وقيل يوما للمأمون : إن دعبلا هجاك ، فقال : من جسر أن يهجو أبا عباد مع عجلته وسرعة انتقامه جسر أن يهجوني أنا مع أناني وعفوي ، وبهذا الدير كانت قصة المبرد ، وهي رواية الخالدي ، قال المبرد : اجتزت بدير هزقل فقلت لأصحابي أحبّ النظر إليه فاصعدوا بنا ، فدخلنا فرأينا منظرا حسنا وإذا في بعض بيوته كهل مشدود حسن الوجه عليه أثر النعمة فدنونا منه وسلمنا عليه فرد علينا السلام وقال : من أين أنتم؟ قلنا : من البصرة ، قال : فما أقدمكم هذا البلد الغليظ هواؤه الثقيل ماؤه الجفاة أهله؟ قلنا : طلب الحديث والأدب ، قال : حبذا! تنشدوني أو أنشدكم؟ فقلنا : أنشدنا ، فقال :
الله يعلم أنني كمد ، |
|
لا أستطيع أبثّ ما أجد |
روحان لي ، روح تضمّنها |
|
بلد ، وأخرى حازها بلد |
وأرى المقيمة ليس ينفعها |
|
صبر وليس يضرها جلد |
وأظن غائبتي كشاهدتي |
|
بمكانها تجد الذي أجد |
ثم أغمي عليه فتركناه وانصرفنا ، فأفاق وصاح بنا فعدنا إليه وقال : تنشدوني أو أنشدكم؟ قلنا : أنت أنشدنا ، فقال :
لما أناخوا ، قبيل الصبح ، عيسهم ، |
|
وثوّروها فثارت بالهوى الإبل |
وأبرزت من خلال السّجف ناظرها |
|
ترنو إليّ ودمع العين ينهمل |
وودّعت ببنان خلته عنما ، |
|
فقلت : لا حملت رجلاك يا جمل |
ويلي من البين ما ذا حلّ بي وبها |
|
من نازح الوجد حلّ البين فارتحلوا |
إني على العهد لم أنقض مودّتكم ، |
|
يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا؟ |
فقال له فتى من المجّان كان معنا : فماتوا! قال له : أفأموت أنا؟ قال : مت راشدا ، فتمطّى وتمدّد ومات ، فما برحنا حتى دفنّاه ، وبهذا الدير كانت قصة أبي الهذيل العلّاف.
ديرُ هِندٍ الصُّغْرَى : بالحيرة يقارب خطة بني عبد الله ابن دارم بالكوفة مما يلي الخندق في موضع نزه ، وهو دير هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بالحرقة ، قال هشام الكلبي : كان كسرى قد غضب على النعمان بن المنذر فحبسه فأعطت بنته هند عهدا لله إن ردّه الله إلى ملكه أن تبني ديرا تسكنه حتى تموت ، فخلّى كسرى عن أبيها النعمان فبنت الدير وأقامت به إلى أن ماتت ودفنت فيه ، وهي التي دخل عليها خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، لما فتح الحيرة فسلمت عليه فقال لها لما عرفها : أسلمي حتى أزوجك رجلا شريفا مسلما ، فقالت له : أما الدين فلا رغبة لي فيه غير دين آبائي ، واما التزويج فلو كانت في بقية لما رغبت فيه فكيف وأنا عجوز هرمة أترقّب المنيّة بين اليوم وغد! فقال : سليني حاجة ، فقالت : هؤلاء النصارى الذين في ذمتكم تحفظونهم ، قال : هذا فرض علينا أوصانا به نبينا محمد ، صلى الله عليه وسلّم ، قالت : ما لي حاجة غير هذا فإني ساكنة في هذا الدير الذي بنيته ملاصقا لهذه الأعظم البالية من أهلي حتى ألحق بهم ، قال : فأمر لها بمعونة ومال وكسوة ، قالت : أنا في غنى عنه ، لي عبدان يزرعان مزرعة لي أتقوّت بما