التكافل الإجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

عباس ذهبيات

التكافل الإجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-05-6
الصفحات: ١١٤

عن مصادف ، قال : كنت مع أبي عبدالله عليه‌السلام بين مكّة والمدينة ، فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه ، فقال عليه‌السلام : « مل بنا إلى هذا الرَّجل ، فإنّي أخاف أن يكون قد أصابه عطش ، فملنا فإذا رجل نصراني من القراسين طويل الشعر ، فسأله : أعطشان أنت ؟ فقال : نعم ، فقال لي : انزل يا مصادف فاسقه ، فنزلت وسقيته ، ثمّ ركبت وسرنا ، فقلت : هذا نصرانيّ ، فتتصدّق على نصرانيّ ؟! فقال : نعم إذا كانوا في مثل هذه الحال » (١).

فهذا الرجل ـ أي مصادف ـ يستغرب من إقدام الأئمة : على التكافل مع أهل الكتاب. وفاته أن الأئمة ينطلقون من رؤى إنسانية واسعة الأفق تلتقي مع مبادئ الإسلام الداعية إلى التراحم والتعاطف مع كل الناس ، بل وتتّسع لتشمل العطف على الحيوان وعلى كلّ ذي روح.

عن نجيح ، قال : رأيت الحسن بن علي عليهما‌السلام يأكل وبين يديه كلب ، كلّما أكل لقمة طرح للكلب مثلها ! فقلت له : يا بن رسول الله ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك ؟ قال : « دعه ، إنّي لأستحيي من الله تعالى أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وانا آكل ثمّ لا أطعمه » (٢).

وضمن هذا الباب تؤكد تعاليم مدرسة أهل البيت : على استحباب قناعة السائل ودعائه لمن أعطاه ، وزيادة إكرام السائل القانع الشاكر ، فبإسناد ينتهي إلى مسمع بن عبدالملك قال : كنّا عند أبي عبدالله عليه‌السلام بمنى وبين يدينا

________________

(١) الكافي ٤ : ٥٧ / ٤.

(٢) مستدرك الوسائل ٧ : ١٩٢ / ٨٠٠٥.

٦١

عنب نأكله ، فجاء سائل فسأله ، فأمر له بعنقود فأعطاه ، فقال السائل : لا حاجة لي في هذا ، إن كان درهم ، فقال عليه‌السلام : « يسع الله لك ولم يعطه شيئاً. فذهب ثمّ رجع فقال : ردّوا العنقود ، فقال عليه‌السلام : يسع الله لك ولم يعطه شيئاً ، ثمّ جاء سائل آخر فأخذ أبو عبدالله عليه‌السلام ثلاث حبّات عنب فناولها إيّاه ، فأخذ السائل من يده ، ثم قال : الحمد لله رب العالمين الذي رزقني. فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : مكانك فحثا مل ء كفّيه عنباً فناولها إيّاه ، فأخذها السّائل من يده ثمَّ قال : الحمد لله ربّ العالمين ، فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : مكانك يا غلام ، أي شيء معك من الدّراهم ؟ فإذا معه نحو من عشرين درهماً فيما حزرناه أو نحوها ، فناولها إيّاه فأخذها ثم قال : الحمد لله هذا منك وحدك لا شريك لك. فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : مكانك ، فخلع قميصاً كان عليه ، فقال : إلبس هذا ، فلبس ثمّ قال : الحمد لله الذي كساني وسترني يا أبا عبدالله ، أو قال : جزاك الله خيراً ، لم يدع لأبي عبدالله عليه‌السلام إلا بذا ، ثمّ انصرف فذهب ، قال : فظننا أنّه لو لم يدع له لم يزل يعطيه لأنّه كلّما كان يعطيه حمد الله [ على ما ] أعطاه » (١).

هكذا كان نهج آل البيت : مع السائل ضمن دائرة التكافل ، وهكذا كان أدبهم الرَّفيع في العطاء معهم. فهو يريد من السائل أن لا يغفل عن الله تعالى الذي هو مصدر الرّزق والعطاء ، وأن يدرك بأن الإنسان المنفق ، وأن سمت مكانته وعلا شأنه ليس إلاّ مجرّد وسيلة للفيوضات الإلٰهية.

________________

(١) الكافي ٤ : ٤٩ / ١٢ باب النوادر من كتاب الزكاة.

٦٢

٤ ـ الأسرى والمكروبون

يتّسع مبدأ التكافل لفئات محرومة أخرى كالأسرى والمكروبين ، فقد أوجب الإسلام للأسير حقوقاً تكافلية كالإطعام والإحسان إليه ، وإن كان يراد في الغد الإقتصاص منه. عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : سألته عن قوله الله عزّ وجل : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) (١) قال : « هو الأسير وقال : الأسير يطعم وان كان يقدم للقتل وإن عليّاً أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يطعم من خلد في السجن من بيت مال المسلمين » (٢).

وتجدر الإشارة إلى أنّ أغلب المفسّرين ذكروا أنَّ الآية الكريمة : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) قد نزلت في أهل البيت : علي وفاطمة والحسن والحسين عليهما‌السلام حينما تصدّقوا على المسكين واليتيم والأسير (٣).

والأحاديث الواردة عن الرسول وأهل بيته : تفجّر في نفوس المسلمين ينابيع الخير والعطاء للمكروبين والمعسرين ، لكونها مفعمة بشحنة عاطفية كبيرة تجاههم ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من كفارات الذنوب العِظام

________________

(١) سورة الإنسان : ٧٦ / ٨.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٥٣٧ باب ٣٢٥.

(٣) راجع : الكشّاف / الزمخشري ٤ : ٦٧٠ ، وتفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٣ عند تفسير الآية المذكورة.

٦٣

إغاثة الملهوف ، والتنفيس عن المكروب » (١).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « أيّما مؤمن نفّس عن مؤمن كربة وهو معسر ، يسّر الله له حوائجه في الدنيا والآخرة » (٢) ، وكان لهذه الأحاديث أبعادها العميقة في أغوار الفكر ، وقد تجسدت في سلوك تكافلي على صعيد الواقع. حيث سادت في الإسلام ثقافة التكافل ، ومن المعروف أنّ الإنسان ابن ثقافته ويعكس هذه الثقافة في كافة تصرفاته ، لذا لم تكن في العصور الإسلامية الأولى ظاهرة التسول والتشرد منتشرة بشكل ملحوظ ، وقد أشرنا إلى أن أمير المؤمنين عليه‌السلام في خلافته الرشيدة استغرب وتعجب عندما وقعت عيناه على رجل نصراني يستعطي الناس !

وهناك فئات أخرى يكفل لها الإسلام حاجتها عند الضرورة ، منها : الغارم وهو من كان عليه دين وعجز عن أدائه ، فيجوز أداء دينه من الزكاة ، وإن كان متمكناً من إعالة نفسه وعائلته سنة كاملة بالفعل أو القوة (٣) ، وكذلك ابن السبيل : وهو المسافر الذي نفدت نفقته أو تلفت راحلته ، ولا يتمكن من الرجوع إلى بلده ، وإن كان غنياً فيه (٤).

________________

(١) تصنيف نهج البلاغة / لبيب بيضون : ٦٢٦.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٢٠٠ / ٥ ، باب تفريج كرب المؤمن.

(٣) المسائل المنتخبة / السيد السيستاني : ٢٣٠.

(٤) المصدر السابق : ٢٣١.

٦٤



الفصل الثالث :

متطلّبات التكافل وسبل تأمينها

المبحث الأوّل :

متطلّبات التكافل :

لم يألُ الإسلام جهدا من أجل تأمين المتطلّبات الأساسية للمحتاجين في حدود الإمكانات المتاحة ، وهي :

أولاً ـ الماء :

وهو مادة حياتية لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنه بحال ، لذلك حثّ الإسلام على التكافل بين المسلمين من أجل تأمينه للمحتاجين. وكانت مشكلة ندرة المياه تثير الصراعات والحروب بين القبائل العربية في الجاهلية ، ومما يعقد المشكلة طغيان نزعة الأنانية والاستئثار في نفوس الناس في العصر الجاهلي ، لا سيما وأنهم يعيشون في بيئة صحراوية تقل فيها مصادر المياه ، فكان من الطبيعي والحال هذه أن يسعى البعض جاهدا للسيطرة على منابع المياه وحرمان الآخرين منها ، وهنا تستعر حالة التقاتل بين القبائل على مصادر الكلأ والماء. فلما جاء الإسلام عمل على تهذيب النفوس وحارب حالة

٦٥

الاستئثار ، وفعّل قيم الإيثار والخير في نفوس معتقديه ، فخفت حدّة هذه المشكلة العويصة. وها هي اليوم تطل برأسها نذر الشؤم ، فالخبراء من سياسيين وعسكريين يصرحون بأن الحروب القادمة بين الدول هي حروب على مصادر المياه ! يأتي ذلك في غياب أو تغييب مبادئ وقيم الإسلام ، التي لو شاعت وترسّخت في نفوس الناس لعمّ السلام والخير ، واختفى شبح الحروب عن هذا الكوكب.

وكان الإسلام يعتمد على الوازع الديني في حمل الناس على التكافل في هذا الشأن ، فهو يدفعهم ـ طوعاً ـ نحو الصدقة ، ويعتبر صدقة الماء من أفضل أشكال الصدقات ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقد سأله رجل : ما عمل إن عملت به دخلت الجنّة ؟ قال : « اشتر سقاءً جديداً ثمّ اسق فيها حتّى تخرقها ، فإنّك لا تخرقها حتى تبلغ بها عمل الجنّة » (١).

وكان أهل البيت : يحثون المسلمين على تحقيق أعلى درجة من التعاون في هذا الشأن ، ويركزون على صدقة الماء ويكشفون عن فضيلتها ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « أفضل الصدقة إبراد كبد حرى » (٢) ، ويقول الإمام الباقر عليه‌السلام : « من سقى كبدا حرى من بهيمة أو غيرها أظله الله يوم لا ظل إلاّ ظله » (٣) ، وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « إن أوّل ما يبدأ به يوم القيامة

________________

(١) عدّة الداعي / ابن فهد الحلي : ٩٢.

(٢) الكافي ٤ : ٥٧ / ٢ ، باب سقي الماء من كتاب الزكاة.

(٣) الكافي ٤ : ٥٨ / ٦ باب سقي الماء من كتاب الزكاة.

٦٦

صدقة الماء » (١).

وفي الرواية التالية تتجلّى أمَامَنا واضحةً نفسية أمير المؤمنين عليه‌السلام المُحِبَّة للخير والساعية للثواب وخاصة سقي الماء ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج في جيش فأدركته القائلة وهو ما يلي ( ينبع ) فاشتدّ عليه حر النهار ، فانتهوا إلى ( سمرة ) فعلقوا أسلحتهم عليها ، وفتح الله عليهم ، فقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله موضع السمرة لعلي عليه‌السلام في نصيبه... فأمر مملوكيه أن يفجروا لها عيناً ، ففجرت فخرج لها مثل عنق الجزور ـ كناية عن كثرة الماء ـ فجاء البشير يسعى إلى علي عليه‌السلام يخبره بالذي كان ، فجعلها عليّ صدقة ، فكتبها : هذا صدقة لله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ليصرف الله وجهي عن النار صدقة بتلة بتلة في سبيل الله تعالى للقريب والبعيد في السلم والحرب واليتامى والمساكين وفي الرقاب » (٢).

وجاء ـ تأكيد ذلك ـ في كتاب الغارات ، قال المؤلف : « أخرج عليه‌السلام ماء عين بينبع وجعلها للحجيج ، وهو باق إلى يومنا هذا » (٣).

ونود الإشارة إلى موقف يكشف المُثل العالية التي يجسدها أهل البيت : في أحلك الظروف ، أنه لما أرسل عبيدالله بن زياد ( لعنة الله عليه )

________________

(١) ثواب الأعمال : ١٣٩.

(٢) مناقب أمير المؤمنين / محمّد سليمان الكوفي ٢ : ٨٠ ، مجمع احياء الثقافة الإسلامية.

(٣) الغارات / إبراهيم الثقفي الكوفي ٢ : ٧٠١.

٦٧

قوة قتالية بقيادة الحر الرياحي لمضايقة الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه ومحاصرتهم وحملهم على الاستسلام ، وصلت هذه القوة المعادية بالقرب من قوات الإمام الحسين عليه‌السلام في حالة يرثى لها من العطش ، وهنا تسجل عدسة التاريخ موقفاً نبيلاً للإمام الحسين عليه‌السلام لابد من الإشارة إليه والإشادة به. قال الإمام الحسين عليه‌السلام لفتيانه : « اسقوا القوم وارووهم من الماء ، ورشِّفوا الخيل ترشيفاً ، ففعلوا وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس ، فإذا عب فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقوا آخر ، حتى سقوها كلها. فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ ، فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلما رأى الحسين عليه‌السلام مابي وبفرسي من العطش ، قال : أنِخ الراوية والراوية عندي السقاء ، ثم قال : يا ابن أخي أنخ الجمل ، فأنخته فقال : اشرب فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين عليه‌السلام اخنث السقاء » أي اعطفه ، فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي (١).

وفي صورة مقابلة نجد الموقف الشائن وغير الشريف الذي جسده عبيد الله بن زياد الكذّاب وابن الكذّاب واللعين ابن اللعين وجنده لعنهم الله حينما منعوا الإمام الحسين عليه‌السلام وعياله وأصحابه من الماء ، يقول الرّواة أنه لما اشتد العطش بالإمام الحسين عليه‌السلام ركب المسناة يريد الفرات والعباس عليه‌السلام أخوه بين يديه ، فاعترضته خيل ابن سعد لعنه الله ، فرمى رجل من بني

________________

(١) الارشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٧٨ ، دار المفيد ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليه‌السلام لتحقيق التراث.

٦٨

دارم قبّحه الله الإمام الحسين عليه‌السلام بسهم فأثبته في حنكه الشريف ، فانتزع عليه‌السلام السهم وبسط يديه تحت حنكه الشريف ، حتى امتلأت راحتاه من الدم ثم رمى به وقال : « اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك » (١). بالمقارنة بين الموقفين تتكشف لنا عظمة مدرسة أهل البيت : وأخلاقها ومثاليّتها مقابل المدرسة الأموية البغيضة التي أُسِّست على جرف هار فانهار بها وبقادتها لعنهم الله في نار جهنّم ، وبئس المصير.

ثانياً ـ الطعام :

وهو حاجة أساسية لابدّ منها لعيش الإنسان وبقائه على قيد الحياة. والإسلام لا يريد أن يُترك الإنسان فريسة الجوع. وعليه لابدّ من تفعيل مبدأ التكافل من أجل إطعام الجياع وسد رمقهم. فمن الضرورة بمكان أن يبدأ الإنسان بسد جوع من يقرب له نسباً أو مكاناً ، وفي هذا الصدد يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : « والذي نفس محمّد بيده لا يؤمن بي عبد يبيت شبعان وأخوه ـ أو قال : جاره ـ المسلم جائع » (٢).

وفي هذا الحديث إشارة تستحق التأمل ، وهي أن الاتجاه التكافلي جزء لا يتجزء من الإيمان القلبي. فالإسلام ـ كما هو معلوم ـ إيمان وعمل ، والتكافل هنا يقع ضمن دائرة الإيمان العملي ، وبدون ذلك لا يمكن إطلاق صفة الإيمان

________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف / السيد ابن طاووس : ٧٠ ، ط ١ ـ ١٤١٧ ه‍ ، مطبعة مهر.

(٢) الأمالي / الشيخ الطوسي : ٥٩٨ / ١٢٤١ ، المجلس (٢٦).

٦٩

الكامل على من لا يمارس التكافل.

ويبدو أن لإطعام الطعام تقدم رتبي على بعض أعمال الإحسان ، يظهر ذلك من قول الإمام الصادق عليه‌السلام : « لأن أطعم مؤمناً محتاجاً أحبّ إليَّ من أن أزوره ، ولأن أزوره أحبّ إليَّ من أن أعتق عشر رقاب » (١).

وليس خافياً بأن هناك أولوية وتقدم رتبي في الإسلام لبعض أعمال التكافل على بعض ، وإنّ لكلّ عمل خيري ثوابه الخاص به ، وحسب أهميته ، وما يدخله من نفع أو خدمة على المؤمنين.

ضمن هذا السياق للإطعام في الإسلام غاية سامية هي سد رمق الجياع ، وإبعاد شبح المجاعة عنهم ، وليس الغاية منه التفاخر ، أو تحقيق أغراض مصلحية ببذله للأغنياء وحجبه عن الفقراء. ومن الشواهد على ذلك : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كتب إلى ابن حنيف عامله على البصرة يعنّفه بشدّة : « يابن حنيف ! فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة ، فأسرعت إليها تُستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ » (٢).

وكان الأولى بهؤلاء أن يدعوا الفقراء إلى طعامهم ، ولكن يبدو أن الغايات المصلحية أو المجاملات كانت لها الأرجحية ، فالإطعام إذن يراد منه وظيفة اجتماعية تكافلية بعيداً عن الإسراف والتبذير والتشريفات الفارغة أو الأغراض المصلحية.

________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢٠٣ / ١٨ ، باب إطعام المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.

(٢) نهج البلاغة ، الكتاب ٤٥.

٧٠

ومن روائع القرآن تصويره البديع لحال الكافرين إذ يقولون في اليوم الآخر بعد أن يسألهم المؤمنين : ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) (١).

ومن أدب الإسلام في الإطعام أن يبلغ الغاية في إشباع الجائع ، ويصيب الهدف المراد به إسعاف المحتاج إلى الطعام بما يُلبي حاجته الفعلية منه ، فمن وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام القيّمة : « إذا أطعمت فأشبع » (٢). والإطعام المؤدي إلى الكفاية يستوجب الثواب ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « من أطعم مسلماً حتّى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله ماله من الأجر في الآخرة ، لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلاّ الله ربّ العالمين ، ثمّ قال عليه‌السلام : من موجبات الجنّة والمغفرة إطعام الطعام السغبان »... ثم تلا قول الله تعالى : ( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ) (٣).

وهناك روايات تؤكد على أن إطعام الطعام يعود بفوائد تظهر آثارها ولو كان المطعم من أهل النار ، فهو على الأقل يسهم في تخفيف العذاب ، ومن الشواهد على ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن أهون أهل النار عبدالله بن جدعان ، فقيل له : ولم يا رسول الله ؟ قال : إنّه كان يطعم الطعام » (٤).

وعموما فإن إطعام الطعام هو أحد المنجيات ، قال الصادق عليه‌السلام :

________________

(١) سورة المدثر : ٧٤ / ٤٢ ـ ٤٤.

(٢) عيون الحكم والمواعظ : ١٣٤.

(٣) المحاسن / البرقي ٢ : ٣٨٩ / ١٧. والآية من سورة البلد : ٩٠ / ١٤.

(٤) المحاسن ٢ : ٣٨٩ / ٢١.

٧١

« المنجيات إطعام الطعام ، وإفشاء السلام ، والصّلاة باللَّيل والناس نيام » (١).

ثم إن الإطعام له معطيات حميدة على المطعم ، إذ يسهم في زيادة الرّزق ، فعن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الرّزق أسرع إلى من يُطعم الطعام من السكين في السنام » (٢). وبالمقابل هناك عواقب غير حميدة سوف يواجه تبعاتها كل من يطمس رأسه في رمال اللامبالاة تجاه إخوانه المؤمنين ، وخاصة أولئك الذين يصابون بالتخمة بينما المحيطون بهم يبيتون وبطونهم خاوية ، وفي هذا الخصوص قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام محذرا : « من بات شبعاناً وبحضرته مؤمن طاوٍ ، قال الله تعالى : ملائكتي ! اُشهدكم على هذا العبد أنّي أمرته فعصاني وأطاع غيري فوكلته إلى عمله ، وعزّتي وجلالي لا غفرت له أبدا » (٣).

وكان هذا الإمام العظيم يخرج في اللّيلة الظلماء ويحمل الطعام أو الحطب على ظهره حتّى يأتي باباً باباً فيقرع ثمّ يناول من يخرج إليه ، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه ، فلمّا توفي فقدوا ذلك ، فعلّموا أنّه كان علّي بين الحسين عليهما‌السلام (٤).

عن سفيان بن عيينة قال : رأى الزّهري علي بن الحسين عليهما‌السلام في ليلة

________________

(١) الكافي ٤ : ٥١ / ٥ باب فضل إطعام الطعام من كتاب الزكاة.

(٢) الكافي ٤ : ٥١ / ١٠ من نفس الباب.

(٣) المحاسن ١ : ٩٨ / ٢٦.

(٤) الخصال / الشيخ الصدوق : ٥١٧ / ٤.

٧٢

باردة مطيرة وعلى ظهره دقيق وحطب وهو يمشي ، فقال له : يابن رسول الله ، ما هذا ؟ قال : « أريد سفراً اعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز ، فقال الزّهري : فهذا غلامي يحمله عنك ، فأبى قال : أنا أحمله عنك ، فإني أرفعك عن حمله ، فقال عليّ بن الحسين : لكنّي لا أرفع نفسي عمّا ينجيني في سفري ويحسن وردي على ما أرد عليه ، أسألك بحقّ الله لمّا مضيت لحاجتك وتركتني ، فانصرف عنه ، فلمّا كان بعد أيّام قال له : يابن رسول الله ، لست أرى لذلك السّفر الذي ذكرته أثراً ، قال : بلى يا زهريّ ، ليس ما ظننت ، ولكنه الموت ، وله كنت أستعد ، إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل الندا والخير » (١).

وعن أبي حمزة الثّمالي رضي‌الله‌عنه أنّه سمع علي بن الحسين عليهما‌السلام يقول لمولى له : لا يعبر على بابي سائل إلا أطعمتموه ، فإن اليوم يوم الجمعة ، قال : فقلت له : ليس كل من يسأل مستحقاً ، فقال : يا ثابت ، أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقاً فلا نطعمه ونردّه ، فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله ، أطعموهم ، إن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشاً ، فيتصد منه ويأكل هو وعياله منه ، وإن سائلاً مؤمناً صواماً محقاً له عند الله منزلة وكان مجتازاً غريباً مر على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه ، اطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم ، يهتف بذلك على بابه مراراً وهم يسمعونه ، وقد جهلوا حقه ولم يصدّقوا قوله ، فلما يئس أن يطعموه ، وغشيه الليل استرجع واستعبر

________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٣١ باب ١٦٥.

٧٣

وشكا جوعه إلى الله عزّ وجل ، وبات طاوياً وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله ، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً ، وأصبحوا وعندهم فضلة من طعام ، قال : فأوحى الله عزّ وجل إلى يعقوب : في صبيحة تلك الليلة : لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلة استجررت بها غضبي ، واستوجبت بها أدبي ، ونزول عقوبتي ، وبلواي عليك وعلى ولدك » (١).

وعن بعض أصحابنا قال : لما وضع علي بن الحسين عليهما‌السلام على السّرير ليُغسل نظر إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين (٢).

وكان أئمة أهل البيت : يحرصون على أداء صدقة السرّ ، فيحملون الأطعمة في الليالي المظلمة للناس ، ضاربين بذلك أروع أمثلة التكافل ، وكان الناس سرعان ما يكتشفون أن الرجال الذين يوزعون عليهم الأطعمة والمعونات في الخفاء هم أهل البيت :.. هيهات تكتم في الظلام مشاعل. فعلى سبيل الاستشهاد كان الإمام السجاد عليه‌السلام يعول مائة بيت من فقراء المدينة ، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضرّاء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم ، وكان يناولهم بيده ، ومن كان له منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه ، وكان لا يأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله (٣).

وهناك شهود عدول يروون لنا بأمانة مشاهداتهم عن سلوك أهل

________________

(١) علل الشرائع ١ : ٤٦ / ١ باب ٤١.

(٢) علل الشرائع ١ : ٢٣١ / ٦ باب ١٦٥.

(٣) الخصال / الصدوق : ٥١٨ / ٤ أبواب العشرين وما فوقه.

٧٤

البيت : التكافلي ، ومن هؤلاء الشهود ( المعلّى بن خنيس ) يقول : « إن الإمام الصادق عليه‌السلام خرج ومعه جراب من خبز ، فأتينا ظلّة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام ، فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين حتّى أتى على آخرهم ثمّ انصرفنا ، فقلت : جعلت فداك يعرف هؤلاء الحقّ ؟ فقال : لو عرفوه لواسيناهم بالدُّقة ! والدقّة هي الملح » (١).

فالإمام هنا يتكفل الناس بالخبز كطعام أساسي ، ولا يفرق بين من يعرف حق آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن لا يعرفه في منهجه التكافلي ، وخاصة في الأطعمة التي لابد منها. نعم ورد عنه عليه‌السلام قوله : « ولا تطعم من نصب لشيء من الحق ، أو دعا إلى شيء من الباطل » (٢).

وهناك شهادة قيمة عن المنحى التكافلي للإمام الثامن علي بن موسى الرِّضا عليه‌السلام يرويها عنه أحد أصحابه ، وهو ( معمر بن خلاّد ) ، قال : كان أبو الحسن الرِّضا عليه‌السلام إذا أكل أتي بصحفة فتوضع بقرب مائدته ، فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به ، فيأخذ من كلّ شيء شيئاً ، فيضع في تلك الصحفة ثمّ يأمر بها إلى المساكين. ثمّ يتلو هذه الآية : ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) (٣) ، ثم يقول عليه‌السلام : « علم الله عزّ وجلّ أنّه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة ، فجعل لهم السبيل إلى الجنة باطعام الطعام » (٤).

________________

(١) الكافي ٤ : ٨ ـ ٩ / ٣ ، باب صدقة الليل من كتاب الزكاة.

(٢) الكافي ٤ : ١٣ / ١ ، باب الصدقة على من لا تعرفه من كتاب الزكاة.

(٣) سورة البلد : ٩٠ / ١١.

(٤) المحاسن / البرقي ٢ : ٣٨٩ / ٢٠ ، باب الإطعام.

٧٥

وكان والده الإمام الكاظم عليه‌السلام أوصل الناس لأهله ورحمه ، وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل ، فيحمل إليهم فيه العين والورق والدقيق والتمور ، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو (١).

لقد اقتدى أهل البيت : برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان لهم به صلى‌الله‌عليه‌وآله أسوة حسنة ، ومما عُرف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه : « ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ، ولو شاء لشبع ، ولكنه كان يؤثر على نفسه » (٢).

ثالثا ـ الكساء :

وهو أمر لابدّ منه لستر عورة الإنسان وصون كرامته وإنسانيته ، لذلك أسهبت مدرسة أهل البيت : في تبيان الثواب الأخروي الذي ينتظر من يسهم في سد حاجة المعوزين من الكساء ليقيهم قوارص زمهرير الشتاء ، أو ليظلهم من لوافح هجير الصيف اللاهب. وفي هذا يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « من كسا أخاه كسوة شتاءٍ أو صيف ، كان حقا على الله أن يكسوه من ثياب الجنّة ، وأن يهوّن عليه سكرات الموت ، وأن يوسِّع عليه في قبره ، وأن يلقى الملائكة إذا خرج من قبره بالبُشرى » (٣).

وعنه عليه‌السلام : « من كسا آخاه المؤمن من عري كساه الله من سندس الجنّة واستبرقها وحريرها ، ولم يزل يخوض في رضوان الله ما دام على

________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٣١.

(٢) مجموعة ورّام ١ : ١٧٢ ، باب الإثيار.

(٣) اصول الكافي ٢ : ٢٠٤ / ١ باب من كسا مؤمنا من كتاب الإيمان والكفر.

٧٦

المكسوّ منه سلك » (١).

وعنّه عليه‌السلام في حديث آخر : « من كسا مؤمناً ثوباً من عري كساه الله من إستبرق الجنّة ، ومن كسا مؤمناً ثوباً من غنى لم يزل في سترٍ من الله ما بقي من الثوب خرقة » (٢).

فهذه الأحاديث المختلفة الألفاظ والمتفقة في المضمون ، تكشف عن أن مسألة توفير الكساء هي بمثابة القطب من الرحى في توجهات أهل البيت : الاجتماعية.

وحول هذه الفقرة بالذات كانت لأمير المؤمنين عليه‌السلام مواقف من الإثيار رائعة ، فهو يرقع مدرعته حتى يستحيي من راقعها ، وكان بإمكانه أن يلبس أفخر الملابس ، ولكنه لم يفعل حرصاً على التكافل مع فقراء المسلمين والتأسي بهم.

عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « خطب علي عليه‌السلام الناس وعليه إزار كرباس غليظ مرقوع بصوف ، فقيل له في ذلك ، فقال : يخشع القلب ، ويقتدي به المؤمن » (٣).

وكان عليه‌السلام يقتدي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ، ويرقع بيده ثوبه (٤).

________________

(١) ثواب الأعمال : ١٤٦.

(٢) اصول الكافي ٢ : ٢٠٥ / ٥ ، باب من كسا مؤمنا من كتاب الإيمان والكفر.

(٣) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ١١٣.

(٤) انظر : نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٢٢٨ ، الخطبة ١٦٠.

٧٧

وكان عليه‌السلام يؤثر غيره على نفسه في اللباس ، ففي خبر طويل عن الأصبغ ابن نباتة أنه اشترى ثوبان ؛ ثوب بأربعة دراهم ، وثوب بثلاثة دراهم ، وقال لغلامه قنبر : اختر فاختار الذي بأربعة ، ولبس هو الذي بثلاثة (١).

كلّ ذلك لأنّه يؤثر على نفسه ، ويفضل مصلحة غيره على مصلحته ، وكان حفيده الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام إذا انقضى الشتاء تصدق بكسوته في الشتاء. وإذا انقضى الصيف تصدق بكسوته في الصيف. وكان يلبس من خير الثياب. فقيل له : تعطيها من لا يعرف قيمتها ولا يليق به لباسها ، فلو بعتها وتصدقت بثمنها ؟ فقال عليه‌السلام : « إني أكره أن أبيع ثوباً صليت فيه » (٢).

والأئمة : عموماً كانوا يحثّون شيعتهم على تحقيق أعلى درجة من التعاون والإيثار في هذا الشأن ، قال الإمام الباقر عليه‌السلام لأحد أصحابه : « يا إسماعيل ، أرأيت فيما قِبَلكم إذا كان الرجل ليس له رداء وعند بعض إخوانه فضل رداء يطرحه عليه حتى يصيب رداءً ؟ فقلت : لا ، قال : فإذا كان له إزار يرسل إلى بعض إخوانه بإزاره حتى يصيب إزارا ، فقلت : لا ، فضرب بيده على فخذه ثم قال : ما هؤلاء بإخوة » (٣).

وهكذا نجد مسألة توفير الكساء تتصدر سلّم الأولوية أيضاً كحاجة أساسية ينبغي تأمينها للمحتاجين.

________________

(١) روضة الواعظين / ابن الفتال : ١٠٧ مجلس في ذكر الإمامة وامامة علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٩٤.

(٣) كتاب المؤمن / الحسين بن سعيد : ٤٥ ، نشر مدرسة الإمام المهدي عليه‌السلام.

٧٨

رابعاً ـ السكن :

يريد الإسلام من المسلم أن ينطلق في جميع الآفاق التكافلية ، فلا يقتصر على تأمين الماء والطعام والكساء للفقراء ، بل عليه أن يوسع أفق التكافل ليشمل المأوى أو المسكن ، وهو حاجة ماسة تزداد أهميتها مع تعقد الحياة ونشوء المدن الكبرى. وقد استشرف الإسلام أفق الغيب ، وأدرك أن الإنسان قد يواجه أزمة السكن في يوم ما. وهو ما حصل بالفعل ، فحالياً تعاني المدن الإسلامية الكبرى من أزمة خانقة في السكن ، فمن الضرورة بمكان أن نشيع روح التعاون للتقليل من مضاعفات هذه الأزمة.

وقد وردت في الروايات تحذيرات لكل من يقصّر في هذا المجال ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام « من كان له دار واحتاج مؤمن إلى سكناها فمنعه إيّاها قال الله عزّ وجلّ : ملائكتي ، عبدي بخل على عبدي بسكنى الدنيا ، وعزّتي لا يسكن جناني أبداً » (١).

ومما يؤسف له أن هناك قصوراً أو تقصيراً في مسألة توفير المأوى أو المسكن للمحتاجين ، سيّما مَن يريد الدخول في عش الزَّوجية ، ليصون نفسه ويقيها من الوقوع في مهاوي الفساد وليستن بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الداعية إلى النكاح والزواج وتأسيس الأسرة.

وتزداد الحاجة أيضاً لبناء أماكن إيواء واستراحة للمسافرين ، والبعض قد يجهل ثواب التكافل في هذا المجال ، أو يرى فيه جهدا ضائعاً من قبيل الحرث في البحر ، ولكن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يرشدنا إلى الثواب الكبير لمن

________________

(١) ثواب الأعمال : ٢٤١ ، المحاسن ١ : ١٠١ / ٣٦.

٧٩

يقوم بهذا الأمر ، قائلاً : « من بنى على ظهر الطريق ما يأوى عابر سبيل ، بعثه الله يوم القيامة على نجيب من درّ » (١).

فمن الضروري أن يهتم المرشدون والواعظون بثقافة التكافل في مجال السكن وتوفير المأوى لمن يلتحفون السماء بدون سقف يقيهم المطر والبرد والحر ، فالثواب لا يقتصر على بناء المساجد ، أو المدارس ، بل يشمل أيضاً بناء المساكن لذوي الخصاصة وتوفير المأوى لعابري السبيل.

إن دعوة الإسلام للتكافل مع الفقراء والمساكين وتوفير الماء والطعام واللباس والسكن المناسب لهم ، تنهض دليلاً على سبقه بمئات السنين لوثيقة حقوق الإنسان العالمية التي وافقت عليها هيئة الأمم المتحدة عام ١٩٤٨ م ، وجاء في المادة (٢٥) من هذه الوثيقة : « ان لكل فرد الحق في أن يعيش في مستوى يكفل له ولا سرته الصحة والرفاهية ، وبصفة خاصة يضمن له الغذاء والكساء والمسكن والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية ، وله الحق في الضمان في حال مرضه ، وعجزه ، وترمله ، وشيخوخته ، وفي الحالات الأخرى التي يفقد فيها وسائل معيشته لأسباب خارجة عن أرادته » (٢).

خامساً ـ المال :

وهو من الحاجات الأساسية التي بدونها لا يستطيع الإنسان أن ينفق

________________

(١) عوالي اللآلي / ابن أبي جمهور الإحسائي ١ : ٣٦٥ ، ط ١ ـ ١٤٠٣ ه‍.

(٢) حقوق الإنسان / د. محمود شريف بسيوني : ٢١ ، المجلد الأول ـ الوثائق العالمية والإقليمية ، دار العلم للملايين ، ط ١ ـ ١٩٨٨ م.

٨٠