(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] ـ وقوله ـ (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة : ٢٨٢] وهذا قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي. وذهب جماعة إلى أنّ الآية محكمة ، فمنهم من جعلها خاصّة بالشهادة على الوصية في السفر إذا لم يكن مع الموصي مسلمون. وهو قول أبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وقضى بذلك أبو موسى الأشعري في وصية مثل هذه ، أيام قضائه بالكوفة ، وقال : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وهو قول سعيد بن المسيّب ، وابن جبير ، وشريح ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدّي ، وسفيان الثوري ، وجماعة ، وهم يقولون : لا منسوخ في سورة المائدة ، تبعا لابن عباس. ومنهم من تأوّل قوله (مِنْ غَيْرِكُمْ) على أنّه من غير قبيلتكم ، وهو قول الزهري ، والحسن ، وعكرمة.
وقال أحمد بن حنبل بقياس بقية العقود المشهود فيها في السفر على شهادة الوصية ، فقال بأنّ شهادة أهل الذمّة على المسلمين في السفر ماضية ، وزاد فجعلها بدون يمين. والأظهر عندي أنّ حكم الآية غير منسوخ ، وأنّ قبول شهادة غير المسلمين خاصّ بالوصية في السفر حيث لا يوجد مسلمون للضرورة ، وأنّ وجه اختصاص الوصية بهذا الحكم أنّها تعرض في حالة لا يستعدّ لها المرء من قبل فكان معذورا في إشهاد غير المسلمين في تلك الحالة خشية الفوات ، بخلاف غيرها من العقود فيمكن الاستعداد لها من قبل والتوثّق لها بغير ذلك ؛ فكان هذا الحكم رخصة.
والحكمة التي من أجلها لم تقبل في شريعة الإسلام شهادة غير المسلمين إلّا في الضرورة ، عند من رأى إعمالها في الضرورة ، أنّ قبول الشهادة تزكية وتعديل للشاهد وترفيع لمقداره إذ جعل خبره مقطعا للحقوق. فقد كان بعض القضاة من السلف يقول للشهود : اتّقوا الله فينا فأنتم القضاة ونحن المنفّذون. ولمّا كان رسولنا صلىاللهعليهوسلم قد دعا الناس إلى اتّباع دينه فأعرض عنه أهل الكتاب لم يكونوا أهلا لأن تزكّيهم أمّته وتسمهم بالصدق وهم كذّبوا رسولنا ، ولأنّ من لم يكن دينه ديننا لا نكون عالمين بحدود ما يزعه عن الكذب في خبره ، ولا لمجال التضييق والتوسّع في أعماله الناشئة عن معتقداته ، إذ لعلّ في دينه ما يبيح له الكذب ، وبخاصّة إذا كانت شهادته في حقّ لمن يخالفه في الدين ، فإنّنا عهدنا منهم أنّهم لا يتوخّون الاحتياط في حقوق من لم يكن من أهل دينهم. قال تعالى حكاية عنهم «ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين (أي المسلمين) سبيل» فمن أجل ذلك لم يكن مظنّة للعدالة ولا كان مقدارها فيه مضبوطا. وهذا حال الغالب منهم ، وفيهم من