أبو داود أيضا أن يهوديا خاصم أبا العالية فى القبلة ، فقال أبو العالية : إن موسى كان يصلى عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام ، فكانت الكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه ، وقال اليهودى : بينى وبينك مسجد صالح وقبلة الكعبة ، وأخبر أبو العالية أنه رأى مسجد ذى القرنين وقبلته الكعبة ، وقد تضمن هذا فائدة جليلة وهى أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحى من الله تعالى بل كان عن مشورة منهم ، أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم فى الإنجيل ولا فى غيره باستقبال المشرق أبدا ، وهم مقرون بذلك ومقرون أن قبلة المسيح كانت قبلة بنى إسرائيل وهى الصخرة ، وإنما وضع لهم شيوخهم وأسلافهم هذه القبلة وهم يعتذرون عنهم بأن المسيح فوض إليهم التحليل والتحريم وشرح الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه فى السماء ، فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال المشرق على لسان رسوله أبدا ، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك ، وأما قبلة اليهود فليس فى التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا ، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة ، وأما السامرة فإنهم يصلون إلى طورهم بأرض الشام يعظمونه ويحجون إليه ، ورأيته أنا وهو فى بلد نابلس ناظرت فضلائهم فى استقبالهم ، وقلت : هو قبلة باطلة مبتدعة ، فقال مشار إليه فى دينهم : هذه هى القبلة الصحيحة واليهود أخطأوها ؛ لأن الله تعالى أمر فى التوراة باستقباله عينا ثم ذكر نصا يزعمه من التوراة فى استقباله ، فقلت له : هذا خطأ قطعا على التوراة ؛ لأنها إنما أنزلت على بنى إسرائيل ، فهم المخاطبون بها وأنتم فرع عليهم فيها ، وإنما تلقيتموها عنهم وهذا النص ليس فى التوراة التى بأيديهم وأنا رأيتها وليس هذا فيها ، فقال : صدقت إنما هو فى توراتنا خاصة ، قلت : فمن المحال أن يكون أصحاب التوراة ، المخاطبون بها وهم الذين تلقوها عن الكليم وهم متفرقون فى أقطار الأرض قد كتموا هذا النص وأزالوه وبدلوا القبلة التى أمروا بها وحفظتم النص بها ، فلم يرجع إلى الجواب ، قلت : هذا كله مما يقوى أن يكون الضمير فى قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها)(١) راجعا إلى كل أى هو موليها وجهة ، وليس المراد أن الله موليه إياها لوجوه هذا أحدها ، الثانى : أنه لم يتقدم لاسمه تعالى ذكر يعود الضمير عليه فى الآية ، وإن كان مذكورا
__________________
(١) البقرة آية : (١٤٨).