معه الدقّ ، وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما ، فلذلك خصّت بالأقوى الصاد ، وبالأضعف السين.
ومن ذلك تركيب (ق ط ر) و (ق د ر) و (ق ت ر) فالتاء خافية متسفّلة ، والطاء سامية متصعّدة ، فاستعملتا ـ لتعاديهما ـ فى الطّرفين ؛ كقولهم : قتر الشىء وقطره. والدال بينهما ، ليس لها صعود الطاء ولا نزول التاء ، فكانت لذلك واسطة بينهما ، فعبّر بها عن معظم الأمر ومقابلته ، فقيل لقدر الشىء لجماعه ومحرنجمه (١).
وينبغى أن يكون قولهم : قطر الإناء الماء ونحوه إنما هو (فعل) من لفظ القطر ومعناه. وذلك أنه إنما ينقط الماء عن صفحته الخارجة وهى قطره. فاعرف ذلك.
فهذا ونحوه أمر إذا أنت أتيته من بابه ، وأصلحت فكرك لتناوله وتأمّله ، أعطاك مقادته ، وأركبك ذروته ، وجلا عليك بهجاته ومحاسنه. وإن أنت تناكرته ، وقلت : هذا أمر منتشر ، ومذهب صعب موعر ؛ حرمت نفسك لذّته ، وسددت عليها باب الحظوة به.
نعم ، ومن وراء هذا ما اللطف فيه أظهر ، والحكمة أعلى وأصنع. وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبّر عنها بها ترتيبها ، وتقديم ما يضاهى أوّل الحدث ، وتأخير ما يضاهى آخره ، وتوسيط ما يضاهى أوسطه ؛ سوقا للحروف على سمت المعنى المقصود ، والغرض المطلوب.
وذلك قولهم : بحث. فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكفّ على الأرض ، والحاء لصحلها (٢) تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت فى الأرض ، والثاء للنفث ، والبث للتراب. وهذا أمر تراه محسوسا محصّلا ، فأىّ شبهة تبقى بعده ، أم أىّ شك يعرض على مثله. وقد ذكرت هذا فى موضع آخر من كتبى لأمر دعا إليه هناك. فأمّا هذا الموضع فإنه أهله وحقيق به ؛ لأنه موضوع له ولأمثاله.
ومن ذلك قولهم : شدّ الحبل ونحوه. فالشين بما فيها من التفشّى تشبّه بالصوت أوّل انجذاب الحبل قبل استحكام العقد ، ثم يليه إحكام الشدّ والجذب ، وتأريب
__________________
(١) محرنجمه : حيث يجتمع ، من قولهم : احرنجمت الإبل : اجتمعت.
(٢) الصحل : البحة فى الصوت.