من علم النفس القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم النفس القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٠

أما ما نقرأه في بعض كتب التفاسير من أن الرسول الكريم قد سحر وخالطه لبعض الوقت شيء من المس الروحي فهذا من الروايات الملفقة نقلها بعض المفسرين ، سامحهم الله ، في كتبهم. فالرسول الكريم هو كما وصفه التنزيل : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ).

وأما معنى الآية الكريمة التالية : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) التي اعتمدوها لمقولتهم هذه ، فنحن نفهمها بأن المولى يطلب إلى المؤمنين الالتجاء إليه من شر النفوس التي تريد أن تفصم عرى عقد المحبة والألفة بين الناس.

وبما أن لكل عموم خصوصا ، ولكل قاعدة استثناء ، فلقد سمح المولى لإبليس أن يمس نبيه أيوب بلاء منه ، ودرسا في الصبر لكل مؤمن : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).

وأما بقية المس الروحي كأذى العين الحاسدة ، فهو حقيقة لا ننكرها ما دام هناك نص قرآني صحيح في هذا المعنى (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) وفي الحديث الشريف : «العين حق». وما على الإنسان إذا تخوف من المس الروحي إلا اللجوء الصادق إلى المولى من خلال الالتزام بتعاليمه. والمعوذتان من آيات الشفاء للمؤمنين من المس الروحي إذا تسربت لأنفسهم هذه الأفكار الوسواسية وغالبا ما تتسرب ، علما أن المس الروحي الصحيح هو حالات نادرة جدا إذ لم نستطع أن نقع خلال عشر سنوات على أي حالة حقيقية ، كما أن أكثر الذين يمارسون تجارة الطب الروحي في لبنان هم حسب خبرتنا من المشعوذين والمرضى النفسيين ، والله أعلم بهم ولله الحمد.

١٢١
١٢٢

الفصل السادس

مفهوم المصيبة على ضوء الهدي القرآني

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا).

(قرآن كريم)

«لا تصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما بعفو الله عن أكثر»

(حديث شريف ـ رواه الترمذي)

«كل مصيبة تصيبني في مدرسة الدهر ولم تقتلني فهي قوة جديدة لي».

١٢٣
١٢٤

أن يفهم الإنسان معنى وهوية المصيبة التي قد يتعرض لها في حياته الدنيا هذه ، وهي حياة بلاء واختبار وتكليف ، هو برأينا في طليعة الأسباب التي تؤمن له الراحة النفسية والسعادة ، ولم نجد من خلال دراستنا النظرية لمختلف المدارس الفلسفية والنفسية والاجتماعية ، وتجربتنا المهنية ، منهجية عقلانية متكاملة تستطيع أن تعطي المعنى العقلاني المقنع ، لتقبل المصيبة مهما كان وقعها ، كالمنهجية التي نستطيع استخلاصها من خلال القرآن الكريم والحديث والسنة الشريفة.

ولقد حاول بعض المستشرقين ، وأعداء الإسلام ، النفاذ إلى الدين الإسلامي من زاوية استسلام المؤمن إلى مشيئة الله وقدره ، وهم لو فهموا أو عقلوا معنى مشيئة الله وقضائه وقدره ، لوجدوا أن أحد الأسباب الأساسية للطمأنينة النفسية عند المؤمن الحق هو في فهمه الصحيح لمعاني مشيئة الله وقضائه وقدره ، وهي تعني السعي والعمل وتحصيل العلم والأخذ بالأسباب ، والفهم النيّر العميق للنصوص الإلهية والعمل والالتزام بمضامينها.

وسنعرض في هذا الفصل لمعاني المصيبة وهويتها ، وهي ذات صلة

١٢٥

وثيقة بنفسية الإنسان وتصرفاته. وقد خاض فيها كثيرون من الباحثين ، فضاع بعضهم في متاهاتها وأوضاع القراء ، وشوهها بعضهم وأساء إلى الدين الإسلامي من حيث لا يدري ، واستغلها البعض للّمز من الإسلام.

إن البحث في هذا الموضوع ، وعلى ضوء الهدي القرآني والأحاديث ، هو من أجمل الموضوعات وأمتعها ، وتبسيط المصيبة وتقريبها من ذهنية المؤمن هو برأينا من الواجبات الدينية التي تفتح للمسلم آفاقا واسعة تساعده في الوصول إلى الراحة النفسية والسعادة.

من خلال تجربتنا المهنية مع المرضى سواء كانوا نفسيين أم عضويين وغالبا ما تتداخل العوامل النفسية والعضوية في تأثيرها المرضي عند الإنسان ، ومن خلال الحديث مع أهلهم ومن يعنى بهم ، (وعناية الأهل بالمريض وخاصة النفسي وإحاطته بالاهتمام والرعاية شرط أساسي وضروري لشفائه) وجدنا أن شرح معنى المصيبة سواء كانت مرضا خطيرا قاتلا أم مزمنا غير قابل للشفاء ، ومن زاوية إيمانية ، هو من أهم الضرورات العلاجية النفسية ، التي تساعد المريض ، والأهل على تقبل المصيبة المرضية التي حلت بهم بل والرضا بها.

وللمصيبة ثمانية معان : هي بلاء أو غفران أو جزاء أو دواء. هي من نفس الإنسان أو من جهله أو من غيره أو لخيره.

١ ـ المصيبة كبلاء

هي أولا بلاء أي اختبار وامتحان لإيمان الإنسان وصبره. من خلالها يميّز المؤمن الصادق من المزيف المخادع : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (أي يختبرون ويمتحنون). (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَ) (بمعنى فليشهدن) (اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ). (العنكبوت : ٢ ـ ٣) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا)

١٢٦

يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران : ١٤٢) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (الحج : ١١) ، والمولى ، علام الغيوب ، يعلم منذ الأزل الإيمان المزيف من الإيمان الصادق ، إنما تأبى عدالته إلا أن يشهد الإنسان على صدق أو كذب إيمانه من خلال المصيبة الاختبار حتى لا يكون له أية حجة يوم الدين.

٢ ـ المصيبة كغفران

وقد يتساءل المرء في نفسه : ولما ذا يبتلى المؤمن الصادق في إيمانه ما دام المولى يعلم صدق إيمانه؟ ربما ، والله أعلم ، لأن المؤمن الصادق يبتلى بلاء تكفير عن ذنوب وأخطاء سابقة : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) ، كما وأن المؤمن الصادق يبتلى بلاء تدليل وشهادة وتبيان ، للغير على صبره وصلابة وصدق إيمانه ، فالرسل والأنبياء والصالحون هم في طليعة المبتلين بالمصائب ليكونوا المثل الأعلى للناس في الشهادة على صدق الإيمان والصبر والتزامهم بما جاء في القرآن الكريم : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٧). (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (آل عمران : ١٨٦).

ولقد وجدنا ، حسب خبرتنا المهنية المتواضعة ، أن المؤمنين الحقيقيين ، وهم القلة النادرة ، ليسوا فقط صابرين على ما أصابهم من بلايا ،

١٢٧

بل في منتهى الراحة النفسية ونكاد نقول السعادة ، ف (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يبتلي المؤمن الحق على قدر احتماله وطاقته النفسية ، ويغفر له ويجزيه عن كل ما ابتلي به في هذه الدنيا أجمل الجزاء يوم الحساب. وروي عن الرسول الكريم قوله : «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» (الترمذي). وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال وسأفسرها لك يا علي : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم ، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه».

٣ ـ المصيبة كجزاء

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت : ٤٠). وروي عن الرسول الكريم قوله : «إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ). والمعنى الثالث للمصيبة أنها قد تكون جزاء عن أعمال غير صالحة قام بها الإنسان أو الجماعات. فالمولى يمهل ولا يمهل ، والظالم لا بد أن يلقى جزاء أعماله في الدنيا والآخرة (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ). وكل مسيء وظالم في هذه الدنيا يقرّ علنا أو ضمنا في قرارة نفسه بأن ما أصابه من مصائب في هذه الدنيا إن هو إلا الجزاء العادل بل الرحيم لما اقترفت يداه ، وإن أنكر هذه الحقيقة في العلن وبين الناس.

١٢٨

٤ ـ المصيبة كدواء

والمعنى الرابع للمصيبة أنها قد تكون دواء للفرد بإعادته إلى طريق الخير وسبل الإيمان : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). وكثير من الناس استشفّوا من خلال ما حل بهم من مصائب معنى ساميا قادهم إلى الإيمان الصادق. أما المكابرون ، ممن جعلوا آلهتهم أهواءهم وأضلهم الله على علم مسبق عنده بما في نفوسهم حاضرا ومستقبلا فلا فائدة ولا دواء لهم مما يصيبهم من بلايا في هذه الدنيا : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون : ٧٥ ـ ٧٦).

٥ ـ المصيبة كنتيجة لأوامر النفس الأمارة بالسوء

(المصيبة من نفسك)

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى : ٣٠).

يعرف أكثر الناس أن الزنى والخمر هما السبب لما يقرب من سبعين مرضا ومصيبة قد تحل بهم ، ورغم ذلك يشربون الخمر ، ويزنون عن سابق علم ومعرفة ، كما يعرف أكثرهم أن زواج الأقارب من أهم الأسباب في انتقال الأمراض الوراثية ، ومع ذلك يتزوجون من أقاربهم. وإن الإفراط في المأكل والمشرب هو من أهم الأسباب في ارتفاع الضغط الشرياني وتصلب الشرايين القلبية والدماغية ومرض السكري وتراهم مع ذلك متخمين في المأكل والمشرب. ولو اتبعوا تعاليم الهدي القرآني لما أصابهم ما كسبت أيديهم من أمراض : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (طه : ٨١) (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (الإسراء : ٣٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ

١٢٩

عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة : ٩٠) (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس : ٤٤) بل إن أغلب البلايا والمصائب التي تحل بالفرد والمجتمع هي نتيجة لما كسبت أيدي النّاس : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) .. (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم : ٤١).

٦ ـ المصيبة كنتيجة لجهل الإنسان

(المصيبة من جهلك) لذلك أمر المولى بالعلم وكرّم العلماء وحض الناس ممن لم يأخذوا حظا من العلم على سؤال أهل الاختصاص في كل باب من العلم ، وبالإعراض عن الجاهلين كي لا يقع الإنسان في المصائب نتيجة جهله أو جهل الآخرين وعدم أخذه أو أخذهم بالأسباب : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) .. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

وفي الحديث الشريف : «أغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامس فتهلك».

٧ ـ المصيبة قد تأتي من الغير

(المصيبة من غيرك) (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف : ٤٢).

يجد المتفكر الباحث في خصائص المخلوقات ، أن في كل ما خلق

١٣٠

المولى من مخلوقات ميزات خيرة وميزات مؤذية ، سبحان حكمته في خلقه التي لم يدرك كنهها إلا القلة القلة من «العارفين» ولقد أمرنا المولى أن نلتجئ إليه ، من خلال تعاليمه في كتابه الكريم لاتقاء البلايا والمصائب التي قد تأتي من الغير : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ. وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ. وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (الفلق) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس).

٨ ـ المصيبة قد تكون لخير الإنسان

(المصيبة لخيرك)

والمعنى الثامن للمصيبة أنها قد تكون لخير الإنسان ولكن عدم معرفة الإنسان بالغيب ، وبما سيكون عليه المستقبل يجعله يثور ويعترض على الواقع ، ويعجز عن فهم معنى البلية. ولو أيقن بما روي عن الرسول الكريم لاطمأنت نفسه : «لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع». ولو فهم بعد المعنى وعمق المقصد في حوار موسى مع العبد الصالح في سورة «الكهف» والتي تتكرر أحداثها بصور مختلفة كل يوم لشكر الله وحمده على بلائه.

لقد عجز منطق موسى عليه‌السلام ، وهو كليم الله ونبي من أولي العزم ، أن يفهم الحكمة من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، وكذلك أصحاب السفينة ووالدي الغلام ، أما عند ما تتكشف الحجب عن الحقيقة ويعلم أصحاب السفينة أنهم كانوا سيفقدون مصدر رزقهم لو لم يعبها العبد الصالح ، لأنه (كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) فسيقولون الحمد لله على هذا الضرر الذي كان لخيرنا. وكذلك بالنسبة إلى موت الفتى ، إذ كان موته رحمة به فقد دخل الجنة ، إذ قتله العبد الصالح قبل أن يبلغ سن الحساب ، ورحمة بوالديه المؤمنين والذي كان (يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً).

١٣١

كم من الآباء من الذين علقوا كل آمالهم في الحياة على ولد فخيب آمالهم وكان عدوّا لهم ، يتمنون لو أن قصة سيدنا موسى والعبد الصالح والغلام حصلت معهم ، أو لو كان على الأقل ابنهم العاق هذا مريضا من المعاقين والمتأخرين عقليّا كما نسمع عن لسانهم.

وهكذا إذا استعرض المؤمن بعين البصيرة مصيبة حلت به أو بغيره وتفهمها على ضوء هذه المقاييس القرآنية الثمانية لهوية المصيبة اطمأنت نفسه إلى مصيره حاضرا ومستقبلا وأبعد عنها القلق والخوف ، والثورة ضد الذات والغير والقدر ، فقدر الإنسان بيد الله الذي يغير فيه بحسب أعمال الإنسان إلا الأجل فلا تغيير فيه. فليتوكل الإنسان المؤمن ، توكلا صادقا ليس كيفيّا اعتباطيّا على العزيز الرحيم وسيرى أنه سيكون من المطمئنين السعداء ...

كم من مرضانا وأهليهم وبعد أن شرحنا لهم تدريجيّا ومن زاوية إيمانية معنى المصيبة في قوله تعالى (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (الحديد : ٢٢ ـ ٢٣) تقبلوا مصائبهم عن طيب خاطر بل رضى ودون استسلام يائس أو ثائر ضد ما يسمونه القدر ، فالمولى سبحانه وتعالى من صفاته أنه الحكم العدل الرحيم (لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) .. وإن لم يفهم المؤمن معنى المصيبة التي حلت به فهو سيعلم لاحقا معناها : فليصبر : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ، وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٢١٦).

١٣٢

الفصل السابع

المرتكزات والأسس للمعالجة النفسية

بواسطة الايمان أو طريقة السلوك الايماني العلاجي

١ ـ إنها تجربتي الشخصية

إنها تجربتي الشخصية مع الإيمان ، لقد درست الطب العام وتخصصت في الأمراض العصبية والعقلية والنفسية ، ودرست ومارست وتناولت مختلف الوسائل العلاجية من استرخاء وتنويم ذاتي ، وعقاقير مهدئة للأعصاب عليّ أجد في ذلك شفاء لقلقي النفسي من عقد الموت فلم أجد إلا فائدة وقتية. حاولت أن أغرق قلقي النفسي من عقد الموت فلم أجد إلا فائدة وقتية. حاولت أن أغرق قلقي النفسي وخوفي على مصيري بقصر الحياة هذه (لأنني لم أكن أوقن بحياة أخرى فاضلة) بالتعرف إلى شتى أنواع النشاطات التي يدعونها بالاجتماعية وهي في أكثرها أقرب إلى اللغو ومضيعة الوقت دون طائل ، فما ذا كانت النتيجة؟ ركض لاهث وراء ما كنت أعتقده السعادة ، وتبين لي أن كل ذلك لذّات آنية مصحوبة في أكثرها بالألم ، ومحاولات متكررة للهروب والتستر من عقدي النفسية وأهمها عقدة الموت ، من دون جدوى أو لبعض الوقت فقط ، إلى أن تبين لي أن سلوك الإيمان الصحيح هو الذي يعطي السعادة الحقيقية الدائمة والأمل المشرق والمطمئن بحياة أخرى أفضل من هذه الحياة الزائلة. فالإيمان العلمي المنهجي اليقيني بالله والتزام تعاليم كتابه وسنة رسوله هو الذي حللني من عقدي النفسية الدفينة وأولها عقد الموت

١٣٣

والخوف منه ، وعقد النقص والتعالي وحب الجاه والمركز ، وعقد همّ الرزق وخوف المستقبل وعقدة حب المال وعبادته!!!

أنام منذ عرفت الإيمان قرير العين لا خوف من موت بالسكتة القلبية أو بنزيف دماغي صاعق ، ولا خوف من تورم سرطاني في الدماغ أو شلل شقي ، أو إصابة برصاصة طائشة قاتلة أو بصاروخ مدمر ، ما دام الموت هو بيقيني منذ تمرست بسلوك الإيمان ، انتقال من حياة دنيا زائلة إلى حياة فضلى خالدة ، وإلى أن قضائي وقدري هو بيد المولى الذي جعلته وليي وهو أرحم الراحمين. وقد طمأنني في كتابه الكريم بأنه (يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) وأنه (كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) وأنه هو يحيي ويميت وأن (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) وأن (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) وأنه (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) وكل إنسان ، مهما كانت مهنته وعمره معرض في كل لحظة وخاصة عند ما يخلو لنفسه لأفكار تخويفية لا يجد حلّا جذريا لها إلا بالإيمان أو حلّا وقتيّا بأخذ المسكنات والمنومات والتردد إلى عيادات الأطباء.

لم يعد أولادي الثلاثة يشعرون بالخوف ، منذ أن عوّدتهم وهم صغار على الصلاة ، وشرحت لهم معناها ومعنى كلمة «الله أكبر» وبأنه أكبر وأقوى من أي شيء يخوفهم سواء أكان حقيقة أو وهما في أذهانهم ، لم يعودوا عرضة للنوم المتقطع ، أو الأحلام المزعجة أو الكوابيس ، أو القيام وسط الليل والاندساس في فراشي أو فراش والدتهم ، أو عدم القدرة على النوم إلا في فراش والدتهم وهي بقربهم حتى يناموا ، كما يفعل الأولاد ممن أعالج يوميّا ، ومنهم من يبقى على عدم القدرة على النوم إلا في فراش والدته حتى المراهقة ، وكلها أعراض تدخل في حقل اضطراب النوم عند الأطفال والأولاد وما أكثرها ، ولا شفاء لها إلا بوجود جو عائلي إيماني صحيح.

وولدي الأوسط ، عمره عمر الحرب الأهلية في لبنان تجاوز بنجاح

١٣٤

وشفاء تام ، الخوف الطبيعي من أصوات الرصاص والمتفجرات الذي فرضته ظروف قاهرة ظالمة ، بعد أن شرحت له من واقع ديني إيماني معنى الموت ، ومصيره بعد الموت ، وكيف أن طاعة الله والصلاة تنجيه وتحميه من كل ما يخيف ، فأصبح لدى سماع أية انفجارات وما أكثر ما سمعها ، يصرخ «الله أكبر» .. (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) وكأن هذه الكلمات هي السحر العجيب لكل ما كان يعانيه من آثار الخوف من اضطراب ورجفة واصفرار في الوجه وتسارع في ضربات القلب وضياع حتى فقدان الوعي ، على حين أن الكبار ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، تراهم يتسارعون إلى الملاجئ خوفا ورعبا ، وهو يضحك بعفوية وطيبة صائحا بهم : «صلوا ما بتعودوا تخافوا»!!!

أجل لقد تخلصت وبفضل الإيمان وأنا على أعتاب الخمسينات من العمر ، مما هو برأيي منغّص في كل دقيقة أو ثانية لحياة الفرد العادي ، عنيت بذلك حرقة الطلب في طلب الحصول على «الأشياء» أو التعلق بها. فلا المال ولا اللذات ولا الجاه ولا المركز ولا الأولاد يسعدوني أو أسعدوني ، كل ذلك متاع زائل ، ولكن التسليم لله والإيمان به وبكل ما قضى وشرّع ، جعلني سعيدا راضيا في دنياي الحاضرة ، قرير البال بالنسبة لغدي ومماتي وما بعده!!

لقد أوصلني إلى الطمأنينة ـ (أي السعادة) ، سلوكي لطريق الإسلام الصحيح ودراستي علميّا لتعاليمه وتطبيقها ، فوجدت بعد الممارسة أني في الطريق الذي يسعد ، فبدأت منذ سنوات بإرشاد أصدقائي ومرضاي المتعبين نفسيّا وجسديّا إليه ، إلى طريق الإيمان الصحيح ، طريق السعادة. وآمل في هذا الكتاب أن أعمم التجربة لمن أراد أن يؤمن : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).

٢ ـ إنها تجربتي المهنية مع الإيمان

قبل أن أرتمي في أحضان الإيمان وأجد السعادة ، مارست الطب العام

١٣٥

والطب العصبي والنفسي خلال خمس عشرة سنة ، وذهلت خلال ممارستي هذه من العدد الكبير للمرضى الذين يطرقون عيادتي أو يدخلون المستشفيات ، لعوارض تافهة برأي أكثر الأطباء ، ولم أعد أجدها تافهة في ما ترمز إليه من خلال أحاديثي المطولة مع هؤلاء المرضى ، فهي أعراض طبية بسيطة في مظهرها ، لكن جذورها ترجع في أكثرها إلى الخوف من الموت ، وما إن يطمئن المريض إلى أن ما يشكو منه ليس له علاقة بمرض عضال خطر هو بنظر العامة السرطان أو الأمراض القلبية أو الشلل ، حتى يشفى ولو دون دواء أو أي دواء ذي فائدة وهمية. فأكثر المرضى عند ما يطرق أحدهم باب عيادة الطبيب يريد أولا شعوريّا أولا شعوريّا أن يطمئن على ذاته من خطر الموت (وكأن باستطاعة أحد في العالم أن يمنع الموت عند حلول الأجل المحتوم) قبل أن يسأل عن العلاج ، وكلنا يعلم كم من المرضى العصابيين يدخلون المستشفيات بصورة طارئة ، وبعد دقائق أو ساعات قليلة من المصل وحقنة مهدئة وفحوصات مخبرية وشعاعية مطمئنة يشفون بقدرة قادر. إنه الخوف من الموت ، فالطبيب والمستشفى هما «الرقية» باعتقادهم من الموت! إنه اعتقاد خاطئ وعشرات المرضى من هذه النوعية ندعوهم بالموسوسين يطرقون أبواب الأطباء ، والمشعوذين من مدعي علم الطب الروحي ، متأبطين أكداسا من الصور الشعاعية والتحاليل المخبرية ، عارضين العشرات من الأدوية والوصفات الطبية والتقارير الاستشفائية لدخولهم المستشفيات المتعددة ، معذّبين ، ومعذّبين لأهلهم ومحيطهم الأسري ، كلما اختفت أعراض مرضية وظيفية من عضو في جسدهم ، ظهرت أعراض في موضع آخر ، يتنقلون من عيادة إلى أخرى ومن مستشفى إلى آخر طلبا للعلاج ، وهؤلاء هم في الحقيقة يفرون من عقدة خوف الموت المتأججة عندهم ، ولا شفاء لهم برأيي إلا من خلال معالجة نفسية تحليلية مرتكزة ومستندة إلى معطيات الإيمان الصحيح. إنهم أصعب المرضى معالجة ، هم كابوس الأطباء ، وهم

١٣٦

بضاعة وتجارة مربحة لبعض الأطباء من الذين لا يربطهم ضمير مهني أو وازع إيماني.

٣ ـ مرتكزات طريقة الإيمان العلاجي

كل طبيب نفسي ، شرط أن يكون مؤمنا قولا وممارسة (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) وعلى حفظ واطلاع واسع وفهم عميق للكتب السماوية المنزلة ، يستطيع أن يمارس طريقة الإيمان العلاجي بالعمق أو السطحية حسب درجة عصاب مرضاه واستعدادهم لتقبل الإيمان ودرجة ثقافتهم ومستواهم العقلي واتزان شعورهم ونوعية عقدهم التي تتحكم بظواهر أعراضهم المرضية النفسية. ويجب أن نشدد هنا على ناحية مهمة جدّا ، إذ قبل أن نحاول السير بالمريض النفسي بطريقة العلاج الإيماني ، يجب أن يقبل هو بطريقة علاجية كهذه ، ومتى قبل تحليل ظواهر وخفايا عقده النفسية على ضوء التعاليم الإيمانية ، وجب إقناعه علميّا ومنطقيّا وجدليّا بثوابت لا بد منها هي الإيمان بالله والقرآن الكريم والحديث الشريف ، إذ لا إيمان بالإكراه أو بدون إقناع ، ولا شفاء من مرض نفسي بدون التزام وعن قناعة تامة بتعاليم الله التي هي تعاليم العلم والمنطق عينه. والعلم والمنطق هما سبيلا الدخول إيمانيّا إلى قلب الإنسان ، ومن خشع قلبه بعد أن أيقن عقله ، خشعت وانقادت جوارحه للتطبيق «لو خشع قلبه لالتزمت جوارحه». فطريقة العلاج التي ندعوها بالتحليل النفسي الإيماني يجب أن ترتكز إلى معطيات العلم والمنطق الموجودة في القرآن الكريم والحديث ولا شيء يقنع العقل بالإيمان كالعلم والمنطق!

٤ ـ كيف نبدأ

نعرض على كل مريض عصابي جاء يطلب حقّا علاجا شافيا وليس مؤقتا للأمراض المزعجة التي تنغص عليه حياته ، بعد أن تحقق خلال سنوات ، وبعد مروره بأكثر عيادات الطب النفسي من أن لا شفاء بصورة دائمة

١٣٧

لأعراضه النفسية ، أن يبدأ ممارسة طريقة العلاج الإيماني. ونحاول من خلال حوارنا مع المريض ، وعلى ضوء العقد النفسية التي تتحكم في الأعراض التي يشكو منها ، والفائدة التي يحصل عليها أن نرى مقدار استعداده ، للتخلي لا شعوريّا عن أعراضه الظاهرة التي يريد الشفاء منها ، إذ في بعض الحالات كعصاب الهستيريا وغيره لا يريد المريض ذلك كما أنّ كثيرا من الأعراض النفسية هي بالنسبة لبعضهم مصدر ابتزاز للغير أو تلبية لرغبات ونوازع دفينة أو ظاهرة لا يريد المريض حقيقة أن يتخلى عنها. وعلاج مرضى كهؤلاء يتطلب الكثير من الوقت بل إن كثيرا منهم يرفض المعالجة بهذه الطريقة لا بل يسخر منها أو يقطعها بعد عدة جلسات.

٥ ـ استطباباتها

أكثر حالات العصاب كعصاب القلق وعصاب الخوف وعصاب الوسوسة أو داء السلوك الجبري وعصاب الشخصية ، والقلق النفسي بمظاهره النفسية والعضوية ، هي من استطبابات العلاج النفسي الإيماني.

ونحن من خلال معالجتنا التحليلية الإيمانية للمريض نحاول أن نتدرج به علميّا إلى أن يؤمن ويوقن بأن القرآن الكريم هو كتاب الله وتشريعه ، وهذه الحقيقة لا نفرضها على المريض فرضا بل عن طريق العلم والمنطق. فالإنسان لا يطبق تطبيقا سليما وصادقا تعاليم الله ، وينصاع لما أمر به إلا إذا أقنعناه علميّا ومنطقيّا ولم نفرض عليه فرضا دينه كمسلّمات.

الهداية والضلال هما عرض وتقديم وليسا فرضا في كتاب الله الكريم

لم يؤمن بعض الأصدقاء ممن سلكنا بهم طريق الإيمان ، وينتقلوا من خانة المسلم بالهوية واللسان إلى خانة المؤمن الممارس الآخذ بالأركان ، إلا بعد أن اقتنعوا علميّا بأن القرآن الكريم هو منطقيّا كلام الله ، فمن قال منذ خمسة عشر قرنا (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ثم جاء العلم في

١٣٨

القرن العشرين يقول إنه ثبت علميّا وبصورة قاطعة جازمة أن الكون هو في توسع دائم ، هو القائل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). وكيف يمكن لعقل سليم أن يأخذ بالآية العلمية الأولى وهي يقين علمي اليوم ، ولا يوقن بالآية الثانية وهي غيب ، والمصدر واحد؟ لا يفعل ذلك إلا المغرضون أو المهتزون في طريقة التفكير السليم ممن ندعوهم بالانفصاميين من مزدوجي العقل والمنطق وهؤلاء لا ينفع معهم أي منطق أو حجة.

كيف يعقل أن نقول صدق الله أصدق القائلين ونحن نقرأ (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) وعلم طبقات الأرض وأعماق المحيطات يبين لنا اليوم في القرن العشرين فقط ، بالصورة والمنظر الحي كيف أن الأرض وأعماق المحيطات متصدعة وتتصدع قشرتها كل ثانية ، ولا نصدق ونؤمن ونوقن بأن (شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) تنبت في أعماق الجحيم وأن (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) وأنها (طَعامُ الْأَثِيمِ) ، أليس مصدر الاثنين واحدا؟ وكيف يكون المصدر صادقا في الأولى ، عفوك يا رب ، ولا يكون صادقا في الثانية؟ كيف نأخذ بالأولى ونتناسى الثانية؟ بل إن بعض ضعاف الإيمان من المسلمين يقولون بأن الغيبيات من جنة ونار وأوصافها هي صور معنوية ، كلا يا سادة بل حسية ، فلقد كانت بنظر البعض (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) صورة معنوية حتى أثبت العلم أنها حسية!

إنها دائما طريقة علمية منطقية. نضع أمام المريض حقيقة علمية قرآنية سبقت العلم بسنين أو قرون ، وبحسب مستوى المريض العلمي والثقافي ، ثم نضع مقابلها الآيات غير العلمية من تشريعية وتثقيفية وغيبية والتي يجب أن يؤمن بها المريض ليتخلص من عقده ونتركه يقابل بين الآيات ، ومتى اقتنع الإنسان أو المريض علميّا ومنطقيّا بأن القرآن الكريم ، هو كلام الله وجاهد نفسه وأهواءها ، فهو في بداية طريق الإيمان ، طريق الشفاء والسعادة الحقيقية.

١٣٩
١٤٠