نوائب الدّهر مطرقة ، وجيوش الخطوب الملمّة بها محدقة ، قرعتها حتّى قرعت ساحتها ؛ ونافحتها بسموم الآفات حتّى ذهبت صباحتها ، فألقت بيدها مستسلمة ، وعادت بعد ضوئها مظلمة ؛ ولا وشل (١) بها يشفي غلّة ، ولا طبّا يداوي علّة. انتثلها (٢) الزّمان فلم يبق بها تقيّا ، وأبدلها الحدثان من كلّ بشارة نعيّا ، لا تلقى بها معمل يراعه (٣) ، ولا ترى بها حلف براعة ، بل خرس بها لسان التّلاوة ، وزيد بها حمار الجهل على الفودين (٤) علاوة ، لم يطعموا العلم ولا ذاقوا له حلاوة ، بل تبرّؤوا منه فكلّهم فالج بن خلاوة (٥) فيا عجبا لي أصف بالفناء وهران ، كأنّي لم أر سكّان تلمسان.
[ذكر تلمسان في العودة]
ثمّ وصلنا إلى تلمسان ، وكانت نيّتى أن أقيم بها مدّة حتى أجد صحبة قويّة أقطع معها المفازة الّتي في طريقها إلى رباط تازة ، وهي منقطعة (٦) موحشة ، لا تخلو من قطّاع الطّريق البتّة ، وهم بها أشدّ [١٤٨ / ب] خلق الله
__________________
(١) الوشل : الماء القليل الذي ينحلب من صخرة أو جبل يقطر ولا يتصل قطره.
(٢) انتثلها ، يريد : ذهب بأتقيائها واستخرجهم منها ؛ يقال : انتثل الكنانة إذا استخرج نبلها فنثرها.
(٣) اليراع : القلم.
(٤) الفودان : العدلان ، كل واحد منهما فود.
(٥) هو فالج بن خلاوة الأشجعي ، ويقال أنا من هذا فالج بن خلاوة ؛ أي أنا منه بريء ، وذلك أنّه قيل لفالج بن خلاوة يوم الرقّم لما قتل أنيس الأسرى : أتنصر أنيسا؟ فقال : إني منه بريء. انظر ثمار القلوب ٢٦٥ ـ اللسان وتاج العروس : فلج.
(٦) في ت : مقطعة.