تقدّمه الخبر وهو الجار والمجرور ، وكأن النابغة ألغاهما لتقدمهما وجعل ناقعا الخبر (١). ومن أقيسته فى القراءات أنه كان يقرأ الآية الكريمة : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) بنصب كلمة الطير. وكان يقول هو على النداء كما تقول : «يا زيد والحارث» لما لم يمكن القائل : «ويا الحارث» نصب الكلمة ، لأن يا لا تدخل فى النداء على المعرّف بالألف واللام. ويروى أنه كان يخالف جمهور القرّاء فى قراءة الآية الكريمة : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) إذ كان يقرؤها بنصب أطهر على الحال وجعل هن ضمير فصل. ويبدو أنه كان يتوسّع فى تقدير العوامل المحذوفة ، من ذلك ما رواه سيبويه عنه من أنه كان يلفظ قولهم : «ادخلو الأول فالأوّل» برفع الكلمتين الأخيرتين على تقدير أنهما مرفوعتان بفعل مضارع محذوف تقديره : «ليدخل» (٢). وكأنه لقّن تلميذه الخليل والنحاة من بعده فكرة تقدير العوامل المحذوفة التى عمّموها فى كثير من العبارات. ووضع أصلا مهما يدل على دقة حسّه اللغوى هو اختيار النصب فى الألفاظ التى جاءت عن العرب فى بعض العبارات مرفوعة ومنصوبة (٣) ، وكأنه أحسّ فى وضوح أن العرب تنزع إلى النصب أكثر مما تنزع إلى الرفع لخفته ، فجعل النصب فوق الرفع وعدّه الأساس. وليس ذلك كل ما تحقق للنحو عنده من رقى ، فقد خطا به خطوة كبيرة ، إذ ألف فيه رسائل ومصنفات مختلفة ، اشتهر منها لعصره مصنفان مهمان هما : «الجامع» و «الإكمال» وكأنه جمع مسائل النحو وقواعده فى أولهما ثم رأى إكمال تلك القواعد والمسائل فى الكتاب الثانى. وقد أقام قواعده فى الجامع على الأكثر فى كلام العرب وسمى ما شذّ عن ذلك لغات ، ويقال إن سيبويه لما أحضره ليقرأه على الخليل أنشد تنويها به وبالإكمال :
بطل النّحو جميعا كلّه |
|
غير ما أحدث عيسى بن عمر |
ذاك إكمال وهذا جامع |
|
فيهما للناس شمس وقمر |
وزعم بعض القدماء أن الجامع هو أصل كتاب سيبويه زاد فيه وحشاه بأقوال الخليل ، ولم يصل إلينا الكتاب لنناقش هذا الزعم ونتبين صحته أو فساده.
__________________
(١) كتاب سيبويه ١ / ٢٦١.
(٢) الكتاب ١ / ١٩٩.
(٣) ابن سلام ص ١٨.