عباس ذهبيات
الموضوع : علمالنفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-05-6
الصفحات: ١١٤
أنّه جعلها منه ؟ » (١).
وكان الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله يوقظ خير ما في أفراد أمته من أحاسيس تجاه أرحامهم ، ويُكثر من توصيته لهم بصلة الأرحام ولو بعدت الشقة وطالت المسافة ، ويعتبر ذلك من جوهر الدين ، لكون الإسلام دين إجتماعي تشكّل التعاليم الاجتماعية وخاصة التكافلية منها أكثر من نصف تعليماته. فعنه صلىاللهعليهوآله : « أوصي الشاهد من اُمّتي والغائب منهم ، ومن في أصلاب الرّجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة ، أن يصل الرّحم ، وإن كان على مسير سنةٍ ، فإن ذلك من الدين » (٢). وكان صلىاللهعليهوآله يحذّر أشد التحذير من التقصير في حقهم ، ويؤكد على ضرورة تحمل الضرر الصادر عنهم ، عن الإمام الصادق عليهالسلام : « إنّ رجلاً أتى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله ، إنّ لي أهلاً قد كنت أصلهم وهم يؤذونني ، وقد أردت رفضهم ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله ، إذن يرفضكم الله جميعاً. قال : وكيف أصنع ؟ قال : تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك وتعفو عمّن ظلمك ، فإذا فعلت ذلك ، كان الله عزّ وجلّ لك عليهم ظهيراً » (٣).
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام : « ألا لا يعدلنَّ أحدكم عن القرابة يرى بها خصاصة أن يسدَّها بالذّي لا يزيدُه إنْ أمسكهُ ، ولا ينقصُهُ إن
________________
(١) عدة الداعي / ابن فهد الحلي : ٨١.
(٢) مشكاة الأنوار / علي الطبرسي : ٢٨٧.
(٣) كتاب الزهد / الحسين بن سعيد الكوفي : ٣٦ ، المطبعة العلمية ، قم ١٣٩٩ ه.
أهلكه » (١).
كانت تعاليم الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله وأهل بيته : هذه قد أينعت ثمارها من خلال تمتين عوامل اللحمة بين المسلمين ، فأخذت تصنع في النفوس الطيبة صنيع الغيث في التربة الكريمة.
وكان المسلمون يصلون أرحامهم استجابة للرسول صلىاللهعليهوآله وطلباً للثواب العاجل بعدما تناهى إلى أسماعهم قوله صلىاللهعليهوآله : « إنّ أعجل الخير ثوابا صلة الرَّحم » (٢).
كما كان للمعطيات الإيجابية المتعلقة بصلة الرَّحم أثر هام في تشويق وتشجيع آحاد المسلمين على صلة أرحامهم والتكافل معهم ، ومن أبرز هذه المعطيات طول العمر وزيادة الرزق ، يتضح ذلك من مجموعة من الأحاديث منها قول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله : « صلة الرَّحم تزيد في العمر » (٣).
وعنه صلىاللهعليهوآله : « إنّ القوم ليكونون فجرة ، ولا يكونون بررة فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم ، وتطول أعمارهم ، فكيف إذا كانوا أبراراً بررة ؟ » (٤).
ويظهر من هذا الخبر أن صلة الرحم لها آثارها الدنيوية الحسنة حتى على الفجرة فضلاً عن الصالحين ، فتحصل تنمية الأموال ؛ لأنّ الله تعالى يجعل
________________
(١) تصنيف نهج البلاغة / لبيب بيضون : ٦٦٤.
(٢) أصول الكافي ٢ : ١٥٢ / ١٥ ، باب صلة الرحم من كتاب الإيمان والكفر.
(٣) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق ، ٢٦٤ ، انتشارات إسلامي ، ط ١٣٦١ ه.
(٤) أصول الكافي ٢ : ١٥٥ / ٢١ من الباب المتقدّم.
فيها البركة ، فضلاً عن أنّ روح التعاون والتكاتف التي تنمو في نفوسهم تدفعهم للقيام بمشاريع ونشاطات اقتصادية نافعة تدرّ عليهم بالخير الوفير. أما طول الأعمار فلأنّ الله تعالى ينسأ في أجل الذين يصلون أرحامهم ويمدهم بعمر مديد ، يقول الإمام الحسين عليهالسلام : « من سرّه أن ينسأ في أجله ، ويزداد في أجله فليصل رحمه » (١).
وجاء عن الإمام الهادي عليهالسلام أنه قال : « فيما كلّم الله تعالى به موسى عليهالسلام ، قال موسى : إلهي ، فما جزاء من وصل رحمه ؟ قال : يا موسى أنسأ له أجله ، وأهوّن عليه سكرات الموت » (٢).
ومن الناحية العمليّة فإنّ الحالة النفسيّة السويّة التي يخلقها التعاطف والتكاتف فيما بين ذوي الرحم ، تجعلهم يبتعدون عن المشاحنات والمشاجرات والجرائم ، فتطول أعمارهم حتى تبلغ آجالها المقدّرة.
وهناك معطيات حسنة أخرى لمن وصل رحمه ، هي أن يعصمه الله تعالى من الذنوب ويهوِّن عليه الحساب ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : « إنّ صلة الرّحم والبرّ ليهوِّنان الحساب ويعصمان من الذنوب ، فصلوا أرحامكم وبرّوا بإخوانكم ، ولو بحسن السلام وردّ الجواب » (٣) ، ففي هذه الرواية نجد التأكيد على التكافل مع الأرحام بشقيه المادي والأدبي ، فإن لم يتحصل الأول لضيق ذات اليد ، فعلى الأقل تحصيل الثاني الذي نجد مصداقه
________________
(١) الخصال : ٣٢ ، روضة الواعظين / ابن الفتال : ٣٨٨ ، منشورات الرضي ، قم.
(٢) الأمالي / الشيخ الصدوق : ٢٧٦ / ٣٠٧ ، المجلس السادس والثلاثون.
(٣) اُصول الكافي ٢ : ١٥٧ / ٣١ باب صلة الرحم من كتاب الإيمان والكفر.
بحسن السلام وردّ الجواب.
وكان الرسول صلىاللهعليهوآله ينوّه بالشق الأدبي من التكافل فهو أضعف الإيمان ، قال صلىاللهعليهوآله : « صلوا أرحامكم ولو بالسلام » (١). وقد أكد الإمام الصادق عليهالسلام على شقي التكافل ولو بحدودهما الدُّنيا قال : « صل رحمك ولو بشربةٍ من ماء ، وأفضل ما يوصل به الرّحم كفّ الأذى عنهما » (٢). ويبدو من هذا الخبر أن للتكافل الأدبي في بعض الأحيان أفضلية على التكافل المادي. حيث أراد إمامنا الصادق عليهالسلام أن يفتح نافذة الوعي لتقدير أهمية التكافل الأدبي ، إنطلاقاً من أن دفع المفسدة والضرر أولى من جلب المصلحة. وعليه فمن لا يستطيع صلة أرحامه وإسداء النفع لهم ، فعليه أن يكفّ عن إلحاق الضرر بهم من حيث المبدأ.
وكان الإمام الصادق عليهالسلام قدوةً في مدِّ يد العون إلى الآخرين ، فعن الفضل بن قرّة ، قال : كان أبو عبدالله عليهالسلام يبسط رداءه وفيه صرر الدنانير ، فيقول للرّسول : « إذهب بها إلى فلان وفلان من أهل بيته ، وقل لهم : هذه بعث إليكم بها من العراق ، ـ كناية عن وصول تلك الأموال إلى الإمام من العراق ـ قال : فيذهب بها الرّسول إليهم فيقول ما قال ، فيقولون : أما أنت فجزاك الله خيراً بصلتك قرابة رسول الله صلىاللهعليهوآله وأما جعفر فحكم الله بيننا وبينه ، قال : فيخرّ أبو عبدالله ساجداً ويقول : اللهم أذلَّ رقبتي لولد
________________
(١) تحف العقول : ٥٧.
(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٥١ / ٩ من الباب المتقدّم.
أبي » (١).
يضاف إلى ماسبق أن قطيعة الأرحام تترك آثاراً سلبية مدمّرة على مجمل النسيج الاجتماعي ، فتقطع خيوط التواصل بين الأهل والأقارب ، فتنتج القطيعة والشقاق والتناحر ، فيستلزم كلّ ذلك حلول النقم ، وفناء الجماعات ، وهي أمور قد حذر منها أئمتنا الأطهار : ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « حلول النقم في قطيعة الرّحم » (٢). وقال زين العابدين عليهالسلام : « .. الذنوب التي تعجل الفناء قطيعة الرّحم ... » (٣).
ويلفت نظرنا أمير المؤمنين عليهالسلام إلى حقيقة تحتاج إلى أن يكشف المتخصصون عن أبعادها ومراميها ، وهي أن إعانة الأرحام والتكافل معهم يمنع من تدفق الأموال إلى أيدي الأشرار ، ويحول الشق المادي من التكافل دون حصول مجتمع رأسمالي استغلالي ، فمما لا شكّ فيه أنّ من يمتنع عن تقديم الحقوق المترتبة عليه تجاه أرحامه فسوف تتكدس الأموال بيده فيغدو ـ في الأعم الأغلب ـ رأسمالياً جشعاً ، أو تستغل قوى الشر أمواله المكدسة لمآربها الشريرة ، وبالإستناد لما تقدم ينكشف لنا أبعاد تأكيد أمير المؤمنين عليهالسلام : « إذا قطعوا الأرحام جُعلت الأموال في أيدي الأشرار » (٤).
صفوة القول : إنّ تأكيد الإسلام المتواصل على صلة الأرحام يعدّ من
________________
(١) تنبيه الخواطر / للامير ورّام ٢ : ٢٦٦ ـ دار صعب.
(٢) عيون الحكم والمواعظ / علي الليثي الواسطي : ٢٣٤.
(٣) معاني الأخبار : ٢٧١.
(٤) اُصول الكافي ٢ : ٣٤٨ / ٨ باب قطيعة الرحم من كتاب الإيمان والكفر.
الأسس الاجتماعية التي يعتمد عليها مبدأ التكافل.
٣ ـ الجار
يعتبر الجار من ضمن الدائرة المكانية القريبة المشمولة بالرعاية الاجتماعية ، فالاهتمام بالجار بمثابة حجر آخر في بناء قاعدة صلبة للتكافل الاجتماعي ، من هنا يدرج القرآن الجار ضمن قائمة الفئات القريبة المطلوب أن يُحسن إليها ، قال تعالى : ( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) (١). ويلاحظ هنا أن القرآن قد أشار إلى صنفين من أصناف الجار ، وهما : الجار ذو القربى والجار الجُنُب ، ومعناهما : الجار القريب في النسب ، والجار الأجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة (٢).
وهنا تجد أن القرآن يأمر بالإحسان للوالدين ثم للأقارب والأرحام ، ثم اليتامى والمساكين ، ولو أنهم أبعد مكاناً من الجار ، لأن اليتيم فقد الناصر والمعين ، ولأن المسكين وهو ـ هنا ـ الضعيف العاجز عن الكسب لا ينتظم حال المجتمع إلاّ بالعناية به. ثم تصل النوبة إلى الجار سواءً القريب منه ( الجار ذو القُربى ) أو البعيد ( الجار الجُنُب ) ولكن تنطبق عليه صفة / الجار من الناحية المكانية. ولا ينحصر الإحسان بإعطاء المال ، بل يشمل الرّفق به
________________
(١) سورة النساء : ٤ / ٣٦.
(٢) مجمع البيان في تفسير القرآن ٢ : ٩٨ ، منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت.
والتواضع معه ، والسعي في قضاء حوائجه ، وتقديم النصح والمشورة له ، وكتمان سره ، وغض الطرف عن عثراته وعوراته ، وعدم إشاعة السيئات عنه ، وإعارته أدوات المنزل وما إلى ذلك ، وعلى أية حال ، فإن الأمر بالإحسان إلى هؤلاء ندب لافرض.
وتتبدى أهمية الجوار في دعوات الرسول صلىاللهعليهوآله الملحّة والمتكررة الداعية إلى التعاطف والتكافل مع الجيران وإسداء العون والمساعدة لهم واعتباره ذلك من ضمن لوازم الإيمان ، قال صلىاللهعليهوآله : « ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره المسلم جائع ، وقال : وما من أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة » (١) وورد الخبر من طريق آخر عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله بتفصيل أكثر ، وفيه : « ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره جائع ، فقلنا : هلكنا يا رسول الله ، فقال صلىاللهعليهوآله : من فضل طعامكم ، ومن فضل تمركم وورقكم وخلقكم وخرقكم ، تطفئون بها غضب الربّ » (٢).
وروى عن علي بن الحسين عليهماالسلام ، قال : « من بات شبعان وبحضرته مؤمن طاوٍ ، قال الله عز وجل : ملائكتي ، أشهدكم على هذا العبد ، أنني أمرته فعصاني ، وأطاع غيري ، وكلته إلى عامله ، وعزتي وجلالي لا
________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ٦٦٨ / ١٤ باب حقّ الجوار من كتاب العشرة.
(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٢٠٩ / ١ باب (٤٩) ما ينبغي للوالي العمل به في نفسه ، تحقيق مؤسسة آل البيت : ، ط ٢.
غفرت له أبدا » (١).
فهذه الروايات بطرقها المتعددة وألفاظها المختلفة تصرح بصورة واضحة بضرورة التكافل مع الجيران وخاصة الشق المادي منه ، أما التكافل المعنوي معهم فقد أشار الرسول صلىاللهعليهوآله إليه في معرض كلامه عن الحقوق المترتّبة للجار ، قال صلىاللهعليهوآله : « إن استغاثك أغثته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن افتقر عدت إليه ، وإن أصابته مصيبة عزّيته ، وإن أصابه خير هنّأته ، وإن مرض عدته ، وإن مات اتبعت جنازته... ولا تؤذه بريح قدرك إلاّ أن تغرف له منها » (٢).
ضمن هذا السياق حذّر الرسول صلىاللهعليهوآله أشدّ التحذير من التقصير في حق الجار ، وكشف عن العواقب السلبية لمن أساء لجيرانه أو قصّر في التكافل معهم ، قال صلىاللهعليهوآله : « من منع الماعون جاره منعه الله خيره يوم القيامة ، ووكله إلى نفسه ، ومن وكله إلى نفسه فما أسوأ حاله » (٣).
وكان أهل البيت : يسيرون على نهج الرسول صلىاللهعليهوآله ويقتدون به ، فكانوا يحثون أتباعهم على البّر بالجار ، ويعملون على إشاعة روح التعاون مع الجيران ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « من حُسن الجوار تفقُّد الجار » (٤).
تمعّن في هذا الدّعاء من أدعية الصحيفة السجادية ، الذي يقدم لنا رؤية
________________
(١) عوالي اللآلي / الأحسائي ١ : ٣٤٤ / ١٢١.
(٢) مسكن الفؤاد / الشهيد الثاني : ١٠٥ ، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث ، ط ١.
(٣) أمالي الصدوق : ٥١٥ ، المجلس (٦٦).
(٤) تحف العقول : ٨٥.
تكافلية كاملة ( أدبية ومادية ) : « اللّهُمَّ تولّني في جيراني بإقامة سُنتَّك ، والأخذ بمحاسن أدبك في إرفاق ضعيفهم ، وسدَّ خَلتَّهم ، وتعهد قادمهم ، وعيادة مريضهم ، وهداية مسترشدهم ، وكتمان أسرارهم ، وستر عوراتهم ، ونصرة مظلومهم ، وحُسن مواساتهم بالماعون ، والعود عليهم بالجدَة والإفضال ، وإعطاء ما يجبُ لهم قبل السؤال والجود بالنوال يا أرحم الراحمين » (١).
٤ ـ العشيرة
لقد احتفظت العشيرة في مقام الصدارة في توجهات الإسلام الاجتماعية. فالإسلام ينسجم مع الخلقة حيث خلق الله الناس شعوباً وقبائل ، كما يحافظ على الأنساق الاجتماعية في البيئة العربية التي تمنح العشيرة دورا أساسياً في التركيبة السكانية ، وعليه فالتكافل مع العشيرة ـ وهم في دائرة القرابة القريبة ـ يغدو كضرورة اجتماعية تتطلبها الظروف التي تحيط بالفرد وحاجته الماسة للرعاية والحماية ، وخاصة في أوقات الأزمات وغياب الأمن وعدم وجود مؤسسات رعوية رسمية. فالتكافل مع العشيرة ـ والحال هذه ـ أمر لا يقبل الجدل.
وكان أمير المؤمنين عليهالسلام يوصي أولاده وأصحابه بإكرام العشيرة ، لما لها من دور واسع المدى وعميق الأثر في الحياة الاجتماعية ، فمن وصاياه لابنه
________________
(١) الصحيفة السجادية الكاملة : ١٣٢ دعاء ٢٦ ، نشر وتحقيق مؤسسة الإمام المهدي عليهالسلام ، ط ١.
الحسن عليهماالسلام : « ... وأكرمْ عشيرتك ، فإنَّهم جناحُك الذي به تطير ، وأصلُك الذي إليه تصيرُ ، ويدُك الّتي بها تصُول » (١). وفي نص آخر يصرّح بأهمية التكافل مع القرابة والعشيرة ويعلل ذلك تعليلاً عميقاً يتناسب مع البيئة الاجتماعية التي عاصرها ، يقول عليهالسلام : « أيّها الناس ، إنّه لا يستغني الرّجل ـ وإن كان ذا مال ـ عن عترته ، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم ، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه وألمّهم لشعثه ، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به... ألا لا يعدلنّ أحدكم عن القرابة يرى بها الخاصة أن يسدّها بالذي لا يزيده إن أمسكه ، ولا ينقصه إن أهلكه ، ومن يقبض يده عن عشيرته ، فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة ، وتقبض منهم عنه أيدٍ كثيرة... » (٢).
ولابد من إلفات النظر إلى أن أمير المؤمنين عليهالسلام لا ينطلق من نظرة عنصرية ضيقة ، تضع التعصب للعشيرة فوق قواعد الحق واعتبارات الدين ، بل هو في الوقت الذي يدعو إلى التكافل مع العشيرة يحث على أن لا يكون ذلك على حساب الدين ، وان لا يؤدي ذلك إلى القطيعة معه ، وخير شاهد تاريخي على ذلك تعنيفه للمنذر بن الجارود العبدي ، وقد خان في بعض ما ولاّه من أعماله ، قال له موبخاً : « ... لا تَدَعْ لهواك انقياداً ، ولا تُبقي لآخرتِكَ عتاداً ، تعمُرُ دُنياك بخرابِ آخرتِك ، وتصلُ عشيرتك بقطيعة دينك » (٣).
________________
(١) نهج البلاغة / ضبط صبحي الصالح : ٤٠٥ ، الكتاب (٣١).
(٢) نهج البلاغة / ضبط صبحي الصالح : ٦٥ ، الخطبة (٢٣).
(٣) نهج البلاغة / ضبط صبحي الصالح : ٤٦٢ ، الكتاب (٧١).
فالإمام عليهالسلام يقيم مذهبه الاجتماعي على أساس قواعد الدين ، فكل تجاوز لهذه القواعد يقذف بفكرة التكافل بعيداً في أغوار مسالك الشر.
ثانياً : الفئات المحرومة
هناك مجموعة من الفئات المحرومة هي بأمس الحاجة إلى التكافل الإجتماعي بعد أن قرضهم الفقر بمنشاره ، وأسكنتهم الحاجة والفاقة ، وهم على النحو التالي :
١ ـ الأيتام
الإسلام كدين اجتماعي تتمثّل فيه مبادئ الرحمة والعطف ، لا يريد ان يترك هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع فريسة الفقر والحاجة ، لذلك كانت هذه الفئة بمثابة القطب من الرحى في توجهاته التكافلية ، فهناك الآيات القرآنية الكثيرة التي تحث على الاهتمام بالأيتام ، وتدعو إلى تأمين مستلزمات العيش الشريف لهم ، منها قوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ... ) (١) ، وقوله تعالى : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ) (٢) ، وقوله : ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ) (٣). وقوله : ( كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) (٤). فهنا نجد دعوة صريحة للتكافل
________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٠.
(٢) سورة الضحى : ٩٣ / ٩.
(٣) سورة الماعون : ١٠٧ / ١ ـ ٢.
(٤) سورة الفجر : ٨٩ / ١٧.
الأدبي معهم ، ولوماً وتقريعاً لكل من يقصّر في ذلك.
وهناك طائفة من الآيات تدعو إلى التكافل المادي الصريح مع الأيتام ، منها : قوله تعالى : ( ... وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ ) (١) ، وقوله : ( ... وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ ) (٢) ، وقوله : ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ) (٣) ، وقوله : ( وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) (٤).
وكان الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله يوقظ في نفوس الناس العاطفة الدينية تجاه الأيتام ، ويُكثر من التوصية بهم ، ويدعو إلى كفالتهم ، قال صلىاللهعليهوآله : « أنا وكافل اليتيم في الجنّة كهاتين » (٥). وعنه صلىاللهعليهوآله : « من عال يتيما حتى يستغني عنه ، أوجب الله عزّ وجل له بذلك الجنّة ، كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار » (٦).
ولم تقتصر تعاليم الرَّسول الاجتماعية على تأمين التكافل المادي للأيتام
________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٧.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.
(٣) سورة النساء : ٤ / ٨.
(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٣٤.
(٥) مشكاة الأنوار / علي الطبرسي : ٢٩٢.
(٦) الكافي ٧ : ٥١ / ٧ باب صدقات النبي صلىاللهعليهوآله وفاطمة والأئمّة : ووصاياهم من كتاب الوصايا.
فحسب ، بل كان يولي التكافل الأدبي المزيد من العناية والأهمية ، قال صلىاللهعليهوآله موصياً : « كن لليتيم كالأب الرَّحيم ، واعلم أنّك [ كما ] تزرع كذلك تحصد » (١).
وروي أن رجلاً شكا إلى النبي صلىاللهعليهوآله قساوة قلبه ، فقال : « إذا أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم » (٢) وفي رواية اُخرى أنه قال له : « فادن منك اليتيم وامسح رأسه وأجلسه على خوانك ، يلين قلبك وتقدر على حاجتك » (٣).
وقال صلىاللهعليهوآله : « اشبع اليتيم والأرملة ، وكن لليتيم كالأب الرحيم ، وكن للأرملة كالزوج العطوف ، تعط كل نفس تنفست في الدنيا قصراً في الجنة ، كل قصر خير من الدنيا وما فيها » (٤).
هذه التوجهات الحضارية أشاعت أجواء الطمأنينة في نفوس الأيتام وخلقت الاستقرار الاجتماعي على الرغم من الاضطراب السياسي الذي خيم على المجتمع الإسلامي آنذاك.
وإذا ما أضفنا إلى كل هذا مساعي مدرسة أهل البيت : الخيرة التي أسهمت بنصيب وافر في تشجيع أعمال الخير ، فكانت كالواحة الوارفة الظلال في مجال التكافل وخاصة مع الأيتام في المقام الأول. فكان أمير المؤمنين عليهالسلام
________________
(١) كنز الفوائد / الكراجكي : ١٩٤ ، مكتبة المصطفوي ـ قم ، ط ٢.
(٢) مشكاة الأنوار / علي الطبرسي : ٢٩٣.
(٣) مشكاة الأنوار / علي الطبرسي : ٢٩٣.
(٤) مشكاة الأنوار / علي الطبرسي : ٢٩٣.
يوصي بهم حتى قبل موته بقليل ، فقد تضمنت وصيته الأخيرة قوله عليهالسلام : « الله اللّه في الأيتام ، فلا تغبّوا أفواهم (١) ، ولا يضيعوا بحضرتكم ، فقد سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله : من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله عزّ وجل له بذلك الجنة » (٢) ، وعنه عليهالسلام : « ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحّماً له إلاّ كتب الله له بكلّ شعرة مرّت يده عليها حسنة » (٣).
وعن أبي الطفيل ، أنّه قال : « رأيت علياً عليهالسلام يدعو اليتامى فيطعمهم العسل حتى قال بعض أصحابه : لوددت أني كنت يتيماً » (٤).
أما الإمامان الحسن والحسين عليهماالسلام وكلاهما يضيء من مشكاة واحدة ، فيحثان على تكفل أيتام آل محمّد صلىاللهعليهوآله بعد أن اتبع معهم الطغاة سياسة ( السيف والنطع ) فقتلوهم تحت كل حجر ومدر ، فمن الطبيعي والحال هذه أن يكثر أيتامهم ، ويكونوا ضحايا نظام اجتماعي جائر لا يكترث بهم ، فيفترشوا الأرض ويلتحفوا السماء. فأراد أئمة أهل البيت : أن يرتقوا بشيعتهم إلى
________________
(١) أغبّ القوم : جاءهم يوماً وترك يوماً ، وقوله : « لا تغبّوا أفواههم » أي صلوا أفواههم بالإطعام ولا تقطعوه عنها. انظر : نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٧٧ ، هامش ١.
(٢) الكافي ٧ : ٥١ / ٧ باب صدقات النبي صلىاللهعليهوآله وفاطمة والأئمّة : ووصاياهم من كتاب الوصايا.
(٣) ثواب الأعمال / الشيخ الصدوق : ١٩٩.
(٤) مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ١ : ٣٤٨ ، المطبعة الحيدرية ـ النجف ـ ١٣٧٦ ه.
مستوى التحدي الاجتماعي ، لاسيما وأنهم يرزحون تحت وطأة ظلم صارخ عبر التاريخ. ومن الشواهد على تأجيج الأئمة : للعواطف النبيلة لكفالة أيتام آل محمّد صلىاللهعليهوآله ما قاله الإمام الحسن عليهالسلام : « فضل كافل يتيم آل محمّد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل ـ يخرجه من جهله ، ويوضح له ما اشتبه عليه ـ على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه ، كفضل الشمس على السهى » (١).
أما الإمام الحسين عليهالسلام فيقول في هذا الصدد : « من كفل لنا يتيما قطعته عنّا محبّتنا باستتارنا ، فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتّى أرشده وهداه ، قال الله عزّ وجلّ : أيّها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم منك... » (٢).
فمثل هذه النصائح والتوجهات تفسح المجال واسعاً أمام الاهتمام بالأيتام ، وتهيّء الأجواء لبناء وتدعيم علاقات تكافلية معهم ، وإلاّ تحولت حياتهم إلى صحراء مجدبة. ففي غياب منهج التكافل تتشكل ظاهرة التسوّل والتشرّد وبالتالي تنمو جذور الجريمة فيما بينهم ويقعون في هاوية الفساد.
٢ ـ الفقراء والمساكين
ويأتون في المرتبة الثانية من الاهتمام بعد فئة الأيتام ، والقرآن يحث على الإنفاق على هذه الفئة ، قال تعالى : ( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ
________________
(١) الاحتجاج / الطبرسي ١ : ٧ ، دار النعمان.
(٢) بحار الأنوار ٢ : ٤ / ٥.
لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا... ) (١). فالفقراء والمساكين يستحقّون التكفّل والنفقة بنصّ القرآن ، قال تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ... ) (٢) وفي معرض تفسيره لهذه الآية يفرّق الإمام الصادق عليهالسلام بين الفقير والمسكين والبائس بقوله : « الفقير الذي لا يسأل الناس ، والمسكين أجهد منه ، والبائس أجهدهم » (٣).
والإسلام يريد أن تكون العلاقة بين الغني والفقير علاقة تكافل وتعاون ، لذلك فرض على الأغنياء كفالة الفقراء ، قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إنّ الله فَرَضَ في أموالِ الأغنياء أقواتَ الفُقراء ، فما جاع فقيرٌ إلاَّ بما متع به غني ، واللهُ تعالى سائلهم عن ذلك » (٤).
والإمام الصادق عليهالسلام يؤكد هذه الحقيقة المهمة بقوله : « إن الله عزّوجلّ فرض للفقراء في أموال الأغنياء ممّا يكتفون به ، ولو علم الله أنّ الذي فرض لهم لم يكفهم لزادهم ، فإنّما يؤتى الفقراء فيما أوتوا من منع من منعهم حقوقهم ، لامن الفريضة » (٥).
________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣.
(٢) سورة التوبة : ٩ / ٦٠.
(٣) تفسير نور الثقلين ٣ : ٤٩١ ، تفسير الآية (٩٠) من سورة التوبة.
(٤) تصنيف نهج البلاغة / لبيب بيضون : ٦٢٨.
(٥) علل الشرائع / الشيخ الصدوق ٢ : ٣٦٩ / ٢ ، باب ٩٠ ، علة الزكاة ، المطبعة الحيدرية ، النجف ، ١٣٨٦ ه.
وقال عليهالسلام : « إنّ الله تعالى خلق الخلق كلهم صغيرهم وكبيرهم ، فعلم صغيرهم وكبيرهم ، وعلم غنيهم وفقيرهم ، فجعل من كل ألف إنسان خمسة وعشرين مسكيناً ، فلو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم ، لانه خالقهم وهو أعلم بهم » (١).
وعلى ضوء ما تقدم نجد أن النظام الاقتصادي الإسلامي قد حلّ مشكلة الفقر من خلال مبدأ التكافل ، وتوسيع المشاركة الاجتماعية بحيث يكفل الغني الفقير. فشيوع ظاهرة الفقر في المجتمعات الإسلامية لا يمكن إرجاعها لضعف أو قصور في النظام الاقتصادي الإسلامي ، بل لتقصير الأغنياء في كفالة الفقراء وتبديلهم نعمة الله كفراً. كما أخبر أمير المؤمنين عليهالسلام بقوله : « اضربْ بطرفك حيث شئت من النَّاس ، فهل تبصر إلا فقيراً يكابدُ فقراً ، أو غنياً بدّلَ نعمة الله كفراً... » (٢). فالتقصير ينصب بالدرجة الأساس على الأغنياء ، لذلك كان أمير المؤمنين عليهالسلام يحمّلهم ـ بصورة أساسية ـ مسؤولية تفشي الفقر في المجتمع بقوله : « ولا يعُولُ غَنيهم فقيرهم » (٣).
وكانت الشريعة توقظ في نفوس المسلمين العاطفة الدينية تجاه الفقراء والمساكين ، وتدعم توجهاتها الاجتماعية هذه بمبدأ ( الثواب الاُخروي ) لتحقيق هذه الغاية النبيلة ، جاء في وصية أمير المؤمنين لأبنه الحسن عليهماالسلام : « وإذا
________________
(١) علل الشرائع ٢ : ٣٦٩ ، باب ٩١ ، العلة التي من أجلها صارت الزكاة من كل ألف درهم خمسة وعشرين درهماً.
(٢) تصنيف نهج البلاغة / لبيب بيضون : ٦٢٧.
(٣) المصدر السابق : ٦٢٧.
وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمّله إيّاه ، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه فلعلك تطلبه فلا تجده... » (١).
وقد بذل أئمة أهل البيت عليهالسلام أقصى ما يستطيعون من جهد في سبيل إعانة الفقراء والمساكين بعد أن وجدوا أن السلطات الحاكمة كانت تستأثر بالأموال وتقصّر في أداء الحقوق المفروضة للفقراء وتتركهم فريسة العوز والفاقة ، وعلى سبيل الاستشهاد كان إمامنا السجاد عليهالسلام يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره حتّى يأتي الفقراء باباً باباً ، فيقرعه ثم يناول من كان يخرج إليه ، وكان يغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه ، فلما توفي عليهالسلام فقدوا ذلك ، فعلموا أنه كان علي بن الحسين (٢).
وكان هذا الإمام العظيم يتبع شتى الأساليب لترغيب الناس على التصدق على المساكين ويبرز المردودات الإيجابية التي تلحق المنفق ، ومنها دعاء المسكين له واستجابة الله عزّ وجل لدعائه ، قال عليهالسلام : « ما من رجل تصدق على مسكين مستضعف ، فدعا له المسكين بشيء تلك الساعة إلاّ استجيب له » (٣).
وكان ائمتنا : يفتحون نافذة الوعي عند الناس لإدراك أهمية التكافل مع الفقير ، وكانوا يحرصون على عدم إراقة ماء وجه الفقراء لذلك اتبعوا
________________
(١) نهج البلاغة / ضبط صبحي الصالح ، الكتاب (٣١).
(٢) الخصال / الشيخ الصدوق : ٥١٧.
(٣) ثواب الأعمال : ١٤٥.
أسلوب التخفي في العطاء ، وكانوا يحثون على صيانة كرامة الفقير وعدم الاستخفاف به اقتداءً برسول الله صلىاللهعليهوآله الذي يقول : « ألا ومن استخفّ بفقير مسلم فقد استخفّ بحقّ الله ، والله يستخفّ به يوم القيامة ، إلاّ أن يتوب » (١).
وهكذا نجد أن تكفّل الفقير والمسكين كان بمثابة حجر الزاوية في توجهات مدرسة أهل البيت : الاجتماعية.
٣ ـ السائلون والمحرومون
وهنا نجد دعوة قرآنية للتكافل المادي مع هاتين الفئتين المعوزتين ، ففي قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (٢) نلاحظ موقف التمجيد بالتكافل المادي معهم ، وفي قوله تعالى : ( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ) (٣) نجد دعوة للتكافل الأدبي مع السائل خاصة ، ويستلزم ذلك الدعوة لاحترامه وصون كرامته.
وجاء في تفسير الإمام الصادق عليهالسلام لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ، « المحروم : المحارف الذي قد حرم كدّ يده في الشراء والبيع ». وعن الصادقين عليهماالسلام : « المحروم الرّجل الذي
________________
(١) من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ٤ : ١٣ ، جماعة المدرسين ، ط ٢ ـ ١٤٠٤ ه.
(٢) سورة المعارج : ٧٠ / ٢٤ ـ ٢٥.
(٣) سورة الضحى : ٩٣ / ١٠.
ليس بعقله بأس ، ولم يبسط له في الرزق ، وهو محارف » (١).
وعلى كل حال فإن مبدأ التكافل يستدعي التضامن مع هؤلاء ، وخاصة السائل الذي يكشف لك عن أمارات وعلائم عوزه من خلال سؤاله ، والتعاليم السماوية عموماً تحث على إكرام السائل ، ففيما اُوحي إلى موسى عليهالسلام : « اكرم السائل إذا أتاك بردّ جميل أو إعطاء يسير » (٢).
وعن زين العابدين عليهالسلام : « حقّ السائل إعطاؤه على قدر حاجته » (٣).
وترتقي مدرسة أهل البيت : في مجال التكافل إلى مستوى إنساني رفيع ، بكفالتها للسائلين من أهل الأديان الأخرى.
فقد مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل ، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « ما هذا ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين نصرانيّ ، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه ؟! أنفقوا عليه من بيت المال » (٤).
فالإسلام لا يأمر بقطع خيوط التواصل مع أهل الأديان ، ويأمر بالتكافل معهم في الظروف الصعبة ، إذ يتسامى فوق الفوارق والخلافات الدينية ، ويرفع قوس بصره إلى مستوى الإنسانية.
________________
(١) الكافي ٣ : ٥٠٠ / ١٢ باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق ، من كتاب الزكاة.
(٢) تحف العقول : ٤٩٢.
(٣) الخصال / الشيخ الصدوق : ٥٧٠.
(٤) وسائل الشيعة ١٥ : ٦٦ / ١٩٩٩٦ باب أنّ نفقة النصراني إذا كبر وعجز عن الكسب من بيت المال ، من كتاب الجهاد.