من علم النفس القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم النفس القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٠

جَدَلاً) ، لذلك أيد المولى أنبياءه ورسله ، إضافة إلى المعجزات بعلم لدني هو بالنسبة لهم ، قبل غيرهم ، البرهان والدليل الذي يثبتهم في إيمانهم الفطري ويساعدهم على تبليغ وتحمل أعباء الرسالة ، فسيدنا يوسف كادت نفسه الأمارة بالسوء أن تدفعه للاستجابة لنداء الإثم المتكرر من امرأة العزيز (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) المتمثل في خلق السماوات والأرض : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف : ١٠١).

وسيدنا إبراهيم أعطاه الله برهانه اليقيني ، فأراه بالبصيرة ملكوت السماوات والأرض : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام : ٧٥).

ولو لا هذا البرهان اليقيني الذي هداه المولى لإبراهيم لكان من القوم الضالين : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام : ٧٧).

والرسول الأعظم ، عليه‌السلام ، ثبت فؤاده بما علمه من علم الكتاب والحكمة وما لم يكن يعلم (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (النساء : ١١٣).

ولقد اختتمت الرسالات السماوية ، بالبرهان اليقيني والمعجزة الوحيدة الباقية إلى يوم الدين ، القرآن الكريم الذي لا يستطيع أن يشكك به أي عاقل : ومنه يستقي كل إنسان برهانه الإيماني على وجود الله وصدق التنزيل. ومن الضروري أن يكون لكل مسلم برهانه الإيماني الذي ينقله من إيمان الفطرة

٢١

إلى إيمان الدليل. فكل إنسان مهما بلغ إيمانه بالله عزوجل ، يمر بلحظات قد يتزعزع فيها إيمانه فيشك بالمعجزات التي أتى بها الرسل ، وخاصة اليوم ، ولكي يبقى بعيدا عن عوامل الشك هذه ، لا بد له من دليل ثابت يراه ماثلا أمام عقله ومنطقه في كل ثانية على وجود الله ، وهذا الدليل يجده كل من أراد وحسب درجته العقلية والعلمية في كتاب الله المقروء القرآن الكريم وكتاب الله المخلوق الكون وما حواه.

أما أن نترك الإيمان للشعور والوجدان فقط فهذا لا يكفي وخاصة في القرن العشرين ، عصر العلم والبرهان.

ولو تساءل كل مسلم بينه وبين نفسه ، وهذا بنظرنا هو بداية طريق الإيمان الصحيح ، ما هو برهانه الإيماني الذي لا يستطيع من خلاله إلا أن يقر بوجود الخالق وصدق التنزيل ، لوصل برأينا إلى درجة الإيمان الصادق والذي سبق تعريفه. ولقد سئل أحد كبار المؤمنين عن برهانه الإيماني ، فأجاب بكل بساطة : حياة النملة وطريقة عيشها. ولا عجب في جوابه فلقد سميت سورة من كتاب الله باسم «النمل» ، أما «أينشتاين» فلقد كان دليله الإيماني هذا النظام البديع الموجود في كل خلق من مخلوقات الله ، فالله كما يقول «أينشتاين» لا يلعب النرد مع الكون (١).

ولو اطلع أينشتاين على الآية الكريمة التالية من كتاب الله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِ) (أي النظام المحكم الضروري) (عَلَى الْباطِلِ) (أي الفوضى والصدقة والجهل) (فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء : ١٦ ـ ١٨) ، ربما كان من كبار المسلمين الموقنين بالقرآن الكريم ورسالة الرسول العظيم إلى جانب إيمانه العميق بالله. وكذلك هي الحال بالنسبة لبقية العلماء من المؤمنين الذين رأوا أن كل

__________________

(١) Dieu ne joue pas aux des avec le monde. EINSTEIN : Sa vie et son epoque ـ Edition Stock, Ronald ـ Clark. p. ٧٣

٢٢

مخلوق درسوه بالعمق هو موقّع بيد الخالق البارئ المصوّر ناطق بقوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).

ولقد بدأت أولى مسيرتي الإيمانية اليقينية بفضل المولى ، بمقال علمي قرأته عن توسع الكون الدائم ، أتبعته قبل أن أستسلم للنوم ، بشيء من قراءة الذكر الحكيم وكانت من الطفولة قراءة تقليدية للتبرك والاستعاذة كما علمني الأهل ، استوقفتني خلالها الآية الكريمة التالية : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ). (الذاريات : ٤٧) هذه الآية الكريمة أحدثت في كل خلية من خلايا دماغي المفكرة ، رجة إيمانية ، فكونت عندي أول الأدلة البرهانية العلمية والعقلية والمنطقية ، على وجود الله ، وأن القرآن الكريم هو كلامه فالآية الكريمة (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) هي بالنسبة لمنطقي وعقلي ، وكذلك يجب أن تكون بالنسبة لكل من عرف شيئا من علم الفلك ، السد المنيع والبرهان الدائم ضد كل شك أو تشكيك بالله وكتابه ومن أي جهة أتى ، ما دام العلم قد أثبت منذ النصف الأخير من القرن العشرين أن الكون في توسع دائم وقد سبقه القرآن الكريم إلى ذلك منذ خمسة عشر قرنا ولا تكون هذه الآية عند كل ذي منطق وعقل سليمين إلا دليلا يقينيّا على وجود الله ، وعلى أن القرآن الكريم هو كلامه ، ومن أولى بديهيات المنطق السليم الالتزام الكلي بكل ما أمر به المولى في كتابه ونهى عنه ، واليقين بكل ما أنبأ به من أنباء ، وقص فيه من قصص ، وضرب فيه من أمثال. ومنذ ذلك الوقت آليت على نفسي أن أدرس كتاب الله الكريم وأحاول فهمه والعمل بمضامينه كما درست كتب الطب وعملت بمضامينها وأنا منذ ذلك الوقت من السعداء.

لقد اتبعت حتى الأربعين من عمري سبل الإيمان التي أدعوها بالتقليدية ، وهو ما تعلمته واكتسبته في بيتي ومدرستي ومجتمعي ، ولقد وجدت بحكم خبرتي الشخصية والمهنية أن الإيمان التقليدي ، وهو ما يتبعه أكثر الناس ، عرضة للتصدع والتراجع وخاصة عند المتعلمين الذين لم يطلعوا على الجوانب العلمية الصرفة في الدين الإسلامي ، وأمام أي موجة إلحادية سواء

٢٣

كانت ظاهرة ، أو مستترة وراء أقنعة التقدم والرقي الحضاري الغربي ومجاراة العصر.

ولا يقوى على قوى الباطل المنظمة والمخطط لها سلفا من أعداء الدين والإسلام ، ومنذ قرون ، إلا إيمان قائم على أسس علمية منهجية منطقية منظمة ، يجدها كل من أراد الوصول إلى الإيمان العلمي من خلال العلم ودراسة القرآن الكريم والأحاديث والسنة الشريفة ، دراسة منهجية مستندة إلى قواعد العلم والمنطق ، وهذا الإيمان العلمي هو ما تجب الدعوة إليه ، وهو ما عنته في ما تعنيه الآية الكريمة التالية : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). فالحكمة هي الجمع بين العلم الصحيح المفيد والعمل بمضامينه ، والموعظة الحسنة هي الدعوة المنظمة على أسس منهجية منطقية سليمة ، وهكذا دعوة إيمانية برهانية يجب أن تتوافر لها أربعة شروط :

١ ـ عقل ومنطق سليم.

٢ ـ إرادة صادقة ومجاهدة دائمة للنفس الأمارة بالسوء.

٣ ـ مسلكية علمية تتبع دراسة منهجية علمية للقرآن والسنة والحديث الشريف.

٤ ـ مؤسسات رسمية مسئولة وقادرة ماليّا ، تؤمن نشر وتعليم الدين بوسائل العلم الحديث كما تؤمن تعليم اللغة العربية ونشرها في كل البلاد الإسلامية إذ من الصعب على المسلم أن يعقل إسلامه إذا لم يكن يحسن العربية ، مصداقا لقوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (الشعراء : ١٩٨ ـ ١٩٩).

نحن اليوم بحاجة إلى جانب الدعاة عندنا من علماء الفقه والتفسير والأحكام في الشريعة ، وكلهم ممن نجلّ ونحترم ، لعلماء متخصصين في مختلف العلوم المادية ، من المؤمنين ، ليشرحوا لنا كلّ في حقل اختصاصه ما

٢٤

يقرب من الألف آية كريمة من كتاب الله ، سبقت العلوم المادية بقرون ، ولا يستطيع شرحها ، إلا كل متخصص في علم معين لذلك.

٣ ـ نحن بحاجة

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الأجنة والوراثة ووظيفة الأعضاء ليشرحوا لنا معنى الآية الكريمة (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ). وكذلك عشرات الآيات الكريمة في علم الأجنة والوراثة.

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم التغذية والطب الوقائي ليشرحوا لنا لما ذا حرم الله الخمر والدم ولحم الخنزير واللواط والعلاقات الجنسية الآثمة. وما حرم الله شيئا أو أحله إلا وأتى العلم الصحيح ولو متأخرا بقرون ، مطأطئ الرأس قائلا آمين : (... وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (آل عمران : ٧).

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الفلك ليشرحوا لنا ما معنى «مواقع النجوم» وليبينوا عظمة القسم (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (الواقعة : ٧٥) ، ولما ذا (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة : ٧٦) وأكثرنا لا يعلم شيئا في علم الفلك ، وكذلك المعنى الإعجازي العلمي في ما يقرب من مائة آية كريمة تطرقت إلى علم الفلك.

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم طبقات الأرض والمحيطات لنفهم بالعمق الأبعاد العلمية الإعجازية في قوله تعالى : (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ). (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ). وغيرها من عشرات الآيات علّ بعض المسلمين يجد في ذلك دليله الإيماني.

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الفيزياء والأحوال الجوية لنفهم

٢٥

عظمة ومعجزة وإعجاز القرآن في الآيتين الكريمتين : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) وغيرهما من عشرات الآيات الكريمة.

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في دراسة السلالات البشرية لنفهم عمق وبعد المرمى في الآيات الكريمة : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في التاريخ ، ليبينوا بالأرقام والتواريخ صدق النص القرآني ومصدره الإلهي من خلال التحدي الغيبي بأن الروم سيغلبون الفرس بعد بضع سنين من خسارتهم في معاركهم مع الفرس (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم : ٢) ، وغيرها من التحديات التاريخية كقصة أهل الكهف وسفينة نوح وغيرها.

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في علم التاريخ وفي علم الآثار وعلم المومياء المصرية بالذات ، ليبينوا لنا كيف أن (فرعون الخروج) الذي لحق بموسى سلام الله عليه ، وأغرقه المولى ، كيف أنجاه الله ، ببدنه وحفظه حتى يومنا هذا في المتحف الوطني في القاهرة ، ليكون آية لمن يجيء بعده. وقد غفل أكثر المفسرين عن هذه الحقيقة حتى قيض الله للإسلام في القرن العشرين رجلا مؤمنا هو الدكتور «موريس بوكاي» هو طبيب جراح فرنسي ، تساءل عقلانيا وفتش منطقيا وحقق علميّا في صدق الآية الكريمة : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (يونس : ٩٢) ، ووجدها صحيحة مائة بالمائة ، حتى أبدان الفراعنة الذين اختلفوا فيهم تاريخيا من أن أحدهم هو الفرعون الذي لحق بموسى لا زالت

٢٦

محفوظة حتى اليوم في قاعة المومياء في متحف مصر؟!!! (١).

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين في علم الحيوان ، ليشرحوا لنا علميّا طريقة عيش وتخاطب كل دابة وطائر وكيف أنهم كما أثبت علم دراسة الحيوان : أمم أمثالنا (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (الأنعام : ٣٨) تتفاهم وتتخاطب بينها وتسبّح خالقها ولكن لا نفقه تسبيحهم.

نحن بحاجة لعلماء مؤمنين ، في علم القانون الدولي ، والمدني والجزائي والأحوال الشخصية ليستخلصوا من التشريع الإلهي القرآني ومن الحديث الشريف والسيرة ، عظمة الأحكام التشريعية التي جاء بها الإسلام منذ خمسة عشر قرنا ، ويقارنوها بما استطاع أنصار العلمانية أن يأتوا به حتى هذه الساعة بالذات ، بل إن أكثر المتشرعين اليوم يرجعون إلى التشريع الإسلامي القرآني وهدي السنة والسيرة.

نريد أن تتضافر جهود المؤمنين من علماء الاجتماع ، والنفس والإحصاء ليبينوا للكل كيف أن أتعس الأمم والأفراد هي التي بعدت عن تطبيق تعاليم الله الحقّ كما بيّنها في كتابه الكريم.

أما أن نقصر ونختص بالدعوة لله كل من ألمّ باللغة العربية وشعرها ومفرداتها وقواعدها ، والحديث والسيرة والفقه ، فهذا تقصير في حق الدعوة وفي تفقه وشرح الإسلام. فالقرآن الكريم خاطب كل العلماء وفي جميع حقول الاختصاص العلمية وحضهم على تدبر وتفهم آياته الكريمة. فالعلماء المؤمنون في الطب ، والفلك والفيزياء والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والنفس والاجتماع والقانون ، والحضارات والنبات والحيوان وكل فروع العلم ، هم ممن عناهم القرآن الكريم «بأهل الذكر» أي أهل الاختصاص ولهم الحق كل الحق إذا كانوا على إلمام باللغة العربية ومعانيها واطلاع على

__________________

(١) La Bible, L\'Evangil Le Coran et la science. Dr Maurice Bucaille ـ p. ٤٢٢ ـ Edition SEGHERS.

٢٧

الحديث والسيرة ودراسة جدّية عميقة لآيات القرآن الكريم وأسباب التنزيل (وهذا الشيء ليس بالصعب أبدا على أي عالم بل يتطلب فقط الإيمان وبعض الوقت) ، إن أهل الذكر هؤلاء أي أهل الاختصاص من العلماء ، لهم الحق بتفسير وتأويل آيات القرآن الكريم كل في حقل اختصاصه فالرسول الكريم لم يفسر لنا إلا آيات العقيدة والأحكام وبعضا من الآيات العلمية في حقل العلوم المادية ربما ، والله أعلم ، التزاما منه بقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ). وفي كل عصر وحتى يوم الدين سيجد المسلم وكل من أراد الإيمان اليقيني بالقرآن الكريم ، البرهان القاطع والدليل الثابت ، الذي يتناسب مع مستوى علمه وثقافته ، وآخر ما كشفه العلم في زمنه مصداقا لقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).

نرجو بكلمتنا هذه أن نكون قد خففنا شيئا من حدة المناقشات التي نقرأها بين وقت وآخر في الكتب والنشرات التي تعنى بالإسلام ، وتدور حول موضوع أخطئ في صياغة طرحه أصلا : هل القرآن الكريم كتاب علم أو دين ومن يحق له تفسير معاني آياته رجال العلم أم رجال الدين؟

فالقرآن الكريم لا يمكن تعريفه إلا بأنه كتاب الله وكلامه ، والكلام صفة المتكلم. والمولى عز وعلا عرّف ذاته بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). كذلك كتابه الكريم ليس كمثله كتاب. ومن أراد تعريفه بأنه كتاب هدى ودين وإرشاد ، أو كتاب علم ، فقد عرف ميزة واحدة من ميزات كتاب الله الكثيرة والتي لا يحيط بها إلا قائله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (عند ما يعلمون شيئا من تأويله) (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (آل عمران : ٧). فالقرآن الكريم هو في الحقيقة شرح لأسماء الله الحسنى : ومنها «الهادي» و «العليم» وليست هاتان الصفتان هما كل أسماء الله الحسنى. وكل رجال العلم ، سواء كانوا من علماء العلوم

٢٨

المادية أو الإنسانية إذا توفرت فيهم شروط تفسير الآيات الكريمة من إيمان وتقوى وعلم ، لهم الحق بتفسير آيات المولى ، كل في حقل اختصاصه ، علما أنهم ومهما بلغوا من تقوى فلن يلموا إلا ببعض الوجوه من معاني الآية ولن يحيطوا بها تماما ، والقرآن الكريم سيأتي قائله المولى عز وعلا يوم القيامة وكأنه لم يفضّ كما روي عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.

٢٩

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ)

صورة حقيقية لوجه من أوجه المجرة اللبنية التي يتبع لها نظامنا الشمسي. تحتوي المجرة اللبنية على ما يقرب من مائتي مليار نجم. وقدروا أنه يوجد مليار مجرة في الكون ، وأن الكون يحوي مليون مليار كوكب ونجم فقط ، والرقم قابل للزيادة كل سنة! وكل نجم أو مجرة يسير في فلك خاص به وبسرعة قد تصل إلى ٦٥ ألف كيلومتر في الثانية. وأي اصطدام بين نجمين قد ينتج عنه كارثة كونية. ومع ذلك فلم ولن يحصل هذا ، ذلك (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ).

ومن وراء كل ذلك؟ الصدفة أم الطبيعة أم التطور؟ لا ، بل خالق مبدع عليم قادر

٣٠

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)

قلب الإنسان : أعجب وأتقن المضخات ، يعمل بدون توقف منذ الأسبوع الرابع لحياة الإنسان وحتى موته ، وزنه لا يتجاوز ٢٥٠ غراما وينبض بمعدل ٧٠ ضربة في الدقيقة أي مائة ألف مرة يوميا ، ويضخ ٥ ليترات دم في الدقيقة ، أي ما معدله مليون ونصف غالون في السنة ، وهذه المضخة المعجزة توصل الدم إلى شبكة من الشرايين والأوردة والأوعية الشّعرية التي إذا وضعت جنبا إلى جنب في خط مستقيم فإن طولها يتجاوز ستين ألف ميل تقريبا!!!

٣١

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

الطائر الذبابة (Colibri) : من إحدى أعاجيب الخالق في عالم الطير.

وزنه لا يتجاوز خمسة غرامات وطوله ٣ سنتيمترات ، ومع ذلك فهو يستطيع أن يطير إلى الأمام أو الخلف أو يرتفع عموديا أو يبقى في مكانه في الجو ويستطيع الارتفاع إلى خمسة آلاف متر في الجو ، وسرعته قد تصل إلى معدل مائة كيلومتر في الساعة ، ومائة رفة جناح في الثانية الواحدة!!!

٣٢

الفصل الأول

النفس

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(يوسف : ٥٣)

«جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم».

«اعرف نفسك».

(سقراط)

٣٣
٣٤

علم النفس ، خلافا لبقية العلوم المادية ، وكأكثر العلوم الإنسانية ، ليس علما بالمعنى المتعارف عليه ، أي مجموعة قوانين وثوابت أثبت الوقت والتجربة صحتها كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها من علوم مادية ، لذلك يختلط في أذهان الناس ، وكثير من المهتمين بالعلوم النفسية التفريق بين الجسد والنفس والروح ، وخاصة بين النفس والروح فيجعلونهما في معنى واحد. ولقد ساهم في هذا الغموض كثرة النظريات والمدارس النفسية والفلسفية التي عالجت ماهية النفس ، والظواهر النفسية ومنشأها عند الإنسان والحيوان. والباحث المؤمن يجد في كتاب الله الكريم ، وهو كتاب الهداية والصيانة للنفوس ، كلمة الفصل في التفريق بين الجسد والنفس والروح ، والثابت الذي نعتمده للتعريف بالظواهر النفسية ومسبباتها وسبل الوقاية منها ، فهو الفصل وفيه تبيان كل شيء :

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل : ٨٩).

١ ـ النفس في التعريف القرآني

الكل يتكلم ويكتب في النفس ، والقلة تستطيع تحديدها وتعريفها

٣٥

بكلمات بسيطة. فهل من تعريف لهذه الأمّارة بالسوء ، كما جاء وصفها القرآني على لسان سيدنا يوسف (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف : ٥٣) ما كنه هذه النفس التي وصف مجاهدتها الرسول عليه الصلاة والسلام بالجهاد الأكبر فيما روي عنه «جئتم من الجهاد الأصغر ، إلى الجهاد الأكبر» ، قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال : «جهاد النفس».

وردت كلمة النفس في القرآن الكريم في مائتين وخمس وتسعين آية كريمة ، تبين لنا من دراستها أن لكلمة النفس قرآنيا معاني عدة كأكثر الكلمات في كتاب الله.

أولا : وردت كلمة النفس في بضع آيات فقط ، تعني كلمة النفس فيها ، ذات الله تعالى أو صفاته. ففي قوله عزّ من قائل : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة : ١١٦) ، (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي). (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). النفس في الآيات الكريمة السابقة تعني ، كما ذكرنا ، ذات الله تعالى.

ولا نسمح لأنفسنا ، ولا ننصح أحدا بأن يبحث في ذات الله ، وإلا أصيب بالضياع أو الدوران في حلقة مفرغة تتعب العقل والمنطق دون جدوى ، ذلك ما فعله بعض الفلاسفة ، فالمولى عرّف ذاته بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). والقاعدة النبوية الشريفة تقول : «تفكروا في خلق الله ، ولا تتفكروا في الله ، فإنكم لن تقدروا قدره» رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : «تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله».

أما في قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران : ٢٨) (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (آل عمران :

٣٦

٣٠). فالنفس هنا تعني صفة من صفات الله. ولله أسماء صفات هي سبعة وتسعون اسما هي من أسماء الله الحسنى أما «الله» و «الرحمن» فهما اسما ذات ، ومن الواجب التفكر في صفات الله ودعوته بها : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ومن أسماء صفاته : الجبار ، والمنتقم ، والمولى يحذرنا من بطشه وانتقامه في هاتين الآيتين : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران : ٢٨) (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (آل عمران : ٣٠).

ثانيا : من معاني النفس قرآنيا : الروح ، والله أعلم ، إذا قرنت كلمة النفس بصفة المطمئنة. ولقد ورد هذا المعنى للنفس في آية واحدة من كتاب الله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي) (أي في جسد عبادي) (وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر : ٢٧ ـ ٢٩). أما الروح فمن العبث البحث في ماهيتها أي : كنهها وتركيبها لقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، لذلك لا نسمح لأنفسنا أن نبحث في ماهية الروح ، فالروح هي سر الخالق في الخلق ومن أمره ، وقد أغلق المولى معرفة سرها في قوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (يس : ٣٦) ، أي أن المولى خلق مختلف أنواع الأحياء من الأرض ومن أنفسهم ومن الروح.

ثالثا : أما بقية الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة النفس ، فإننا نستطيع أن نستخلص من خلالها القول بأن النفس هي مخلوق له كيانه الخاص وصفاته ومميزاته. فالنفس تموت وتفنى كبقية المخلوقات : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ). والإنسان قد يظلم نفسه : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (الأعراف : ٢٣) ، والنفس قد تكون أمارة بالسوء

٣٧

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) لذلك وجبت تزكية هذه النفس بذكر الله بالغدو والآصال لكي لا نكون من الغافلين (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (الأعراف : ٢٠٥).

فللنفس إذن معنى ثالث في القرآن الكريم ، فهي مخلوق له كيان مميز خاص به ، وكل مخلوق من مخلوقات الله من أصغر جسيم في الذرة إلى أكبر مجرة ، مؤلف من مادة وروح إلا الروح فلها كيان روحي فقط.

هناك قاعدة نعتمدها في التفسير فعند ما لا نستطيع استخلاص معنى الكلمة من كتاب الله نلجأ إلى الحديث الشريف التزاما بقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : ٤٤). وإن لم نجد ، ونادرا ما يحصل ذلك ، نلجأ إلى معاجم اللغة.

فلقد روي عن الرسول الكريم قوله : «ما ليس له نفس سائلة ، فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه ... كل شيء له نفس سائلة فمات في الإناء ينجسه». والواضح أنه عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات قد عنى بالنفس السائلة : الدم (عن لسان العرب رواه النخعي).

وفي معاجم اللغة وجدنا أن من معاني كلمة النفس الدم ، يقال امرأة نفساء أي ولدت حديثا ، وكذلك في قول الشاعر :

تسيل على حد الظّبات (السيوف) نفوسنا (دماؤنا)

وليس على غير الظّبات تسيل

استنادا إلى ما سبق ، نحن نعرّف النفس ، (معنى ثالث غير ذات الله وصفاته ـ والروح) بأنها الدم. فالدم هو المخلوق الوحيد في الجسم الذي نستطيع أن نقول بأنه مصدر جميع الظواهر العضوية والنفسية التي ننسّبها إلى

٣٨

النفس. وكما بدأ علم الكيمياء العضوية وعلم معالجة الأمراض النفسية بالمواد الكيميائية يثبت ذلك.

ومنذ منتصف القرن العشرين بدأ علماء الكيمياء العضوية يكتشفون تباعا أن كل القوى العقلية والانفعالات والتصرفات التي ندرسها اليوم تحت اسم الظواهر والأمراض النفسية والعقلية ما هي إلا نتيجة لتداخلات ومؤثرات مادية بواسطة مواد بيوكيميائية تفرزها مجموعات من الخلايا ، وتصب كلها في الدم أو السوائل الناشئة منه والذي ينقلها بدوره إلى مختلف أعضاء الجسم التي ستكون مسرح الانفعالات والتصرفات التي ندعوها بالنفسية ، سواء كانت سليمة أو مرضية من حبور وسرور وانشراح أو غضب وخوف وقلق وهلوسة وضياع.

ولقد اكتشف العلم منذ بدء الستينات مئات المواد الكيميائية في داخل الجسم وخارجه وكلها تتحكم في الظواهر والأمراض النفسية ، وتنتقل أو توجد أو تصب في الدم الذي ينقلها إلى مختلف أعضاء الجسم التي ستكون مسرح العوارض النفسية ، وهكذا تتضح الصورة تدريجيا. فإذا عرّفنا النفس بأنها الدم ، فهذا التعريف الموجز الجامع البسيط يتوافق مع ما بدأ علم كيمياء العوارض النفسية بإثباته. وهذا علم جديد لا يتجاوز عمره عشرين سنة ، فكل العوارض النفسية من حبور وغضب وهلوسة وهدوء تتحكم فيها بالحقيقة مواد كيميائية ينقلها الدم إلى مختلف أعضاء الجسم التي هي مسرح الانفعالات.

مثلا : الخوف : هو عارض نفسي له ظواهر نفسية وعضوية ، وتسببه مواد كيميائية ، كذلك القلق والإحباط النفسي. ومنعا لكل تساؤل من أننا إذا عرّفنا النفس بأنها الدم ، يصبح معنى ذلك أننا نستطيع تغيير نفسية الإنسان بتغيير دمه ، نقول :

المسألة ليست بهذه السهولة ، فالمواد الكيميائية التي تسبب الظواهر

٣٩

النفسية تفرزها الغدد الصم ومختلف المراكز العصبية التي تصب هذه المواد في الدم.

فالدم هو مستقر ومستودع لمئات المواد الكيميائية التي تتأتى من مختلف أجزاء الجسم : كالجهاز الهضمي والغدد الصم ، والخلايا العصبية المنتشرة في مختلف أعضاء الجسم والدماغ ، لذلك فإن القول بأننا نستطيع تغيير نفسية الإنسان بتغيير دمه هو قول سطحي ومرفوض.

٢ ـ علاقة النفس بالجسم والعقل والروح

البعض يجعل من النفس والروح شيئا واحدا والبعض الآخر يجعل من النفس والجسد أو العقل شيئا واحدا أيضا ، والحقيقة أن النفس والجسم والروح هي أشياء مختلفة.

النفس ليست الجسد ، فالجسد أو الجسم أو البدن هو وعاء النفس ، وقد عرّفناها بالدم ، ومسرح تأثيراتها وعوارضها وتصرفاتها ، والدماغ المفكر العاقل ، هو آلة العقل ، وهو الذي يجب أن يكون السيد والمسيطر على النفس ومسيّرها وإلا أصبح تبعا لها. أما الروح ونعرّفها بأنها أمر من المولى ومخلوق له كيان روحي فقط ، وسر من أسرار المولى ، فهي علة الحياة في كل خلق. وإذا سيطر العقل على النفس وفقا لتعاليم الخالق ، ارتاح الجسد والروح ووصل الإنسان إلى السعادة الحقيقية أي الطمأنينة والسكينة ، فالنفس والبدن والروح ، هي مخلوقات رئيسية ثلاثة في الإنسان ، تتفاعل تفاعلا وثيقا مع بعضها البعض ، ولكي يسعد الإنسان يجب أن يسيطر العقل المفكر وفق تعاليم الخالق على النفس وأهوائها ونزواتها ، أما إذا انعكست الآية فأصبح العقل المفكر تبعا للنفس الأمارة بالسوء فذلك متعب للروح وهي الجوهر ، وهي لا تسعد إلا إذا اتبع الإنسان تعاليم الخالق. والذين لا يعتقدون بالروح لن يستطيعوا أن يفهموا في العمق أسرار العوارض النفسية وأسرار السعادة

٤٠