقل وعلى ما به الإنسان ، إنسان وهي الروح الإنساني ، وتطلق على الذات. والمعنى هنا : تعلم ما أعتقده ، أي تعلم ما أعلمه لأنّ النفس مقرّ العلوم في المتعارف.
وقوله : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) اعتراض نشأ عن (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) لقصد الجمع بين الأمرين في الوقت الواحد وفي كلّ حال. وذلك مبالغة في التنزيه وليس له أثر في التبرّي ، والتنصّل ، فلذلك تكون الواو اعتراضية.
وإضافة النفس إلى اسم الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يطلع عليه غيره ، أي ولا أعلم ما تعلمه ، أي ممّا انفردت بعمله. وقد حسّنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في «الكشاف».
وفي جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى بدون مشاكلة خلاف ؛ فمن العلماء من منع ذلك وإليه ذهب السعد والسيد وعبد الحكيم في شروح «المفتاح» و «التخليص». وهؤلاء يجعلون ما ورد من ذلك في الكتاب نحو (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] من قبيل المتشابه. ومن العلماء من جوّز ذلك مثل إمام الحرمين كما نقله ابن عرفة في «التفسير» عند قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) في سورة الأنعام [٥٤] ، ويشهد له تكرّر استعماله في القرآن وكلام النبي صلىاللهعليهوسلم كما في الحديث القدسي فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي.
وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) علّة لقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) ولذلك جيء