٤٣ ـ دير الأعلى
هذا الدير بالموصل وهو دير كبير يضرب به المثل في رقّة الهوى وهو حسن المستشرف ، ويقال : إنّه ليس للنصارى دير مثله لما فيه من أنا جيلهم ومتعبّدا لهم ، فيه قلايات كثيرة لرهبانه ، وله درجة منقورة في الجبل يفضى إلى دجلة نحو المائة مرقاة ، وعليها يستقى الماء من دجلة ، وتحت الدير عين كبيرة تصبّ إلى دجلة ، ولها وقت من السنة يقصدها الناس فيستحمون منها ويذكرون أنّها تبرئ من الجرب والحكّة وتنفع المقعدين والمقرعين والزمنى.
وللشعانين (١) في هذا الدير الحسن يخرج إليه الناس فيقيمون فيه الأيّام ويشربون ، ومن اجتاز بالموصل من الولاة نزله ، وقد قالت الشعراء في هذا الدير ووصفت حسنه ونزهته ، وللثرواني فيه :
اسقني الراح صباحا |
|
قهوة صهباء راحا |
واصطبح في الدير الأعلى |
|
في الشعانين اصطباحا |
إنّ من لم يصطبحها |
|
اليوم لم يلق نجاحا |
الأبيات. وكان المأمون اجتاز بهذا الدير في خروجه إلى دمشق فأقام به أيّاما ووافق نزوله عيد الشعانين. فذكر أحمد بن صدقة قال : خرجنا مع المأمون فنزلنا الدير الأعلى بالموصل لطيبه ونزهته ، وجاء عيد الشعانين فجلس المأمون في موضع منه حسن مشرف على دجلة والصحراء والبساتين ويشاهد منه من يدخل الدير ، وزيّن الدير في ذلك اليوم بأحسن زيّ ، وخرج رهبانه وقسّانه إلى المذبح وحولهم فتيانهم بأيديهم المجامر ، قد تقلّدوا الصلبان وتوشّحوا بالمناديل المنقوشة ، فرأى المأمون ذلك فاستحسنه ثمّ انصرف القوم إلى قلاليهم وقربانهم وعطف إلى
__________________
(١) شعانين اسم عيد للنصارى.