من علم النفس القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم النفس القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٠

والسكينة عند المؤمنين ، ومن هنا كان وصفهم الخاطئ للدين بأنه أفيون الشعوب ، والحقيقة أنه سعادة الشعوب. أما الإلحاد ، فهو سبب الشقاء والقلق والتعاسة التي تلف الأفراد والمجتمعات ، غير المؤمنة اليوم ، مهما بلغت من رقي مادي.

بعض الأدلة القرآنية :

أولا : فرّق القرآن الكريم بين النفس والبدن ففي قوله تعالى مخاطبا فرعون الخروج الذي لحق بسيدنا موسى وأغرقه المولى في البحر نجد أن نفس الفرعون قد ماتت مصداقا لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). أما بدن الفرعون فقد قضت حكمة المولى أن تبقيه منذ ثلاثة آلاف سنة ونيف إلى يومنا هذا ، ليكون بدن الفرعون آية وبرهانا ماديا محسوسا قاطعا للذين يأتون بعد الفرعون ، على صدق التنزيل ، فبدن ، أي مومياء الفرعون الذي لحق بموسى موجود حتى اليوم في متحف القاهرة بمصر.

نقرأ في سورة يونس : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (يونس : ٩٠ ـ ٩٢). وسبحان الذي لا تبديل لكلماته. فلقد غفل أكثر الباحثين في القرآن الكريم عن معاني هذه الآية في العمق إلى أن أتى الدكتور «موريس بوكاي» كما أشرنا سابقا ، في أواخر القرن العشرين ، ليحقق علميا وتاريخيا في كل كلمة من هذه الآيات ويؤكد صدقها. وقد نشر ذلك في كتابه القيم : «التوراة ، الإنجيل ، القرآن والعلم» ، فليرجع إليه من يريد الزيادة. بالإضافة إلى ذلك تجدر الإشارة إلى أن التحنيط أي حفظ الأبدان لا يصح ويثبت إلا باستخراج وطرح الدم والسوائل التي تكونه أو تنشأ عنه ، وفي ذلك دليل علمي آخر على أن النفس غير البدن ، علما أن الأبدان

٤١

وكل شيء سيفنى ويموت مع مرور الزمن ، إذ ثبت اليوم علميّا أن كل الأشياء تفنى وتندثر مصداقا لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

ثانيا : والنفس ليست الروح كما اعتقد وكتب الكثيرون : وإلا فما الذي يصعد إلى البرزخ عند الموت إذا كانت النفس هي الروح (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ومن يطلب من المولى الرجوع إلى الحياة بعد الموت إذا كانت النفس هي الروح (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠).

وإذا كانت النفس هي الروح فما هو الذي يعرض على النار من آل فرعون بعد موتهم في قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (غافر : ٤٦) ، وبما ذا تزوج النفس يوم البعث إذا كانت هي البدن أو الروح في قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)؟

فالروح هي الجوهر المسبب والمحرك الأول لكل حياة ، والعقل المفكر وآلته الدماغ الإنساني هو الذي أعطاه المولى السيادة والذي يجب أن يسيطر على الدماغ الحيواني فينا والذي بواسطته تحقق النفس نزواتها وأهواءها. (في دماغ الإنسان مراكز تسمى بالدماغ الجديد أو الدماغ المفكر ، ومراكز تسمى بالدماغ الحيواني مصدر الانفعالات والظواهر النفسية والعضوية من غضب وحبور ولذة وتعاسة وقلق وطمأنينة وغيرها).

نحن نعتقد من زاوية إيمانية قرآنية أن الروح مركزها الرئيسي في الصدر والقلب ، ومن القلب تتوزع الروح بواسطة النفس أي الدم إلى كل خلية من

٤٢

خلايا البدن فتبعث فيها الحياة ، ومن هذه الزاوية نستطيع أن نفهم شيئا من أسرار الآيات الكثيرة التي وردت فيها كلمة القلب والصدر ، فالله يبتلي ما في صدورنا ويمحص ما في قلوبنا (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) (آل عمران : ١٥٤) ، وينزل سكينته في قلوبنا (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ). ونحن نفقه بواسطة قلوبنا ويطبع ويختم على قلوبنا : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها). (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ). (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، ولو لم يودع المولى في هذا العضو الكثير من أسراره كالروح والإيمان وغيرهما لما كرمه هذا التكريم.

بكلمة مختصرة قريبة من الأذهان : إن القلب الذي تسكنه الروح وأسرار إلهية أخرى هو محطة البث والإرسال الرئيسية في الجسم والنفس أي الدم ، هي موجات الأثير التي ينتقل عليها ما يبثه القلب إلى الدماغ المفكر الذي يشكل شاشة الاستقبال والتوزيع إلى مختلف بقية أعضاء الجسم. وإذا اختلت محطة الإرسال والبث اختلت وظيفة بقية أعضاء الجسم ومن هنا أهمية القلب ليس من الناحية العضوية ، ولكن من الناحية الروحية أيضا ولقد وردت كلمة القلب في القرآن الكريم في مائة واثنتين وثلاثين آية كريمة تدليلا على أهميته عند الإنسان.

ولا نستطيع أن نفهم العوارض والانفعالات والأمراض النفسية ومسبباتها وانعكاساتها العضوية في الجسد وتأثير الروح والعقل سلبا أو ايجابا في كل هذه المظاهر النفسية ـ العضوية إلا إذا سلمنا ، وحسب الهدي القرآني ، أن في الإنسان نفسا وعقلا وروحا ، وأن الروح هي العلة الأولى ، وسبب الحياة ، هي الجوهر ، وهي تتفاعل تفاعلا وثيقا حميما مع العقل والنفس ، التي هي مصدر جميع الانفعالات والظواهر النفسية وما يتبعها من انعكاسات عضوية بالجسم ، وبقدر ما نسمو بالجوهر ونبتعد به عما نهى عنه

٤٣

الله بواسطة العقل المفكر ، تصفو الروح وترتاح النفس وتكون عواطفنا وانفعالاتنا النفسية وانعكاساتها العضوية سليمة وصافية وبعيدة عن المظاهر المرضية.

وكل المدارس والنظريات المادية التي لا تعترف بالروح ، لم تستطع أن تفهم أو تشرح في العمق الظواهر النفسية ، ولذلك لم تجد حتى الآن الدواء الشافي لها لأنها أهملت حلقة رئيسية في ترابط النفس والجسد أي الروح ، والثلاثة أي الروح والنفس والجسد هي ، تسلسلا ، علة ومصدر ومسرح الظواهر النفسية ويتأثر بعضها ببعض سلبا أو ايجابا.

٣ ـ تعريف النفس في علم النفس الوضعي

لم نجد للنفس في كتب العلوم النفسية التعريف الذي يرضي ، وإنما حاول كل صاحب مدرسة نفسية أن يعرفها حسب نظرته الفلسفية الشخصية إلى الأشياء ، ولقد بقي المهتمون بعلم النفس وحتى منتصف القرن العشرين ينظر أكثرهم إلى النفس والعلوم النفسية على أنها أشياء غير مادية إلى أن تبين لعلماء الكيمياء العضوية أن كل القوى العقلية والانفعالات والتصرفات التي ندرسها اليوم تحت اسم الظواهر والأمراض النفسية والعقلية ما هي إلا نتيجة لتداخلات ومؤثرات مادية بواسطة مواد بيوكيميائية تفرزها مجموعات من الخلايا وتصب كلها في الدم أو السوائل الناشئة منه والذي ينقلها بدوره إلى مختلف أعضاء الجسم التي ستكون مسرح الانفعالات والتصرفات التي ندعوها بالنفسية ، سواء كانت هذه الظواهر سليمة أو مرضية من حبور وسرور وانشراح أو غضب وخوف وقلق وهلوسة وضياع.

ولقد اكتشف العلم منذ بدء الستينات مئات المواد الكيميائية في داخل الجسم وخارجه وكلها تتحكم في الظواهر والأمراض النفسية ، وتنتقل أو توجد أو تصب في الدم الذي ينقلها إلى مختلف أعضاء الجسم التي ستكون

٤٤

مسرح العوارض النفسية ، وهكذا تتضح الصورة تدريجيا ، فإذا عرّفنا النفس بأنها الدم ، فهذا التعريف الموجز الجامع البسيط هو ما بدأ العلم بإثباته ، وهو ما فهمناه من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة التي ذكرت فيها كلمة النفس ، والله أعلم.

٤ ـ وقفة علمية مع آية كريمة في النفس

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) (الشمس : ٧).

إنها آية قسم ، ولقد درسنا آيات القسم في القرآن الكريم ، فوجدنا أن المولى عز وعلا ، أقسم بكل مخلوقاته (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) تنبيها للقارئ العاقل ليفكر في عظمة صنعة البارئ ، لأن كل مخلوق من مخلوقات الله من الذرة إلى المجرة هو إعجازي متقن الصنع (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ). ولقد خصّ المولى بعض مخلوقاته ومنها النفس ، بالقسم ، وفي هذه الآية قسمان وليس قسما واحدا ، فالمولى يقسم بالنفس ككل أولا ثم بما تتألف منه من مكونات «سوية» ثانيا ، وسبحانه لم يخلق شيئا إلا كان سويّا أي في غاية التمام والكمال والإبداع (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى).

ومن الحق علينا ، أن نشرح للقارئ وبمنتهى التبسيط والاختصار المعاني العلمية التي تكمن في هذه الآية الكريمة فلا شيء يثبّت المؤمن في إيمانه ، ويجعله يتعلق بكتاب الله الكريم ويلتزم بتعاليمه ، كتدبر آياته وفهمها فهما علميا في العمق (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).

١ ـ النفس بمعنى الدم ككل :

يحوي جسم الإنسان بين خمسة وستة ليترات من الدم تجري في شبكة توزيع مؤلفة من الشرايين والأوردة والأوعية الشعرية هي من الامتداد والتشعب بحيث توصل الدم وما يرشح منه من مكونات إلى كل خلية من

٤٥

خلايا الجسم الإنساني وعددها ما يقرب من مائة ألف أو مليون خلية ولقد قدروا أن هذه الشبكة التي يجري فيها الدم يبلغ طولها تقريبا إذا وضعت في خط مستقيم ما يقرب من مائة ألف ميل!

الدم هو موسوعة ، بل مجموعة موسوعات ، من المواد الكيميائية ، التي يتطلب درسها والكتابة عنها عشرات الموسوعات الطبية في علم الكيمياء العضوية ، وعلم الوراثة وعلوم الأمراض وغيرها ، ويكفي أن نذكر بأن دم الإنسان يحتوي تقريبا على خمسة وعشرين بليون كرة حمراء يهلك منها في كل ثانية مليونان ونصف من الكريات يجددها تلقائيا مخ العظام ، كما أنه يحتوي على ثلاثين مليون خلية بيضاء ، هي جنود الجسم وعدته في المناعة والدفاع ، وهناك أيضا ما يقرب من مليار صفيحة لها الدور الرئيسي في تخثر الدم.

أما مكونات الدم الكيميائية فاللائحة لها تطول كل يوم إذ تتعدى المئات بل الآلاف من المواد الكيميائية المعقدة ، وبمقدور المختبرات اليوم أن تفحص وتزن القليل منها وتجعلها فحوصات روتينية في متناول الجمهور.

كشف علم الوراثة منذ سنوات فقط ، أن بصمات الأصابع ليست وحدها التي لا تتشابه عند مختلف الناس ، بل إن الدم أيضا يختلف باختلاف الأشخاص ، فلا يوجد دم عند شخص مشابه لدم إنسان آخر من الوجهة الوراثية إلا عند التوائم الصحيحة ، علما أن إعطاء أي مريض دما من فصيلة دمه لا يعني قطعا أنه يتشابه معه تماما. ومن هنا نفهم العمق العلمي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء : ١) فمن نفس واحدة ، هي نفس سيدنا آدم خلق المولى عشرات المليارات من الأنفس التي تختلف عن بعضها البعض وعن النفس الأم المصدر. وقد تبين ذلك لعلماء الوراثة حديثا ، فاحتمال

٤٦

تشابه شخصين من الوجهة الوراثية البحتة هو احتمال جزء من الرقم عشرة مسبوقا بأربعين صفرا (٤٠* ١٠ / ١) من هنا نفهم في العمق معنى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار : ٦ ـ ٨) ولقد قضت حكمته تبيانا لقدرته في الخلق أن لا يتشابه أي مخلوق من مخلوقاته مع آخر ومنذ بدء الخليقة وإلى قيام الساعة وهذا ما كشفه علم الوراثة في النصف الأخير من القرن العشرين.

٢ ـ بعض التفاصيل العلمية لمكونات الدم :

أي الشرح العلمي لقوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها).

أ ـ كريّة الدم الحمراء :

قطرها يبلغ سبعة ميكرونات (الميكرون يساوي جزءا من الألف من المليمتر) ، ولها من الخاصية بحيث أنها تتكيف لتصل إلى أوعية شعرية هي أصغر منها قطرا ، حاملة إلى كل خلية من خلايا الجسم الأوكسجين ، كما تخلصه من فضلات الاحتراق أي ثاني أوكسيد الكربون ، في رحلة تقطع فيها في خلال حياتها التي تدوم مائة وعشرين يوما مسافة ١١٥٠ كيلومترا تقريبا وبمعدل دورة دموية يوميا تقريبا ، أما ما تتألف منه كريّة الدم الحمراء فنذكر فقط بأن الخضاب (hemoglobine) الذي يؤلف المادة الكيميائية الرئيسية فيها والمولجة بنقل الأوكسجين واستخراج غاز ثاني أوكسيد الكربون يتألف من أربعمائة وخمسين حامضا أمينيا ، أمضى آلاف العلماء من المختصين بالكيمياء البيولوجية وعلوم الدم الوراثية معظم سني حياتهم في دراسته وما يزالون كل يوم يكتشفون في هذه الكريّة العجيبة وفي خضابها خصائص وأمراضا جديدة.

أ ليست هذه الكريّة الحمراء هي التي أقسم بها المولى ، من بين ما أقسم له بقوله : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أو بقوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) أي

٤٧

الأشياء المختفية عن العين المجردة ، (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي التي تجري في الجسم وتكنس خلاياه من فضلات الاحتراق الذي يحصل داخل الخلايا. فهناك أشياء «خنس وكنس» داخل الجسم كما رآها الأطباء ، وخنس وكنس كما رآها العلماء في الكون. ولنا وقفة علمية مطولة عند التعليق على قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) في كتيب لا حق إن شاء الله تعالى.

ب ـ خلية الدم البيضاء :

إنها من أعاجيب مخلوقات الله هذه الخلية البيضاء والتي لا يتجاوز قطرها خمسة عشر جزءا من الألف من المليمتر ، مع ذلك فقد جهز المولى هذه الخلية البيضاء وخاصّة ما يسمى بالخلايا البيضاء القاتلة ، وخلايا «ب» بخاصية ميزة الاستكشاف والإنذار والمهاجمة والقتل والتحصين ضد كل عدو خارجي يهاجم الإنسان وكذلك بالنسبة لبقية الأحياء. ويقدر العلماء أن «الرادار» الذي تتمتع به الخلية البيضاء القاتلة يستطيع أن يكتشف مئات الملايين وحتى بضعة مليارات من الأجسام الغريبة التي تدخل الجسم خلال دقائق أو ساعات ، ثم ينذر الخلية البيضاء «ب» فيأمرها بفرز أجسام المناعة الخاصة ضد كل دخيل في نفس الوقت الذي تتجه فيه لملاقاته ومقاتلته ، أليست خلايا الدم البيضاء التي تكشف كل دخيل على الجسم وتتعقبه وتهاجمه وتقتله كي تحفظ الجسم هي من بين ما رمزت إليه الآية الكريمة : (لَهُ) (أي للإنسان) (مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) (أي معقبات نراها كخلايا الدم وغيرها مما يحفظ الإنسان) (وَمِنْ خَلْفِهِ) (أي معقبات لا نراها كالملائكة المولجة بحفظ الإنسان) (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (الرعد ١١) والله أعلم.

مرة أخرى نردد على مسمع المنكرين لوجود الخالق : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) عشرات الآيات تتحداهم علميّا منذ التنزيل : (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (الطور : ٣٥) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما

٤٨

تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (الأحقاف : ٤).

وفي الدم أيضا نوع آخر من الخلايا البيضاء وظيفتها رفع القمامة وتنظيف الجسم من بقايا الجثث التي تتركها معارك الخلايا البيضاء مع المكروبات والأجسام الغريبة عن الجسم ، أو ليست هذه الأنواع من الخلايا البيضاء وهي التي تقوم بدور عامل التنظيف في الجسم ، بالتي أقسم عليها المولى من بين ما أقسم به بقوله (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) ما دامت تجري ليل نهار لتكنس كل جزء من أجزاء الجسم من جثث الخلايا الميتة من مكروبات وغيرها؟ الله أعلم.

٣ ـ «وكل شيء فصلناه تفصيلا» :

هذه بعض التفاصيل المبسطة لما تتألف منه خلية الدم البيضاء ، علنا نتفهم في العمق معا بعد المعنى العلمي في قوله تعالى (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها).

يغلف الخلية غشاء خلوي سمكه لا يتجاوز ١٢٠ ـ ١٤٠ أنغستروم (الأنغستروم هو جزء من مليون من الميلمتر الواحد) وهو شبه «منخل» ذكي إذ ترشح منه المواد الكيميائية إلى داخل الخلية وخارجها بصورة منظمة وفقا لحاجات الخلية ، والتي تتغير كل ثانية وفقا لحاجات الجسم ومتطلباته.

ما بين الغشاء الخلوي ونواة الخلية توجد الهيولى الخلوية وهذه تحوي في ما تحوي خمسمائة ألف جسم ريبي (نوع من المواد الكيميائية العضوية) و ٥٠٠ مليون ذرة أنزيمية.

النواة الخلوية هي مركز الرئاسة وتنظيم الأمور في الخلية ، تحتوي في ما تحتوي على ثروة وراثية مختصة بكل إنسان ، وهي لا تتشابه تماما مع أي مخلوق آخر إلا عند التوائم الصحيحة المتكونة من بيضة ملقحة واحدة.

هذه الثروة الوراثية تتألف عند الإنسان من ست وأربعين صبغية

٤٩

(Chromosome) وكل صبغية تحمل ما بين ١٠ ـ ١٥ ألف مورثة (gene) وكل مورثة هي مادة كيميائية تتألف من مائة مليار ذرة مختلفة التركيب ، وفي أبسط ذرة من هذه الذرات ذرة الهيدروجين عشرات الجسيمات ، وكل جسيم هو علم قائم بذاته كالإلكترون والبروتون والنيوترون والكوراك وغيرها من جسيمات لم يكتشفها العلم حتى الآن.

والجسم الإنساني يتألف من مائة ألف مليار خلية حية. ففي حساب بسيط : إن قسما فقط من خلايا جسم الإنسان مجتمعة يحتوي من الذرات ما عدده التقريبي طبعا (١٥* ١٠) * ٠٠٠ ، ٥٠٠* (١١* ١٠) أي الرقم خمسة وعشرون مسبوقا بواحد وثلاثين صفرا ، علما أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الإنسان بمعنى التعقيد وبديع الصنعة (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). فلا نملك أمام هذه المعطيات البسيطة التي اكتشفها العلم وأوجزناها بأبسط التعابير إلا أن نردد بخشوع كلي (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

الحمد لله الذي صدقنا وعده (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ، ومع هذا نقرأ ونسمع من يجادل في الله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ).

هذه النفس الدم التي خلقها الله سوية في أحسن تقويم ، ككل شيء خلقه ، ما كان لينتقل بواسطتها ما ينتقل من أمراض وراثية (ثلاثة آلاف مرض وراثي حتى الآن) أو غير وراثية ، وما كان لينتج عنها ما ينتج من أهواء وانفعالات مؤذية وأمراض نفسية ، لو زكاها الإنسان بعد أن عرّفه الله ما يصلح لها وما يفسدها (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) والعلم اليوم يبين أن أكثر الأمراض النفسية والعقلية والتشوهات الخلقية والعضوية هي نتيجة لما قدمت يد الإنسان من آثام وأخطاء وكلها تترك آثارها السلبية في نفسه (أي دمه)

٥٠

وتنتقل إلى ذريته القريبة والبعيدة : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين : ٤ ـ ٦).

كلمة أخيرة :

أقسم المولى بأحد عشر قسما في سورة الشمس (وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها. وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها. وَالسَّماءِ وَما بَناها. وَالْأَرْضِ وَما طَحاها. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ...) (الشمس : ١ ـ ١٠) على أن الإنسان مخير بين التقوى والفجور في معتقده ، مع ذلك فهناك من لا يزال يناقش في موضوع الاختيارية والجبرية في الإسلام مع أنه محسوم منذ التنزيل بحرية الاختيار بين الفجور والتقوى من قبل العبد بما خص المعتقد ؛ وتحضرنا هنا كلمة جميلة للحسن بن علي رضي الله عنهما في هذا الموضوع إذ يقول : «من حمل ذنبه على ربه فقد فجر. إن الله تعالى لا يطاع استكراها ولا يعصى بغلبة فإن عمل الناس بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما عملوا وإن عملوا بالمعصية فليس هو الذي أجبرهم ، ولو أجبرهم على الطاعة لأسقط الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لأسقط العقاب ، ولو أهملهم لكان عجزا في القدرة ، فإن عملوا بالطاعة فله المنة عليهم وإن عملوا بالمعصية فله الحجة عليهم».

٥ ـ المستقر والمستودع

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (الأنعام : ٩٨).

الدم يمد أنسجة الجسم بالكريات الحمر والبيض ، فهو إذن مستودع بالنسبة لهذه الأنسجة ، والدم هو أيضا مستقر لكثير من المواد الكيميائية التي

٥١

تظل نسبتها مستقرة فيه كالسكر والبروتينات والبولة الدموية والأملاح البولية وغيرها ، فنسبة السكر في الدم هي مستقرة أيضا بمعدل غرام واحد في كل ليتر دم ، وكلما زادت هذه النسبة أو نقصت بحكم عمل الجسم واستهلاكه للسكر ، تدخّل الكبد والعضلات لإمداد الدم بكمية السكر الناقصة لتبقى نسبته مستقرة في الدم ، وبالعكس فإن زادت كمية السكر في الدم بحكم تناول الكثير من السكاكر وعدم حرقه ، تتدخل الهرمونات الموكلة بذلك ، فتودع النسبة الزائدة في الكبد والعضلات.

والدم هو المستودع الذي يمد كل خلايا الجسم وأعضائه بما يلزمه من مواد غذائية ومنشطات وهرمونات ومواد كيمائية ، لذلك فإن هذه الآية الكريمة لا يمكن أن نتبين شيئا من أبعادها العلمية إلا إذا عرّفنا النفس بأنها الدم ، وأن الجسد وعاؤها ومسرح انفعالاتها ، وقد يسر المولى تفصيل بعض معانيها للذين يفقهون ، أي للعلماء. والواجب يقضي علينا بأن نحاول أن نختصر ما أمكننا فهمه ونبسطه بصورة قريبة من أذهان القارئ العادي.

١ ـ أنشأ الخالق العظيم كل النفوس الإنسانية ، من نفس سيدنا آدم ، فجعل فيها المستقر والمستودع وجاءت علوم الخلايا والأنسجة والكيمياء العضوية ووظيفة الأعضاء لتبين اليوم أن في النفس الإنسانية وقد عرّفناها بالدم ، يوجد مستقر ومستودع لآلاف المواد الكيميائية ، كما أن علم دراسة الخلايا يبين أن في كل خلية حية موادّ مستقرة ، وأخرى مستودعة بشكل احتياط وظيفتها تأمين الاستقرار والنّسب شبه الثابتة للمواد الأولى كلما تغيرت هذه وفق متطلبات عمل الخلية ، (والدم الذي عرّفناه بالنفس من مركباته كريات الدم الحمراء والبيضاء والصفائح).

وفي الدم خلايا متخصصة مستقرة هي الكريات الحمراء والبيضاء ، وبالرغم من أن الجسم يفقد في كل ثانية مليونين ونصف من الكريات الحمراء فإن نقي العظام (لب العظام) يعوضها تلقائيا حتى تبقى نسبة الكريات الحمراء

٥٢

والبيضاء مستقرة في الدم ، وفي هذه الحالة الدم هو مستقر (١) الكريات الحمراء والبيضاء ونقي العظام هو مستودعها ، (لب العظام يدخل في تركيب النفس لأنه مصدر الكريات البيضاء والحمراء).

__________________

(١) لغويا : المستقر هو المكان الذي تستقر الأشياء فيه بنسبة محددة مثلا : الدم هو مستقر سكر الغلوكوز (glucose) الذي هو بنسبة غرام واحد في الليتر من الدم.

أما المستودع ، فهو المكان التي تستودع فيه الأشياء. أما نسبها وكمياتها فتتغير حسب العرض والطلب والحاجة وعدمها ، كنسبة الهرمونات في الدم التي تتغير حسب الحاجة وساعات الليل والنهار.

٥٣

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ)

صورة حقيقية لكريات الدم الحمراء والبيضاء وهي تجري ليل نهار حاملة الأوكسجين لكل خلية من خلايا الجسم في الوقت الذي تكنس أي تأخذ منها غاز ثاني أوكسيد الكربون الضار

٥٤

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)

إن «رادار» هذه الخلية الموجود في غشائها الخارجي وسمكه لا يتجاوز ١٢٠ ـ ١٤٠ من مليار من المليمتر يستطيع كشف مئات الملايين بل المليارات من الأجسام الغريبة عن الجسم وفي جزء من نواتها يوجد خمسون مليون مليار ذرة مختلفة

٥٥

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)

إصابة قاتلة لخلية الدم البيضاء في خلية سرطانية (خلية الدم البيضاء لا تزال سليمة في وسط الصورة أما خلية السرطان فأصبحت ميتة وأشبه بالشبكة)

٥٦

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)

خلية سرطانية (في أعلى الصورة) وقد اتجهت لمقاتلتها خلايا الدم البيضاء القاتلة

٥٧
٥٨

الفصل الثاني

القلق والخوف الطبيعي والمرضي

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ).

(المعارج : ١٩ ـ ٢٢)

«اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك».

من دعاء الرسول عليه‌السلام

«القرآن الكريم رسم للناس جميعا سبيلا يصلون فيه إلى هدف عظيم ألا يكونوا في مهب الريح».

ميخائيل نعيمة

٥٩
٦٠