صعد علي ذات يوم المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر الموت ـ فذكر نحوه وزاد بعد قوله : أنا بيت الوحشة ، ألا وإن وراء ذلك يوما يشيب فيه الصغير ، ويسكر فيه الكبير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وزاد في روايته : ثم بكى وبكى المسلمون حوله.
أخرج الدينوري وابن عساكر عن عبد الله بن صالح العجلي عن أبيه ، قال : خطب علي بن أبي طالب يوما ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم قال : عباد الله لا تغرنّكم الحياة الدنيا ؛ فإنها دار بالبلاء محفوفة ، وبالفناء معروفة ، وبالغدر موصوفة ، وكل ما فيها إلى زوال ، وهي ما بين أهلها دول سجال ، لن يسلم من شرها نزالها ، بينما أهلها في رخاء وسرور ؛ إذا هم منها في بلاء وغرور ، العيش فيها مذموم ، والرخاء فيها لا يدوم ، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ؛ ترميهم بسهامها وتقصمهم بحمامها (١). عباد الله إنكم وما أنتم من هذه الدنيا ، عن سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعمارا ، وأشد منكم بطشا ، وأعمر ديارا ، وأبعد آثارا ، فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية (٢) ، واستبدلوا بالقصور المشيدة والسرر والنمارق (٣) الممهدة الصخور ، والأحجار المسندة في القبور الملاطية (٤) الملحدة التي قد بني على الخراب فناؤها ، وشيد بالتراب بناؤها ، فحملها مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل عمارة موحشين ، وأهل محلة متشاغلين ، لا يستأنسون بالعمران ، ولا يتواصلون تواصل الجيران ، على ما بينهم من قرب الجوار ، ودنو الدار ، وكيف يكون بينهم تواصل ، وقد طحنهم بكلكله (٥) البلى ، وأكلتهم الجنادل (٦) والثرى ، فأصبحوا بعد الحياة أمواتا ، وبعد غضارة (٧) العيش رفاتا ، فجع بهم الأحباب ، وسكنوا التراب ،
__________________
(١) أي موتها.
(٢) من العفاء وهو المحو والإزالة.
(٣) الوسائد.
(٤) المبنية بالطين.
(٥) الكلكل : هو الصدر والمراد هنا الشدة.
(٦) الصخور العظيمة.
(٧) طيبه ولذته.