التكافل الإجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

عباس ذهبيات

التكافل الإجتماعي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-05-6
الصفحات: ١١٤

وغنيّ عن البيان أن الرَّحمة هنا عامة ، ومن أجلى مصاديقها مدّ يد العون للضعفاء وغير القادرين مادياً كالمساكين ، وبذلك تكون الدعوة إلى التراحم تصب في مجرى التكافل بطبيعة الحال ، ومن مصاديق ذلك قول الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنّي لأرحم ثلاثة ، وحقّ لهم أن يرحموا : عزيزٌ أصابته مذلّة ، وغنيّ أصابته حاجة بعد الغنى ، وعالم يستخفّ به أهله والجهلة » (١).

فالإمام هنا يذهب إلى أبعد من التكافل المادي ، كما في حالة الغني الذي أصابته الفاقة ، فيرى ضرورة التكافل المعنوي مع العزيز الذي ألمّت به الذلّة ، والعالِم الذي يستخف به قرابته أو الجهلة المحيطون به. فهذا الحديث يفتح لنا أفقاً واسعاً حتى لا تضيق عدسة الرؤية لدينا فننظر فقط إلى التكافل في شكله المادي البحت ، بل علينا أن نولي عناية بالجانب المعنوي من التكافل ، ويطلق عليه بعض الباحثين تسمية « التكافل الأدبي » ، فهؤلاء يرون أن مفهوم التكافل الاجتماعي في الإسلام واسع ، لا يقتصر على الجانب المادي ، بل يشمل التكافل الأدبي : وهو أن يشعر الإنسان باحترام الآخرين وحبهم له.

ثالثاً : التعاون والإحسان

في الإسلام رصيد معرفي ضخم يدعو إلى قيم التعاون والإحسان في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد ، الأمر الذي يرسي أساس التكافل ويعمّق من مساره ، فالقرآن وهو المصدر المعرفي الأساسي يحثّ في آيات

________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٩٤ / ٥٨٣٧ ، الخصال / الشيخ الصدوق : ٨٧ / ١٨.

٢١

عديدة على التعاون ، يقول في هذا الصدد : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ) (١). وقال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من مشى في عون أخيه ومنفعته ، فله ثواب المجاهدين في سبيل الله » (٢).

تجدر الإشارة إلى أن الإنسان خلق وحده ضعيفاً لا يقدر على شيء إلاّ إذا توفرت له ظروف التعاون مع غيره ، والقليل إلى القليل كثير ، والضعيف إذا ساند الضعيف قوى ، فالحياة الاجتماعية ما هي إلا تعاون أفراد المجتمع في سبيل توفير الطمأنينة النفسية لأفراده الذين يقعون تحت تأثير الحاجة أو الفزع أو القلق أو الاضطراب أو العجز عن تهيئة الامكانيات التي تعيد الطمأنينة النفسية إليهم ، من هنا تظل الحاجة إلى التعاون ماسة عبر الزمن.

يروي إسحاق بن عمّار أنّه سمع الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : « يأتي على الناس زمان من سأل الناس عاش ، ومن سكت مات ، قلت : فما أصنع إنّ أدركت ذلك الزمان ؟ قال : تعينهم بما عندك ، فإن لم تجد فبجاهك » (٣). فالدعوة إلى التعاون ـ إذن ـ لازمة مهما تغير الزمان ، وتعاقبت الأجيال ، وتغيرت العادات والتقاليد واختلفت الظروف.

أما الإحسان فهو قيمة عليا تؤدي إلى تنمية روح التكافل ، وتطلق الفرد من عقال الأنا أو ( الذات ) إلى مدارات إجتماعية رحبة ، وتجعله متضامناً مع إخوته وأبناء جنسه. وحقيقة الإحسان : هي التطوع بأعمال الخير التي لم يلزم

________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢.

(٢) ثواب الأعمال / الشيخ الصدوق : ٢٨٨.

(٣) الكافي ٤ : ٤٦ / ١ ، باب النوادر من كتاب الزكاة.

٢٢

بها الشارع المقدس.

إن الإنسان المحسن هو الذي يمارس العطاء المالي ، أو يبذل جهوداً إضافية في خدمة الناس ، والقرآن يحثّ على ذلك بقوله : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ ) (١) فنجد العطاء هنا مقروناً بالإحسان ، ونجد دائرة القرابة هي الأقرب من حيث الاستحقاق.

ويقول الإمام علي عليه‌السلام : « رأس الإيمان الإحسان إلى الناس » (٢).

وينبغي التنويه على أن الحضارة المادية قد جعلت مقابل أيّ إحسان ثمناً مادياً يتلقّاه المحسن مقابل إحسانه ، أما الإسلام فلا يرى ذلك سليماً ، لأنّه يدعو إلى إسقاط قيم الإيمان بالله ورجاء ثوابه في اليوم الآخر ، ويؤدي إلى تضييع فكرة الإخوّة ، من هنا فقد جعل الإسلام معايير خاصة لتثمين جهود المحسن من خلال الدعوة إلى احترامه في وسط المجتمع ، وتقديره لاحسانه ، وفوق ذلك الثواب الجزيل الذي ينتظره في دار المعاد ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام « نِعمَ زاد المعاد الإحسان إلى العباد » (٣).

وكان آل البيت : يحثون أتباعهم على الإحسان بقدر الاستطاعة انطلاقا من حرصهم الدائم على توفير الأجواء المعيشية الكريمة بعيداً عن مبدأ الرّبح والخسارة الذي يشكل حجر الزاوية في الحضارة المادية المعاصرة.

ومن الشواهد ذات الدلالة على تنمية أهل البيت : للشعور الاجتماعي

________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٩٠.

(٢) عيون الحكم والمواعظ : ٢٦٤.

(٣) عيون الحكم والمواعظ : ٤٩٤.

٢٣

تجاه المؤمنين ، ما قاله الإمام الصادق عليه‌السلام : « لأن أطعم مؤمناً محتاجاً أحبّ إليّ من أن أزوره ، ولأن أزوره أحبّ إليّ من أن أعتق عشر رقاب » (١).

إذن هنالك أولوية وتقدم رتبي لبعض أعمال الإحسان على بعض ، وإنّ لكلِّ عمل خيري ثوابه الخاص به حسب أهميته وبمقدار ما يدخله من نفع أو خدمة على المؤمنين ، والمثير في الأمر هنا أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام ينظر إلىٰ قضية الإحسان من منظار أعمق وأرحب ، فهو يرى أنّ فضل المحتاجين عند الإحسان إليهم يكون أعظم من فضل المحسنين أنفسهم !. تمعّن جيداً في المحاورة التالية :

عن حسين بن نعيم الصحّاف قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « أتحبّ إخوانك يا حسين ؟ قلت : نعم ، قال : تنفع فقراءهم ؟ قلت : نعم ، قال : أما إنه يحقّ عليك أن تحبّ من يحبّ الله ، أما والله لا تنفع منهم أحدا حتى تحبه. أتدعوهم إلى منزلك ؟ قلت : نعم ، ما آكل إلاّ ومعي منهم الرجلان والثلاثة والأقلّ والأكثر ، فقال أبو عبدالله : أما إنّ فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم ، فقلت : أطعمهم طعامي وأوطئهم رحلي ويكون فضلهم عليّ أعظم ؟! قال : نعم ، إنّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك ، وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك » (٢).

رابعاً : مبدأ المسؤولية العامة

يسعى الإسلام إلى تنمية مبدأ المسؤولية في البيئة الاجتماعية ، فبدون هذا

________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢٠٣ / ١٨ ، باب إطعام المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٢ / ٨ ، باب إطعام المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.

٢٤

المبدأ يغدو كل جهد إصلاحي من قبيل الحرث في البحر ، وعليه نجد الرسول وأهل بيته : يعملون على تأصيل فكرة المسؤولية في محاولتهم الحثيثة لإعادة تشكيل الإنسان السويّ ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يكرّر مقولة : « ... أنا مسؤول ، وإنّكم مسؤولون » (١).

لقد زرع أهل البيت : في وعي الأمّة فكرة المسؤولية العامة لكي ترتقي من خلالها إلى مستوى التكافل الاجتماعي المطلوب ، في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد ، ففي الاتجاه السياسي يضطلع الحاكم بأيّ شكل جاء إلى السلطة بمستوى عالٍ من المسؤولية ، لكونه يتحكم في مصائر البشر ، ومستأمن على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ، وعلى الصعيد الأسري فالرجل مسؤول عن أهل بيته ، من حيث الرّعاية والإعالة ، فالمسؤولية ـ اذن ـ شمولية من أعلى السلّم الاجتماعي إلى قاعدته.

وكما يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كلّ أمرئ مسؤول عمّا ملكت يمينه وعياله » (٢). ثم يبعد نظرنا إلى سعة وشمول هذه المسؤولية فيقول عليه‌السلام : « ... اتّقوا الله في عباده وبلاده ، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم » (٣).

________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٢٩٠ / ٦ ، باب ما نص الله عزّوجلّ ورسوله على الأئمة : واحداً فواحداً من كتاب الحجة ، و ٢ : ٦٠٦ / ٩ ، باب فضل حامل القرآن من كتاب فضل القرآن.

(٢) عيون الحكم والمواعظ : ٣٩٦.

(٣) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٩ : ٢٨٨.

٢٥

وبطبيعة الحال تكون المسؤولية الكبرى أمام الله تعالى الخبير بعباده والمطلع على أعمالهم وسرائرهم.

خامساً : الإيثار

وهو قيمة أخلاقية عالية تدفع الفرد إلى تفضيل وتقديم مصلحة ومنفعة غيره على نفسه ، وكل من يتصف بهذه الفضيلة تتقد روح التكافل في داخله ، فيسعى إلى تقديم المساعدة والعون أو الخدمة لغيره. ومن خلال الإثيار يكون الفرد مشدوداً برباط الودّ مع العباد يسعى لتلبية حوائجهم ويتصدق عليهم بأحب الأشياء إليه.

وقد حدد الإمام الصادق عليه‌السلام مواصفات خيار الناس وشرارهم قال : « خياركم سمحاؤكم ، وشراركم بخلاؤكم ، ومن خالص الإيمان البرّ بالإخوان ، والسعي في حوائجهم ، وإنّ البار بالإخوان ليحبّه الرحمن... ثم قال لجميل بن دراج : يا جميل ، أخبر بهذا غرر أصحابك ، قلت : جعلت فداك من غرر اصحابي ؟ قال : هم البارون بالاخوان في العسر واليسر ، ثم قال : يا جميل ، أما إن صاحب الكثير يهون عليه ذلك ، وقد مدح الله عزّ وجل صاحب القليل ، فقال في كتابه : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) » (٢).

________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦١ ، الكافي ٤ : ٤١ / ١٥ ، باب معرفة الجود والسخاء من كتاب الزكاة.

٢٦

فالإيثار قيمة أساسية تسهم في تفعيل مبدأ التكافل.

وقد أحدثت تعليمات وقيم الإسلام انقلاباً اجتماعياً هائلاً ، فبعد ان كان الإنسان الجاهلي أنانياً تتصدر مصلحته ومنفعته الأولوية ، يئد بناته خشية الإملاق والفقر ، أخذ يؤثر الآخرين على نفسه ولوكان يعاني من ضيق ذات اليد ، وهي ظاهرة اجتماعية ملفتة للنظر وتستدعي الاعتبار.

جاء رجلٌ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه الجوع ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيوت أزواجه فقلن : « ما عندنا إلاّ الماء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لهذا الرجل اللّيلة ؟ فقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : أنا له يا رسول الله ، وأتىٰ فاطمة عليها‌السلام فقال لها : ما عندك يا ابنة رسول الله ؟ فقالت : ما عندنا إلاّ قوت العشيّة لكنّا نؤثر ضيفنا ، فقال عليه‌السلام : يا ابنة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نوّمي الصبية وأطفئي المصباح ، فلمّا أصبح عليّ عليه‌السلام غدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره الخبر فلم يبرح حتّى أنزل الله عزّ وجلّ ( وَيُؤْثِرُوْنَ ... ) » الآية (١).

وقدّمت السيرة المطهّرة القدوة الحسنة في هذا المقام ، فقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ، ولو شاء لشبع ، ولكنه كان يؤثر على نفسه (٢).

وتبدو قيمة الإثيار جلّية في سلوك أئمة أهل البيت : حيث تجد الروح الفياضة بالعطاء ، فمن المواقف المحفورة في ذاكرة التاريخ والتي تختزن في أعماقها

________________

(١) تفسير نور الثقلين ٥ : ٢٨٦ / ٦٠ ، تفسير الآية (٩) من سورة الحشر.

(٢) تنبيه الخواطر / للأمير ورّام ١ : ١٧٢ باب الإثيار.

٢٧

دلالات كبيرة أن أمير المؤمنين عليه‌السلام «اشترى ثوبا فأعجبه فتصدق به » (١).

كلّ ذلك لأنه كان عليه‌السلام يؤثر على نفسه ، ويفضّل مصلحة غيره على مصلحته.

وعليه فالإثيار بمثابة حجر آخر في بناء أسس مبدئية تسهم في تفعيل مبدأ التكافل.

سادساً : الخدمة المتبادلة

وهي ضرورة لا مندوحة عنها في اطار العيش المشترك وتسهم إسهاماً فعّالاً في خلق حالة من التكافل بين أفراد المجتمع الفاضل الذي يطمح إليه الإسلام.

من هنا نجد مبدأ الخدمة المتبادلة يحتل موقع الصدارة في توجهات الإسلام الاجتماعية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلاّ أعطاه الله مثل عددهم خدّاماً في الجنّة » (٢). وعن حفيده الإمام الصادق عليه‌السلام يوضح لجميل وقد سمعه يقول : « المؤمنون خدم بعضهم لبعض ، قلت ـ أي جميل ـ وكيف يكونون خدماً بعضهم لبعض ؟ قال : يفيد بعضهم بعضاً » (٣).

والفائدة المتبادلة في أوسع معانيها تشمل التكافل بطبيعة الحال.

________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٦٦.

(٢) أصول الكافي ٢ : ٢٠٧ / ١ ، باب في خدمة المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.

(٣) أصول الكافي ٢ : ١٦٧ / ٩ ، باب أخوَّة المؤمنين بعضهم لبعض من كتاب الإيمان والكفر.

٢٨

على أن الإمام الصادق عليه‌السلام يميز بين الخدمة والاستخدام ، فالخدمة حالة حضارية إيجابية تستتبع الفائدة والمنفعة ، بينما الاستخدام يفيد الاستغلال والاستهانة بالطرف المقابل ، فالخدمة مطلوبة ومندوبة بينما الاستخدام مذموم. قال عليه‌السلام : « اخدم أخاك ، فإن استخدمك فلا وكرامة » (١).

سابعاً : السيادة والسماحة

وهما قيمتان أساسيتان تحثان على التكافل بصورة علنية أو ضمنية. ورسولنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حدد لنا المقياس السليم الذي رسمه الإسلام للسيادة بقوله : « سيّد القوم خادمهم » (٢) ، فالخدمة كما أسلفنا تحمل في أحشائها دعوة ضمنية إلى التكافل ، أما الدعوة العلنية إلى التكافل فتظهر واضحة في مفهوم أمير المؤمنين عليه‌السلام للسيادة الذي يتضمن أبعاداً اجتماعية تكافلية ، قال عليه‌السلام : « السيّد من تحمّل المؤونة وجاد بالمعونة » (٣). وعنه عليه‌السلام : « السيّد من تحمّل أثقال إخوانه » (٤). فأمير المؤمنين عليه‌السلام ينفي السيادة الاجتماعية ـ وليس السيادة النسبية لمن أنتسب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الأطهار ـ عن الأفراد الذين يتمحورون حول ذواتهم ومنافعها ، ولا يشاركون غيرهم في النوائب والمصائب ، ولا ينظرون بعين العطف إلى المساكين والمحتاجين ، فهؤلاء لا يستحقون وسام السيادة وإن ادّعوها ، قال عليه‌السلام : « ما ساد من احتاج إخوانه

________________

(١) الاختصاص ، / الشيخ المفيد : ٢٤٣ ، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ، قم.

(٢) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ٢٥١ ، منشورات الشريف الرضي ، ط ٦ / ١٣٩٢ ه‍.

(٣) عيون الحكم والمواعظ : ٤٨.

(٤) عيون الحكم والمواعظ : ٦٠.

٢٩

إلى غيره » (١).

فالسيادة تتطلب درجة عالية من المشاركة الاجتماعية ، وتنبثق من شعور تكافلي عميق نحو الآخرين.

أما السماحة فحسب تفسير أهل البيت : هي البذل وهو ـ كما معروف ـ طريق للتكافل. بدليل أن الإمام الحسن عليه‌السلام لمّا سأله أمير المؤمنين عليه‌السلام عن تفسير السماحة : « يا بني ما السماحة ؟ قال : البذل في العُسر واليسر » (٢).

وفي خبر آخر : « إجابة السائل وبذل النائل » (٣).

ثامناً : الجود والإنفاق

أراد الإسلام أن يتحسس المسلم مشاكل الناس ، وخاصة أولئك الذين تضيق في وجوههم سُبل العيش المشروع ، لذلك مجّد الجود وشجع على البذل والإنفاق كأسلوب تكافلي لابد منه. وكان أهل البيت : يتسلّقون ذُرىٰ المجد في الجود ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّي لأرفع نفسي أن تكون حاجةٌ لا يسعُها جودي » (٤).

فالجود ـ إذن ـ يقود إلى البذل بالموجود ، وأفضله في مقاييس مدرسة أهل البيت : ما كان عن عسرةٍ ، لكي يُخرج المسلم من شرنقة الشح والبخل إلى فضاء العطاء والبذل ، وفي هذا الصَّدد يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام :

________________

(١) عيون الحكم والمواعظ : ٤٨٢.

(٢) مشكاة الأنوار / علي الطبرسي : ٤٠٧.

(٣) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ٤٠١ ، انتشارات إسلامي ، طبعة ١٣٦١ ش.

(٤) عيون الحكم والمواعظ : ١٦٩.

٣٠

« أفضل الجود بذل الموجود » (١) وعنه عليه‌السلام : « أفضل الجود ما كان عن عسرة » (٢).

إضافة لما تقدّم ينبغي أن يكون البذل للمستحق وإلاّ كان عبثا لا طائل منه ، أو كان لأجل السمعة الفارغة ومن أجل التباهي والرياء ليس إلاّ ، وفي هذه الحالة يفقد غايته الأساسية كأسلوب تكافلي.

على أن الأكثر إثارة في هذا الصدد أن مدرسة أهل البيت : تضع شرطاً ثالثاً لتحقق مفهوم الجود ، وهو أن للآخذ من الشكر أكثر مما للباذل ، لكونه قَبِل العطاء ، وهي تريد بذلك صون ماء وجه الأول ، وطرد شبح المنّ أو الغرور من نفس الثاني أو المعطي. وهذا الشرط فيه دلالة عميقة تعكس عمق توجهات هذه المدرسة المقدسة ، وسموّ مفاهيمها وسعة أفقها ، وفي هذا الجانب قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « لا يكون الجواد جواداً إلاّ بثلاثة : يكون سخيّاً بماله على حال اليسر والعسر ، وأن يبذله للمستحقّ ، ويرى أنّ الذي أخذه من شكر الذي أسدى إليه أكثر مما أعطاه » (٣).

وعموماً فالإنفاق أو العطاء هو من أعظم ما يعتني بأمره الإسلام ، وقد توسل إليه بطرق مختلفة كالزكاة والخمس والكفارات المالية وأقسام الفدية ، وعن طريق الوقف والوصايا والهبة وما إلى ذلك. وإنما يريد بذلك من المسلمين أن يواسوا إخوانهم وأن لا يدفنوا رؤوسهم في رمال اللامبالاة

________________

(١) عيون الحكم والمواعظ : ١١٩.

(٢) عيون الحكم والمواعظ : ١١١.

(٣) تحف العقول / ابن شعبة الحراني : ٣١٨ ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ط ٢ / ١٤٠٤ ه‍.

٣١

بالآخرين. والقرآن في عشرات الآيات يحثّ على الإنفاق ويمتدح الذين يمارسونه في السّر والعلن ، وينوّه بمعطياته الاجتماعية. ومن هذه الآيات قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (١).

والقرآن يمتدح الإنفاق المؤدي إلى النفع ويذمه إذا أدى إلى المنّ أو الضَّرر ، لأنه لا يؤدي غايته التكافلية المطلوبة ، قال تعالى : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواْ مَنّا وَلاَ أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢).

والإنفاق الخالص لوجه الله تعالى محمود في جميع الأوقات والحالات ، فهو يمتد كخيط متين لربط أفراد المجتمع فيما بينهم ويستأصل شأفة الفقر كأكبر آفة اجتماعية ، قال تعالى : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٣).

ويرى العلامة الطباطبائي ; بأنّ استيفاء الأزمنة والأحوال في الإنفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب ، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله ، وإرادة وجهه ، فوعدهم الله تعالى وعدا حسناً بلسان الرأفة

________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٤.

٣٢

والتلطف (١).

وعن ابن عباس : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ كانت معه أربعة دراهم ، فتصدق بواحد ليلاً وبواحد نهاراً وبواحد سراً وبواحد علانية ، قال الطبرسي : وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما‌السلام (٢).

وكان المؤمنون لما نزلت آيات الإنفاق على إطلاقها ينفقون كل ما يقع تحت أيديهم بحيث وصل البعض منهم إلى حالة من العسر بعد يساره بفضل روح التكافل التي راحت تتقد في داخلهم ، إذ كان نطاق الإنفاق على أوسع مدى ، فأخذ البعض منهم يسأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مقدار الإنفاق وحدوده. فكان الجواب القرآني هو التالي : ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ... ) (٣). والعفو ما زاد عن الحاجه ، فالإسلام دين يسر وسماحة لا يكلف الإنسان فوق طاقته وقدرته.

من جانب آخر سعى الإسلام إلى إزالة الحواجز النفسية التي تحول دون الإنطلاق في مسيرة الإنفاق ، وحاول طمأنة الخواطر التي تخشى من حالة الفقر إذا ما أقدمت على البذل والعطاء ، قال تعالى مُطَمْئِناً المؤمنين : ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (٤).

هذا الوعد بالتعويض بالدنيا ، أما في الآخرة فيظهر من قوله تعالى : ( ...

________________

(١) انظر : تفسير الميزان ٢ : ٤٠٠ ، تفسير الآية (٢٧٤) من سورة البقرة.

(٢) انظر : مجمع البيان / الطبرسي ٢ : ٢٠٤ ، تفسير الآية (٢٧٤) من سورة البقرة.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢١٩.

(٤) سورة سبا : ٣٤ / ٣٩.

٣٣

وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ) (١).

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الصدد : « من يُعط باليد القصيرة يُعط باليد الطويلة أي ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير وان كان يسيراً ، فان الله يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا » (٢).

ودعا المؤمنين إلى التوقي من حالة الشُح في نفوسهم ، وهي حاجز نفسي يحول دون إقدامهم على البذل والعطاء ، قال عزَّ من قائل : ( ... وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٣).

ويتبع القرآن أسلوب الترغيب واعداً بالثواب الجزيل الذي ينتظر المنفقين ، قال تعالى : ( ... وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (٤).

أراد القرآن من المسلمين أن يرتقوا إلى مستوى أسمى من العطاء بحيث ينفقون ممَّا يُحبُّون ، ولا يقتصر الإنفاق على الأشياء الزائدة عن الحاجة وغير المرغوبة أو الرديئة الجودة ، أو تلك التي لا تميل النفس إلى الاحتفاظ بها قال تعالى : ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ

________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٢.

(٢) تصنيف نهج البلاغة / بيضون : ٧٣١.

(٣) سورة التغابن : ٦٤ / ١٦.

(٤) سورة الحديد : ٥٧ / ٧.

٣٤

عَلِيمٌ ) (١).

وكان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يزرع في وعي المسلمين مفهوم السخاء السليم البعيد عن الرّياء والبذخ والإسراف ، والمرتكز على طاعة الله وفي سبيله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ولا يسمى سخياً إلا الباذل في طاعة الله ولوجهه ، ولو كان برغيف أو شربة ماء » (٢). وكان مفهوم السخاء في الجاهلية يرتكز على الأنانية والإسراف وتتحكم فيه الأهواء والمصالح الذاتية ، فصحح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا المفهوم بحيث يقوم على طاعة الله ويحقق الهدف التكافلي المطلوب منه كإطعام الطعام للجياع أو سقي الماء للعطاشىٰ ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أدّى ما افترض الله عليه فهو أسخى النّاس » (٣).

وهناك أحاديث عديدة عن أهل بيت العصمة : تحث على الإنفاق ولو كان قليلاً ، وتحذر من البخل وما يتركه من آثار تدميرية على بنية المجتمع وعواقب اُخروية تطال الفرد ، منها إثارة سخط الله. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا تستحِ من إعطاء القليل فإنّ الحرمان أقل منه » (٤).

وعن العواقب غير المحمودة لمن بخل بالنفقة يحدثنا الإمام الباقر عليه‌السلام بقوله : « ما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يُرضي الله إلاّ ابتلى بأن ينفق

________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٩٢.

(٢) مصباح الشريعة / المنسوب للإمام الصادق عليه‌السلام : ٨٣ ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ط ١ ـ ١٤٠٠ ه‍.

(٣) مكارم الأخلاق / الشيخ الطبرسي : ١٣٦ ، منشوارت الشريف الرضي ، ط ٦ ـ ١٣٩٢ ه‍.

(٤) نهج البلاغة ، الحكمة ٦٧.

٣٥

أضعافها فيما أسخط الله » (١).

نستخلص مما تقدم أن في مدرسة أهل البيت : أُسساً للتكافل الاجتماعي تقوم عل هرم من المبادئ والقيم الحضارية التي تدفع الإنسان لكي يواسي إخوانه ويمدّ يد العون لهم. وهذه القيم بمثابة النجم الذي يهتدون به ويسيرون وراء خيوط الضوء المنبعثة عنه.

________________

(١) تحف العقول : ٢٩٣.

٣٦



الفصل الثاني :

من يحتاج إلى التكافل ؟

يسعى الإسلام إلى توسيع دائرة التكافل لكي تشمل أوسع قطاع من الفئات الاجتماعية التي تحتاج إلى الرعاية والدعم ، وهو يتحرك في دائرة اجتماعية تبتدأ بالأقرب ثم الأقرب من الفئات الاجتماعية المراد تكفّلها وسدّ عوزها.

فقد ورد عن الإمام الحسين عليه‌السلام أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « ابدأ بمن تعول : أُمّك وأباك واُختك وأخاك ثمّ أدناك فأدناك » (١) ويمكننا تقسيم الفئات التي تحتاج إلى التكافل ، إلى قسمين :

أوّلاً ـ الأقربون بالنسب أو الجوار ، وهم :

١ ـ الأهل والعيال

وهم من أقرب المقربين للإنسان وأكثرهم حقا عليه ، ويحتلّون موضع الصدارة في توجهات الإسلام الاجتماعية ؛ بحيث نجد الإسلام يدعو إلى بناء

________________

(١) الاختصاص : ٢١٩.

٣٧

وتدعيم علاقات طيبة وحميمة بين الأهل والعيال قائمة على أساس التعاطف والتكاتف. وفي هذا الصدد يعتبر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن « الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله » (١).

وغني عن البيان أن العيال يتكونون ـ عادةً ـ من الزوجة والأطفال القصّر الذين لا يستطيعون تحمل أعباء المعيشة لضعفهم أو لصغر سنهم ، لذلك أوجب الإسلام على الزوج إعالة زوجته وأطفاله ، وحذّر أشد التحذير من التفريط في ذلك أو التقصير فيه ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله محذراً : « ملعون ملعون من ضيع من يعول » (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يعول » (٣).

فأهل البيت أو العيال هم حجر الزاوية في توجهات الإسلام الاجتماعية ، والتقصير في كفالتهم يجر إلى الإثم والخطيئة ، وبالمقابل يؤدي البّر بهم وكفالتهم إلى معطيات إيجابية تنعكس على الكفيل ، وأهمّها رضا الله تعالى ورحمته ، التي تكون سبباً لنزول بركاته ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « من حسن برّه بأهل بيته زيد في رزقه » (٤) ، وعنه عليه‌السلام في حديث آخر ، قال : « من حسن برّه بأهله زاد الله في عمره » (٥).

________________

(١) عدة الداعي / ابن فهد الحلي : ٧٢ ، مكتبة الوجداني ، قم.

(٢) عوالي اللآلي / ابن أبي جمهور الأحسائي ٣ : ١٩٣ ، مطبعة سيد الشهداء ـ قم ، ط ١. ١٤٠٣ ه‍.

(٣) عدة الداعي / ابن فهد الحلي : ٧٢.

(٤) الدعوات / قطب الدين الراوندي : ١٢٧ ، مدرسة الإمام المهدي عليه‌السلام ، ط ١ ـ ١٤٠٧ ه‍.

(٥) الخصال : ٨٨ / ٢١.

٣٨

فالإسلام يريد من الإنسان أن ينظر بعين العطف إلى عياله وأهل بيته وأن يسد حاجاتهم الأساسية من الغذاء والكساء وما إلى ذلك ، وأن يعكف على خدمتهم. وكلما سما في هذه الخدمة كلما اختصر المسافة في مسيرة التسامي إلى الله تعالى. من هنا قال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يخدم العيال إلاّ صدّيق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة » (١).

ولأهمية كفالة الإنسان لعياله وأهل بيته استتبع التقصير في أمر إعالتهم المسؤولية الجزائية ، فالحاكم الشرعي يلزم كلّ من أخلّ بواجب الإعالة أن يتقيد بالضوابط الشرعية والقانونية ، وإلا فعليه تحمّل المسؤولية وما تستلزمه من جزاء مناسب. فقد ألزم الإسلام رب الأسرة بالإنفاق على هؤلاء الضعفاء حتى إذا كان فقيرا ، فهو مسؤول عن السعي لتوفير هذه النفقة للأسرة.

وفي ذلك يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حقّ المرأة على زوجها : أن يسدّ جوعها ، وأن يستر عورتها ، ولا يقبّح لها وجها » (٢) فالحديث أعلاه لا يقصر حق الزوجة على الأمور المادية الضرورية من طعام وكساء ، بل يُقرن ذلك بحق معنوي ، هو أن لا يقبّح لها وجها ، بتعبير آخر أن يحسن معاشرتها ، لا سيما وأنها زميلته في الحياة ، وشريكته في البيت. والإمام زين العابدين عليه‌السلام يؤكد على حق المرأة في التكافل المادي والمعنوي معاً بالقول : « ... فإن لها عليك أن ترحمها ، لأنها أسيرتك ، وتطعمها وتسقيها وتكسوها ، وإذا جهلت

________________

(١) جامع الأخبار / السبزواري : ٢٧٦ ـ مؤسسة آل البيت : ـ ١٤١٤ ه‍.

(٢) عدة الداعي / ابن فهد الحلي : ٨١.

٣٩

عفوت عنها » (١).

وتظهر أهميه التشريع الإسلامي للنفقة في الرعاية الاجتماعية في الظروف التي تطغى فيها الأحقاد على عاطفة الرفق والشفقة. أي في الظروف التي تضطرب فيها الطمأنينة النفسية بدخول عوامل الهدم إلى كيان الأسرة كحالات الشقاق والنزاع. فهو يدعم الطمأنينة النفسية إذا تخلّف أحد أفراد الأسرة عما أمر الله به أن يوصل من الرَّحم والتعاطف بين أفراد الأسرة.

وعليه فمن الناحية الفقهية : « يجب على المكلف التكسب لتحصيل نفقة من تجب نفقته عليه كالزوجة والأولاد إذا لم يكن واجدا لها ، ويستحب ذلك للأمور المستحبة ، كالتوسع على العيال ، وإعانة الفقراء » (٢).

٢ ـ الأرحام

في مدرسة أهل البيت : ـ التي هي مدرسة الإسلام الصافية ـ عناية فائقة بالأرحام ، وهناك عشرات بل مئات الروايات التي تدعو إلى صلة الرَّحم ، وهي تنطلق بذلك من حرصها الدائم على عدم قطع عروق العلائق بين القرابة ، الذين يشكّلون الدائرة الأقرب للفرد المسلم ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ) (٣) ، قال : « هي أرحام الناس ، إنّ الله عزّ وجلّ أمر بصلتها وعظّمها ، ألا ترى

________________

(١) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ٤٢١.

(٢) المسائل المنتخبة / السيد السيستاني : ٢٥٥ ، المسألة (٦٢٢) ، ط ٣ ـ مطبعة مهر ، قم.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١.

٤٠