التكافل الإجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

عباس ذهبيات

التكافل الإجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-05-6
الصفحات: ١١٤

واخرج أيّ يوم شئت » (١).

ويبدو من أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه وسّع من دائرة الصدقة ، لتشمل الغني فضلاً عن الفقير ، ولكن ليس بمعناها المادي بالضرورة ، فهو يعتبر كل معروف صدقة ، فيكون المعروف كالواحة الوارفة الظلال لمبدأ التكافل ، وفي هذا الجانب يقول : « كلّ معروف صدقة إلى غنيّ أو فقير ، فتصدّقوا ولو بشقّ تمرة » (٢).

والصدقة قد تكون معنوية ، ككف الأذى عن الغير ، بدليل قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذرّ الغفاري رضي‌الله‌عنه : « تكفّ أذاك عن الناس ، فإنه صدقة تصدّق بها عن نفسك » (٣).

وعمّقت الشريعة مسألة الصدقة بربطها مع الإنسان منذ ولادته ، فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لما حلّق شَعْرَ ريحانتيه الحسن والحسين عليهما‌السلام بعد ولادتهما ، تصدق بزنة أشعارهما فضة (٤).

هذا ، ومن الآيات المشيدة بصدقة ولي الله الأعظم وخليفة الرسول الأكرم ، قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٥).

________________

(١) الكافي ٤ : ٢٨٣ / ٤ باب القول عند الخروج من بيته وفضل الصدقة ، من كتاب الزكاة.

(٢) الأمالي / الشيخ الطوسي : ٤٥٨ / ١٠٢٣ المجلس السادس عشر.

(٣) النوادر / الرواندي : ٨٧.

(٤) مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام / الكوفي ٢ : ٢٧٢.

(٥) سورة المائدة : ٥ / ٥٥.

١٠١

فقد أجمعت الأمة على أنّ هذه الآية نزلت في حقّ أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، لما تصدق بخاتمه في المسجد على أعرابي وهو راكع (١) ، في حين تصدّق غيره من الصحابة بأربعين خاتماً طمعاً بأن ينزل فيه وحي ، ولكن لم ينزل شيء بحقّه البتة.

وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٢) في حق علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : أُمروا أن لا يناجي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد حتى يتصدق بصدقة ، فأمسك القوم ، وذلك قبل أن تنزل الزكاة ، وتصدق عليّ عليه‌السلام بدينار ثم ناجاه عشر مرات ، فكان علي عليه‌السلام يقول : « والله لهن أحبّ إليّ من حمر النعم بصبابتهن » (٣).

وعن مجاهد ، قال علي عليه‌السلام : « آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي : آية النجوى ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، وكنت كلما أُناجي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تصدّقت بدرهم ، ونسخت الآية ولم يعمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي » (٤).

كان عليه‌السلام يجسد في صدقته التربية النبوية الأصيلة ، ويقتفي أثر مربيه

________________

(١) مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٢ : ٢٠٨ ، المطبعة الحيدرية في النجف ـ ١٣٧٦ ه‍.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ١٢.

(٣) مناقب أمير المؤمنين / محمّد بن سليمان الكوفي ١ : ١٨٧ ، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ، ط ١ ـ ١٤١٢ ه‍.

(٤) مناقب أمير المؤمنين / محمد بن سليمان الكوفي ١ : ١٨٨.

١٠٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كثرة الإنفاق حتى أن بعض أصحابه قال له : « كم تَصَّدّق ؟! ألا تُمسِك ؟! (١).

وكان عليه‌السلام في طليعة العباد الذين يذكرون الله من خلال الإحسان إلى عباده ، فنزلت في حقه هذه الآية : ( رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ... ) (٢) بشهادة ابن عباس الذي قال : هو والله أمير المؤمنين.. وذكر سبب النزول (٣).

واستغل أهل البيت : الشعائر والشهور المقدسة كرمضان وشعبان لتأجيج العواطف والمشاعر الدينية طلباً للثواب ؛ فيوظفون هذا الظرف لحث الناس على التصدق ، كاشفين لهم أبعادها العبادية وثمارها الأخروية ، فعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر : كان الإمام السجاد عليه‌السلام إذا دخل شهر رمضان تصدق في كل يوم بدرهم... (٤).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « من تصدق في رمضان صرف ( الله ) عنه سبعين نوعاً من البلاء » (٥).

وهناك أوقات يستلزم التصدق فيها الثواب الكثير كوقت الليل ، ويبدو

________________

(١) الغارات / إبراهيم بن محمّد الثقفي ١ : ٩٠ ، تحقيق : السيد جلال الدين المحدث ، مطبعة بهمن ، إيران.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٣٧.

(٣) راجع : مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٤٩.

(٤) إقبال الأعمال / ابن طاووس ٣ : ١٥٠ ، مكتب الاعلام الإسلامي ، ط ١ / ١٤١٤ ه‍.

(٥) عدة الداعي / ابن فهد الحلي : ٩٢ ، مكتبة الوجداني ـ قم ، تحقيق : أحمد الموحدي القمي.

١٠٣

أن لذلك علة عميقة ، وهي حرص الإسلام على صون كرامة المحتاجين ، فتحت جنح الظلام يستطيع المحتاج أن يحصل على بغيته دون أن يكشف عن هويته ، ولا أن يريق ماء وجهه ، والمعطي بدوره يحصل على الثواب ويرضي ربّه ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « صدقة الليل تطفي غضب الرّب ، وتمحو الذّنب العظيم ، وتهون الحساب.. » (١).

وكان أهل البيت : يسلكون هذا السبيل فيفضلون صدقة الليل ، عن هشام بن سالم ، قال : كان أبو عبدالله عليه‌السلام إذا اعتم وذهب من الليل شطره أخذ جراباً ثم ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة ، فقسّمه فيهم ولا يعرفونه ، فلمّا مضى أبو عبدالله عليه‌السلام فقدوا ذلك ، فعلموا أنّه كان أبا عبدالله عليه‌السلام (٢).

وتستحبّ الصدقة أيضاً عند حلول شهر شعبان ، فقد سئل الإمام الصادق عليه‌السلام : « يابن رسول الله ، ما أفضل ما يُفعل فيه ؟ ـ أي في شهر شعبان ـ قال : الصدقة والاستغفار ، ومن تصدق بصدقة في شعبان رباها الله تعالى كما يربي أحدكم فصيله حتى يوافي يوم القيامة وقد صار مثل أحد » (٣).

وصفوة القول إنّ أئمة أهل البيت : كانت لهم اليد الطولى في نشر ثقافة الصدقة على نطاق واسع بين الناس وتربية صغار السنّ عليها ، لتكون لهم خلقاً في المستقبل وعادة حسنة ، عن محمّد بن عمر بن يزيد ، قال ، قال

________________

(١) الكافي ٤ : ٩ / ٣ ، باب صدقة الليل من كتاب الزكاة.

(٢) الكافي ٤ : ٨ / ١ ، باب صدقة الليل من كتاب الزكاة.

(٣) إقبال الأعمال ٣ : ٣٩٤.

١٠٤

الإمام الرضا عليه‌السلام : « مُر الصّبي فليتصدّق بيده بالكسرة والقبضة والشيء وإن قلّ ، فإن كلّ شيء يراد به الله وإن قلّ بعد أن تصدق النيّة فيه عظيم » (١).

ثالثاً ـ القرض والدين :

القرض : عقد يتضمّن تمليك المال للغير مضموناً عليه ، والدين : كلّ ما انشغلت به الذمّة سواء كان بعقد أم بدونه ، والقرض يسهم في وضع لبنة جديدة في صرح البناء التكافلي الإسلامي ، ويوفر للأفراد الذين يمرّون بضائقة مالية ما يسعفهم من مال لتسيير شؤونهم وكسر حلقة الضيق التي تحاصرهم وتضيّق الخناق عليهم.

وهناك آيات تحثّ على الإقراض وتناشد المؤمن بصيغة الاستفهام لتحرّك أريحيّته وتملأ قلبه بالعطف على المعوزين ابتغاءً لمرضاة الله ، كما في قوله تعالى : ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً... ) (٢) ، وقوله عزّ من قائل : ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) (٣).

ولا يخفى أنّ نسبة الشيء إلى الله تعالىٰ دليل على تعظيمه ، فلا ينسب شيء إليه عزّ وجل إلاّ للتعظيم ، كما يقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وولي الله عليه‌السلام ، وبيت

________________

(١) الكافي ٤ : ٤ / ١٠ ، باب فضل الصدقة من كتاب الزكاة.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٥.

(٣) سورة الحديد : ٥٧ / ١١.

١٠٥

الله ، ونحوها.

ويظهر من النصوص الدينية أن القرض أكثر ثواباً من الصدقة.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « لأن أقرض قرضاً أحبّ إليّ من أن أصّدّق بمثله » (١). ومرّد ذلك للثواب الكبير الذي يحصل عليه المقرض.

فالقرض هو النافذة المفتوحة أمام من ضاقت به السُبل ، وهو الفضاء المتسع لمن أراد الثواب ، عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أقرض ملهوفاً فأحسن طلبته ، استأنف العمل ، وأعطاه الله بكلّ درهم ألف قنطار من الجنّة » (٢).

وعن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « من أقرض رجلاً قرضاً إلى ميسرة ، كان ماله في زكاة ، وكان هو في الصّلاة مع الملائكة حتّى يقضيه » (٣).

ولعظمة ثواب القرض ، فقد وصف في بعض الأحاديث الشريفة بأنّه غنيمة ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « قرض المؤمن غنيمة وتعجيل أجر ، إن أيسر قضاك ، وإن مات قبل ذلك احتسبت به من الزكاة » (٤).

وقد قام أئمة أهل البيت : بوظيفتهم التكافلية خير قيام على الرغم من ترّبص السلطات الحاكمة بهم ، وسعيها للحيلولة دون إيصال الحقوق

________________

(١) ثواب الأعمال : ١٦٧ / ٤.

(٢) ثواب الأعمال : ٣٤١ / ١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٥٨ / ٣ ، باب القرض أنه حِمى الزكاة من كتاب الزكاة.

(٤) الكافي ٣ : ٥٥٨ / ١ ، باب القرض أنه حِمى الزكاة من كتاب الزكاة.

١٠٦

الشرعية إليهم بشتى السُبل والوسائل. ومع كل ذلك فقد رفدوا المحتاجين والمعسرين بما يحتاجون إليه ، واضطلعوا بوظيفة التكافل في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد.

روي أنّه : « جاء رجل إلى أبي عبدالله عليه‌السلام فقال له : يا أبا عبدالله ، قرض إلى ميسرة ، فقال له أبو عبدالله عليه‌السلام : إلى غلّة تدرك ؟ فقال الرجل : لا والله ، قال : فإلى تجارة تؤبُّ ؟ قال : لا والله ، قال : فإلى عقدة تباع ؟ فقال : لا والله. فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : فأنت ممّن جعل الله له في أموالنا حقّاً ثمّ دعا بكيس فيه دراهم فأدخل يده فيه ، فناوله منه قبضه ، ثمّ قال له : أتّق الله ولا تسرف ولا تقتر ، ولكن بين ذلك قواماً.... » (١).

وقد ورد في الشريعة التأكيد على جزيل الثواب لمن يقرض المعسرين من جانب ، ومن جانب آخر نجد حثاً على إنظار المعسرين بعد إقراضهم ، فهنا ترغيب آخر للمقرض بأن عليه أن يُنظر المعسر الذي أقرضه ، وأن يمهله حتى تمكنه الظروف من تسديد دينه ، وفي هذا الإمهال ـ أيضاً ـ ثوابٌ جزيل.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أنظر معسراً كان له على الله عزّ وجلّ في كلّ يوم صدقة ، بمثل ماله حتى يستوفيه » (٢).

ومن جهة التحذير أو الإنذار الذي يسير في خطّ متوازٍ مع الترغيب ، حذّرت الشريعة من نذر الشؤم لكل من يحجم عن إسعاف إخوانه مع قدرته

________________

(١) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٤ باب قرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق ، من كتاب الزكاة.

(٢) الكافي ٤ : ٣٥ / ٤ ، باب إنظار المعسر ، من أبواب الزكاة.

١٠٧

على ذلك ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في معرض التحذير : « من احتاج إليه أخوه المسلم في قرض وهو يقدر عليه فلم يفعل ، حرّم الله عليه ريح الجنّة » (١).

رابعاً ـ الكفارات :

ولها أثر بالغ في رفد مسيرة التكافل في الإسلام ، فمن المعلوم أن الإسلام لم يغلق باب التوبة أمام المذنب ، لأنه يعلم أن الإنسان ضعيف ، ومعرّض للوقوع في براثن الفتن والمغريات ، وعليه فحين يسقط الإنسان في مهاوي الخطيئة يفتح له الإسلام باب التوبة والتكفير عن الذنب ، لكي ينهض من كبوته. فهو يسعى إلى انتشال الإنسان من وحل الخطيئة ، ويُشعره بقدرته على الارتقاء ، وبدلاً من أن يصدّر له قرارات الحرمان ، أو يبيع له صكوك الغفران كما فعلته النّصرانية ، يفتح له باب الكفّارة ، وهو أسلوب شرّعه الرّب رحمةً بعباده ، وتطميناً لقلوبهم ، وتطهيراً لأنفسهم. ولبعض هذه الكفارات غايات تكافلية مع الفقراء والمساكين ، فعن علي بن أبي حمزة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « سألته عن كفارة اليمين ، فقال : عتق رقبة أو كسوة ، والكسوة ثوبان ، أو إطعام عشرة مساكين ، أي ذلك فعل أجزأ عنه ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متواليات ، وإطعام عشرة مساكين مداً مداً » (٢).

وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام قال : « في كفارة اليمين عتق رقبة ، أو

________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ١٥.

(٢) الكافي ٧ : ٤٥٢ / ٣ باب كفارة اليمين ، من كتاب الإيمان والنذور والكفارات.

١٠٨

إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ، أو كسوتهم. والوسط الخل والزيت ، وأرفعه الخبز واللحم ، والصدقة مدّ مدّ من حنطة لكل مسكين ، والكسوة ثوبان... » (١).

وعن معمر بن عمر قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عمن وجبت عليه الكسوة في كفارة اليمين ، قال : « ثوب يواري به عورته » (٢).

وكفارة النذر ككفارة اليمين ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : سألته عن كفارة النذر ، فقال : « كفارة النذر كفارة اليمين » (٣).

أما في كفارة الظهار فيتعيّن على المسلم أن يطعم ستين مسكيناً في حال عجزه عن عتق رقبة أو صيام شهريين متتابعين ، عن صفوان قال : سأل الحسين بن مهران أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل ظاهر عن امرأته وجاريته ما عليه ؟ قال : « عليه لكل واحدة منهما كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكيناً » (٤).

وهناك كفارات أخرى تستلزم الإطعام تطلب في مظانها من كتب الفقه.

وهكذا نجد أن الكفارة تقوم بدور التطهير الرّوحي للمذنب ، وتسهم في دعم مبدأ التكافل سواءً بإطعام الفقراء والمساكين أو كسوتهم.

________________

(١) الكافي ٧ : ٤٥٢ / ٥ من نفس الباب المتقدّم.

(٢) الكافي ٧ : ٤٥٣ / ٦ من نفس الباب المتقدّم.

(٣) الكافي ٧ : ٤٥٧ / ١٣ باب النذور من الكتاب المتقدّم.

(٤) الكافي ٦ : ١٥٨ / ٢٠ باب الظهار من كتاب الطلاق.

١٠٩

خامساً ـ الأوقاف :

والوقف ـ كما عرّفوه ـ تحبيس العين وتسبيل المنفعة ، فبإمكان المسلم أن يوقف أمواله على الفقراء والخيرات ، أو يوقف داره على المحتاجين للسكن ، وحينئذ تخرج هذه الأمور عن ملكيته. كما بإمكانه أن يوقف على أولاده وذريته ، وكل من هذه الموارد يحقق غاية تكافلية تعود بالنفع والفائدة على الفقراء والمحتاجين أو القاصرين.

عن أحمد بن محمّد ، عن أبي الحسن الثاني عليه‌السلام قال : سألته عن الحيطان السبعة التي كانت ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة عليها‌السلام فقال : « لا إنما كانت وقفاً ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأخذ إليه منها ما ينفق على أضيافه والتابعة يلزمه فيها ، فلما قبض جاء العباس يخاصم علياً عليه‌السلام فيها ، فشهد علي عليه‌السلام وغيره أنها وقف على فاطمة » (١). وعليه فبإمكان الأب أن يوقف على أبنائه وذريته ، حرصاً على تأمين سُبل العيش الكريم لهم.

سادساً ـ الهبات :

والهبة ـ حسب التعريف الفقهي : « هي تمليك عين من دون عوض عنها » (٢). وتصح الهبة من المريض في مرض الموت. وليس للواهب الرّجوع بعد الإقباض إذا كانت لذي رحم (٣). وتأسياً على ذلك تسهم الهبات إسهاماً

________________

(١) الكافي ٧ : ٤٧ / ١ باب صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة والأئمة : ووصاياهم ، من كتاب الوصايا.

(٢) المسائل المنتخبة / السيد السيستاني : ٣٧٥.

(٣) المصدر السابق ، المسألة (٩٣٣) و (٩٣٨).

١١٠

فاعلاً في تفعيل مبدأ التكافل والتواصل ، إذ بإمكان أي إنسان أن يهب ما يشاء من أموال أو أعيان خاصة للفقراء والمحتاجين ، ويظهر من الرواية التالية أن الهبة هي أقدم في الإسلام من الصدقة.

عن زرارة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنما الصدقة محدثة ، إنما كان الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينحلون ويهبون ، ولا ينبغي لمن أعطى الله شيئاً أن يرجع فيه » (١).

وصفوة القول إن سُبل التكافل هي فروع من نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام ، وهذا النظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة والصدقات لأنه يتمثل في خطوط تشمل نواحي الحياة كلها ، ونواحي الأرتباطات البشرية بأكملها. فالتكافل ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه الصعاب والمشاق التي تواجهها وتكتنفها ، ثم هو ضرورة من ناحية أخرى : من ناحية التضامن بين أفراد الجماعة ، وإزالة الفوارق الشعورية بحيث لا يحس أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد ، إن اشتكى منه وجد ألم ذلك في سائر جسده ، وأرواحهما من روح واحدة » (٢).

________________

(١) الكافي ٧ : ٣٠ / ٣ باب ما يجوز من الوقف والصدقة والنحل والهبة والسكنى والعمرى والرقبى وما لا يجوز من ذلك على الولد وغيره من كتاب الوصايا.

(٢) الكافي ٢ : ١٦٦ / ٤ ، باب أُخوّة المؤمنين بعضهم لبعض ، من كتاب الإيمان والكفر.

١١١

وعنه عليه‌السلام : « لا والله ، لا يكون المؤمن مؤمناً أبداً حتى يكون لأخيه مثل الجسد ، إذا ضرب عليه عرق واحد تداعت له سائر عروقه » (٣).

وهذا الشعور بالوحدة الإيمانية له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعورياً ، إذا كان سدّ الحاجة له قيمته في قيامها عملياً ، وما أراد الإسلام بالتكافل مجرّد سدّ الخلة ، ومسك البطن ، وتلافي الحاجة وحسب ، بل أراده تهذيباً وتزكية وتطهيراً لنفس المعطي ، وتأجيج مشاعره الإنسانية تجاه اُخوته المعوزين والفقراء ، وتذكيره بنعمة الله عليه ، فإذا أعطى المحسن من ماله شيئاً فإنما من مال الله أعطى ، وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافاً كثيرة. وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسببا لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله.

إن إشاعة هذه الآداب ، كان من الضرورة بمكان حتى لا يستعلي معط ولا يتخاذل آخذ ، فكلاهما آكل من رزق الله.

ومما لا يدانيه شك أن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل بكل صنوفه وألوانه ، وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه حتى لا يتكل المسلم على نظام التكافل ويقف مكتوف اليدين يستعطي المحسنين.

________________

(٣) كتاب المؤمن / الحسين بن سعيد : ٣٩ ، مدرسة الإمام المهدي ـ قم ، ط ١ / ١٤٠٤ ه‍.

١١٢

فهرس المحتويات

مقدّمة المركز ....................................................  ٥

المقدّمة ..........................................................  ٧

الفصل الأول : أسس التكافل الاجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ..  ٩

أولاً : مبدأ الأخوّة الإيمانية ................................................  ٩

ترغيب وترهيب .......................................................  ١٣

مثالية عالية ............................................................  ١٧

ثانياً : قيم التراحم .....................................................  ٢٠

ثالثاً : التعاون والإحسان ................................................  ٢١

رابعاً : مبدأ المسؤولية العامة .............................................  ٢٤

خامساً : الإيثار ........................................................  ٢٦

سادساً : الخدمة المتبادلة .................................................  ٢٨

سابعاً : السيادة والسماحة ...............................................  ٢٩

ثامناً : الجود والإنفاق ..................................................  ٣٠

الفصل الثاني : من يحتاج إلى التكافل ؟ ............................  ٣٧

أوّلاً ـ الأقربون بالنسب أو الجوار ..................................  ٣٧

١ ـ الأهل والعيال ....................................................  ٣٧

٢ ـ الأرحام .........................................................  ٤٠

٣ ـ الجار ............................................................  ٤٦

١١٣

٤ ـ العشيرة ..........................................................  ٤٩

ثانياً : الفئات المحرومة ..............................................  ٥١

١ ـ الأيتام ...........................................................  ٥١

٢ ـ الفقراء والمساكين .................................................  ٥٥

٣ ـ السائلون والمحرومون ..............................................  ٥٩

٤ ـ الأسرى والمكروبون ...............................................  ٦٣

الفصل الثالث : متطلّبات التكافل وسبل تأمينها ....................  ٦٥

المبحث الأوّل : متطلّبات التكافل ....................................  ٦٥

أولاً : الماء ............................................................  ٦٥

ثانياً : الطعام ..........................................................  ٦٩

ثالثاً : الكساء .........................................................  ٧٦

رابعاً : السكن .........................................................  ٧٩

خامساً : المال .........................................................  ٨٠

المبحث الثاني : سُبل تأمين متطلّبات التكافل ...........................  ٨٧

أولاً : الزكاة ..........................................................  ٨٧

ثانياً : الصدقة .........................................................  ٩٥

ثالثاً : القرض والدين .................................................  ١٠٥

رابعاً : الكفارات ....................................................  ١٠٨

خامساً : الأوقاف ....................................................  ١١٠

سادساً : الهبات ......................................................  ١١٠

فهرس المحتويات ......................................................  ١١٣

١١٤