عرب الشام الذين بلغتهم دعوة النصرانية على طريق الروم ، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم. قال النابغة :
لو أنّها برزت لأشمط راهب |
|
عبد الإله صرورة متعبّد |
لرنا لطلعتها وحسن حديثها |
|
ولخاله رشدا وإن لم يرشد |
فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم ممّا يكون سببا في صلاح أخلاق أهل ملّتهم. والاستكبار : السين والتاء فيه للمبالغة. وهو يطلق على التكبّر والتعاظم ، ويطلق على المكابرة وكراهية الحقّ ، وهما متلازمان. فالمراد من قوله : (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أنّهم متواضعون منصفون. وضمير (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير (بِأَنَّ مِنْهُمْ) ، أي وأنّ الذين قالوا إنّا نصارى لا يستكبرون ، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملّة النصرانية في ذلك العصر. وقد كان نصارى العرب متحلّين بمكارم من الأخلاق. قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصّرين :
مجلّتهم ذات الإله ودينهم |
|
قويم فما يرجون غير العواقب |
ولا يحسبون الخير لا شرّ بعده |
|
ولا يحسبون الشرّ ضربة لازب |
وظاهر قوله (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أنّ هذا الخلق وصف للنصارى كلّهم من حيث إنّهم نصارى فيتعيّن أن يحمل الموصول على العموم العرفي ، وهم نصارى العرب ، فإنّ اتّباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضمّ إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارم أخلاق دينية ، كما كان عليه زهير ولبيد وورقة بن نوفل وأضرابهم.
وضمير (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عائد إلى (قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) لأنّه أقرب في الذكر ، وهذا تشعر به إعادة قوله (وَأَنَّهُمْ) ، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير ، وتكون ضمائر الجمع من قوله (وَإِذا سَمِعُوا ـ إلى قوله ـ فَأَثابَهُمُ اللهُ) [المائدة : ٨٣ ـ ٨٥] تابعة لضمير (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).
وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى معادين هي سياق الكلام. ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) [الروم : ٩]. فضمير الرفع في (عَمَرُوها) الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في (عَمَرُوها) الثاني. وكقول عبّاس بن مرداس :
عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم |
|
بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا |