ابن عمر المتوفى سنة ١٤٩ للهجرة وأبى عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وعكف على حلقة الخليل بن أحمد ، وراعته روايته لأشعار العرب وأقوالهم ، فسأله يوما عن ينابيع هذه الرواية ، فقال له إنها من ملابسة أهل البوادى فى نجد والحجاز وتهامة ، فمضى إليهم فى رحلة ثانية ، ومعه خمس عشرة قنينة حبر ، وظل يكتب ما يسمعه من أفواههم ويدوّنه فى صحفه ، حتى أنفد كل ما حمله من حبر.
ورجع إلى مسقط رأسه ، وقد بسط له لسانه وذلّل له منطقه واستقامت فصاحته وعربيته ، وأخذ يستغل ذلك استغلالا حسنا فى قراءته للذكر الحكيم بقراءة أستاذه حمزة الذى كان قد لبّى نداء ربه. فكان يتلو القرآن على الناس من أوله إلى آخره ، والناس من حوله يسمعون ويكتبون مصاحفهم. وذاعت شهرته فطلبه المهدى ليتخذه مؤدبا لابنه هرون الرشيد ، حتى إذا ولى الخلافة بعد أبيه اتخذه مؤدبا لابنيه الأمين والمأمون. وظل مدة يقرئ الناس فى بغداد بقراءة حمزة ، ثم اختار لنفسه قراءة ، صارت إحدى القراءات السبع المتواترة ، وأقرأ بها خلقا كثيرا. وكان يجلس بالمسجد الجامع على مقعد مرتفع ، والناس من حوله يكتبون المصاحف بقراءته وينقطونها ويضبطونها ويرسمون مقاطع الآيات ومبادئها. وكان الرشيد يجله ويوقّره ويفسح له فى مجالسه ، وكثيرا ما كان يتخذه إمامه فى صلواته ورفيقه فى غزواته ومقامه بالرّقّة. ويظهر أنه لم يكفه حينئذ ما أخذه من اللغة وشواردها عن البدو الخلّص فى الجزيرة العربية فقد مضى يكثر من سماعه عن أعراب الحطمة ، وهم عشيرة من بنى عبد القيس نزلت بغداد ، وأقامت بها ، وكأنه لم يكن يجد بأسا فى الأخذ عن هؤلاء الأعراب ، بينما كان البصريون لا يروون اللغة عن أمثالهم من العرب المتحضرين الذين يمكن أن يكون قد دخل الفساد على ألسنتهم ، وسرعان ما ظهر أثر ذلك فى مناظرته (١) لسيبويه حين قدم بغداد على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع ، فقد سبقه إليه تلاميذه : الفراء والأحمر وهشام ابن معاوية الضرير ومحمد بن سعدان ، وسأله الأحمر عن مسائل ، وكلما أجابه بجواب قال له أخطأت يا بصرى. ووافى الكسائى ومعه طائفة من عرب الحطمة ،
__________________
(١) انظر المناظرة فى الزبيدى ص ٦٨ وما بعدها.