المختار الذي يممنا تخليد أوليته ، وتيمنا بخدمة آثاره وسيرته ، صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين وصحابته.
وكنا انتهينا من شأن بنى قصى بعده ، إلى ما تراضوا به بينهم من الصلح على أن تكون السقاية والرفادة لبنى عبد مناف ، وتكون حجابة البيت واللواء والندوة لبنى عبد الدار ، على نحو ما جعله قصى إلى أبيهم.
فولى السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف. وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة ، وكان مقلا ذا ولد كثير ، وكان هاشم موسرا ، وكان فيما يزعمون ، إذا حضر الحج قام صبيحة هلال ذى الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ، فيحض قومه على رفادة الحاج التي سنها لهم قصى ، ويقول لهم فى خطبته : يا معشر قريش ، أنتم سادة العرب ، أحسنها وجوها ، وأعظمها أحلاما ، وأوسط العرب أنسابا ، وأقرب العرب بالعرب أرحاما.
يا معشر قريش ، إنكم جيران بيت الله ، أكرمكم الله بولايته وخصكم بجواره دون بنى إسماعيل ، حفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره ، وإنه يأتيكم فى هذا الموسم زوار الله ، يعظمون حرمة بيته ، فهم ضيف الله ، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه ، فأكرموا ضيفه وزواره ، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح ، وقد أزحفوا وأرملوا فأقروهم وأعينوهم ، فو رب هذه البنية لو كان لى مال يحمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرج من طيب مالى وحلاله ، ما لم تقطع فيه رحم ، ولم يؤخذ بظلم ، ولم يدخل فيه حرام فواضعه ، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعله. وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم تقطع فيه رحم ، ولم يؤخذ غصبا (١).
فكانت بنو كعب بن لؤيّ وسائر قريش يجتهدون فى ذلك ويترافدون عليه ، ويخرجون ذلك من أموالهم حتى يأتوا به هاشم بن عبد مناف فيضعوه فى داره ، حتى أن كان أهل البيت ليرسلون بالشىء اليسير على قدرهم. وكان هاشم يخرج فى كل سنة مالا كثيرا. وكان قوم من قريش أهل يسار ، ربما أرسل كل إنسان منهم بمائة مثقال هرقلية.
وكان هاشم يأمر بحياض من أدم ، فتجعل فى موضع زمزم من قبل أن تحفر ، ثم يستقى فيها من البيار التي بمكة ، فيشرب الحاج.
__________________
(١) انظر : السيرة (١ / ١٢٠).