(٢٨) من سورة الأنعام تعبّر عنهم قائلة : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).
«التناوش» من مادّة «نوش» ـ على زنة خوف ـ بمعنى التناول ، وبعضهم اعتبروا أنّها بمعنى «التناول بسهولة» أي كيف يتناولون الإيمان من مكان بعيد ولم يكونوا يتناولونه من قريب؟
كيف يستطيعون الآن وبعد أن انتهى كلّ شيء ، أن ينبروا لجبران خطاياهم ويؤمنوا ، في حين أنّهم قبل هذا كفروا مع أنّهم كانوا يتمتّعون بالاختيار والإرادة : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ).
ولم يكتفوا بالكفر فقط ، بل إنّهم ألصقوا بالرّسول صلىاللهعليهوآله وبتعاليمه مختلف أنواع التّهم ، وحكموا أحكاما خاطئة فيما يخصّ (عالم الغيب ـ والقيامة ـ والنبوّة) : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ).
«القذف» ـ كما قلنا ـ الرمي من بعيد ، و «الغيب» هو عالم ما وراء الحسّ ، والجملة كناية لطيفة عمّن يطلق أحكامه على عالم ما وراء الطبيعة بلا سابق علم أو معرفة ، كمن يرمي شيئا من نقطة بعيدة ، فقلّما يصيب الهدف ، فظنونهم وأمانيهم وأحكامهم لا تصيب أهدافها أيضا. فقد عدّوا الرّسول صلىاللهعليهوآله (ساحرا) حينا ، وحينا (مجنونا) وآخر (كذّابا) ، وحينا اعتبروا القرآن «نتاجا فكريا بشريا». ومرّة أنكروا الجنّة والنار والقيامة بشكل كلّي ، كلّ هذه أنواع «للرجم بالغيب» أو «اصطياد الطيور في ظلام الليل» أو بعبارة اخرى «القذف من مكان بعيد».
ثمّ يضيف تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) ففي لحظة مؤلمة ، فصل بينهم وبين كلّ ثرواتهم وأموالهم ، وقصورهم ومقاماتهم ، وأمانيهم ، فكيف سيكون حالهم؟ هؤلاء الذين كانوا يعشقون الدرهم والدينار ، والذين كانت قلوبهم لا تطاوعهم في التخلّي عن أبسط الإمكانات المادية .. كيف سيكون حالهم في تلك اللحظة التي يجب عليهم فيها أن يودّعوا كلّ ذلك وداعا