من علم النفس القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم النفس القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٠

١ ـ تمهيد

القلق والخوف يلفان الإنسانية أفرادا وجماعات منذ أن كانت الإنسانية العاقلة ، إلا من رحم الله ومنّ عليه بنعمة الإيمان ، والقلق النفسي هو بنسبة متصاعدة كلما تقدمت الحضارة المادية وابتعدت الإنسانية عن فهم تعاليم الله والالتزام بها. والإحصائيات اليوم تؤكد ذلك ، فلقد استهلكت فرنسا في عام ١٩٨٢ أكثر من مائة مليون علبة دواء من المنومات والمهدئات. وفي الولايات المتحدة الأميركية ، هناك وصفة واحدة لدواء مهدّئ للأعصاب من كل أربع وصفات طبية عادية. أما الأمراض النفسية والمشاكل الاجتماعية والمآسي الأخلاقية والانتحار ، فهي الأعلى نسبة في البلدان المتقدمة على صعيد الحضارة المادية والأبعد عن تعاليم السماء ، بالرغم من أن هذه البلاد المتحضرة ، كما يصفونها ، قد أمنت لأفرادها سبل الرفاهية المادية والضمان الاجتماعي منذ الولادة وحتى الممات ، فما سبب وتعليل ذلك؟ الجواب نجده في كتاب الله الكريم ، فالإنسان كان ولا يزال وسيظل كما وصفه أعلم العالمين به (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ). (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً). (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً).

٦١

هناك ثلاثة أسئلة رئيسية تطرح نفسها في كل ثانية ، على تفكير كل امرئ عاقل ، سواء كان ذلك بصورة شعورية أو شبه شعورية ، وأغلب الأوقات بصورة لا شعورية ، فكل فرد عاقل يتساءل بينه وبين نفسه ، لما ذا جئت إلى هذا الوجود؟ وما هو دوري ومعنى حياتي في هذه الدنيا؟ وكيف سيكون مصيري بعد الموت؟ وإذا لم يجد كل ذي عقل ومنطق حلّا منطقيّا لهذه التساؤلات الثلاثة المتكررة في تفكيره ، منذ ولادته وحتى مماته فهو حتما مريض نفسيّا بصورة ظاهرة أو مستترة.

وفي القرآن الكريم الجواب على هذه التساؤلات الثلاثة والحل العلمي والمنطقي الذي يقنع كل ذي عقل ومنطق سليم : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً). (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى).

فوجود الإنسان في هذه الحياة هو نعمة وهبة من الخالق. والوجود خير من العدم ، والحياة هنا امتحان وابتلاء ، والحياة الحقيقية الخالدة السعيدة هي في ما بعد الموت وحين البعث (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت : ٦٤).

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...) (الاسراء ٩)

اعرف نفسك «ومن عرف نفسه عرف ربه» هنا يكمن سر السعادة ، وهي ما ينشده كل مخلوق حي ، وكل المدارس النفسية والاجتماعية والفلسفية ، التي تحاول الإجابة عن تساؤلات الإنسان في معنى الحياة والموت ، دون الأخذ بتعاليم السماء الحقة أخفقت وستخفق في تشخيص العلة ووصف الدواء ، وهذا ما نلمسه اليوم.

أما في القرآن الكريم والسيرة والحديث الشريف فنجد التشخيص الحقيقي للأسباب التي تشقي الأفراد والمجتمعات ، والدواء المنطقي الناجع

٦٢

لها (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها). (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ).

وفي الحديث القدسي : «عبدي أطعني في ما أمرتك ، ولا تعلمني بما يصلحك ، أنا أكرم من أكرمني ، وأهين من هان عليه أمري ، ولست ناظرا في حق عبد حتى ينظر العبد في حقي».

٢ ـ ظاهرة الخوف والقلق النفسي

١) الخوف والقلق النفسي الطبيعي :

يجدر بنا أولا أن نفرق بين الخوف والقلق المرضي والقلق والخوف الطبيعي أي الفيزيولوجي. وهذا الأخير هو إحساس نفسي بالضيق مصحوب في أغلب الأحيان بتغيرات فيزيولوجية في أداء وظيفة معظم أعضاء الجسم. والقلق الطبيعي قد يسبق أو يصاحب أو يتبع لبعض الوقت المواقف التي يتعرض لها الإنسان في ذاته لخطر حقيقي ، وهو ضرورة فيزيولوجية يتمكن بواسطتها الإنسان من مواجهة الأخطار أو تفاديها كل حسب استعداده النفسي وتركيبه الفيزيولوجي. والقلق الطبيعي ليس مقصورا على الإنسان بل الحيوان وحتى النبات ويدخل في ما يسمى بغريزة حفظ الذات.

وقد وصف القرآن الكريم مختلف درجات القلق والخوف الطبيعي مع ما يصاحبها من أعراض عضوية في الجسم ، ما لم تزد عليه كتب النفس اليوم شيئا ، إلا في التفاصيل وهذه الدرجات هي تصاعديا :

الضيق النفسي : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

(الحجر : ٩٧ ـ ٩٩).

الخوف : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ

٦٣

أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (الأحزاب : ١٩).

الجزع : (قلة الصبر) : (إذا مسّه الشّرّ جزوعا) (المعارج : ٢٠).

الهلع : قلة الصبر مع شدة الحرص في كل شيء (إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا. إلّا المصلّين) (المعارج : ١٩ ـ ٢٢).

الرعب : أعلى درجة من الهلع (إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب) (الأنفال : ١٢) (وقذف في قلوبهم الرّعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا) (الأحزاب : ٢٦).

الفزع : (الذعر) : أعلى درجة من الهلع (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقّاهم الملائكة هذا يومكم الّذي كنتم توعدون) (الأنبياء : ١٠٣).

الذهول : حالة ضياع عقلية خفيفة ، نتيجة الخوف الشديد : (يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم ، إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها) (الحج : ١ ـ ٢).

سكارى : (أي ضائعين) حالة ضياع عميقة نتيجة الخوف الشديد (... وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد) (الحج : ٢).

هذا الخوف الطبيعي أمام كل شيء مجهول ، أو مخيف ، يهدد الإنسان في ذاته ووجوده ، ليس مقصورا فقط على العامة من الناس ، بل اعترى بعض الأنبياء عليهم سلام الله أجمعين ، فإبراهيم وموسى وداود ويونس اعتراهم في بعض المواقف شيء من هذا الخوف الطبيعي ، كما جاء في قصص القرآن الكريم : (فأوجس منهم خيفة ، قالوا لا تخف ، وبشّروه بغلام عليم) (الذاريات : ٢٨) (وأن ألق عصاك فلمّا رآها تهتزّ كأنّها جانّ ولّى مدبرا ولم

٦٤

يعقّب ، يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين). (القصص : ٣١). (إذ دخلوا على داود ففزع منهم ، قالوا لا تخف) (ص : ٢٢).

ولم نجد في القرآن الكريم وكتب الأحاديث والسيرة أي إشارة إلى هذا النوع من الخوف الطبيعي ، عند الرسول محمد عليه أفضل الصلوات ، ما عدا بعض الضيق من إيذاء المشركين وإعراضهم عن رسالته. (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون). لا بل إن المتتبع للسيرة ، يجد أنه كان أشجع الفرسان قاطبة إذ وقف يواجه الموت المحدق به من كل جانب في إحدى المواقع ، مع ثلاثة عشر نفرا من الصحابة والأنصار ، وهو مطمئن لقدر الله قائلا : «أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب».

الآليات والمسببات البيولوجية للخوف

والتصرف السلوكي عند المخلوقات الحية

منذ عشرات السنين فقط بدأ العلماء المهتمون بوظيفة الجهاز العصبي يكتشفون أن الأفكار والعواطف والسلوك ، هي نشاطات حياتية تسيرها عمليات فيزيولوجية عصبية وكيميائية ، وأن في المخلوقات المزودة بجهاز عصبي مراكز تتحكم في الألم والخوف واللذة والغضب والحركة وغيرها من انفعالات وتصرفات ، وتسمى هذه المراكز العصبية مجتمعة بالدماغ الحيواني أو النباتي. كما أنه يوجد في بعض المخلوقات الحية مراكز عصبية متطورة ، تؤثر وتتأثر بالدماغ الحيواني وهي من الأهمية والتطور تبعا لنسبة رقي المخلوقات في سلم الذكاء. هذه المراكز هي الأكثر تطورا عند الإنسان وتسمى بالدماغ الجديد أو «الدماغ المفكر».

على ضوء هذا الشرح المبسط لآليات الشعور والتصرف نستطيع أن نفهم الوجه العلمي في العمق للآيات الكريمة التالية التي تشرح مسببات الخوف واللذة والألم والسلوك (إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ

٦٥

جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا إلّا المصلّين). (خلق الإنسان من عجل). (وخلق الإنسان ضعيفا).

فالمولى عز وعلا خلق الإنسان هلوعا وعجولا بحكم تكوين جهازه العصبي ، أي مفرط الحساسية شعورا وتصرفا تجاه كل ما يحيط به من عوامل داخلية وخارجية قد تعرض ذاته وحياته للخطر ، وذلك رأفة به ومحافظة على حياته. وكذلك وضع المولى نفس النظام ، نظام الدفاع عن الذات في بقية المخلوقات الحية ، ذلك أن في كل المخلوقات مراكز عضوية تتحكم في الخوف والغضب وسرعة الانفعال والهرب فتجعلها جزعة خائفة نفورة إذا مستها عوامل الأذى والشر. وفي الإنسان وبقية المخلوقات أيضا مراكز للذة والجوع والشبع ، تجعلها ساكنة لا تهتم بما يجري حولها عند ما تتأمن مقومات اللذة والشبع ، إلا أن الفرق بين الإنسان والحيوان ، هو أن الأخير مسير من خالقه ، لذلك فإن الخوف والهلع واللذة والسكون عند الحيوان هي ميزات طبيعية لا تؤذي ذاته. أما عند الإنسان وهو المخير مع الجن دون سائر المخلوقات ، فمراكز الهلع والغضب واللذة والهدوء الموجودة في الدماغ الحيواني وإن لم يسيرها الدماغ المفكر العاقل الذي جعله المولى سيد النفس الإنسانية وفق تعاليم الخالق ، أصبح الإنسان عبدا لهواه وشهواته وغرائزه الموجودة في دماغه الحيواني ، فيصبح عندئذ كالأنعام بل أضل (أرأيت من اتّخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا. أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا) (الفرقان : ٤٣ ـ ٤٤).

٢) القلق والخوف المرضي :

أ ـ تعريفه

لا نريد أن نتوسع كي لا ندخل في متاهات التفريق الأكاديمي بين القلق المرضي ، وهو حالة شعورية من الضيق ؛ والخوف المرضي ، وهو حالة

٦٦

شعورية بالضيق مصحوبة بانعكاس عضوي على وظيفة أغلب أجهزة الجسم من تسارع في ضربات القلب ، وضيق في التنفس ، واضطراب في عمل جهاز الهضم والأعصاب والعضلات ، وعملية إفراز الغدد وغيرها ، فالخوف والقلق النفسي المرضي في جذورهما ومنشئهما واحد وهو الخوف من المجهول ، وبدون أي سبب ظاهري منطقي معقول بالنسبة للمريض (وهذا ما يزعجه أشد الإزعاج) ولعل أبلغ وأوجز تحديد وتعريف حسي للراحة النفسية والخوف النفسي هو ما أشارت إليه الآية الكريمة التالية : (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا كأنّما يصّعّد في السّماء) (الأنعام : ١٢٥).

والقلق هو أكثر المظاهر شيوعا وإزعاجا ويشكل القاسم المشترك لكل الأمراض النفسية العصابية ، وأغلب الأمراض العقلية الذهانية ، واضطرابات الشخصية و ٧٠ خ من الأمراض العضوية يكون مصحوبا بالخوف أو القلق الظاهر أو المستتر.

ب ـ أسبابه

هي في أكثر الحالات مجهولة بالنسبة للمريض ، ومدفونة في أعماق نفسه ، أي في اللاشعور ، أي العقل الباطن. وعلماء النفس يرجعون الأمراض النفسية العصابية واضطرابات الشخصية [والقلق والخوف من أهم مظاهرها] إلى تعارض وتصادم بين عقد النفس الدفينة اللاشعورية ومعطيات الواقع التي يواجهها المريض ، وإذا لم نساعد المريض على تفهم عقده ومحاولة حلها أو تسهيل حلها ، فكل علاج للقلق والأمراض النفسية العصابية واضطرابات الشخصية السلوكية هو وقتي أو لا يجدي. وسنفرد بحثا خاصا بعقد النفس الإنسانية لنبين كيف أن في الإيمان الصادق المرتكز إلى معطيات الكتاب الكريم الحل الجذري لها ، دون بقية الحلول التي تطرحها مختلف المدارس التي تهتم بعلم النفس وأمراضها ، والتي لم تقدم حتى الآن إلا

٦٧

حلولا مؤقتة غير شافية كما يعرف الكل من خلال إحصائيات هذه المدارس ونتائج معالجتها.

(وخلق الإنسان ضعيفا)

أثبت العلم أن دماغ الإنسان وبقية أعضائه هي ضعيفة أمام متطلبات الهوى الموجودة في الدماغ الحيواني ، وإن لم يسيّر الإنسان الدماغ الحيواني مركز ومبعث الغرائز والشهوات والانفعالات وفق تعاليم الخالق ، وهو أدرى بما يصلحه ، بواسطة الدماغ المفكر الذي زوّد به ، أصبح هلوعا جزوعا عجولا منوعا كصفات شعورية وسلوكية مرضية.

يكفينا مثل بسيط لتقريب الصورة من ذهن القارئ على هذا الضعف الموجود في خلقنا ، فحقنة أو جرعة أو شمة من المخدرات ، تعطي اللذة المؤقتة لمراكز اللذة الموجودة في دماغنا الحيواني ، تكفي لأن يصبح الإنسان عبدا أمام متطلبات جسمه التي تصاب بما نسميه «بعوارض الحاجة المادية عند المدمنين كالتعب والعرق والاصفرار والقلق والخمول والتقيؤ وغيرها ...» وكذلك بالنسبة لبقية الشهوات والغرائز التي حدد لنا المولى كيفية عدم الاستسلام لها ، فليفهم الإنسان إرادة الله ، وقد دله على مكامن ضعفه الكامنة في خلقه وبيّن له سبل الهداية والإرشاد كي لا يهوي في سبل الضلالة والمرض : (يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الّذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الّذين يتّبعون الشّهوات أن تميلوا ميلا عظيما. يريد الله أن يخفّف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). (النساء : ٢٦ ـ ٢٨). وهذه السبل الواقية من الضلالة هي في الصلاة ، وللصلاة كوقاية شروط يجب الالتزام بها. وقد فصلت هذه الشروط في سورة المعارج (إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا. إلّا المصلّين. الّذين هم على صلاتهم دائمون. والّذين في أموالهم حقّ معلوم. للسّائل والمحروم. والّذين يصدّقون بيوم

٦٨

الدّين. والّذين هم من عذاب ربّهم مشفقون. إنّ عذاب ربّهم غير مأمون. والّذين هم لفروجهم حافظون. إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والّذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. والّذين هم بشهاداتهم قائمون. والّذين هم على صلاتهم يحافظون) (المعارج : ١٩ ـ ٣٤).

فليلتزم الإنسان إذا أراد الشفاء من قلقه بهذه الوصفة الإلهية بعد أن يفهم شروطها وليتممها ويثابر على العمل بها ، وسيجد نفسه بعد حين أنه من أسعد المخلوقات. وهذا هو واقع المؤمنين الحقيقيين ، والذي خبرناه ووجدناه خلال ممارستنا للمعالجة النفسية!!

لذلك نحن نعتقد ، من زاوية إيمانية ، وبحكم التجربة الشخصية المهنية ، ومن خلال إخفاق تجربة المدارس النفسية التي حاولت أن تعالج الهلع والخوف والذعر واضطرابات السلوك من زاوية بيولوجية أو تحليلية وضعية ودون الأخذ بتعاليم السماء ، أن لا شفاء بصورة نهائية من الهلع والجزع والخوف والأنانية واضطرابات السلوك بصورة جذرية إذا لم يلتزم كل مريض عصابي بشيئين : وصفة طبية دنيوية موقوتة المفعول من أهل الاختصاص في الأمراض النفسية ، ووصفة روحية إيمانية من خالقه هي الالتزام بتعاليم المولى وهي وصفة جذرية الشفاء مصداقا لقوله تعالى : (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة : ٣٨).

٦٩

الهلع والجزع والفزع والرعب الطبيعي تختصره هذه الصورة المعبرة بما لا

تستطيع كتب علم النفس أن تقوله بالكلمات

٧٠

الفصل الثالث

الموت وعقده

(وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد).

(ق : ١٩)

«وما ترددت في شيء أنا فاعله ، ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن. يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

(حديث قدسي رواه الطبراني والبيهقي)

«لا تستقر هذه المدنية إلا إذا رجعت إلى تعاليم محمد».

«برنارد شو»

٧١

(إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا)

صورة جانبية للدماغ المفكر حيث مراكز السمع والبصر والفكر وغيرها وقد جعله المولى سيدا على الدماغ الحيواني وإلا أصبح عبدا له.

٧٢

(إنّه لقول فصل. وما هو بالهزل)

خلافا للعلوم المادية التي لا جدال في قواعدها بين العلماء ، كالفيزياء والكيمياء والفلك والطب وغيرها ، فإن علم النفس من العلوم الإنسانية ، التي يختلف في تحليل ظواهرها ومسبباتها علماء النفس ، وإن كانت آلياتها قد بدأت تدخل في حقل العلوم المادية (الكيمياء العضوية). وعند ما تختلف الآراء وتتشعب الطروحات ، ما على الباحث العاقل إلا اللجوء إلى كلمة الفصل في صحة كل العلوم ، سواء كانت مادية أو إنسانية : القرآن الكريم ، ففيه يجد أعمق وأبلغ وأوجز وأصح تحليل للنفس الإنسانية في تركيبها الطبيعي وما فطرت عليه ، والأسباب التي تشقيها ، والظواهر الطبيعية والمرضية التي تنتابها والسبل الموصلة لما تنشده من سعادة ، وأخيرا الدواء الشافي لما تعانيه من أمراض.

١ ـ تعريف بالعقد النفسية

منذ أواسط القرن العشرين كشف العلم ولا يزال أن في الدماغ مراكز تتحكم بمختلف انفعالات وتصرفات الإنسان الشعورية والسلوكية ، كمراكز الخوف والذعر والغضب والطمأنينة واللذة وغيرها ، وكلها تحكم آليات ما يسمى بغرائز حفظ الذات ، كالخوف من الموت ومسبباته والهرب من الألم والسعي وراء اللذة

٧٣

والراحة الجسدية والمحافظة على النوع من خلال الحاجة الجنسية ، وحب التملك وغيرها من حاجات حياتية رئيسية.

هذه المراكز الدماغية التي تحكم التصرف الإنساني البيولوجي وتؤمن بقاءه والمحافظة على نوعه ، هي ضرورة وضعها المولى في كل مخلوق حي ، إلا أنها في الإنسان ، وهو المخيّر دون سائر المخلوقات ، قد تجمح به إلى أن يصبح عبدا لها وأسيرا لمتطلباتها فتصبح عقدا نفسية بالمعنى المرضي ، إذا لم يسيّرها الدماغ المفكر في الإنسان ، ويسيطر عليها حسب أوامر من هو أعلم العالمين به الخالق عزّ وعلا مصداقا لقوله تعالى : (إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا. إلّا المصلّين) (المعارج : ١٩ ـ ٢٢).

وهكذا يتضح لنا أن ما يسمونه بالعقد النفسية ، ما هو إلا نتيجة «جنوح» غرائز حفظ الذات الطبيعية بالإنسان جنوحا مرضيا إذا تخلى عن فهم تعاليم السماء التي تنظمها وتجعلها سوية ، كما نظمتها وجعلتها سوية عند الحيوان فتتحول حينئذ غريزة المحافظة على الحياة إلى عقد الموت وعقدة حب الخلود ، وما يتقنع وراءها ؛ ويتحول التفتيش عن اللذة والهروب من الألم إلى عقد الحرص والعقد الجنسية ؛ ويتحول شعور الإنسان الطبيعي بضعفه إلى عقد النقص والحرمان والتعالي والكبرياء وعقدة العجل والتسرع.

ونحب أن نسمي هذه العقد النفسية التي تنغص على الإنسان حياته وتمنعه من تحقيق سعادته ب «العقبات النفسية». وقد أشارت إليها بصورة جامعة الآيات الكريمة التالية : (فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فكّ رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة. أو مسكينا ذا متربة. ثمّ كان من الّذين آمنوا وتواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة. أولئك أصحاب الميمنة) (البلد : ١١ ـ ١٨).

٧٤

فإذا أراد الإنسان أن يكون من أصحاب «الميمنة» فعليه «اقتحام» عقبات نفسه ، وجهاد النفس وهو من أكبر وأصعب أنواع الجهاد ، وهذا الاقتحام لعقبات النفس وعقدها يكون بمجاهدة واقتحام عقد التملك والحرص والبخل بأن يفك الرّقاب المعوزة ، واقتحام عقد الموت ، وحب الخلود يكون بالإيمان بالبعث واليوم الآخر. واقتحام عقد اللهفة والحرقة في الطلب يكون بالصبر. ومحو عقد النقص والحرمان يكون بالرحمة والتواصي بها.

وقفة تحليلية نفسية مع سورة الضحى

أ لم يجنب المولى رسوله الكريم عقدة الموت بقوله تعالى (وللآخرة خير لك من الأولى). وجنبه عقدة الحرمان العاطفي الناشئ عن اليتم بأن آواه فقيض له جده ثم عمه أبا طالب الذي أعطاه الأمان والسند العاطفي والمادي ضد أذى المشركين (ألم يجدك يتيما فآوى). إلى أن قضت الحكمة الإلهية بإغنائه عن هذا العون الأرضي في قوله تعالى (والله يعصمك من النّاس).

أ لم يجنب المولى رسوله الكريم عقدة النقص المتأتية من الجهل ، فعلمه الحكمة ، وأنزل عليه القرآن الكريم (ووجدك ضالّا فهدى وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما). ثم ألم يجنبه أيضا عقد النقص والشح المتأتية من الفقر بأن أغناه ومنع عنه العوز المادي فزوجه بأم المؤمنين السيدة خديجة عليها‌السلام وقد كانت غنية محبة : (ووجدك عائلا فأغنى).

وكذلك يجب أن نفعل مع أنفسنا وأولادنا والغير ، إن أردنا أن نجنب النفس الإنسانية عقد النقص والحرمان المادي والعاطفي وما ينتج عنها من عقد النقص أو التعويض كعقد إيذاء الذات والغير ، وعقد التعالي والكبرياء ،

٧٥

وعقد الشح والبخل (فأمّا اليتيم فلا تقهر. وأمّا السّائل فلا تنهر. وأمّا بنعمة ربّك فحدّث).

وسنفصّل كل عقدة من هذه العقد ومظاهرها وسبل شفائها حسب أهميتها تباعا.

٢ ـ عقد الموت

(وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد).

إن فكرة الموت هي في ضمير وشعور وتفكير وتصرف كل منا سواء كان ذلك بصورة واعية ، أو غير واعية. هي كذلك منذ الولادة وحتى إسلام الروح. ولقد أشارت الآية الكريمة التالية إلى عقدة الموت عند الإنسان (وجاءت سكرة الموت بالحقّ ذلك ما كنت منه تحيد).

فكل مخلوق حي ، بفعل آليات تكوينه ، أو ما يسمونه بغرائز حفظ الذات والدفاع عن الحياة ، يحيد من الموت ويكرهه بل ويفر منه (قل إنّ الموت الّذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم) (الجمعة : ٨).

وما لم يجد الإنسان حلّا منطقيّا عقلانيا لفكرة الموت ، فإنها ستتحول وتتجذر في أعماق شعوره إلى عقدة مرضية ، هي من أهم وأصعب العقد النفسية المسيطرة على انفعالاته وتصرفاته ، والمصدر الأول لأكثر العوارض النفسية العصابية والذهانية واضطرابات الشخصية وفي طليعتها القلق والخوف المرضى.

ولقد حاولت جميع المدارس الفكرية ، من فلسفية واجتماعية ونفسية تحليلية أن تفتش عن حل لعقد الإنسان : سبب مرضه وتعاسته ، وتجاهلت ، ربما عن قصد ، عقدة الموت الكامنة في أعماق كل منا ، لأنه ليس لديها

٧٦

بالتأكيد أي حل منطقي لها. وسنبين من خلال دراستنا القرآنية لعقد الموت كيف أعطى الإسلام حلا منطقيّا عقلانيّا لها ، وكذلك لبقية العقد النفسية.

٣ ـ العقد المتفرعة من عقدة الموت

أ ـ عقدة قصر العمر : (ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة ومن الّذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر). (البقرة : ٩٦).

إن أصعب وأهم عقدة من العقد التي تتفرع عن عقدة الموت الأم هي عقدة قصر العمر ، ولا يشفي هذه العقدة إلا الاعتقاد الإيماني بأن العمر هو من قدر الله ، هو واحد ، لا تبديل فيه ، خلافا لبقية ما قدر المولى من أمور غيبية قد تطرأ على الإنسان وقد يبدل الله فيها ويغير حسب ما يشاء وتبعا لإيمان المكلف وعمله : (وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن الله كتابا مؤجّلا). (آل عمران : ١٤٥) أي كتابا مؤقتا فالعمر في هذه الدنيا هو مدة زمنية محددة بتوقيت معين مكتوب هو الأجل ولا تبديل فيها. وكنتيجة لعقدة الخوف من قصر العمر نرى تهافت أكثر الناس على متاع الحياة الدنيا ومحاولة الغنى من أقصر طريق ، والارتماء في أحضان الموبقات ، وكل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى. ومن خلال عقدة قصر العمر يعتقد أكثر المرضى وبعض الأطباء أن الطب يستطيع أن يطيل أجل الإنسان. وكم أسمعها يوميّا وتكرارا من بعض الأطباء أن هذا المريض أنقذناه من موت محتم وأعطيناه عمرا جديدا ، وهذا مريض سيموت حتما في خلال ساعات أو أشهر ؛ ومن الأفضل لراحة الإنسان أن يؤمن كل فرد ينشد الطمأنينة والسكينة بأن الله وحده هو الذي (يحيي ويميت) ، وأنه (وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلّا في كتاب ، إنّ ذلك على الله يسير) (فاطر : ١١) ، وأنه (وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن الله كتابا مؤجّلا) ولا يصل الإنسان إلى إيمان ويقين كهذا إلا بعد دراسة كل آية من آيات الله

٧٧

دراسة علمية منهجية من خلال تربية إسلامية تبدأ في البيت وفي المدرسة وطيلة سني حياته.

والواقع يثبت كل يوم صدق ذلك ، فكم من مريض حكم بعض الأطباء بقرب موته بل وحددوا توقيته ، وجاء الواقع يكذبهم ويدعوهم إلى التواضع والإيمان بالله الذي اختص بنفسه فقط معرفة طول أو قصر الآجال ومدة انقضائها ولحظة وقوعها : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (النحل : ٦١) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان : ٣٤).

ولعل أكثر الاحصاءات الطبية تناقضا تلك التي نقرأها في المنشورات الطبية من أن هذا الدواء أو هذه الطريقة العلاجية تطيل عمر الإنسان.

يجب أن يوقن الأطباء والمرضى أن الطب لا يشفي الإنسان من الموت ، ولا يبدل في الأجل المحتوم. فالطب هو لتحسين نوعية الحياة ، وتخفيف الآلام ، وشفاء العلل حتى انقضاء العمر ومجيء الأجل المحتوم الذي هو بعلم علام الغيوب فقط : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (الواقعة : ٨٣ ـ ٨٧) لن يرجع الطب الروح إلى الجسد ، والله فقط يطيل العمر وينقصه ، ولقد كتب المولى طول العمر وقصره منذ تخلق الجنين في رحم أمه ، ثم لا يبدل فيه بعد ذلك.

يجب أن يعرف ويوقن الكل أن الموت مخلوق في قدر الله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) و (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ).

ولو فهم أكثر الناس والتزموا بما أمر به المولى وعقلوا معنى الحياة

٧٨

والموت وأيقنوا بالحياة بعد الموت لتخلصوا من أكثر مظاهر وأعراض أمراضهم النفسية والعضوية ولدخل شيء من السكينة في قلوبهم أمام كل خطر داهم يهدد حياتهم ووجودهم.

ب ـ عقدة عذاب الموت : خلال محاوراتنا النفسية بحكم المهنة وجدنا أن كثيرا من الناس يصرحون لنا بأنهم لا يخافون الموت بحد ذاته ، ولكن ما يرعبهم وينغص عليهم طمأنينة بالهم هو العذاب الذي يسبقه ويصاحبه قبل وحين حصوله ، وهذا الخوف والرعب الذي لمسناه عند المرضى والأصحاء على حد سواء لا سبيل إلى تخفيفه والقضاء عليه إلا باليقين الإيماني بعدالة ورحمة وغفران الباري لمن يشاء من خلقه. نعم هناك عذاب يصاحب الموت ويسبقه ولكن للظالمين والمجرمين من الناس : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام : ٩٣) ، أما المؤمنون من عباده ، فلقد وعدهم بأن موتهم سواء أكان موت الجسد أم الروح فإنه مختلف تماما عن موت الظالمين إذ لا عذاب بموتة الجسد أو الروح : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (الجاثية : ٢١) (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (الواقعة : ٨٨ ـ ٩١).

إن المؤمن الموقن بالله والذي يجب أن يعرف ويدرس بل ويحفظ هذه الآيات لا مجال لأن تتحكم به عقدة عذاب الموت التي لا تخفيف لها ولا شفاء منها إلا بالإيمان.

ج ـ عقدة ما بعد الموت أو خوف القبر وما يمثله : إن عصاب الخوف من الأماكن المقفلة التي لا يستطيع المريض السيطرة عليها والهروب منها

٧٩

كركوب الطائرة والمصاعد والقطارات والغرف المقفلة ودخول الدهاليز والأقبية المظلمة ، هو في جذوره خوف من الموت ومن القبر بالذات ، هذا المكان الضيق الذي لا سبيل للخروج منه ، وهذه الفكرة من أن كلا منا سيدفن في يوم من الأيام في مكان ضيق مظلم لا سبيل للخروج منه ، هي فكرة موجودة في شعور كل إنسان عاقل ، منذ أن وعى معنى الموت ، ويصاحبها شعوريا أو لا شعوريا كثير من التخيلات المزعجة خاصة فكرة عودة الحياة إلى الميت في القبر. ويحاول كل منا أن يمحو هذه التخيلات والأفكار المزعجة بنسيانها ودفنها في أعماق اللاشعور ، إلا أنها عند البعض وتحت تأثير أحداث متصلة بالموت تعود إلى الظهور وتشكل أعراضا عصابية كظاهرة الخوف بدون سبب معقول إلى أن يتبلور ويتستر هذا الخوف تحت عصاب الخوف من الأماكن المقفلة ، والذي هو في الحقيقة محاولة يحاول فيها الإنسان التخلص من عقدة الموت وعقدة الخوف من القبر بالذات.

ليخضعوا المريض العصابي بمرض الخوف من الأماكن المقفلة للتحليل النفسي على طريقة «فرويد» أو غيره ، (وفرويد كان مصابا بهذا العصاب ولا ندري لما ذا لم يشف نفسه منه لا سيما وأنه واضع أسس التحليل النفسي؟!! وليعطوه ما شاءوا من المسكنات وما أكثرها ، وليهللوا ما شاءوا للنتائج الايجابية الشفائية! حسب آخر إحصاءاتهم لآخر طريقة نفسية علاجية طلعوا بها وهي معالجة عصاب الخوف من الأشياء بمواجهة المريض تدريجيا بما يخيفه ، فكل هذه الوسائل العلاجية هي وقتية ، إذ لا يشفي من عقدة خوف الموت وخوف القبر إلا الإيمان اليقيني بوجود حياة أفضل للمؤمن وأن الله هو ولي المؤمنين في حياتهم ومماتهم وما بعد مماتهم. وهو كما وعد لا يخلف وعده ، وكيف يمكن لقلب مؤمن أن يخاف من الموت وعقده وقد عقل معنى الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المتعلقة بمعاني الموت وما ذا يحصل عند الموت وبعده (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا

٨٠