العلم (*)
قلنا : إن الله تعالى خلق الإنسان مفطوراً على التفكير مستعداً لتحصيل المعارف بما أعطى من قوة عاقلة مفكرة يمتاز بها عن العجماوات. ولا بأس ببيان موطن هذا الامتياز من أقسام العلم الذي نبحث عنه ، مقدمة لتعريف العلم ولبيان علاقة المنطق به ، فنقول :
١ ـ إذا ولد الإِنسان يولد وهو خالي النفس من كل فكرة وعلم فعلي ، سوى هذا الاستعداد الفطري. فإذا نشأ وأصبح ينظر ويسمع ويذوق ويشم ويلمس ، نراه يحس بما حوله من الأشياء ويتأثر بها التأثر المناسب ، فتنفعل نفسه بها ، فنعرف أن نفسه التي كانت خالية أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها (العلم) ، وهي العلم الحسي الذي هو ليس إلا حسّ النفس بالأشياء التي تنالها الحواس الخمس : (الباصرة ، السامعة ، الشامة ، الذائقة ، اللامسة). وهذا أول درجات العلم ، وهو
__________________
(*) المبحوث عنه هنا هو العلم المعبر عنه في لسان الفلاسفة ب «العلم الحصولي». أما «العلم الحضوري» ـ كعلم النفس بذاتها وبصفاتها القائمة بذاتها وبأفعالها وأحكامها وأحاديثها النفسية ، وكعلم الله تعالى بنفسه وبمخلوقاته ـ فلا تدخل فيه الأبحاث الآتية في الكتاب ، لأنه ليس حصوله للعالم بارتسام صورة المعلوم في نفسه ، بل بحضور نفس المعلوم بوجوده الخارجي العيني للعالم ، فان الواحد منا يجد من نفسه أنه يعلم بنفسه وشؤونها ويدركها حق الإدراك ، ولكن لا بانتقاش صورها ، وإنما الشئ الموجود هو حاضر لذاته دائما بنفس وجوده ، وكذا المخلوقات حاضرة لخالقها بنفس وجودها. فيكون الفرق بين الحصولي والحضوري :
١ ـ إن الحصولي هو حضور صورة المعلوم لدى العالم
والحضوري هو حضور نفس المعلوم لدى العالم.
٢ ـ إن المعلوم بالعلم الحصولي وجوده العلمي غير وجوده العيني
وإن المعلوم بالعلم الحضوري وجوده العلمي عين وجوده العيني.
٣ ـ إن الحصولي هو الذي ينقسم إلى التصور والتصديق
والحضوري لا ينقسم إلى التصور والتصديق.