التكافل الإجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

عباس ذهبيات

التكافل الإجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-05-6
الصفحات: ١١٤

على نفسه وعياله. وعلى ذوي المكنة والغنى وظيفة اجتماعية تتمثل بمساعدة السائلين والمحرومين. وقد أطلق القرآن الكريم على هذا الإنفاق صفة الحقّ ، كما في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (١).

ويظهر من الرواية التالية أن هذا الحق له وظيفة تكافلية ، فليس هو من الزكاة والصدقات المفروضة ، بل هو أمر تبرعي يقدم عليه المحسن طوعاً لأجل إشاعة مبدأ التعاون ومواساة المعوزين.

عن القاسم بن عبدالرّحمن الأنصاري قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : « إنّ رجلاً جاء إلى أبي علي بن الحسين عليهما‌السلام فقال له : أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : ( فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ما هذا الحقّ المعلوم ؟ فقال له علي بن الحسين عليهما‌السلام : الحقّ المعلوم الشيء يخرجه من ماله ليس من الزّكاة ولا من الصّدقة المفروضتين. قال : فإذا لم يكن من الزّكاة ولا من الصّدقة ، فما هو ؟ فقال : هو الشيء يخرجه الرّجل من ماله إن شاء أكثر ، وإن شاء أقلّ ، على قدر ما يملك ، فقال له الرّجل : فما يصنع به ؟ فقال : يصل به رحما ، ويقوي به ضعيفاً ، ويحمل به كلاًّ ، أو يصل به أخاً له في الله ، أو لنائبة تنوبه ، فقال الرّجل : الله أعلم حيث يجعل رسالته » (٢).

وعن سماعة ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « الحقّ المعلوم ليس من الزّكاة ،

________________

(١) سورة المعارج : ٧٠ / ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) الكافي ٣ : ٥٠٠ / ١١.

٨١

هو الشيء تخرجه من مالك إن شئت كلّ جمعة ، وإن شئت كلّ شهر ، ولكلّ ذي فضل فضله ، وقول الله عزّ وجلَّ : ( إِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) (١) فليس هو من الزكاة ، والماعون ليس من الزكاة ، هو المعروف تصنعه ، والقرض تقرضه ومتاع البيت تعيره ، وصلة قرابتك ليس من الزكاة ، وقال الله عزّ وجلّ : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ) فالحق المعلوم غير الزّكاة ، وهو شيء يفرضه الرّجل على نفسه ، يجب أن يفرضه على قدر طاقته ووسعه » (٢).

والإسلام يحثّ على أن يكون إنفاق المال لغاية سامية أطلق عليها القرآن (سبيل الله ) ، فمثل هذا الإنفاق يباركه الله تعالى لكونه يخدم مبدأ التكافل ، من خلال تقديم العون والمساعدة للآخرين بنية خالصة ، وبشرط أن لا يصاحب مثل هذا الإنفاق المنّ أو الأذى ، قال عزّ من قائل : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٣). وعليه فالله تعالى يعتبر المال أمانة في يد حامله ، وعليه أن يحسن التصرف بها ، وأن ينفقها في سبيله ، وليس من أجل الرِّياء أو السمعة الفارغة ، لذلك يعتبر الذي ينفق أمواله من أجل الرِّياء من

________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧١.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٤٨ / ١٦٦٦.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٨٢

قرناء الشيطان ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ) (١).

ولم يأل أئمة أهل البيت : جهداً من أجل توعية شيعتهم على إدراك وظيفة المال الاجتماعية ، ورسالته التكافلية ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فمن آتاهُ الله مالاً فليصل به القرابة ، وليُحسن مِنهُ الضيافة ، وليفُكَّ به الأسير والعاني ، وليُعط مِنهُ الفقير والغارِمَ » (٢) ، وعنه عليه‌السلام : « أفضل المال ما قضيت به الحقوق » (٣).

ولم تكن وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام مجرّد كلمات تطلق في الفضاء كحال المنظرين ، بل كانت تترجم إلى سلوك سويّ ، شهد عليها التاريخ وسجلها الثقات ، قال أبو صالح السمّان : « رأيت عليا دخل بيت المال فرأى فيه مالاً ، فقال : هذا ها هنا والناس يحتاجون ! فأمر به فقسّم بين الناس وأمر بالبيت فكنس فنضح وصلّى فيه » (٤).

وعن هارون بن مسلم البجلي عن أبيه قال : « أعطى علي عليه‌السلام الناس في عام واحد ثلاث اُعطيات ثم قدم عليه خراج أصفهان فقال : أيها الناس ، اغدوا فخذوا ما أنا لكم بخازن ، ثم أمر ببيت المال فكنس ونضح ، فصلى

________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣٨.

(٢) تصنيف نهج البلاغة / لبيب بيضون : ٦٤٨.

(٣) عيون الحكم والمواعظ : ١٢٢.

(٤) انساب الأشراف / البلاذري : ١٣٣ ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، والدعوات / الراوندي : ٦٠ ، مدرسة الإمام المهدي عليه‌السلام ، ط ١ ـ ١٤٠٧ ه‍ ق.

٨٣

فيه ركعتين ثم قال : يا دنيا غري غيري ... » (١).

كان ( سلام الله عليه ) يعتبر المال أمانة بيده ، فيحرص أشد الحرص على إيصاله إلى مستحقيه ، وتقسيمه بالسّوية فيما بينهم ، ولما بويع بالخلافة ، صعد المنبر في اليوم الثاني من البيعة ، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة ، فقال : « فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يقسَّم بينكم بالسوّية ، لا فضل فيه لأحد على أحد ، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب » (٢).

ومن كتاب له عليه‌السلام إلى قثم بن العبّاس ، وهو عامله على مكّة : « وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قِبَلَكَ من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلاّت ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا » (٣).

وكان عليه‌السلام يقول لمن أراد منه العودة إلى سنّة عمر في التمييز بين الناس في العطاء !! : « لو كان المال لي لسوّيت بينهم ، فكيف وإنما المال مال الله » (٤).

وقام عليه‌السلام خطيباً بالمدينة حين رجعت إليه خلافته ، بعد أن حمد الله وأثنىٰ عليه : « إنّي والله لا أرزؤكم من فيئكم درهما ما قام لي عذق بيثرب ،

________________

(١) الغارات / إبراهيم بن محمّد الثقفي ١ : ٨٣ ، مطبعة بهمن ـ إيران ، ونحوه في شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٢ : ١٩٨ ، دار إحياء الكتب العربية.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٧ : ٣٧.

(٣) نهج البلاغة ، كتاب ٦٧.

(٤) نهج البلاغة / الخطبة ١٢٦.

٨٤

فليصدقكم أنفسكم ، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم ؟! فقام إليه عقيل ( كرّم الله وجهه ) فقال له : والله لتجعلني وأسود بالمدينة سواءً ؟! فقال له : أجلس ، أما كان ها هنا أحد يتكلّم غيرك ؟ وما فضلك عليه إلاّ بسابقة أو بتقوى !! » (١).

وعن ابن دأب قال : ولّى أمير المؤمنين عليه‌السلام بيت مال المدينة عمّار بن ياسر وأبا الهيثم بن التيّهان ، فكتب : « العربي والقرشي والأنصاري والعجمي وكل من كان في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم سواء فأتاه سهل بن حنيف بمولى له أسود فقال : كم تعطي هذا ؟ فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : كم أخذت أنت ؟ قال : ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس ، قال : فأعطوا مولاه مثل ما أخذ ثلاثة دنانير » (٢).

وروى أبو إسحاق الهمداني أنّ امرأتين أتتا عليّاً عليه‌السلام ، إحداهما من العرب ، والأخرى من الموالي ، فسألتاه فدفع إليهما دراهم وطعاماً بالسواء ، فقالت إحداهما : إنّي امرأة من العرب وهذه من العجم ، فقال عليّ عليه‌السلام : « والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق » (٣).

وعموما فقد كان أئمة أهل البيت : يحثّون أتباعهم على بذل الأموال سواءً المفروض منها أو المستحب ، ويكشفون لهم الحكمة من وراء ذلك ، والفائدة المرجوّة ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام لعمّار الساباطي : « يا عمّار أنت ربّ

________________

(١) روضة الكافي ٨ : ١٨٢ / ٢٠٤.

(٢) الاختصاص / الشيخ المفيد : ١٥٢ ، طبع جماعة المدرسين في الحوزة العلمية.

(٣) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠٠ ، دار إحياء الكتب العربية.

٨٥

مال كثير ، قال : نعم جعلت فداك ، قال : فتؤدي ما افترض الله عليك من الزّكاة، فقال : نعم ، قال : فتصل قرابتك ؟ قال : نعم ، قال : فتصل إخوانك ؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : يا عمّار ، إن المال يفنى ، والبدن يبلى ، والعمل يبقى ، والدّيان حيّ لا يموت. يا عمّار ، أما أنّه ما قدمت فلن يسبقك ، وما أخرّت فلن يلحقك » (١).

ولما كان البخل والشح يكبحان طريق الإنفاق ، عَمَلَ أهل البيت : على التسامي بنفوس أتباع مدرستهم وحثهم على قلع جذور البخل من خلال التكافل ، لكي ينجحوا في الابتلاء ويجتازوا الامتحان.

عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : « ما بلى الله العباد بشيء أشدّ عليهم من إخراج الدّراهم » (٢).

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يشنع أشد التشنيع بالشحيح ، ويعتبر الشحّ أقبح من الظلم ، يروى أنه عليه‌السلام سمع رجلاً يقول : إنّ الشحيح أعذر من الظالم ، فقال له : « كذبت ، إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر ويردّ الظلامة إلى أهلها ، والشّحيح إذا شحّ منع الزّكاة والصّدقة وصلة الرّحم وقري الضّيف والنفقة في سبيل الله ، وأبواب الخير ، وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح » (٣).

________________

(١) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٥ باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق ، من كتاب الزكاة.

(٢) الخصال / الشيخ الصدوق : ٨٠.

(٣) الكافي ٤ : ٤٤ / ١ باب البخل والشحّ ، من كتاب الزكاة.

٨٦



المبحث الثاني :

سُبل تأمين متطلّبات التكافل

هناك مجموعة من السُبل تصب في مجرى التكافل ، ومن خلالها يؤمَّن القسم الأكبر من الموارد التي تُصْرَف على الفقراء والمحتاجين ، ومن أبرز هذه السُبل ، ما يلي :

أولاً ـ الزكاة :

وهي من أهم العبادات المالية في الإسلام ، وقد أكد عليها القرآن في أكثر من سورة ، وأشاد بها في عشرات الآيات. وهي فريضة قديمة ، فرضت على الأنبياء قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوصى بها الله تعالى لوط وذريته وإسحاق ويعقوب ، قال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) (١).

وكانت ـ كذلك ـ وصية الله تعالى لعيسى عليه‌السلام ، كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا

________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٣.

٨٧

دُمْتُ حَيًّا ) (١).

كما أُمِر أهل الكتاب بأداء الزكاة ، قال تعالى : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (٢).

وسيبقى الأمر بها سارياً وأبدياً حتى يُمكّن الله تعالى في الأرض عباده الصالحين الذين يحملون الأمانة عند خروج الحجة المنتظر عليه‌السلام ، الذي يقيم أسباب العدل ويلتمس الخلاص لملايين الجياع والمحرومين في العالم ، ولا يتم ذلك إلا بإقامة الزكاة على وجهها الصحيح ، قال تعالى : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) (٣).

وغني عن القول أن الزكاة هي أوسع أبواب الخير ، وقد احتفظت بمقام الصدارة كسبيل من أكبر سُبل التكافل التي تستدعي الثواب والأجر الكبير ، قال تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ ) (٤). وقال تعالى : ( ... وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ) (٥).

________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٣١.

(٢) سورة البينة : ٩٨ / ٥.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٤١.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١١٠.

(٥) سورة النساء : ٤ / ١٦٢.

٨٨

وقد فرض الله تعالى الزَّكاة لحكمة عظيمة ، وغاية سامية تتعلّق بمواساة الفقراء ، وإسعاف ذوي الحاجات ، وتقوية أواصر المودة بين الأغنياء والفقراء ، والتقريب بين طبقات وفئات المجتمع ، ومعالجة أخطار الفقر الذي يعتبر أخطر شيء يهدد كيان الأمة ، ثم إنّ الزكاة تطهر نفوس الأغنياء من الشح والبخل ، قال تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا... ) (١).

وفي المقابل تقلع من نفوس الفقراء البغضاء ، والحقد ، والكراهية ضد الأغنياء. وفي هذا الصدد يُسلط أئمة آل البيت : الأضواء على وجه الزكاة وحكمتها ، ويكشفوا لنا عن علل عميقة بخصوصها ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنّما وضعت الزكاة اختبارا للأغنياء ومعونة للفقراء ، ولو أنّ الناس أدوّا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً ، ولاستغنى بما فرض الله عزّ وجلّ له ، وإن الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء » (٢).

وعن الإمام الكاظم عليه‌السلام : « إنّما وضعت الزكاة قوتا للفقراء ، وتوفيراً لأموال الأغنياء » (٣).

وقد حدّدت الشريعة موارد معيّنة لصرف أموال الزكاة ، منها : « الفقراء والمساكين ، والمراد بالفقير من لا يملك قوت سنته لنفسه وعائلته بالفعل أو

________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٠٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٧ / ١٥٧٩.

(٣) علل الشرائع ٢ : ٣٦٨ / ١ ، المكتبة الحيدرية ، ١٣٨٦ ه‍.

٨٩

بالقوة... والمسكين أسوأ حالاً من الفقير ، فهو لا يملك قوته اليومي. والغارم : وهو من عليه دين وعجز عن أدائه ، جاز أداء دينه من الزكاة ، وإن كان متمكناً من إغاثة نفسه وعائلته سنة كاملة بالفعل أو بالقوة.

كما تصرف الزكاة في سبيل الله : ويقصد به المصالح العامة للمسلمين كتعبيد الطرق وبناء الجسور والمستشفيات وملاجئ الفقراء والمساجد والمدارس الدينية ونشر الكتب الإسلامية المفيدة وغير ذلك مما يحتاج إليه المسلمون.

ويجوز اعطاء الفقير الزكاة من دون إعلام حاله ، ويجوز اعطاء الزكاة لمن يدّعي الفقر إذا علم فقره سابقاً ولم يعلم غناه بعد ذلك. ومن كان له على الفقير دين جاز له أن يحتسبه زكاة. والأولى أن لا يعطى للفقير من الزكاة أقل من خمسة دراهم عينا أو قيمة. ولا بأس باعطائه الزائد ، بل يجوز أن يعطى ما يفي بمؤونته ومؤونة عائلته سنة واحدة » (١).

وقد اتّبع آل البيت : أسلوب الحوار الإقناعي لحمل أصحابهم على إعطاء الزَّكاة ، فكشفوا عن المعطيات الإيجابية التي تنعكس على دافعيها كزيادة الرزق كما في حديث الإمام الباقر عليه‌السلام : « .. الزكاة تزيد في الرزق » (٢).

________________

(١) انظر : المسائل المنتخية : ٢٢٧ ـ ٢٣٢ ، المسائل : ٥٤٤ ، ٥٤٥ ، ٥٤٧ ، ٥٥٢ ، ٥٦١ ، ط ٣ ـ ١٤١٤ ه‍ ، مطبعة مهر ـ قم.

(٢) الأمالي / الشيخ الطوسي : ٢٩٦ المجلس الحادي عشر.

٩٠

وبالمقابل اتبعوا معهم أسلوب التحذير من العواقب المترتبة على التهوين من شأنها ، وعدم اعطائها لمستحقيها ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « من منع قيراطاً من زكاة ماله ، فليس هو بمؤمن ولا مسلم ولا كرامة » (١). ومن حديث له مع المفضّل ، قال عليه‌السلام : « يا مفضّل ، قل لأصحابك يضعون الزَّكاة في أهلها وإنّي ضامن لما ذهب لهم » (٢).

وتبدو لنا النظرة العميقة للإمام الصادق عليه‌السلام من تقسيمه للزَّكاة إلى ظاهرة وباطنة ، لمّا سأله رجل : « في كم تجب الزكاة من المال ؟ قال عليه‌السلام : الزَّكاة الظاهرة أم الباطنة تريد ؟ قال : اُريدهما جميعاً. فقال عليه‌السلام : أمّا الظاهرة ففي كلّ ألف خمسة وعشرون درهما ، وأمّا الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك » (٣).

ومن الواضح أنّ الزكاة الباطنة تعبير آخر عن التكافل الاجتماعي بشتّى صوره ، وكذلك الحال في ( زكاة الجاه ) في حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « إنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم ، كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم » (٤).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « المعروف زكاة النعم ، والشفاعة زكاة

________________

(١) من لا يحضره الفقيه / الصدوق ٤ : ٣٦٧ ، طبع جماعة المدرسين ، ط ٢ ـ ١٤٠٤ ه‍.

(٢) تحف العقول : ٥١٤.

(٣) معاني الأخبار / الصدوق : ١٥٣ ، انتشارات إسلامي.

(٤) مجمع البيان / الطبرسي ٣ : ١٨٩ تفسير الآية (١١٤) من سورة النساء.

٩١

الجاه » (١).

وهذه الرؤية المتميزة للزكاة لم تكن نبتاً بلا جذور ، بل هي في الأساس رؤية نبوية كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الجاه أحد الرفدين » (٢).

وفي هذا السياق قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « يسأل المرء عن جاهه كما يسأل عن ماله ، يقول : جعلت لك جاهاً ، فهل نصرت به مظلوماً ، أو قمعت به ظالماً ، أو أغثت به مكروباً » (٣).

وعنه عليه‌السلام : « من كان وصل لأخيه بشفاعة في دفع مغرم أو جرّ مغنم ، ثبّت الله عزّ وجل قدميه يوم تزل فيه الأقدام » (٤).

و « زكاة الفطرة » من موارد الزَّكاة التي ترفد الجهد التكافلي ، فعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنّ من تمام الصوم إعطاء الزَّكاة » يعني الفطرة (٥).

ومقدار زكاة الفطرة صاع من تمر أو زبيب أو شعير ، وهي وإن كانت قليلة المقدار والقيمة ظاهرا ، لكنّها تسهم في سد عوز الفقراء خصوصا في أيام العيد.

وكان للزكاة الأثر البالغ في إعالة العوائل التي نكبت بموت أو فقد معيلها ،

________________

(١) تحف العقول : ٣٨١.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٢٩٣.

(٣) المصدر السابق ١ : ٣٦٣.

(٤) أمالي / الشيخ الطوسي : ٩٩ / ١٥١ ، المجلس الرابع.

(٥) المقنعة / الشيخ المفيد : ٢٦٤ ، جماعة المدرسين ، قم ـ ١٤١٠ ه‍.

٩٢

وفي هذا الخصوص يوصي الإمام الصادق عليه‌السلام أصحابه بأن يعطوا الزكاة للعيال الذين مات من يعولهم حتى مرحلة البلوغ وتأمين مصدر العيش المناسب لهم ، عن أبي بصير قال : « قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام الرجل يموت ويترك العيال ، أيعطون من الزكاة ؟ قال : نعم حتّى ينشأوا ويبلغوا ويسألوا من أين كانوا يعيشون إذا قطع ذلك عنهم » (١).

لقد سعى أهل البيت : إلى إزالة الحواجز النفسية التي تمنع المحتاجين من الوصول إلى دافعي الزكاة وتحثّ المنفقين على المبادرة إلى التفتيش عن المستحقين لها ، وعدم تكليفهم مشقة الطلب ، صوناً لكرامتهم وحقناً لماء وجوههم ، وكان أهل البيت : يقدّرون أهمية العامل النفسي عند المتلقي للزكاة فلا يكلفونه عناء الطلب وذل السؤال ، ومن الشواهد على هذا المنحى الحضاري ، ما روي عن إسحاق بن عمّار ، قال : قال لي أبو عبدالله عليه‌السلام « يا إسحاق كيف تصنع بزكاة مالك إذا حضرت ؟ قال : يأتوني إلى المنزل فأعطيهم ، فقال لي : ما أراك يا إسحاق إلا قد أذللت المؤمنين ، فإيّاك إيّاك ، إنّ الله تعالى يقول : من أذلَّ لي وليّا فقد أرصد لي بالمحاربة » (٢).

وعن أبي بصير قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « الرّجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذ من الزّكاة فأعطيه من الزّكاة ولا اُسمّي له أنها من الزكاة ،

________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤٨ / ١ باب أنّه يعطى عيال المؤمن من الزكاة إذا كانوا صغاراً ، ويُقضى عن المؤمنين الديون من الزكاة ، من كتاب الزكاة.

(٢) المحاسن / البرقي ١ : ١٣٦ / ١٩ ، مشكاة الأنوار / الطبرسي : ٢٥٣.

٩٣

فقال : أعطه ولا تسمّ له ولا تذلّ المؤمن » (١).

وكان الإمام الصادق عليه‌السلام يحث على الأخذ بنظر الاعتبار مكانة وحيثية الفقراء حين اعطائهم الزكاة ، فزكاة الأنعام من المناسب أن تعطى لذوي التجمل منهم والاحتشام ، وزكاة النقدين تعطى لذوي الحاجة والفاقة.

عن عبدالكريم بن عتبة الهاشمّي ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « تُعطى صدقة الأنعام لذوي التجمل من الفقراء ، لأنها أرفع من صدقات الأموال ، وإن كان جميعهما صدقة وزكاة ، ولكن أهل التجمل يستحيون أن يأخذوا صدقات الأموال » (٢). وفي رواية أخرى عن عبدالله بن سنان قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « إنّ صدقة الخفّ والظلف تدفع إلى المتجملين من المسلمين ، أمّا صدقة الذّهب والفضة وما كيل بالقفيز ممّا أخرجت الأرض فللفقراء المدقعين ، قال ابن سنان : قلت : وكيف صار هذا هكذا ؟ فقال : لأنّ هؤلاء متجمّلون يستحيون من النّاس فتدفع إليهم أجمل الأمرين عند النّاس ، وكلُّ صدقة » (٣).

ومن الشواهد ذات الدلالة على حرص أئمة أهل البيت : على كرامة المحتاجين ، وتعجيل دفع الحقوق لهم ، عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام « أنّ عثمان بن عمران قال له : إنّي رجل موسر... ويجيئني الرجل فيسألني الشيء وليس هو إبّان زكاتي ، فقال له أبو عبدالله عليه‌السلام : القرض عندنا بثمانية

________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٤ / ٣ باب من تحلّ له الزكاة فيمتنع من أخذها ، من كتاب الزكاة.

(٢) المقنعة / الشيخ المفيد : ٢٦٠ ، جماعة المدرسين ـ قم ١٤١٠ ه‍.

(٣) علل الشرائع ٢ : ٣٧١ ، باب ٩٦.

٩٤

عشر ، والصّدقة بعشرة ، وماذا عليك إذا كنت كما تقول موسراً أعطيته ، فإذا كان إبّان زكاتك احتسبت بها من الزّكاة. يا عثمان ، لا ترده فإن ردّه عند الله عظيم. يا عثمان ، إنّك لو علمت ما منزلة المؤمن من ربِّه ما توانيت في حاجته » (١).

أما الخمس : فهو من الفرائض المؤكدة المنصوص عليها في القرآن الكريم وقد ورد الإهتمام بشأنه في كثير من الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة ( سلام الله عليهم ) ، وفي بعضها اللعن على من يمتنع عن أدائه وعلى من يأكله بغير استحقاق. ولكن وظيفة الخمس التكافلية تنحصر في كفالة الأيتام والفقراء من الهاشميين والمساكين وأبناء السبيل منهم ، ويسمى ( سهم السادة ) ، إذ يقسم الخمس نصفين ، نصف للإمام عليه‌السلام خاصة ، ويسمى « سهم الإمام » ونصف للأيتام والفقراء والمعوزين من الهاشميين. ويراد بالهاشمي : من ينتسب إلى هاشم جد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة الأب ، وينبغي تقديم الفاطميين على غيرهم (٢).

ثانياً ـ الصدقة :

ونريد بها الجانب التبرعي الذي يدفعه المسلم طوعاً للفقراء والمحتاجين. ولا نريد من الصدقة ـ هنا ـ الشيء المفروض ، أي الزَّكاة ، إذ تطلق الصدقات ـ أحياناً ـ على الزَّكاة ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ

________________

(١) الكافي ٤ : ٣٤ / ٤ باب القرض من كتاب الزكاة.

(٢) انظر : المسائل المنتخبة / السيد السيستاني : ٢٣٩ ـ ٢٤٨.

٩٥

وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ... ) (١).

والإمام الصادق عليه‌السلام كان قد أشار إلى ذلك بقوله : « ولكن الله عزّ وجلّ فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة ، فقال عزّ وجلّ : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ... ) (٢) فالحقّ المعلوم من غير الزكاة ، وهو شيء يفرضه الرّجل على نفسه في ماله ، يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله ، فيؤدّي الذي فرض على نفسه إن شاء في كلّ يوم ، وإن شاء في كلّ جمعة ، وإن شاء في كلّ شهر » (٣).

والمتتبع لآيات القرآن يجد أنها تمجّد بكل من يدفع الصدقة سواءً أكان رجلاً أو امرأة ، قال تعالى : ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) (٤).

والملاحظ أنّ الصدقة تسير في خطّ متوازٍ مع الزَّكاة لكفالة المحتاجين ، وإذا كانت الزَّكاة حقاً واجباً ، فهي ـ أي الصدقة ـ شيء مستحب يقدم عليه المسلم بطيبة قلب ، طلباً للثواب ، ومواساة لإخوانه المحتاجين.

وقد جعلت الشريعة للمتصدّق ثواباً عظيماً صرّح به الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : « من تصدّق بصدقة على رجل مسكين كان له مثل أجره ، ولو تداولها أربعون ألف إنسان ثمّ وصلت إلى المسكين كان لهم

________________

(١) سور التوبة : ٩ / ٦٠.

(٢) المعارج : ٧٠ / ٢٤.

(٣) الكافي ٣ : ٤٩٨ / ٨.

(٤) سورة الحديد : ٥٧ / ١٨.

٩٦

أجراً كاملاً » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من مشى بصدقة إلى محتاج كان له كأجر صاحبها ، من غير أن ينقص من أجره شيء » (٢).

وهناك أحاديث عن أهل بيت العصمة : مفادها أن الله تعالى يبارك كثيراً في الصدقة ولو كانت قليلة ، فليست العبرة في القلة والكثرة ، وإنما في تحسس المسلم حاجات إخوانه وتكافله معهم ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « قال الله عزّ وجلّ : إنّ من عبادي من يتصدّق بشقّ تمرة ، فأربيها له كما يربّي أحدكم فِلوه حتى أجعلها له مثل أحد » (٣).

ويفضّل أن تُعطى الصدقة للأرحام ، وهم في الدائرة الأقرب من القرابة ، روى الراوندي أن عليّاً عليه‌السلام قال : « أفضل الصدقة أختك وابنتك ، مردودة عليك ليس لهما كاسب غيرك » (٤).

ولا شك أنّ التكافل مع القريب بمثابة السور الوقائي الذي يحمي العائلة من أخطار الفقر ويسهم في تقوية درجة الانسجام والتآلف بين أفرادها ، لذلك يُضاعف ثواب التصدق على القريب ، فقد سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّ الصدقة أفضل ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « على ذي الرحم الكاشح » (٥).

________________

(١) ثواب الأعمال : ٢٨٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ١٧.

(٣) الأمالي / الشيخ المفيد : ٣٥٤ ، المجلس الحادي والأربعون.

(٤) النوادر / الراوندي : ٨٣ دار الحديث ط ١ ، ١٤٠٧ ه‍.

(٥) ثواب الأعمال : ١٧٣ / ١٨ ، منشورات الشريف الرضي.

٩٧

فهذا التوجه ينسجم مع اهتمام الإسلام بالأرحام ، ودعوته لتمتين عوامل اللحمة معهم ، وخطب ودهم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا صدقة وذو رحم محتاج » (١).

والإمام الصادق عليه‌السلام بدوره عمق هذا الاتجاه الذي يُفضّل القريب بالتكافل ، فقد سُئل عليه‌السلام عن الصدقة على من يسأل على الأبواب ، أو يمسك ذلك عنهم ويعطيه ذوي قرابته ؟ فقال : « لا ، بل يبعث بها إلى من بينه وبينه قرابة ، فهو أعظم للأجر » (٢).

وانطلاقاً من حرص الإسلام على كرامة الإنسان ، وحرصه على أن لا يكون عالة على غيره ، بل يكون إنساناً عاملاً يعيش من عرق جبينه ، وكدّ يمينه ، فقد حرم أخذ الصدقة على المسلم ، وأباح له ذلك عند الضرورة. وبذلك سد الأبواب على بعض الأفراد الذين يعيشون على هامش الحياة ، ويلقون عبء معاشهم على غارب الصدقة.

والضابط في ذلك أنّ من يمكنه الاستغناء عنها لا تحل له ، سواء كان بمال أو صناعة أو حرفة بشرط أن يكون التكسب لائقا بحاله ومروءته (٣).

وهناك جملة شروط ومعايير وضعها الإسلام لتمييز مستحقي الزكاة عن غيرهم ، فعن عبدالرَّحمن العرزميّ ، عن أبي عبداللّه عليه‌السلام قال : « جاء رجل إلى الحسن والحسين عليهما‌السلام وهما جالسان على الصفا فسألهما فقالا : إن

________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٨ / ١٧٤٠.

(٢) ثواب الأعمال : ١٤٢.

(٣) المهذب البارع / ابن فهد الحلي ١ : ٥٣٠ ، جماعة المدرسين ، قم ١٤٠٧ ه‍.

٩٨

الصدقة لا تحلّ إلاّ في دين موجع ، أو غرم مفظع ، أو فقر مدقع ، ففيك شيء من هذا ، قال : نعم ، فأعطياه » (١).

وينبغي أن تكون الأولوية في العطاء للأفراد الذين يكونون عِرضة للجزع والهلع والتحسس أكثر من غيرهم ، كل ذلك من أجل القضاء على روح الاستياء عند العطاء ، عن عنبسة بن مصعب ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « أتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشيء فقسّمه فلم يسع أهل الصُّفّة جميعاً ، فخص به اُناساً منهم ، فخاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكون قد دخل قلوب الآخرين شيء ، فخرج إليهم فقال : معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم يا أهل الصُّفّة ، إنّا أُوتينا بشيء فأردنا أن نقسمّه بينكم فلم يسعكم ، فخصصت به أُناسا منكم خشينا جزعهم وهلعهم » (٢).

من جهة أخرى لم ينقطع أهل البيت : عن التذكير بالمعطيات الإيجابية لإعطاء الصدقة سواءً أكانت صدقة السِّر أو العلانية ، ومنها : تكفير الخطيئة ، ودفع ميتة السوء ، ودفع البلاء ، وحصول الشفاء ، وزيادة الرزق وغيرها.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أكثروا من الصدقة تُرزقوا » (٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله موصياً : « داووا مرضاكم بالصدقة... » (٤). وجاء في وصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

________________

(١) الكافي ٤ : ٤٧ / ٧ باب النوادر من كتاب الزكاة.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥٠ / ٥ باب تفضيل أهل الزكاة بعضهم على بعض من كتاب الزكاة.

(٣) بحار الأنوار ٧٤ : ١٧٦.

(٤) الخصال / الصدوق : ٦٢٠.

٩٩

لعلي عليه‌السلام : « يا علي ، الصدقة تردّ القضاء الذي اُبرم إبراماً ، يا علي صلة الرحم تزيد في العمر... » (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ... وصدقة السَّر فإنّها تُكفِّرُ الخطيئة ، وصدقة العلانية فانّها تدفَعُ ميتة السَّوء » (٢). وعنه عليه‌السلام : « استنزلوا الرزق بالصدقة » (٣).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام لابنه محمّد : « يابنيّ كم فضل من تلك النفقة ؟ فقال : أربعون ديناراً ، قال : أخرج فتصدّق بها ، قال : إنّه لم يبق معي غيرها ، قال : تصدّق بها ، فإنَّ الله عزّ وجلّ يخلفها... قال : ففعلت ، فما لبث أبو عبدالله عليه‌السلام إلاّ عشرة أيّام حتّى جاءه من موضع أربعة آلاف دينار » (٤).

ومما ورد من آثار الصدقة الأخرى أنها تذهب بنحس الأيام ، فعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « من تصدق بصدقة حين يصبح أذهب الله عنه نحس ذلك اليوم » (٥).

ومن هنا فإنّ للصدقة دورا في تطمين الخواطر وتبديد المخاوف عند السفر ، عن عبدالرحمن بن الحجاج ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « تصدق

________________

(١) تحف العقول : ٧.

(٢) تصنيف نهج البلاغة / لبيب بيضون : ٢٩٦.

(٣) نهج البلاغة / الحكمة ١٣٧.

(٤) الكافي ٤ : ٩ / ٣ باب في أنّ الصدقة تزيد في المال ، من كتاب الزكاة.

(٥) الكافي ٤ : ٦ / ٧ باب أنّ الصدقة تدفع البلاء من كتاب الزكاة.

١٠٠