نسجها بقضبان الذهب ودفق ، يشرح صدور المؤمن الموافق ، ويسخن عين الرِّجس المنافق.
يتجدّد فخرهم بتجدّد الأيّام ، ويتعالى ذكرهم بتعدّد الأعوام ، وما هذه إلّا كرامة ظاهرة ، وفضيلة باهرة ، يستدلّ بها ان الجليل سبحانه لحظهم بعين عنايته ، واختصّهم بعظيم كرامته ، وجعلهم أشرف كلّ موجود سواه ، وأكمل كلّ مخلوق خلقه وسوّاه ، وشحن كتابه بمدحهم ، وشرّف تنزيله بوصفهم.
تهوى إليهم القلوب من جزائر منقطعة ، وترتاح إليهم النفوس من أقطار شسعة ، وزيّن سبحانه اللغات على اختلاف ألسنتهم بمدائحهم ومراتبهم ، وحبب إلى الأنام ذكر مناقبهم ومساعيهم ، حتّى زيّنت الشعراء مدائحها بذكرهم ، وأعملت البلغاء قرائحها في شكرهم ، فكلّ شعر لا يحلّى بجواهر فضائلهم فهو يهرج ، وكلّ نثرلايسمط بوصف مناقبهم فهو يسمج ، تفخر فصحاء العرب بتر صيع سجعها بتلالىء وصفهم ، وتشمخ شعراء العجم بتجنيس رديفها بتعداد كرمهم ولطفهم ، أجهدت الأعداء جهدها في محو صورهم من جرائد الأحياء ، وأجلبت الأشقياء بخيلها ورجلها على إخفاء أوجههم عن وجه الدنيا ، حتّى قتلوا رجالهم ، وذبحوا أطفالهم ، وانتهبوا أثقالهم ، وتتبّعوا حيّهم ، واستصفوا فيئهم ، ولم يتركوا لهم وليّاً إلّا أرهقوه ، ولا ناصراً إلّا اغتالوه ، ولا رحماً إلّا قطعوها ، ولا وصيّة إلّا ضيّعوها.
حتّى إذا ظنوا أنّ الدنيا قد أصفتهم لذّتها ، ومنحتهم درّتها ، وسلّمت إليهم مقاليد سلطانها ، وفتحت عليهم كنوز ذهبانها ، وأوطأت أقدامهم أعناق ملوكها ، وأجرت أحكامهم على غنيّها وصعلوكها (١) ، وعمّت فتنتهم ، وتمّت مدّتهم ،
__________________
١ ـ الصعلوك : الفقير.