تراثنا ـ العدد [ 139 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 139 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٣١٨

المنهج الموسوعي في الفقه الإمامي

(الحدائق والجواهر أنموذجاً)

(١)

الشيخ مهدي البرهاني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيّدنا محمّد المبعوث هدىً ورحمةً للعالمين وعلى آله وعترته الطيّبين الطاهرين.

تُعتبر التعاليم الإلهية في غاية الدقّة والمتانة ، وهي شاملة لكلّ زمان ومكان ، بل لاتخلو أيّ واقعة من حكم شرعي يخصّها ، لأنّ المشرّع هو الحكيم العليم ، وبما أنّ الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع الإلهية فقد جاءت مستوعبة لكلّ ما يحتاجه الإنسان من قوانين وأحكام تنظّم حياته في جميع الأصعدة وعلى شتّى المجالات ؛ ومن هنا جاء دور الفقه والفقهاء في التصدّي لهذه المهمّة والتي هي في غاية الأهمّية والمتمثّلة في استنباط تلك الأحكام الإلهية من مظانّها الشرعية ، وقد دُوّنت من أجل ذلك المُدوّنات والموسوعات الفقهية على مرّ العصور

٢٢١

وتعاقب الدهور.

ومن المعلوم بداهة إدراك الدور الكبير الذي يلعبه المنهج الفقهي الموسوعي في حفظه لمعالم الشريعة وقوانينها من خلال تناوله لبيان جميع الأحكام الشرعية ذات الصلة والمتعلّقة بمختلف شؤون الحياة وعلى جميع الأصعدة وشتّى المجالات ، مستَنبَطة من أدلّتها ضمن الضوابط المقرّرة لعملية الاستنباط ؛ ولذا يعتبر هذا البحث من الأهمّية بمكان.

وإنّ معرفة المنهج الفقهي الموسوعي لكلٍّ من كتابَي الحدائق والجواهر كنموذج لهذا المنهج لكونهما يمثّلان أضخم موسوعتين فقهيّتين استدلاليّتين في الفقه الإمامي ، أحدهما يمثّل المدرسة الأخبارية أو ما يعرف بمدرسة المحدِّثين ، بخلاف الثاني أي: مدرسة الأصوليّين أو ما يُصطلَح عليهم بالمجتهدِين.

واعتمدت في هذا البحث على المنهج التوسّعي التحليلي ، وذلك بتتبّع متون كلّ من الكتابين وذكر بعض التطبيقات الفقهية ومن ثمّ إعطاء النتائج عن المنهجية.

لا شكّ ـ وباعتبار أهمّية الموضوع ـ أنّ هناك بعض البحوث والمقالات التي تطرّقت لذكر المناهج الفقهية لدى علماء الطائفة بصورة عامّة والتي يدخل في ضمنها ما هو مورد البحث أعني الموسوعية منها بشكل خاصّ ، بل هناك بعض الدراسات الخاصّة التي سلّطت الأضواء على التعريف ببعض المناهج الفقهية الموسوعية المعيّنة ، بيد أنّني لم أعثر على من كتب في خصوص مورد هذا البحث ، أعني منهجية كلّ من الكتابين المذكورين بما يمثّلانه من مدرستين

٢٢٢

فقهيّتين عرفتا بالخلاف الشديد في وجهة النظر فيما يتعلّق بعملية الاستنباط الفقهي سواء أكان من حيث ضبط الأدلّة وتحديدها أم من حيث طريقة التعامل معها وكيفيّة الاستدلال بها على الأحكام الفرعية الفقهية.

وفي هذا الصدد أرى أنّ من المناسب الإشارة إلى ما قام به الشيخ خالد العطية من دراسة له قيّمة خصّصها عن حياة المحدّث البحراني وعن سيرته العلمية وعصره وعصر مدرسته الأخبارية، وذكر أبرز علماء تلك المدرسة وما يميّزها عن المدرسة الأصولية فقهاً وطريقةً واستنباطاً ، وكذا تطرّق لبيان منهجه في كتابه الحدائق سواء أكان في بحث مسائل الكتاب المتفرّقة وطريقة استنباط الحكم الشرعي منها على ضوء منهجه الأخباري ، أم في الخصائص العامّة للكتاب، والتي تميّزه عن غيره ممّا كان قد أُلِّف في هذا الحقل الفقهي لعلماء آخرين بما في ذلك الأخباريّين منهم ، وقد أشار في هذا الصدد إلى نكات مهمّة لعلّه لم يكن قد أشير إلى الكثير منها ـ حسب التتبّع القاصر ـ من قِبَل أحد ممّن سبقه ، وبذلك يُعدّ ما قدّمه في بحثه ودراسته تلك جهداً موفّقاً.

كما وأُشير أيضاً لما كتبه يراع المحقّق السيّد زهير الأعرجي في هذا المجال ، إذ تطرّق هو الآخَر ولكن بنحو الاختصار وفي بضع صفحات لمنهجية كلٍّ من صاحب الحدائق والجواهر ، وذلك في ضمن دراسة له مُمَنهَجة ومفصَّلة خصّصها عن بيان مناهج الفقهاء في المدرسة الإمامية ، موضِّحاً خلالها منهجيّتهما في كلٍّ من الكتابين المذكورين عن طريق ذكر بعض التطبيقات التي أوردها من نصّ الكتاب ، وأيضاً يُعدّ ما قام به على اختصاره جهداً مشكوراً.

٢٢٣

وكذا لا يفوتني أن أشير إلى ما تناوله الباحث السيّد محمّد الحسيني في سلسلة دراسات فقهية له تحت عنوان: (فقهاء ومناهج) ركّز فيها القول على جملة من النقاط الأساسية المعتمدة في منهج بعض العلماء والتي شكّلت إسهاماتهم الفقهية دفعاً للعملية الاستنباطية ، ومن أولئك الذين تناولهم البحث ـ وبشكل مختصر ـ الشيخ محمّد حسن النجفي صاحب الجواهر ، وقد أجاد فيما أفاد ـ على اختصاره ـ بحثاً ودراسة.

٢٢٤

الفصل الأوّل

المناهج الموسوعية الفقهية في المدرسة الإمامية

المبحث الأوّل

أهمّ المناهج الموسوعية في الفقه الإمامي

مقدّمة :

قلنا سابقاً : إنّ المنهج الموسوعي هو المنهج الذي يعرض الأحكام الشرعية مع أدلّتها التفصيلية ببحث ونقاش علميّين ، وذلك على نحو الإحاطة بالأدلّة الشرعية من الآيات القرآنية والروايات المسندة والمباني المؤيّدة وسائر الأمارات والأصول الشرعية والعقلية المعتبرة ، بحيث تتّسع المسائل الفقهية لمساحات من البحث العلمي وتستقصي المسألة جُلّ فروعها وتقع مورداً للبحث والنقض والمناقشة والاستدلال.

ولا شكّ أنّ بناء المنهج الموسوعي يرجع فضله إلى عصبة من فقهاء الإمامية الأجلاّء ، ذلك بمثابرتهم في فهم أفق الشريعة الواسع ، واستحداثهم أسلوب البحث العلمي عن الدليل ، ومن ذلك : الشمولية والاستيعاب عند الشيخ النجفي في جواهر الكلام ، ونقد الروايات ومؤاخاة الآراء عند الشيخ البحراني في الحدائق الناضرة ، ومناقشة الآراء الفقهية بعد عرضها عند السيّد جواد العاملي في

٢٢٥

مفتاح الكرامة ، والتفصيل في شرح المسائل الفقهية عند الفاضل الهندي في كشف اللثام ، ودقّة نقل الرواية وقوّة الاستدلال عند السيّد محمّد العاملي في مدارك الأحكام ، وكثرة التفريعات وتشعّبها عند الشيخ النراقي في مستند الشيعة(١).

ومن أجل فهم طريقة تلك المناهج الفقهية في المدرسة الإمامية ومقدار ما تحويه من قيمة علمية وفقهية وتاريخية لذلك المصدر، انتخبنا ذكر بعض منها باختصار من باب الأمثلة للتدليل على طبيعة تلك المناهج وطرق الفقهاء فيها كمقدّمة لما نرومه من بحثنا عن المنهج الموسوعي في كلّ من كتابي الحدائق والجواهر.

منهج السيّد العاملي في كتابه مدارك الأحكام :

كتاب مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام للسيّد السند والركن المعتمد السيّد محمّد بن علي الموسوي العاملي الجبعي (ت١٠٠٩هـ) في ثماني مجلّدات.

ذاع صيت الكتاب في الحوزات العلمية ومنه أخذ المصنّف اسمه ونسبته ، فيقال له : السيّد محمّد صاحب المدارك ، وهو من أحسن الكتب الفقهية الاستدلالية كما عبّر عنه الأفندي في رياضه(٢) والخوانساري في روضاته(٣) ،

__________________

(١) مناهج الفقهاء ، مجلّة تراثنا ، العدد ١٠٢ / ١١.

(٢) رياض العلماء ٥ / ١٣٢.

(٣) روضات الجنّات ٧ / ٤٥.

٢٢٦

والكتاب بمنزلة التتمّة لكتاب المسالك ، لأنّه مختصر في العبادات ومطوّل في المعاملات ، وقد خرج منه العبادات في ثلاثة مجلّدات ، وكان فراغ مؤلّفه منه سنة (٩٩٨هـ).

ويمتاز هذا الكتاب بمتانة الاستدلال والاعتماد على الروايات المسلّمة الاعتبار ، ومن هذه الروايات يختار ما كانت دلالتها واضحة وينتقي من الأدلّة العقلية ما كان متسالماً عليه.

ومن مميّزاته أيضاً أنّه ينقل الرواية بكاملها مع الدقّة في نقلها ، ولذا كان من الكتب المعتمدة في نقل الرواية وقوّة الاستدلال(١).

وكان من منهج المصنِّف ومبناه هو اعتقاده بضعف ما يرويه غير الإمامي الاثني عشري أيّاً ما كان ، ولذلك تعرّض إلى بعض الانتقادات ، ومنها انتقاد الشيخ البحراني للمصنّف بأنّه قد سلك في الأخبار مسلكاً وعراً ونهج منهجاً عسراً ، قال قدّس سرّه ما لفظه :

«فإنّه [صاحب المدارك] ردّ أكثر الأحاديث من الموثّقات والضعاف باصطلاحه ، وله فيها اضطراب كما لا يخفى على من راجع كتابه ، فيما بين أن يردّها تارة ، وما بين أن يستدلّ بها أخرى ، وله أيضاً في جملة من الرجال مثل إبراهيم بن هاشم ومسمع بن عبد الملك ونحوهما اضطراب عظيم ، فيما بين أن يصف أخبارهم بالصحّة تارة وبالحسن أخرى ، وبين أن يطعن فيها ويردّها ، يدور في ذلك مدار غرضه في المقام ، مع جملة من المواضع التي سلك فيها سبيل

__________________

(١) مقدّمة مدارك الأحكام ١ / ٣٧.

٢٢٧

المجازفة ، كما أوضحنا جميع ذلك ممّا لا يرتاب فيه المتأمّل في شرحنا على كتاب المدارك الموسوم بـ : تدارك المدارك ، وكتاب الحدائق الناضرة»(١).

ورُدَّ ذلك بأنّ المصنّف لم يضطرب مبناه ، والتمسّك بالمبنى الأصولي أو الفقهي أو الرجالي لا يدلّ على الاضطراب ، فقد يَردُّ المصنّفُ روايةً معيّنةً ولكن يستدلّ بها إذا كانت مشهورة عند الفقهاء ، فالمبنى عنده هو الأخذ بعمل الأصحاب لا الأخذ بالرواية ، وهذا الفارق ينبغي ملاحظته في مباني الفقهاء(٢).

منهج الفاضل الهندي في كتابه كشف اللثام :

كتاب كشف اللثام عن قواعد الأحكام ـ والذي يُسمّى أيضاً : كشف اللثام والإبهام عن قواعد الأحكام ، و : كشف اللثام عن حدود قواعد الأحكام ، بل وصفه المصنّف في مقدّمة الكتاب بـ : كشف لثام الإبهام وظلام الأوهام عن خرائد قواعد الأحكام(٣) ـ للشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسن الأصفهاني المعروف بالفاضل الهندي المتوفّى (١١٣٧هـ) ، في عشرة مجلّدات.

وهو كتاب فقهي استدلاليّ موسّع ، ذكر فيه مصنّفه آراء أعمدة المذهب من فقهاء الإمامية المتقدّمين منهم والمتأخّرين بشكل مختصر وبأسلوب فنّي متين ، فامتاز باستيعابه الآراء الفقهية عند فقهاء الشيعة وعرضها باختصار ، فأضحى

__________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٤٥.

(٢) انظر : مناهج الفقهاء ، مجلّة تراثنا ، العدد ١٠٢ / ٤٠. و : مقدّمة مدارك الأحكام : ٣٨.

(٣) كشف اللثام ١ / ١٠٥.

٢٢٨

السِّفْر الذي لايُستغنى عنه والمصدر الذي سدّ فراغاً في المكتبة الفقهية طالماً ظلّ شاغراً.

وقد تصدّى المحقّق الكركي مؤسّس المسلك الفقهي الاستدلالي ـ والذي يُعدّ الفاضل الهندي من أتباع هذا المسلك ـ لشرح كتاب القواعد قبل الفاضل الهندي ، وسمّاه : جامع المقاصد في شرح القواعد ، ولكنّه لم يتمّه بل توقّف إلى نصف كتاب النكاح من القواعد ، وكان هذا هو السبب الذي دفع بالفاضل الهندي للشروع في كشفه للثامه من كتاب النكاح ، وكان تاريخ الانتهاء من شرح كتاب النكاح هو عشرين ربيع الثاني سنة (١٠٩٦هـ) وكان عمر الفاضل آنذاك ٣٤ سنة ، أمّا كتاب الإرث فتمّ في سنة (١٠٩٨هـ) ، وبعد أنّ أتمّ أبواب القواعد إلى الأخير فكّر بشرح الأبواب الأولى منه ، فكان تاريخ ختم كتاب الطهارة جمادى الأولى سنة (١١٠٥هـ) وتاريخ إتمامه كتاب الحجّ ١٦ شوّال (١١١٠هـ)(١).

ولكتاب كشف اللثام تأثير مهمّ في الكتب الفقهية المتأخّرة عنه ، والسرّ في ذلك هو كثرة الأقوال المنقولة في هذا الكتاب من الكتب الفقهية للمتقدّمين ، وقد استطاع المؤلّف أن يجمع أكبر عدد ممكن من الكتب ، فكان ينقل عنها مباشرة وبلا واسطة ، وكثرة النقولات هذه مثيرة للدهشة والتعجّب.

ويعتبر الفاضل الهندي في منهجه الموسوعي الاستدلالي الخلف لفقهاء الشيعة المعتمدين ، وهو وإن لم يبتدع طريقة جديدة في الفقه الشيعي لكنّه في طرحه للفروع والاستدلال لها بأدلّة جديدة يعدّ سعياً منه جديراً بالإكبار والتبجيل ،

__________________

(١) مقدّمة كشف اللثام ١ / ٤٧.

٢٢٩

والشاهد على ذلك هو اعتماد صاحب الجواهر عليه اعتماداً أساسيّاً في كتابه الجواهر بشكل حتّى قيل : إنّه لم يستغنِ في أيّ فصل من فصول الكتاب عن كشف اللثام ، واستفاد منه أيضاً صاحب رياض المسائل استفادة كبيرة ، وبهذا يعدّ كشف اللثام من مصادر رياض المسائل أيضاً(١).

ابتدأ المصنِّف شرحه على قواعد الأحكام بكتاب النكاح وما تلاه من الكتب الفقهية ، فقد جاء الكتاب ليتمّم كتاب جامع المقاصد في شرح القواعد ، ثمّ عاد مبتدئاً بكتاب الطهارة ثمّ الصلاة حيث توقّف في نهاية مبحث (ما يوجب إعادة الصلاة) ، وعليه فهذه الدورة الفقهية ناقصة لبعض الكتب ، ككتاب الزكاة والخمس والأنفال والصوم والمتاجر وكتب أخرى.

ويمكن ملاحظة طريقة المصنّف في تسلسل الأفكار وضغط العبارة ونقل الآراء المتفاوتة بحيث تبدو ظاهراً وكأنّها فقرة واحدة منسجمة في الترتيب والعرض.

منهج السيّد العاملي في كتابه مفتاح الكرامة :

كتاب مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة الذي سجّله يراع الفقيه المحقّق والعالم المدقّق السيّد محمّد جواد العاملي المتوفّى (١٢٢٦هـ) ، وهو أيضاً من الكتب الفقهية الموسوعية الاستدلالية ، ويعدّ الكتاب المذكور من أشهر وأوسع وأنفع ما كتب من شروح على كتاب قواعد الأحكام للعلاّمة الحلّي ، ذلك

__________________

(١) جعفريان ، رسول ، مقدّمة كشف اللثام ١ / ٤٩.

٢٣٠

لأنّ المؤلّف إنّما أعدّه للاستيفاء الشامل لأقوال الفقهاء المتقدّمين منهم والمتأخّرين ولمواقع إجماعاتهم وموارد الاشتهارات المدوّنة في بطون مصنّفاتهم ، حتّى أضحى مصدراً من مصادر فقه الشريعة الإسلامية وأحد الموسوعات الفقهية الضخمة للطائفة الإمامية ، وصار مورداً لاعتماد أساتذة الفقه ومعلّميه في ذلك الزمان عليه في نقل الإجماع والشهرة ونقل الأقوال الواردة في كلّ مسألة فقهية ، فهذا صاحب جواهر الكلام الذي لم يسبق له نظير في تأريخ تأليف فقه الشيعة اعتمد في نقل الأقوال والإجماع والشهرة على كلّ مورد نقله صاحب مفتاح الكرامة.

ذكر المحقّق للكتاب عن بعض مشايخه الفضلاء عن العلاّمة الفقيه المحقّق آية الله آقا حسين الطباطبائي البروجردي أنّ هذا الكتاب كان مرجعاً لصاحب الجواهر في تحقيقاته الفقهية كثيراً ، وقال رحمه الله : «إنّه لم يكن معروفاً في حوزة قم المباركة قبل نزول السيّد البروجردي تلك البلدة ، وهو الذي عرّف هذا الكتاب وكتاب كشف اللثام للفاضل الهندي بين محصّلي علوم الدين ومحقّقي مسائل الشريعة»(١).

ألّفه على ما صرّح به نفسه في أوّل الكتاب بأمر من شيخه وأستاذه الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، حيث كان طلب منه أن يؤلّف كتاباً يذكر فيه جميع الأقوال الواردة في كلّ المسائل الفقهية ، وينقل في كلّ مسألة من تلك المسائل الإجماعات والشهرات المذكورة أو المنقولة في كتب الفقهاء ، وجعل عليه أن

__________________

(١) مقدّمة مفتاح الكرامة ١ / ١٠.

٢٣١

يصرّح فيه بأسامي مصادر تلك الأقوال والإجماعات ويذكر فيه الدليل الذي لم يتعرّض له الأصحاب.

ما ذكره المصنّف في خطبة الكتاب :

«وقد امتثلت أمر سيّدي وأستاذي ومَن عليه بعد الله سبحانه وأوليائه صلّى الله عليهم معوّلي واعتمادي الإمام العلاّمة المعتبر المقدّس الحبر الأعظم الشيخ جعفر جعلني الله تعالى فداه وأطال الله تعالى للمؤمنين بقاءه ، قال أدام الله تعالى حراسته : أحبّ أن تعمد إلى قواعد الإمام العلاّمة أعلى الله تعالى في الجنان مقامه فتنظر إلى كلّ مسألة اختلفت فيها كلمات الأصحاب وتنقل أقوالهم وتضيف إلى ذلك نقل شهرتهم وإجماعهم ، وتذكر أسماء الكتب التي ذكر فيها ذلك ، وإذا عثرت على دليل في المسألة لم يذكروه فاذكره ومتنه ، واذكر عند اختلاف الأخبار مذاهب العامّة على وجه الاختصار ، ليكمل نفعه ويعظم وقعه ... فامتثلت أمره الشريف ورجوته أن يسعفني بدعائه الصالح المقبول ، وفوّضت أمري إلى الله وتوكّلت على الله ولاحول ولاقوّة إلاّ بالله»(١).

وبالفعل فقد عُرف مصنّف الكتاب بغزارة الاطّلاع وسعة البال والضبط والإتقان وخبرته الطويلة في مجالي الفقه والأصول ، حتّى قال عنه صاحب روضات الجنّات : «كان من فضلاء الأواخر ومتتبّعي الأكابر»(٢) وقال في وصف

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١ / ١٨.

(٢) روضات الجنّات ٢ / ٢١٦ ، ترجمة (١٧٩).

٢٣٢

كتابه : «لم يرَ عين الزمان أبداً بمثله كتاباً مستوفياً لأقوال الفقهاء ومواقع الإجماعات وموارد الاشتهارات وأمثال ذلك من غير خيانة في شيء منها، والاجتهاد له في فهم ذلك كما هو عادة تلميذه بما لا مزيد عليه لكلّ مَن يريد اجتهاداً في مسألة من مسائل الفقه»(١).

يحتوي الكتاب على جميع كتب الفقه عدا مقدار من كتاب الزكاة وتمام كتاب الخمس والحجّ والصوم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسبق والرماية وبعض الوصايا وكتب متفرّقة أخرى.

نقل المصنّف عن ابن عقيل وابن الجنيد والشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي والعلاّمة الحلّي ، وما وجده في المقنع والهداية والنهاية والخلاف والمبسوط ، وروايات الكافي والاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه ، وكذا ما وجده في التذكرة والتحرير والمختلف والمنتهى وغيرها من تصنيفات الطائفة ومصنّفيهم.

ومنهجه يبدأ بتقديم نصّ القواعد ثمّ يعقبه بما وافقه من كتب الفقهاء ، ثمّ ينقل الإجماع والشهرة ، ثمّ يُذكّر بحجّة المخالِف وأدلّته ، ثمّ ينهي القول بإبداء رأيه بديباجة : قلتُ(٢).

منهج المولى النراقي في كتابه مستند الشيعة :

كتاب مستند الشيعة في أحكام الشريعة للمولى أحمد بن محمّد مهدي بن

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ٢١٧.

(٢) مناهج الفقهاء ، مجلّة تراثنا ، العدد ١٠٢ / ٣٠.

٢٣٣

أبي ذر النراقي الكاشاني المتوفّى سنة (١٢٤٥هـ) في عشرين مجلّداً ، من كتب الفقه الموسوعي الاستدلالي.

لقد صنّف فقهاؤنا العظام الكثير في الفقه الاستدلالي الموسوعي ، ولكلّ واحد من تلك الكتب سماته ومميّزاته من متانة الاستدلال والجامعية وكثرة التفريعات ونقل الأقوال وغيرها ، وقد حاز مستند الشيعة على كلّ هذه الامتيازات بالإضافة إلى ذلك الدقّة البليغة والأسلوب العميق مع فرز جهات المسألة وجوانبها المختلفة وبيان تعارض الآراء وأسانيدها بالنقض والإبرام.

يقوم المصنّف في الغالب وبعد أن يعرّف موضوع البحث بالاتّكاء على وسادة فتاوى بقيّة الفقهاء عن طريق إجماعهم على ذلك أو عن طريق تسمية آرآئهم في كتبهم المعروفة ، وغالباً ما يستدلّ بالآيات والروايات الصحيحة المسندة عنده ، ولو كان هناك ضعف في سند الرواية فإنّه قد يأخذ بها لأنّها منجبرة بعمل الأصحاب ، وعندها يكون ملزَماً بالتصريح بمنهجه بالخصوص ، وعندما يتهيّأ له ثبوت الدليل وقوّته يقوم عندئذ بنسف حجّية الدليل الأضعف عبر دحضه من مختلف الجهات العلمية ، كحمله على التقية ، أو منافاته للإجماع المتّفق عليه ، أو القصور في فهم الأخبار العلاجية ، أو فقدان المرجّحات المنصوصة ، وربّما استدلّ بالقرائن الموضوعية أو الشرعية والقواعد الأصولية كالاستصحاب.

ذكر بعض الأعلام في مقدّمة الطبعة الحجرية للكتاب بأنّه لايعادله كتاب في الجامعية والتمامية ، لاشتماله على الأقوال مع الإحاطة بأوجز مقال ، من غير قيل وقال ، وارتجاله في الاستدلال وما به الإناطة بأخصر بيان ومثال ، من دون خلل وإخلال ، فلقد أجمل في الإيجاز والإعجاز وفصّل في الإجمال حقّ الامتياز ،

٢٣٤

فهو بإجماله فصيل وفي تفصيله جميل ، سيّما كتاب القضاء وما فيه من الفصل والقضاء ، فقد اشتهر بين الفضلاء أنّه لم يكتب مثله.

ثمّ إنّه لايدع برهاناً أو دليلا إلاّ واستقراه واستقصاه إثباتاً لمختاره ومدّعاه ، غير غافل عن التعرّض لما تمسّك به للأقوال الأخرى من الوجوه والأسانيد ، خائضاً فيها خوض البحر المتلاطم ، ناقضاً عليها بألوان الوجوه والحجج ، ولعلّ ما يكسب الكتاب قيمة ومكانة تفرّسه رحمه‌الله في سائر العلوم كالفلك والرياضيّات ، وترى آثار هذه المقدرة الفذّة بارزةً في بحث القِبلة وكتاب الفرائض والمواريث وغيرها من المباحث التي اشتمل عليها الكتاب.

والمشهور والمعروف عن مستند الشيعة أنّه اختصّ وامتاز بكثرة تفريعاته إلى غاية ما يمكن ، وذلك بعد تحقّق أصل المسألة عنده وإثبات مشروعيّتها ، وتراه على سبيل المثال لا الحصر في مبحث الخمس لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من أهله عليه‌السلام دون غيرهم يذكر أوّلاً اعتبار السيادة أو عدمها ، ثمّ يعرِّف السادة ويبيّن أدلّة استحقاقهم الخمس ، ثمّ يتناول كيفية النسبة إلى بني هاشم ، هذا مع أنّه يذكر لكلّ فقرة من فقرات البحث الأقوال المختلفة فيها مع ذكر أدلّتها ، ثمّ الإشكال والردّ على المخالف منها وتدعيم وتوجيه المختار ، وحكي عن الفقيه المتتبّع السيّد محمّد كاظم اليزدي الطباطبائي صاحب الأثر الجليل العروة الوثقى أنّه كان يراجع كتاب المستند في تفريعاته الفقهية ويأمر تلامذته بالاستخراج منها(١٥).

__________________

(١) انظر : مقدّمة مستند الشيعة ، الطبعة الحجرية : ٢. و : مقدّمة مستند الشيعة ، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام : ١٢. و : مناهج الفقهاء ، مجلّة تراثنا ، العدد ١٠٢ / ٤٣.

٢٣٥

زبدة المخض :

وبالإجمال يمكن القول واستناداً لما مرّ ذكره وبيانه أنّ المنهج الموسوعي في المدرسة الإمامية تميّز بالشمولية والسعة في فهم المسألة الفقهية والاستدلال عليها بالطريق المعهود بين الفقهاء عن طريق تطبيق الأصول على الفروع ، وقد ربط جميع أهل العلم والمعرفة قدماء الفقهاء بمتأخّريهم ولم يشذّ عن تلك القاعدة أحد ، فالفاضل الهندي ينقل ما قاله ابن أبي عقيل وابن الجنيد والصدوقان ، والشيخ الجواهري ينقل ما قاله الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي ، والسيّد العاملي ينقل ما قاله المحقّق الحلّي والعلاّمة والشهيد الأوّل والثاني. وهكذا نجد المدرسة الفقهية الاستدلالية الإمامية مترابطة ومتماسكة تماسكاً محكماً في الفتوى ونقل الأحكام وتسلسل الأفكار ونقد الآراء وتحكيم الأصول(١).

المبحث الثاني

نبذة عن كتاب الحدائق ومؤلّفه

المؤلّف :

هو العلاّمة المحدّث الشهير الشيخ يوسف، نجل العلاّمة الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صالح بن أحمد بن عصفور ... البحراني الدرازي ، عالم

__________________

(١) مجلّة تراثنا ، العدد ١٠٢ / ٥١.

٢٣٦

وفقيه ومحدّث ، عُدَّ من الأخباريّين المعتدلين في القرن الثاني عشر الهجري (أي ما بين : ١١٠٧ ـ ١١٨٦هـ) ، اشتهر بـ : (صاحب الحدائق) انتساباً لأثره الشهير : الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة.

وكان أبوه الشيخ أحمد من أجلاّء تلامذة الشيخ سليمان الماحوزي ، وقد ترجمه الشيخ يوسف في كتابه اللؤلؤة ووصفه بالمجتهد الفاضل الجليل الذي لايجاريه في البحث مجار ولايباريه فيه مبار ، مضيفاً على ذلك قوله بأنّه كان مجتهداً صرفاً كثير التشنيع على الأخباريّين(١).

الولادة :

يمكن القول : إنّ معظم من تطرّق لذكر ترجمة الشيخ المحدّث البحراني بما يرتبط بولادته ونشأته وعائلته وأسرته إنّما استند في أغلب ذلك على كتابه لؤلؤة البحرين ، حيث إنّه قدّس سرّه في أواخر هذا الكتاب بعنوان (تتمّة) ذكر نفسه وترجم حاله من حين الولادة ، وذكر بعض ما يرتبط بنشأته وسيرته وأحواله وأحوال عائلته وفاء لما كان قد وعد به(٢).

وأنا بدوري أيضاً أنقل مقتبساً ممّا ذكره هناك مع بعض الإضافات التي وردت عن غيره ممّن ترجم له :

ذكر قدّس سرّه أنّ مولده كان في السنة السابعة بعد المائة والألف

__________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٩٣ و ٩٨ ، ترجمة (٣٧).

(٢) لؤلؤة البحرين : ٤٤٢.

٢٣٧

(١١٠٧هـ) في قرية (الماحوز) إحدى قرى البحرين.

أمّا سبب كون الولادة في الماحوز مع أنّ أصله من قرية دراز (على بعد فرسخين ونصف جنوبي المنامة) فهذا ما أشار إليه في كتابه لؤلؤة البحرين ، فقد جاء فيها : «إنّ مولدي كان في سنة (١١٠٧هـ) في قرية الماحوز ، حيث إنّ الوالد كان ساكناً هناك لملازمته الدرس عند شيخه الشيخ سليمان»(١).

الحياة والنشأة :

وأمّا فيما يرتبط بنشأته فذكر أنّه أمضى مرحلة طفولته تحت إشراف جدّه الشيخ إبراهيم الذي كان يعمل في تجارة اللؤلؤ ، واتّخذ هذا الجدّ للحفيد معلّماً للقرآن وتعليم الكتابة في المنزل ، ثمّ بعد ذلك لازم الدرس عند والده ، والتزم أبوه ـ الذي كان على مسلك المجتهدين ومخالفاً بشدّة للأخباريّين ـ بتربيته العلمية.

قال في اللؤلؤة : «ورُبيت في حجر جدّي المرحوم الشيخ إبراهيم قدّس الله روحه ، وكان مشغولاً بأمر الغوص والتجارة في اللؤلؤ ... وانتحلني وربّاني وجعل لي معلّماً في البيت للقرآن وعلّمني الكتابة ... ثمّ لازمت الدرس عند الوالد قدّس سرّه ، إلاّ أنّه لم يكن لي يومئذ رغبة تامّة لغلبة جهالة الصبا ، وقرأت على الوالد كتاب قطر الندى وأكثر ابن الناظم»(٢).

وتزامنت حياة الشيخ يوسف البحراني مع أحداث مهمّة ملؤها البلايا

__________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٤٤٢.

(٢) لؤلؤة البحرين : ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

٢٣٨

والرزايا والفتن والمحن ممّا جعلته دائم الانتقال من مدينة إلى أخرى ، ففي بداية طفولته عايش الحروب القبلية بين قبيلتي الهولة والعتوب ، كما دارت حروب بين القوّات العمانية والإيرانية ، كما وعاصر الشيخ أيّام سقوط الحكومة الصفوية وانقراضها في إيران.

الهجرة إلى الحجاز :

في بداية الأمر هاجرت أسرته إلى معقل الشيعة القطيف على إثر الهجمات المتتالية لسلطان عُمان (الخوارج آنذاك) على البحرين ، وبقي هو في البحرين لحفظ ما في خزانة والده من كتب ، حيث كان والده قد كلّفه بجمع ما يمكنه جمعه من الكتب التي انتهبها الغزاة، ومن ثمّ إرسالها إليه ، لكنّه بعد السيطرة الكاملة للمهاجمين واحتراق منزل العائلة ترك البحرين والتحق بالأُسرة ، وبوفاة والده بعد أشهر من وصوله للقطيف تولّى مسؤولية رعاية أسرته، وكان عمره حينها يناهز الرابعة والعشرين عاماً ، وبقي في القطيف لمدّة سنتين تتلمذ خلالهما على يد الشيخ حسين الماحوزي (ت١١٨١هـ) الفقيه المجتهد والمعارض لـلنهج الأخباري

الهجرة إلى إيران :

وبعد المصالحة بين حكومتي إيران وسلطنة عمان وتحرير البحرين عاد إلى الموطن ودرس عند العلماء هناك لعدّة سنوات ، وأخيراً بعد عودته من فريضة

٢٣٩

الحجّ وتوقّفه في القطيف، اضطرّ أن يسافر إلى إيران بسبب الضغوط المالية واضطراب الأوضاع الداخلية في البحرين ، وذلك بعد سقوط الصفوية ومقتل السلطان الصفوي سنة (١١٤٠هـ).

ثمّ بعد إقامته القصيرة في مدينة كرمان سافر إلى شيراز التي حظي فيها باحترام حاكمها محمّد تقي خان وتكريمه له ، فتمكّن من قضاء عدّة سنوات مستقرّة وهادئة اشتغل فيها بالتدريس والتأليف وتأدية المهامّ الدينية.

جاء في اللؤلؤة : « ... ثمّ رجعت إلى البحرين وضاق بي الحال لما ركبني من الديون التي أوجبت لي الهموم بسبب كثرة العيال وقلّة ما في اليد ... ففررت إلى بلاد العجم وبقيت مدّة في كرمان ، ثمّ رجعت إلى شيراز ، فَوفَّق الله سبحانه فيها بالإكرام والإعزاز ، وعطف الله سبحانه على قلب سلطانها وحاكمها يومئذ ، فأكرم وأنعم ، جزاه الله تعالى بالإحسان»(١).

الإقامة في فسا :

اضطربت أوضاع شيراز الداخلية هذه المرّة ، فاجتيحت المدينة في العامين (١١٥٦هـ و ١١٥٧هـ) ، فتوجّه الشيخ إلى قصبة فسا آنذاك حيث أكرمه حاكمها وحظي فيها أيضاً بالطمأنينة وراحة البال ، وبقي فيها لمدّة قضاها في التأليف والتحقيق وبالزراعة لتحصيل الرزق ، وهناك بدأ في تاليف كتابه الحدائق وأوصله إلى باب الأغسال ، لكن ما لبث أن هاجم المدينة عليمردان سنة (١١٦٥هـ) وقتل

__________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٤٤٤.

٢٤٠