من علم النفس القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم النفس القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٠

تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). (فصلت : ٣٠) (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (الواقعة : ٨٨ ـ ٩٠) «إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» (حديث شريف رواه الترمذي).

إن المؤمن يبشّر بالجنة عند موته بل ومنذ احتضاره ، فإذا هو مطمئن البال ، قرير العين ، يواجه أصعب الأمراض وقت موته بقلب مطمئن ووجه وابتسامة مشرقة ، فلقد بدأت الحجب تسقط أمام عينيه ، وملائكة الرحمة وغيب ربه أصبح حقيقة يقينية أمام بصره وقت الاحتضار ، وأصحاب اليمين من معارفه وأقربائه والملائكة يطمئنونه بحسن المآب.

د ـ عقدة خوف المرض ، الوسواس المرضي : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).

هي من أكثر العقد شيوعا فهي تمثل الظاهرة المقنّعة لعقدة خوف الموت من خلال المرض ، ولقد لمست طيلة ممارستي المهنية ، كثرة عدد المرضى المصابين بهذه العقدة وهي الأصعب والأزعج بالنسبة للمريض والطبيب على حد سواء ، فما أكثر المرضى الذين يطرقون عيادات الأطباء مرارا وتكرارا ، ويصرون على دخول المستشفيات ، لعوارض بسيطة برأي أكثر الأطباء ، ولا أجدها كذلك ، فهي أعراض ظاهرية طبية بسيطة في مظهرها بالنسبة للطبيب غير المختص ، أما في جذورها فترجع في أغلب الحالات إلى خوف المرض والموت المتستر وراءه. وما إن يطمئن المريض إلى أن ما يشكو منه ليس له علاقة بمرض خطير (هو بنظر العامة السرطان أو الأمراض القلبية والشلل) حتى يشفى ولو بدون دواء أو بأي دواء ذي فائدة وهمية بنظرنا نحن الأطباء ، فأكثر المرضى وخاصة العصابيين عند ما يطرق أحدهم باب عيادة الطبيب يريد أولا ، شعوريا أو لا شعوريا ، أن يطمئن على ذاته من خطر الموت قبل أن

٨١

يسأل عن العلاج ، وكلنا يعلم كم من المرضى العصابيين وتحت ظواهر نفسية مختلفة ، يدخلون المستشفى وهم في أشد الحالات المرضية النفسية العصابية ، وبعد بضع دقائق أو ساعات وقليل من المصل أو حقنة مهدئة ، وفحوصات مخبرية وشعاعية مطمئنة ، يشفون ، ولكن لبعض الوقت. إنه الخوف من الموت ، والطبيب والمستشفى هما الشفاء من الموت باعتقادهم والحقيقة أن الطب يخفف الألم ويشفي من بعض العلل ، ولكن لم ولن يمنع الموت.

عشرات المرضى من هذه النوعية ، ندعوهم بالموسوسين. يطرقون أبواب الأطباء والمشعوذين الروحيين ، متأبطين أكداسا من الصور الشعاعية والتحاليل المخبرية ، عارضين العشرات من الأدوية والوصفات الطبية والتقارير الاستشفائية معذّبين ومعذّبين لأهلهم ومحيطهم الأسري ، كلما اختفت أعراض مرضية وظيفية من عضو في جسدهم ، ظهرت أعراض في موضع آخر. هؤلاء الموسوسون هم في الحقيقة يهربون من عقد خوف الموت المتأججة عندهم ، ولا شفاء لهم برأيي إلا من خلال معالجة نفسية تحليلية مرتكزة ومستندة إلى معطيات الإيمان الصحيح. إنهم أصعب المرضى معالجة بل هم «كابوس الأطباء» ومصدر ابتزاز من قبل بعض الأطباء ممن لا يلزمه ضمير مهني أو وازع إيماني!!

ه ـ عقدة عدم الاعتقاد بالموت أو عقدة حب الخلود أو عقدة الخطيئة الأولى : إن عقدة حب الخلود (وهي الوجه المقابل لنفس العقدة : عقدة خوف الموت) هي من الطرق التي يحاول الإنسان غير المؤمن أن يسلكها للهروب من الموت ، محاولا بذلك شعوريا أو لا شعوريا تجنب وطمس كل شيء يذكره بالموت ، فينعكس ذلك مرضيّا على تصرفاته ، فنراه يجمع الثروات ويكدس الأموال ويقترف المظالم ويتشبث يائسا بالدنيا وكأنه سيبقى فيها أبدا.

٨٢

وعقدة حب الخلود هي النافذة التي من خلالها نفذ الشيطان إلى نفسية سيدنا آدم وزوجته ، فأغراهما بالمعصية وأطاعاه ، رغم أن المولى أعطى آدم كل أسباب السعادة في الجنة الأرضية التي كان فيها إلا الخلود (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى. فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (طه : ١١٨ ـ ١٢١).

إن التخلص من عقدة حب الخلود ، ونحب تسميتها بعقدة «الخطيئة الأولى» لا يكون بالهروب اللاهث من الموت كمن يهرب من ظله بل بالاعتقاد اليقيني بقوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) فالموت بالنسبة للمؤمن هو نومة كبرى وانتقال من حياة دنيا ، هي حياة تكليف واختبار وبلاء ، إلى حياة فضلى خالدة. وما الدعاء الشائع اليوم : أطال الله عمرك ، إلا انعكاس دفاعي نفسي لتخفيف وقع الموت في نفس الإنسان. أما المسلمون الأوائل الذين عقلوا معنى الموت فكانت سبّة بالنسبة لبعضهم أن تنعت أحدهم بطويل الأمل في الحياة.

ولا يستطيع الإنسان أن يمحو هذه التصورات المتجذرة في أعماق شعوره عن الموت وعقده إلا من خلال التسليم اليقيني بالآيات الكريمة المتعلقة بمعاني الموت وما يمثله ، ولا يمكن للإنسان أن يسلم عقليا بهذه الآيات إلا إذا اقتنع عقله علميّا بأن كل ما جاء في القرآن الكريم هو كلام الخالق ، ولا شيء يستطيع أن يقنع عقل الإنسان بكلام الله وخاصة إنسان اليوم ، إلا العلم ، وفي القرآن الكريم مئات الآيات العلمية التي سبقت العلم بقرون والتي جاء العلم يطأطىء الرأس أمامها ويسلم بأنها حقا من عند الله.

من وجهة نظرنا نحن نرى أن لا شيء يجعل الإنسان يؤمن إيمانا ثابتا إلا بما يقنع به عقله ، ومتى اقتنع عقله ، خشع قلبه والتزمت جوارحه وتخلصت

٨٣

نفسه من عقدها ، وكل ما نحاوله من خلال كتاباتنا في مواضيع «بين القرآن الكريم والعلم» هو أن نقدم لعقل الإنسان المفكر البرهان الذي لا جدال فيه بأن القرآن الكريم هو من وجهة علمية وعقلانية ومنطقية بحتة كلام الله الذي لا ريب فيه ، لذلك يجب أن يقتنع ويلتزم بكل ما جاء فيه ، وليس ببعضه ، إذ لا يعقل أن يقول الإنسان صدق الله العظيم وهو يرى اليوم كيف يؤيد العلم مضامين ما أنبأت به مئات الآيات الكريمة في العلوم المادية ويطرح بقية الآيات التي ذكرناها أعلاه ولا يعتقد بها ، ومن يفعل ذلك فهو مصاب بازدواجية المنطق والتفكير ، والحوار مع من هو مصاب بازدواجية المنطق والتفكير ، أي منفصم الشخصية ، مضيعة للوقت.

لقد أعطى الإسلام بصورة علمية وواقعية عملية من خلال القرآن الكريم والحديث والسيرة الشريفة الحل العقلي المنطقي ، لكل العقد النفسية وفي طليعتها عقدة الموت كما أثبت الواقع التاريخي ذلك ، إذ لو لا شفاء الإنسان المسلم المؤمن من عقدة الموت وبقية عقده ، لما استطاع المسلمون في خلال عشرات السنين أن يقوّضوا أركان الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية ويصلوا بفتوحاتهم إلى السند شرقا وفرنسا غربا. وهي فتوحات قامت على أساس التعاليم السماوية التي جاء بها الإسلام ، وليس السيف كما يدعي المغرضون ، فالتاريخ لم يعرف فاتحا أرحم من المسلمين كما قال المنصفون من المؤرخين الغربيين.

ولن تقوم قائمة لهذه الأمة المسلمة ، أمة المليار فرد من حملة الهوية الإسلامية وهي اليوم في عداد الأمم المتأخرة ، وقد تداعت عليها الأمم «تداعي الأكلة إلى قصعتها» إلا عند ما ننشئ الإنسان المسلم من جديد ، تنشئة إسلامية منهجية علمية صحيحة ، فنمحو بذلك عقدة الموت ، وبقية العقد منه ونسمو به إلى عقيدة حب الجهاد ، وهي النقيض لعقدة الموت ، ولا يصل إلى هذه المرتبة إلا كل موقن بقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي

٨٤

سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران : ١٦٩) (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (محمد : ٤ ـ ٦).

٨٥

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ)

رسم توضيحي للدماغ الحيواني (باللون الأصفر) مركز ومصدر الانفعالات الشعورية والتصرفات السلوكية : الغضب ، الانفعال ، التصرف ، اللذة ، الحبور والسكينة ... (مقطع جانبي : منظر داخلي)

٨٦

الفصل الرابع العقد النفسية :

عقد الحرمان ، الحرص ، النقص والتعالي ،

العقد الجنسية

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ، ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

(آل عمران : ١٤)

«اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع ...».

(من دعاء الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام)

«من أراد خير الآخرة وحكم الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها ، فليقتد بمحمد رسول الله ويستعمل أخلاقه وسيرته ما أمكن».

(ابن حزم)

٨٧

(مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ...)

كل كتب علم النفس وأبلغ الأقلام لا تستطيع أن تقول بالكلمة ما تعبر عنه هذه الصورة من مشاعر الإنسان الطبيعية وهو يواجه الموت وجها لوجه

٨٨

١ ـ العقد النفسية

عقباتها ، شهواتها ، أهواؤها ، الطاغوت النفسي ، الأرباب

تعريف مبسط جدا بالعقد النفسية

١ ـ منشؤها : لكل مخلوق حي حاجات رئيسية هي ضرورة حياتية لتأمين وجوده وتوفير سعادته ، وتمكين استمرارية نوعه نسميها مع التحفظ بالغرائز وهي أربع :

غريزة حب الحياة والمحافظة عليها ، وحاجة أو غريزة حب التملك ، والحاجة أو الغريزة الجنسية ، وحاجة الحنان والعطف المتأتية من إحساس فطري بالضعف.

والعقد النفسية الأساسية تنشأ من انحراف حاجات أو غرائز النفس الإنسانية الأساسية هذه نحو الفقدان أو المغالاة بفعل التربية البيتية والمدرسية الخاطئة أو العوامل الاجتماعية الظالمة.

فمن غريزة الدفاع عن الذات أو حب الحياة والبقاء ، وبفعل الظروف الاجتماعية القاهرة أو التربية البيتية والمدرسية الخاطئة ، تنشأ عقد خوف الموت وما يتفرع عنها من عقد : كعقدة قصر العمر وعقدة عذاب القبر وعقدة الخلود ، وعقد خوف الأمراض ، وعقدة التعلق المرضي بالولد.

٨٩

ومن غريزة حب التملك ، وبفعل التربية البيتية والمدرسية الخاطئة أو الظروف الاجتماعية الظالمة تنشأ عقدة الشح ، وعقدة همّ المستقبل ، وخوف المستقبل ، وعقد النقص ، وعقد إيذاء الغير ، وعقد السلطة وحب السلطان ، وبعض العقد الجنسية. وقد تتحول هذه العقد إلى نقيضها كعقدة الإسراف والتبذير.

ومن الإحساس الفطري بضعف الذات وحاجة كل نفس للحنان والعطف ، وبفعل التربية البيتية والمدرسية والظروف الاجتماعية تنشأ عقد النقص وخوف الغير وعقد إيذاء الذات والغير وبعض العقد الجنسية.

ومن الحاجة أو الغريزة الجنسية وبفعل التربية البيتية والمدرسية والمفاهيم الاجتماعية الخاطئة تنشأ العقد والانحرافات الجنسية.

بالإضافة إلى هذه الحاجات الضرورية هناك الكثير من الرغبات النفسية الفزيولوجية التي قد تتحول إلى عقد نفسية فرعية عند ما تجنح النفس الإنسانية بصاحبها إلى التعلق والمغالاة في طلبها.

والعقد النفسية لا وجود لها إلا عند الإنسان وهو المخير دون سائر المخلوقات التي يسيّرها خالقها ، لذلك هي سوية في تصرفاتها السلوكية وسعيدة بتصرفاتها وأحاسيسها شرط أن لا تتدخل يد الإنسان المفسد في نمط سلوكها ومعيشتها.

ولقد درجت العادة أن يسمي علماء النفس مصادر ومسببات الانفعالات الشعورية والتصرفات السلوكية المرضية بالعقد النفسية ، ولقد رمزت آيات الكتاب الكريم إلى هذه العقد النفسية بالعقبات والطاغوت ، والشهوات ، والأهواء ، والأرباب ، وفقا لما تيسر لنا فهمه من خلال محاولتنا المتواضعة لاستنباط ما أمكننا استنباطه ، وهو النزر اليسير جدا لمبادئ علم النفس من خلال كتاب الله الكريم : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما

٩٠

أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد : ١١ ـ ١٧) والعقبة هنا تعني العقدة النفسية. والإشارة واضحة إلى عقبة الشح أي البخل.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران : ١٤).

هنا الشهوات تعني العقد النفسية أيضا ، وذلك عند ما تجنح الشهوة بالإنسان نحو المغالاة. والإشارة واضحة إلى العقد الجنسية وعقد الشح والسلطة وحب التملك.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية : ٢٣) والإشارة إجمالية إلى كل العقد.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (ص : ٢٦).

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (النازعات : ٤٠) والواضح هنا أن كلمة هوى تعني أيضا عقدا نفسية.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (التوبة : ٣١) والأرباب تعني عقدا نفسية.

(يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (النساء : ٦٠).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ...) (النساء : ٧٦).

٩١

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) (البقرة : ٢٥٦).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء : ٦٠ ـ ٦١) ونعرف الطاغوت بأنه كل شيء يجعل من النفس سيدا على العقل. والعقد النفسية ما هي إلا طغيان الأهواء والمخاوف النفسية على العقل وسيطرتها عليه. ونحن نرى أن كثيرا من العقبات النفسية هي شعورية أي معروفة من أصحابها ، وليس كما يدعي بعض المحللين النفسيين من أتباع مدرسة فرويد أنها لا شعورية ، أي مجهولة ومدفونة في أعماق النفس الإنسانية ؛ ولكن حب المكابرة والتعامي عن الحقيقة يمنعان أكثر الناس من الرؤية الصافية في أعماق أنفسهم ليفهموا مسببات تعاستهم وأمراضهم وكلها وليدة ما كسبت أيديهم.

٢ ـ مسبباتها :

إن فقدان أو انحراف أو عدم المعرفة بأسس التربية البيتية والمدرسية السليمة المبنية على مبادئ أخلاقية صحيحة مستمدة من تعاليم السماء الحقة ، السبب الرئيسي لنشوء وتجذر العقد النفسية عند الناشئة. وفي الإسلام نجد الأسس السليمة الواجب أن يعتمدها الآباء والمربون إذا أرادوا أن يتخلصوا هم أولا من عقدهم النفسية ، ويجنبوا أولادهم والناشئة أخطار الانزلاق في مهاوي العقد النفسية ، كما سنفصّله تباعا مع دراستنا لكل عقدة من العقد النفسية على حدة.

وبرأينا أن الأنظمة الوضعية قد عجزت عن إيجاد الحل الشافي لهذه الحاجات الرئيسية الأربع دون طغيان أو كبت إلا النظام السماوي الذي جاء به الإسلام. ونحن نتحدى أي مناقشة علمية هادئة تستطيع أن تؤكد أن الأنظمة التربوية والاجتماعية التي تعمل بها الأمم جميعها والتي لا تستمد تعاليمها من

٩٢

الإسلام قد أمنت لأفرادها السعادة الحقيقية.

٣ ـ آلياتها ومظاهرها :

هناك آليات تحاول النفس أن تتخلص بواسطتها من عقباتها ، وقد تنجح النفس في ذلك فيسمى ذلك بالتسامي ، وقد تفشل في ذلك فتتقنع العقبات النفسية تحت ظواهر وعوارض مرضية لا تخفي على مختص إذ تتحول العقدة إلى نقيضها من خلال ما نسميه بعملية التعويض ، كتحول عقد الحرمان المادي إلى عقدة الجشع والطمع والبخل ، وعقدة الضعف إلى عقدة الكبرياء والتعالي ، وعقدة الحرمان العاطفي إلى عقدة حب الإيذاء والشراسة والتعالي. وفي أكثر الأحيان تتداخل العقد النفسية مع بعضها فتتجذّر العقدة ونقيضها في النفس الواحدة ، وهذا ما نسميه بازدواجية الشعور والتصرف وما أكثرها عند أغلب الناس المرضى والأصحاء ، إلا أن الفرق بين المريض والصحيح هو في درجة الشدة والمغالاة والازعاج الذي تسببه هذه العوارض عند الأول منهم.

وبرأينا أن الناس كل الناس هم مرضى نفسيون وإن اختلفت درجة المرض عندهم ، إن لم يتبعوا قولا وعملا التعاليم السماوية الحقة التي أنزلت على الأنبياء والرسل. فمقياس الصحة النفسية المتعارف عليه عالميا بين علماء النفس هو درجة سعادة الفرد وطمأنينته وسكينته. والإنسانية كانت ولا تزال قلقة وتعيسة حسب كل الإحصاءات ، ولا يستثنى من ذلك واستنادا إلى الواقع والإحصاءات إلا القلة ممن فهم والتزم بتعاليم السماء الحقة ، وبقدر ما يلتزم الفرد بتعاليم السماء الحقة (أي التي لا تتعارض مع كل منطق وعقل وعلم صحيح هي تعاليم الإسلام) يطمئن ويسعد. وبقدر ما يبتعد عنها يقلق ويشقى مصداقا لقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).

ولقد حذر الرسول الكريم الناس من عقبات أنفسهم وعقدها في ما

٩٣

روي عنه قوله :

«بئس العبد عبد تخيّل واختال ونسي الكبير المتعال».

«بئس العبد عبد تجبّر واعتدى ونسي الجبّار الأعلى».

«بئس العبد عبد سها ولها ونسي المقابر والبلى».

«بئس العبد عبد عتا ونسي المبتدا والمنتهى».

«بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدّين».

«بئس العبد عبد طمع يقوده ، بئس العبد عبد هوى يضلّه».

«بئس العبد عبد رغب يزلّه». (رواه الطبراني والترمذي)

٢ ـ عقد الحرمان ، والحرص ، والنقص والتعالي

١ ـ عقدة الحرمان العاطفي :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) هذا ما أمرنا به المولى كي لا تتأصل عقد الحرمان في النفوس.

فكل مخلوق حي هو بحاجة لدفقة من حنان وحب ورعاية ، من الضروري والمفروض أن يؤمنها له والداه أولا وأقرباؤه ثانيا وإخوانه من المؤمنين في الدين ثالثا ، فالمحبة والعطف والكلمة الطيبة هي من الضرورات الأساسية لحسن نمو واتزان الشخصية ، ليس على الصعيد الشعوري والسلوكي فقط ، بل والجسدي في أكثر الأحيان. لذلك نرى أن الإسلام من خلال القرآن والحديث وسيرة الرسول الكريم قد شدد على ضرورة المحبة والعاطفة الصادقة والأخلاق السمحة في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ، وأعطى الرسول الكريم المثل الأعلى على ذلك من خلال حياته الشخصية ، فسيرته كلها تتصف بالمحبة والعطف والرفق بكل مخلوق من مخلوقات الله.

٩٤

والحيوان والنبات بحاجة للحنان والرعاية المادية والنفسية ، وليس الإنسان وحده ، وهذا شيء يعرفه أكثر المطلعين على حياة الحيوان والنبات. وفقدان المحبة عند الإنسان خاصة منذ ولادته وحتى انتهاء المراهقة ، غالبا ما يتحول إلى عقدة ، أو عقبة الحرمان العاطفي التي تنعكس سلبا على مشاعر الإنسان وتصرفاته حيال نفسه والآخرين. ومن مظاهرها الانطواء والخجل والتردد والقلق والكآبة النفسية والشراسة والميل إلى إيذاء الغير والذات. من هنا نفهم كثرة الآيات والأحاديث الشريفة التي تأمر بالمحبة والعطف والحنان قولا وعملا كي تجنب النفوس ، خاصة التي فقدت أحد مصادر الحنان الرئيسية : الوالدين ، خطر الانزلاق في عقد الحرمان العاطفي وسلبياتها المضرة فردا وجماعات :

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ). (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً). (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) (إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٥).

لا بل إن الإسلام شرّع بأنه ليس من الدين على شيء ، كل إنسان قادر لا يساعد غيره من أن يتردى في مهاوي عقد الحرمان العاطفي أو المادي :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون : ١ ـ ٣) .. والأحاديث في الحض على المحبة كثيرة جدّا نكتفي ببعضها :

«والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا» (رواه مسلم).

«من لا يرحم الناس لا يرحمه‌الله» (متفق عليه).

«لا تنزع الرحمة إلا من شقي» (أبو داود).

«من يحرم الرّفق يحرم الخير كله» (رواه مسلم).

٩٥

٢ ـ عقدة الحرمان المادي :

وقد أشارت إليها الآيات الكريمة التالية (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً). (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا).

هذه العقد هي في بعض الأحيان متلازمة مع عقدة الحرمان العاطفي ، ومظاهرها في أكثرها «تعويضية» كالإسراف في المأكل والمشرب والتعلق المرضي بالأشياء الزائلة ومنها تتولد عقدة البخل ، وعقدة خوف الفقر وهي من أهم العقد ، وتشكل مع عقدة الموت أكثر العقد انتشارا في النفوس الإنسانية.

ومن واقع المعرفة العميقة بالنفس الإنسانية والسلبيات القاتلة التي تتلازم مع عقبة الحرمان المادي وعقبة الحرص التي تنشأ عنها والتي هي الوجه المقنع لعقبة الحرمان المادي والعاطفي أيضا ، نرى الإسلام قد سن فريضة الزكاة ومعناها تزكية النفوس والدراهم ، وجعلها ركنا من أركان الإسلام ، بل وجعل مانع الزكاة من المشركين :

(... وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ). (فصلت : ٥ ـ ٦) وحبّب الإسلام الإحسان إلى النفوس ، وكرّه الشح بعشرات الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المعروفة من كل الناس والتي يتجاهلها وينساها أكثرهم مع الأسف (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ). كما حدد التنزيل أن المعالم السوية للشخصية الإسلامية أن تكون وسطا في الإنفاق.

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

والحمد لله أن هناك (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) على

٩٦

رأسهم الرسول الكريم والصحابة والصالحون من الأقدمين والمحدثين استطاعوا أن يتفادوا عقد الحرمان والحرص ، بل ويتساموا بغريزة حب التملك إلى فضيلة حب البذل والسخاء والعطاء حتى الإيثار على أنفسهم : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ولو التزم الناس بتعاليم الإسلام ما بقي بينهم فقير أو جائع.

٣ ـ عقد النقص أو الشعور بالانسحاق والخوف من الغير :

وقد رمزت إليها الآية الكريمة التالية : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) إن الشعور بالنقص والضعف هو إحساس طبيعي عند كل مخلوق حي. وعلى الإنسان أن يتخلص تدريجيّا من هذا الإحساس مع اكتمال قواه الجسدية والعقلية والشعورية في نهاية المراهقة والدخول في مرحلة الرجولة والإنتاج ، شرط أن تيسّر له تربية بيتية صالحة ، ومجتمع عادل لا مكان للظلم فيه. فعقد النقص تتلازم في أكثر الحالات مع عقد الحرمان المادي والعاطفي أو العاهات والتشوهات الخلقية والمكتسبة ، أو التربية البيتية والاجتماعية الخاطئة ، أو هذه الأسباب مجتمعة ، ومن مظاهر عقد النقص الانعزالية والهرب والخوف من الغير ، والقلق الشديد أمام كل شيء جديد والشراسة وحب الإيذاء للذات والغير.

ولقد لاحظنا أن التربية البيتية المرتكزة إلى قواعد الإيمان الصحيح المستمد من كتاب الله والحديث الشريف وسنة الرسول الكريم ، هي الأساس في تكوين الشخصية المتزنة للأطفال والأولاد. فاستئصال بذور الشعور بالنقص أمام الفوارق الاجتماعية والجسدية لا يكون إلا إذا اعتقد الإنسان بتعاليم السماء الحقة وهناك عشرات الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تساعد الإنسان على التخلص من عقد النقص شرط أن يعقل تعاليم الله ويلتزم بها (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ). (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ). (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ

٩٧

الْغُرُورِ). (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى). وروي عن الرسول الكريم قوله : «إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (رواه مسلم). «كلكم لآدم وآدم من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى» من خطبة حجة الوداع. «ربّ أشعث أغبر ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره» (رواه مسلم).

فالإسلام في تعاليمه وقاية للنفس الإنسانية من خطر الوقوع في متاهات العقد النفسية والسبيل الأمثل للشفاء من هذه العقد في حال وجودها.

وتجربتنا المهنية ، وكذلك تجربة بعض المدارس النفسية في علاجها للعقد النفسية ، أثبتت أن كل محاولة علاجية للعقد النفسية لا ترتكز إلى معطيات ومسلمات الإيمان الصحيح ، فاشلة ؛ وعلى الآباء والمربين أن يفهموا الجيل الطالع ضرورة الفروقات الاجتماعية لانتظام المجتمع استنادا لقوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). (الزخرف : ٣٢).

فكل عمل يقوم به الإنسان بضمير وإخلاص هو عمل مشرف ، ولا شعور بالنقص لدى القيام بأي مهنة فيها عمارة المجتمع ما دام المولى قد أمر بالعمل ويسّر كل إنسان لما يمكن أن يعمله.

٤ ـ عقدة التعالي والتكبر والغرور أو عقدة إبليس أو عقدة المعصية الأولى :

وقد رمزت إليها الآيات الكريمة التالية : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ). (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان : ١٨ ـ ١٩).

التعالي والتكبر والغرور من العقبات التي لا يحبها الله وهي مهلكة للنفس وللغير إذ غالبا ما تتلازم مع صفة الظلم والمولى حرم الظلم على نفسه وعلى عباده :

٩٨

«يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» حديث قدسي.

والإنسان منذ تكوّن شخصيته وحتى نضوجها يحاول التغلب على الشعور الطبيعي عنده بالضعف ، إلا أنه قد ينتقل ومن خلال عملية المقاومة النفسية التي ندعوها بالتعويض إلى حب الشعور بالقوة والسيطرة والتعالي المرضي ؛ وإذا لم يوازن الأهل والمربون في تربيتهم للأبناء بين شعور فطري بالضعف ونزعة شعورية بالتغلب على هذا الضعف من خلال حب وطلب القوة والسيطرة ، فقد تجنح أهواء الأبناء ورغباتهم إلى الاستقرار في عقد التعالي والتكبر والغرور ، وهي الوجه المقابل لعقد النقص والحرمان والحرص ومتلازمة في أكثر الحالات معها.

ولا شيء كالتربية الدينية الصحيحة يستطيع أن يسلك بالنفس الإنسانية إلى مرتبة وسط بين عقد النقص والانسحاق وعقد التعالي والغرور. ومن أنشئ تنشئة دينية سليمة قلّما يقع في مهاوي عقد النقص والتعالي ما دام يعي ويلتزم بما قاله المولى عزّ وعلا : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) .. (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ). (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً). (الإسراء : ٣٧). وفي الحديث القدسي : «العز إزاري ، والكبرياء ردائي فمن ينازعني عذبته» (رواه مسلم).

٣ ـ العقد الجنسية

ولقد رمزت إليها الآية الكريمة التالية : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ) (آل عمران) وفي الحديث الشريف : «ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء» (رواه الترمذي).

أرجع «فرويد» (طبيب نمساوي عاش في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين) كل أحاسيس وتصرفات النفس الإنسانية

٩٩

الطبيعية والمرضية إلى الجنس والرغبة الجنسية والعقد الناتجة عنها ، وبنى مدرسة تحليلية نفسية قائمة على نظرياته هذه ، والتي لم يوافقه عليها ويتبعها إلا القلة من المهتمين بعلم النفس وأمراضها. ولقد أثبت الوقت والتجربة والنتائج في المعالجة النفسية حسب نظريات فرويد عدم صحة أكثرية نظرياته ، بل وخطورة تطبيقها وخاصة أنها معقدة وقد فهمت بصورة ملتوية من أكثر المتعلمين من الناشئة.

وما كنا لنتطرق هنا ل «فرويد» ونظرياته لو لا الأثر السيئ المدمر الذي تركته في تصرفات الناشئة ، إذ فهموها دعوة إلى الإباحية الجنسية ، والتحلل من القيم الأخلاقية الحقة التي تدعو إليها الأديان السماوية ، والتي اعتبرها «فرويد» أوهاما وتعقيدا للناشئة إذ كتب يقول : «الدين هذا الوهم» ولقد حصدت بعض المجتمعات الغربية النتائج التي يعلمها الجميع في نفوس الناشئة التي حاول «فرويد» أن يحللها من عقدها النفسية ، فقادتها بعض نظرياته وربما الفهم الخاطئ لأكثرها ، وكذلك نظريات أكثر المدارس النفسية الوجودية والمادية الإلحادية ، إلى ما هي عليه اليوم من التردي في القيم الأخلاقية والأمراض الجسدية النفسية المعروفة من الجميع. ولا نرى «لفرويد» من أثر خيّر في علم النفس إلا أنه بلور بعدا جديدا في النفس الإنسانية هو اللاشعور وتأثيره المرضي المجهول في بعض التصرفات والانفعالات الإنسانية.

إن الغريزة الجنسية هي حاجة أساسية كبقية حاجات النفس التي عددناها في بداية هذا الفصل ، ولكنها ليست كل الحاجات ، وجموح الغريزة الجنسية دون أي وازع ديني صحيح ، أو كبتها وطمسها ومنع التحدث عنها بفعل مفهوم أخلاقي أو ديني أو اجتماعي خاطئ هو الذي يقود إلى العقد النفسية الجنسية وينعكس سلبا على شعور الإنسان وتصرفاته.

ولقد نظم الإسلام من خلال القرآن الكريم والحديث الشريف

١٠٠