من علم النفس القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم النفس القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٠

ذلك أن للموت في المفهوم الإسلامي معنى مشرقا ، مفعما بالأمل والرجاء ، معنى حياة أفضل واستمرارية خالدة سعيدة ، في حين أن للموت في المنظار العلمي المادي معنى تعيسا مظلما معنى الفناء والعدم ، وكل حي يكره الفناء ويخافه ويهرب منه.

ب ـ الموتة الصغرى والنومة الكبرى

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (الزمر : ٤٢).

سبق لنا التعليق العلمي على هذه الآية الكريمة عند ما تناولنا موضوع النوم ، في الفصل السابق. فالموت في المفهوم القرآني هو إما موتة صغرى (نومنا العادي اليومي) أو نومة كبرى (الموت المتعارف عليه عند الناس) تنتقل خلالها الروح إلى حياة روحية فقط ، هي حياة البرزخ بدون الجسد والنفس.

هذا المفهوم القرآني لأحد معاني الموت نحن نشدد عليه جدّا ، فبه نمحو الصورة المرعبة عن الموت في أذهان أكثر الناس ، ما دام الموت في هذه الدنيا هو في المفهوم القرآني انتقال الروح من حياة النشأة الأولى إلى حياة جديدة هي حياة البرزخ ، وحياة البرزخ قلما توقف عندها من تناول معاني الموت والحياة من الوجهة القرآنية.

فما هي حياة البرزخ؟

خلال النومة الكبرى (أي الموت بمعناه العادي) تموت النفس ووعاؤها الجسد ، (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أما الروح علة الحياة في النفس والجسد فيجعل المولى بينها وبين الجسد برزخا أي حاجزا غير منظور (حَتَّى إِذا جاءَ

١٦١

أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون ٩٩ ـ ١٠٠) إن روح الكافر هي التي تقول في هذه الآية الكريمة (رَبِّ ارْجِعُونِ) فلقد أصبح يقينا بعد الموت بالنسبة للكافر كل غيب كان ينكره ، والمولى سبحانه وتعالى يقول : كلا ، معللا السبب بقوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). وهناك آيات كثيرة وأحاديث شريفة تؤيد وجود الحياة الروحية بعد موتة الحياة الدنيا وقبل الحياة الأخرى الخالدة : نكتفي منها بالتالي :

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ) (يخاطب هنا أرواح قومه الذين أخذتهم الصيحة) (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف ٧٧ ـ ٧٩).

وكذلك بالنسبة للنبي شعيب الذي خاطب قومه بعد موتهم : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ ، وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (الأعراف : ٩٣).

وروي عن الرسول الكريم ما يؤيد حياة البرزخ الروحية :

كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة (الأرض الواسعة) ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث ، أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى وتبعه أصحابه وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركيّ (أي البئر التي دفن فيها قتلى المشركين من بدر) فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان ابن فلان ، ويا فلان ابن فلان ، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا. فقال عمر يا رسول الله : ما تكلم من أجساد لا

١٦٢

أرواح لها؟ فقال رسول الله : والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. (رواه البخاري).

ولقد صدر منذ سنوات ، كتاب عنوانه الحياة بعد الموت ، للدكتور مودي ، يتكلم عن مائة وعشرين حالة وفاة طبية وقتية ، توقف خلالها قلب المريض ، أقل من ثلاث دقائق ، وعاد بعدها للخفقان. وتحدث أصحاب هذه الحالات ، الذين مروا بموت طبي مؤقت (أي توقف القلب لمدة تقل عن ثلاث دقائق ثم عودته إلى الخفقان) عن تجربة روحية قريبة من حياة البرزخ ، وهو كتاب نجد فيه بعضا من الحقائق التي تؤيد حياة البرزخ.

ج ـ (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (غافر : ١١).

المولى سبحانه وتعالى أحيانا اثنتين : حياة النشأة الأولى ، أي الحياة الدنيا الفانية ، حياة الجسم والنفس والروح ، ثم الحياة البرزخية الروحية بعد موت النفس في الحياة الدنيا وقبل النفخة الأولى في الصور. والحياة الثانية هي حياة النشأة الأخرى ، الحياة الخالدة ، حين البعث وهي حياة بالجسم والنفس والروح أيضا. وهناك خطأ كبير يجب أن لا يقع فيه كل مؤمن ، إذ يعتقد بعض الناس أن حياة النشأة الأخرى هي حياة روحية فقط ، وعشرات الآيات الكريمة تؤكد بأنها حياة روح وجسد ونفس : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ. مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ. وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) (الواقعة : ١٥ ـ ٢٣). هل هذه صورة مادية أم لا؟ وهل الروح تأكل وتشرب وتتزوج إذا كانت حياة النشأة الأخرى هي حياة بالروح فقط ، كما يفهم البعض؟

١٦٣

والمولى أماتنا اثنتين : الموتة الأولى : وهي موتة النفس والجسد ، أي موتتنا في الحياة الدنيا ، عند انقضاء الأجل المحتوم (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وموتة أخرى أي موتة الروح بعد انقضاء حياتنا الروحية البرزخية.

وعند النفخة الأولى في الصور (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (الزمر : ٦٨) ، ويختصر كل ذلك قوله تعالى في الآية الكريمة التالية : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (أي عدما) (فَأَحْياكُمْ) (الحياة الأولى الفانية) (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) (موتة الجسد والنفس ثم الروح) (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (الحياة الأخرى الخالدة) (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة : ٢٨) وهي من مثاني قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ).

٢ ـ المفهوم القرآني للموت من الوجهة النفسية

إن عقدة خوف الموت المتأتية من غريزة حب الحياة والمحافظة عليها هي من أولى وأهم العقد النفسية الأساسية عند الإنسان ، وتتحكم في أغلب التصرفات والأحاسيس الشعورية العصابية ، وكل المدارس الفلسفية والنفسية والاجتماعية ليس لها ما تقدمه من حل جذري لهذه العقدة النفسية المرعبة إلا من مدرسة السماء التي خففت الكثير من وطأة هذه العقدة ، من خلال عقيدة البعث والحساب ، لا بل إن الإسلام من خلال عقيدة البعث والجهاد لم يقدم فقط حلا منطقيا شافيا لعقدة الموت بل تسامى بها إلى فضيلة حب الاستشهاد في سبيل الله.

ولقد سبق لنا وأوضحنا في الفصل الثالث معاني الموت من الوجهة النفسية.

٣ ـ معاني الموت البيولوجية في القرآن الكريم

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ

١٦٤

وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك : ١ ـ ٢).

في المفهوم القرآني الموت والحياة خلق ؛ فالموت قد يكون مخلوقا بأسباب خارجية تدخل في علم علام الغيوب كالقتل والحوادث الطارئة والكوارث الطبيعية ومسببات الأمراض القاتلة كالميكروبات والفيروسات وغيرها ، أو بأسباب داخلية بيولوجية قدرها المولى في داخل كل حي.

ومنذ أواسط القرن العشرين وحتى كتابة هذه السطور يكتشف علم الوراثة أن في كل الأحياء ، عوامل منشطة هي المسيطرة عند ما يكون الحي ضعيفا ، أي منذ بدء تخلقه وحتى سن النضج كهرمون النمو وغيره ، ومع تقدم الأحياء في العمر بعد بلوغ سن النضج تتراجع تدريجا العوامل البيولوجية الحياتية المنشطة فيه أمام عوامل الهرم والشيخوخة والتهديم البيولوجية ، وكل هذه العوامل البيولوجية تحكمها المورثات أي الناسلات الموجودة في الثروة الوراثية عند كل حي : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).

هذه المورثات أي الناسلات [وهي مواد كيميائية جزء من حامض أميني نووي] D.N.A. تحكم مختلف العوامل البيولوجية التي تحول الجنين من ضعف إلى قوة بفعل مورثات التخلّق والنمو والنضج ، ثم من قوة إلى ضعف بفعل المورثات التي تتحكم بأمراض الشيخوخة والهرم. وقد كشف علم الوراثة منذ سنوات فقط مورثات تصلب الشرايين وبعض الأمراض السرطانية ، وتصلب الشرايين والأمراض السرطانية يتسببان بثلثي الوفيات عند الإنسان.

من هنا نفهم قوله تعالى في العمق (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (أي من خلية لا يتجاوز قطرها خمس المليمتر ووزنها واحد من مليار من الغرام) (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) (إذ تحولت النطفة الأمشاج إلى مولود ثم إلى

١٦٥

رجل ناضج بفعل مورثات التخلق والتسوية والنمو) (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) (بفعل عوامل الهرم والشيخوخة التي تحكمها مورثات تصلب الشرايين والسرطان والمناعة وغيرها) (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم : ٥٤).

فالموت من الوجهة البيولوجية ، كما بدأ العلم يبين ذلك هو مقدر في الثروة الوراثية للإنسان ومنذ بدء تخلق الجنين ، مصداقا لقوله تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (الواقعة : ٦٠ ـ ٦١) وعوامل الموت والحياة البيولوجية هي مكتوبة بلغة كيميائية في داخل الإنسان وفي ثروته الوراثية بالذات مصداقا لقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (فاطر : ١١) أولا تعني كلمة كتاب هنا من بين ما تعنيه من معان ، الشيفرة الكيميائية المكتوبة في خلايا كل مخلوق حي عنينا بها الثروة الوراثية؟ الله أعلم بتأويل كلماته.

٤ ـ الموت الطبي ، موت الدماغ

حتى منتصف القرن العشرين ، اقتصر تعريف الموت من الوجهة الطبية على التأكد من توقف القلب عن الخفقان بصورة دائمة ؛ ومع تقدم علم التخدير والإنعاش أمكن في بعض الحالات الطبية التي يتوقف خلالها القلب إعادته إلى الخفقان بواسطة التدليك القلبي والصدمات الكهربائية القلبية والأدوية ، كما أمكن بواسطة آلة التنفس الاصطناعي الاستغناء عن عمل الرئتين لبعض الوقت ، وبذلك تبين للأطباء أن المريض الذي يتوقف قلبه عن الخفقان لمدة تزيد عن ثلاث دقائق ، ثم يعود للخفقان بواسطة الإنعاش والتنفس الاصطناعي قد يبقى لبعض الوقت ، مدة قد تطول وقد تقصر إلا أنه يبقى فاقد الوعي وفي غيبوبة من الدرجة الرابعة ، إلى أن يتوقف القلب تلقائيا رغم كل وسائل الانعاش ، ومن هنا نشأ مفهوم الموت الطبي أو الموت

١٦٦

صورة جانبية داخلية لنصف الدماغ وجذعه. (يطلق اسم الموت الطبي على بعض الحالات المرضية الخاصة التي يموت فيها الدماغ بالرغم من بقاء خفقان القلب ـ في هذه الحالات النادرة يسمح فيها بنقل أعضاء المريض إلى من هم بحاجة إلى ذلك بعد أن تؤكد ذلك لجنة طبية مختصة)

١٦٧

الدماغي وتعريفه الآتي : الموت الطبي هو كل حالة يتأكد خلالها الأطباء ، بواسطة الفحص السريري ومخطط الدماغ الكهربائي ، وتلوين الشرايين الدماغية ، وتصوير الدماغ بالكمبيوتر أن الدماغ قد توقف عن العمل لأن «خلاياه النبيلة» قد ماتت ، بالرغم من عمل القلب وخفقانه.

هذه الحالات المتعارف عليها اليوم بالموت الطبي أو موت الدماغ ، يسمح فيها بعد التأكد منها بواسطة لجنة طبية مختصة ، بنقل أعضاء المريض الذي يكون في حالة كهذه إلى غيره من المرضى الذين هم بحاجة لقلب أو عين أو كلية ومن هنا نشأت فكرة زرع القلوب ونقل الأعضاء.

٥ ـ ما رأي الإسلام في الموت الطبي؟

عظمة وإعجاز القرآن الكريم ، أن الباحث في معانيه ، يجد دائما في آياته الكريمة الحل الذي يطرحه كل علم صادق وصحيح ، والموت الطبي كما عرفناه ، نجد تعريفه في القرآن الكريم في نصوص واضحة لا تتطلب إلا بعض التعليق.

في المفهوم القرآني : الروح هي علة الحياة في الجسد والنفس ومركزها في الصدر ، وعند ما ينتهي أجل الإنسان في هذه الدنيا تترك الروح الجسد وتنتقل إلى حياة روحية جديدة هي حياة البرزخ. أما الجسد فيفنى ويموت ، إلا أنه في بعض الحالات الخاصة كحالات الموت الطبي الذي نحن بصدده ، وتبيانا من المولى عز وعلا على وجود الروح لمن ينكر وجودها تنتقل الروح من المصدر إلى الحلقوم وهو في مستوى الترقوتين أي القسم الأعلى من جهاز التنفس ، وفي هذا إشارة قرآنية إلى أن لا عودة للروح إلى الصدر وأن أجل الإنسان قد انتهى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) (الروح) (الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) (أي خاضعين لقهر وسلطان الخالق). (تَرْجِعُونَها) (أي الروح ـ وهنا تحدّ

١٦٨

قرآني قائم إلى يوم الدين لكل من يدعي أن باستطاعته إعادة الروح إلى الجسد ، أي إعادة الحياة إلى الأموات كما يفكر بعض السذج من علماء الأحياء) (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (الواقعة : ٨٣ ـ ٨٧).

ولقد حددت الآيات الكريمة التالية شروط الموت الطبي التي نستطيع من خلالها أن نؤكد شرعيّا بأن المريض قد مات طبيّا بالمعنى المتعارف عليه اليوم بالرغم من خفقات قلبه ويمكن بالتالي نقل أعضائه إلى المحتاجين من المرضى.

(كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) (القيامة : ٢٦) : أي حتى إذا بلغت الروح مستوى الترقوتين (وهما عظمتان في المستوى الأعلى للقفص الصدري ومستوى الحلقوم) في هذه الحالة يتوقف عمل الرئتين ويضطر الأطباء لاستعمال آلة التنفس الاصطناعي.

(وَقِيلَ مَنْ راقٍ) (القيامة : ٢٧) : أي وقال أهله من يستطيع أن يأتي لهذا المريض ب «رقية» أي بأعجوبة تنجيه من الموت.

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) (القيامة : ٢٨) من وجوه معاني هذه الآية نرى تأويلها الآتي والله أعلم : أكد أهل الاختصاص أن هذا المريض قد فارق الحياة لأن الشدة المرضية تتوالى عليه : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) (القيامة : ٢٩).

في هذه الحالة وبعد أن تصل الروح إلى مستوى التراقي والبلعوم يسأل الأهل الفريق الطبي المعالج هل من أعجوبة طبية تنقذ المريض؟ فيؤكد الفريق الطبي أن هذا المريض هو في حال «فراق» لأن الشدائد والمضاعفات الطبية توالت وتتوالى عليه ، ولا رجاء منه ، وأنه في حالة الموت الدماغي ، وهو بين يدي الرحمن الذي قال : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ). وهكذا نجد أن القرآن الكريم وصف وحدد علامات الموت الطبي أو موت الدماغ من

١٦٩

دون أن يفصلها (كما هي الحال في حقل كل الآيات العلمية التي تطرقت إلى حقول العلوم المادية) لذلك ربط تأكيد فراق المريض لهذه الدنيا بمن هو أهل لذلك من قوله تعالى : (وَظَنَ) (أي أيقن أهل العلم والاختصاص) (أَنَّهُ الْفِراقُ).

لذلك لا نجد من الوجهة الشرعية أي مانع في نقل أعضاء أي مريض هو في حالة غيبوبة عميقة أكّد فريق طبي مؤهل أنه في حالة «فراق» أي في حالة موت طبي. والله أعلم.

٦ ـ علامة العين التي تدور

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ...) (الأحزاب : ١٩).

إن حالة الارتجاف في العين ، تشاهد عند بعض الناس في حالة الخوف الشديد ولكن ما يستوقفنا هنا ، هو الإعجاز العلمي الكامن في قوله تعالى : (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ذلك أن حركة الارتجاف في العين ، وهي من العلامات الرئيسية التي تصاحب الإصابات المرضية في جذع الدماغ لم يعرفها أطباء الجهاز العصبي إلا سنة ١٩٥٩ فقط ، مع الدكتور «فيشر» Fisher الذي وصف علامة العين التي تدور ، بما يسمونه بعلامة «عين الدمية المخلوعة» (Signe de I\'oeil detele d\'une poupee)) Bobbing occular movement () Doll\'s signe) فكل إصابة في جذع الدماغ ، مصحوبة بعلامة العين التي تدور هي إصابة مميتة يكون المريض خلالها في حالة غيبوبة عميقة ، تنتهي به سريعا إلى موت أكيد ، ولم يعرف الأطباء أي حالة غيبوبة مصحوبة بعلامة العين التي تدور إلا وانتهت إلى الموت ؛ إذ يكفي ظهور هذه العلامة وحدها فقط ، عند أي مريض في حالة غيبوبة ، لتعني بالنسبة إلى أطباء الأعصاب ، قرب انتهاء أجل المريض ، بصورة شبه أكيدة. ولقد يسّر لنا

١٧٠

المولى من خلال عملنا الطبي أن نطّلع على بعض حالات غيبوبة عميقة ، مع علامة العين التي تدور. (تدور العين إلى الأسفل وترجع تلقائيا إلى وضعها الوسطي العادي ، تماما كعين الدمية) وكلها انتهت بالموت وصدق أصدق القائلين (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).

١٧١
١٧٢

الفصل العاشر

الاحباط النفسي في المنظار العلمي والمفهوم القرآني

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

(البقرة : ٢٧٧)

«ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضائك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري ، وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدل مكانه فرحا».

(الطبراني)

١٧٣
١٧٤

١ ـ الإحباط النفسي : منشؤه ومسبباته

لكل مخلوق حي حاجات حياتية رئيسية أربع (besoins vitaux) مراكزها عند الحيوان في الدماغ الحيواني أو النباتي (cerveau vegetatif ,ou ancien cerveau) الذي هو مبعث الأهواء والنزعات الشعورية واللاشعورية والتصرفات السلوكية التي ندعوها بالغرائز.

هذه الحاجات الأساسية تؤثر وتتأثر عند الإنسان بالدماغ العاقل المفكر (neo cerveau) الذي جعله المولى سيّدا على الدماغ الحيواني ، وهي : غريزة حب الحياة والمحافظة عليها ، غريزة حب التملك ، غريزة طلب الحنان والرعاية ، وغريزة طلب الجنس والمحافظة على النوع.

وبانحراف هذه الغرائز الحياتية عن مسارها السوي نحو المغالاة أو الكبت (بفعل مؤثرات خارجية عديدة : تربوية واجتماعية خاطئة أو ظروف قاهرة أو مؤثرات داخلية مرضية) تنشأ ما نسميه بالعقد النفسية الأساسية : كعقد الموت والشح والإسراف والنقص والحرمان والتكبر والعقد الجنسية ، ولقد فصلناها بصورة مبسطة ومختصرة في الفصول السابقة.

وإذا لم تجد هذه العقد النفسية حلا جذريا شافيا لها (وغالبا لا تجد إلا حلولا وقتية مقنّعة غير شافية) تتحول أحيانا إلى نقيضها فتنقلب غريزة حب

١٧٥

الحياة وعقدة خوف الموت الناشئة عنها إلى كره الحياة واليأس منها والتفتيش عن الموت. وتنقلب غريزة حب التملك وعقد الشح وما يتبعها من الركض اللاهث وراء الزينة والأموال إلى إحساس دائم بالسأم والزهد الخاطئ بكل زينة ومتاع في الدنيا ، وتنقلب غريزة طلب الحنان والعطف وعقد النقص والشراسة والتعالي الناشئة منها إلى كره الذات والغير ورفض تقبل أو إعطاء المساعدة والعطف للذات والغير ، كما تنقلب غريزة الجنس والعقد الناشئة عنها إلى اللامبالاة والعجز الجنسي ، كما يرافق كل هذه العوارض النفسية عارض الشراسة الذي يشكل قاسمها المشترك.

ـ أما عند الأحياء المسيرة من الخالق سبحانه وتعالى ، فلا عقد ولا احباط نفسي عندها ، شرط أن لا يفسد الانسان طريقة عيشها الطبيعي لأن الحيوان يهديه المولى وتسيره الغرائز التي وضعها فيه ، لذلك هو سعيد لا يعرف القلق ولا الاحباط النفسي.

ـ وبصورة مبسطة إن تعلق الإنسان المرضي بالأشياء وصعوبة المحافظة عليها أو فقدانه لها هو من أهم مسببات الاحباط النفسي والكآبة والحزن وفي طليعة الأشياء التي يتعلق بها الإنسان : الحياة والولد والجنس والمال وبقية زينة الحياة الزائلة ... وتعريف الاحباط النفسي بأنه «فقدان الشيء المحبوب» يندرج تحت الزاوية المبسطة التي عرفنا بها منشأ العقد والإحباط النفسي.

٢ ـ بعض الإحصاءات

القلق والإحباط النفسي هما بنسبة تصاعدية كلما تقدمت الانسانية في مضمار الرقي المادي وبعدت عن تعاليم السماء الحقة ، هذا ما بينته الإحصاءات ، ويكفي التذكير ببعض الأرقام :

ـ كل شخص من عشرة أشخاص مصاب بعارض أو أكثر من عوارض الإحباط النفسي!!

١٧٦

الانتحار واليأس من الحياة بمحاولة قتل النفس ، هو من أهم عوارض الإحباط النفسي فهو في مظاهره في ٤٠ خ من الحالات ، والانتحار هو بنسبة تصاعدية في المجتمعات الغربية حيث جرت الإحصاءات التالية : فقد جاء في مجلة طبية فرنسية :(La revue du praticien No ١٢ Novembre ٢٨٩١).

أن الانتحار يشكل عشرة في المائة (١٠ خ) من أسباب الوفيات بين سن العشرين والرابعة والعشرين وانه المسبب الثاني للوفيات بعد حوادث السير!

أن محاولة التخلص من الحياة بالانتحار هي بنسبة ٣ إلى ٥ أشخاص في الألف بين سن الخامسة عشرة والرابعة والعشرين ، وهي بنسبة ٥ ، ١ ـ ٣ في الألف بين سن الخامسة والعشرين والرابعة والأربعين.

في احصاءات فرنسية لعام ١٩٨٦ هناك سبعة عشر ألف حادثة انتحار ناجحة بين المراهقين فقط.

أدرجت منظمة الصحة العالمية دواء الفاليوم ، مهدئ القلق المعروف ، في لائحة الأدوية الأساسية وهو في طليعتها استعمالا ، كما أن أربعة عشر بالمائة (١٤ خ) من المرضى بصورة عامة هم مرضى أمراض نفسية عصابية.

ـ تعليق : لو وجدت عندنا احصاءات رصينة ، وهي مع الأسف غير موجودة ، واعتمدت من جملة مؤشراتها وجود الإيمان الصادق لوجدت أن نسبة الأمراض العصابية ومنها الاحباط النفسي العصابي ، (وهي الأمراض المتأتية من عوامل اجتماعية وخارجية) ، هي الأقل بين الأفراد والجماعات المؤمنة إيمانا صادقا!!! ربما كانت هذه الفكرة الاحصائية موضوعا لأطروحة في علم النفس عند طلابنا الجامعيين المؤمنين!

١٧٧

١٧٨

٣ ـ أعراض الإحباط النفسي

للإحباط النفسي ثلاثة أوجه هي بصورة مختصرة جدا ومبسطة كالآتي :

١ ـ من الوجهة النفسية الشعورية :

ـ شعور دائم أو متقطع ، بالكآبة وأقصى درجاتها الحزن (أعراض موجودة في ٩٥ خ من حالات الإحباط النفسي).

ـ شعور بالذنب واليأس والثورة وعدم ثقة بالذات والغير (أعراض موجودة في ٨٥ خ من حالات الإحباط النفسي).

ـ شعور بالقلق النفسي والخوف والاضطراب والذعر بدون أي مبرر أو لمجرد وجود مبرر طفيف (أعراض موجودة في ٧٠ خ من حالات الإحباط النفسي).

ـ بكاء بدون أي مسبب (أعراض موجودة في ٧٠ خ من حالات الإحباط النفسي).

ـ نوبات حادة من القلق النفسي والخوف غير المبرر من الأمراض العضوية أو العقلية مع خوف من الموت (أعراض موجودة في ٦٠ خ من حالات الإحباط النفسي).

ـ تفكر دائم في أخطاء الماضي والحاضر وتضخيمها مع يأس وخوف من المستقبل (أعراض موجودة في ٥٠ خ من حالات الإحباط النفسي).

٢ ـ من الوجهة العقلية :

ـ ضعف في الانتباه والتركيز (أعراض موجودة في ٩٠ خ من الحالات).

ـ فقدان الاهتمام بالأشياء والطموح (أعراض موجودة في ٨٠ خ من الحالات).

١٧٩

ـ نقص في الذاكرة حفظا وتذكرا (أعراض موجودة في ٦٠ خ من الحالات).

ـ أفكار انتحارية وتمني الموت (أعراض موجودة في ٤٠ خ من الحالات).

٣ ـ من الوجهة العضوية :

أ ـ اضطراب في عملية النوم (أعراض موجودة في ٩٨ خ من الحالات).

ب ـ اضطراب في التنفس ، كثرة في التبول ، احساس عام بالتعب ، فقدان الشهية ، نقص في الوزن ، إحساس كاذب بالدوخة ، اضطرابات وظيفية في الجهاز الهضمي (أعراض موجودة في ٧٠ خ من الحالات).

ج ـ نقص في القوى والرغبة الجنسية أو فقدانها ، اضطرابات في القلب والأوعية الدموية (أعراض موجودة في ٦٠ خ من الحالات).

د ـ آلام في الرأس ، إحساس بالتقيؤ ، اضطرابات في الدورة الشهرية عند المرأة ، أحاسيس غير طبيعية في مختلف أعضاء الجسم (٤٠ ـ ٥٥ خ من الحالات).

المرجع :

(Les depressions et leur drognostic frank. J. AYD. J. Presse Universitaire de France)

تنبيه : يطلق غير المختصين تعبير «تشخيص الاحباط النفسي» على كثير من الحالات التي ليست بذلك استنادا إلى ما يقرءونه أو يسمعونه من وسائل الإعلام السمعية والبصرية ، نحن لا ننصح باعتماد هذه الوسائل ، فتشخيص الإحباط النفسي أصعب مما يظنون ، والأفضل سؤال المختصين بهذا العلم التزاما بقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ).

١٨٠