كما أن الإنسان من قول الله سبحانه (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ٢] جنس للناس ، فكذلك الكلام ، جنس للجمل ، فإذا قال : قام محمد فهو كلام ، وإذا قال : قام محمد ، وأخوك جعفر فهو أيضا كلام ؛ كما كان لمّا وقع على الجملة الواحدة كلاما ؛ وإذا قال : قام محمد وأخوك جعفر ، وفى الدار سعيد ، فهو أيضا كلام ؛ كما كان لمّا وقع على الجملتين كلاما. وهذا طريق المصدر لما كان جنسا لفعله ؛ ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام ، وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام ، وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام. فالكلام إذا إنما هو جنس للجمل التوامّ : مفردها ، ومثناها ، ومجموعها ؛ كما أنّ القيام جنس للقومات : مفردها ومثناها ومجموعها. فنظير القومة الواحدة من القيام الجملة الواحدة من الكلام. وهذا جلىّ.
ومما يؤنسك بأنّ الكلام إنما هو للجمل التوامّ دون الآحاد أنّ العرب لما أرادت الواحد من ذلك خصته باسم له لا يقع إلا على الواحد ، وهو قولهم : «كلمة» ، وهى حجازية ، و «كلمة» وهى تميمية. ويزيدك فى بيان ذلك قول كثيّر :
لو يسمعون كما سمعت كلامها |
|
خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا (١) |
ومعلوم أنّ الكلمة الواحدة لا تشجو (٢) ، ولا تحزن (٣) ، ولا تتملك قلب السامع ، إنما ذلك فيما طال من الكلام ، وأمتع سامعيه ، بعذوبة مستمعيه ، ورقة حواشيه ؛ وقد قال سيبويه : «هذا باب أقلّ ما يكون عليه الكلم» فذكر هنالك حرف العطف ، وفاءه ، وهمزة الاستفهام ، ولام الابتداء ، وغير ذلك مما هو على حرف واحد ، وسمّى كل واحد من ذلك كلمة. فليت شعرى : كيف يستعذب قول القائل ، وإنما نطق بحرف واحد! لا بل كيف يمكنه أن يجرّد للنطق حرفا واحدا ؛
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو لكثير عزّة فى ديوانه ص ٤٤١ ، ولسان العرب (كلم) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٦٠ ، وبلا نسبة فى الجنى الدانى ص ٢٨٣ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٦٠٣ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٩٥. ويروى حديثها بدلا من : كلامها.
(٢) تشجو : من شجا يشجو ، يقال : شجاه وأشجاه بمعنى واحد.
(٣) هكذا ضبطت فى الأصل (لا تحزن) بضم الزاى وهو فصيح من قولهم : حزنه الأمر يحزنه حزنا ، فهو وسابقه متعد بأصله بغير زيادة حرف للتعدية ، ويصح فيه أحزنه ، كما يصح فى سابقه أشجاه. وانظر اللسان (حزن).