من علم النفس القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم النفس القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٠

الفصل الثامن

النوم في المنظار العلمي والمفهوم القرآني

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).

(الروم : ٢٣)

«لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا وما المبشرات؟ قال : الرؤيا الصالحة».

(حديث شريف ـ رواه البخاري)

١٤١
١٤٢

١ ـ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ...)

النوم ضرورة حياتية لجميع الأحياء ، فكل مخلوق حي يفقد النوم أو نمنعه منه ، لا يلبث عاجلا أن يموت. ولقد بدأ العلم منذ مطلع القرن العشرين (١٩٣٧) يكتشف تباعا الأبعاد العلمية والدقائق التشريحية والوظيفية والكيميائية التي تتحكم بعملية النوم. إلا أن العلم وحتى كتابة هذه السطور لم يتوصل بعد إلى معرفة المسبب الأول الذي يجعل أجسام المخلوقات الحية تفرز موادّ كيميائية تؤثر على مراكز النوم الموجودة في الجهاز العصبي المركزي وتجعل من هذه المخلوقات تنام وتصحو ، فالعلماء لن يدركوا الكثير من الحقائق التي يدرسونها ، ومنها النوم إلا إذا سلموا بوجود الروح ، سر الخالق وأمره في المخلوقات وعلة الحياة فيها.

واضطراب النوم ، وجه من وجوه القلق النفسي المتعددة ، هو مع القلق ، القاسم المشترك لأكثر الأمراض النفسية والعقلية واضطرابات الشخصية : (فلقد جاء في الإحصاءات أن اللبنانيين قد استهلكوا في سنة ١٩٨٤ ما يقرب من مليون علبة دواء منوم ومهدئ للأعصاب ، أي بمعدل علبة لكل ثلاثة أفراد ، وهذا الاستهلاك له ما يبرره في الحرب اللبنانية ، واستهلكت فرنسا سنة ١٩٨٢ ستة وخمسين مليون علبة دواء من المنومات ، و ٧٠ مليون علبة من المهدئات ، وهناك فرد من خمسة في الولايات المتحدة

١٤٣

يعاني من اضطراب في النوم ، ويصرف الأميركيون سنويا ٣٤٠ مليون دولار تقريبا ثمنا للأدوية المنومة والمسكنة فدواء الفاليوم ـ مهدئ الأعصاب المعروف ـ هو أحد خمسة أدوية من الأكثر مبيعا في العالم). تكفي هذه الأرقام ، لتبين أن القلق النفسي ، ومن مظاهره اضطراب النوم ، يلف الإنسانية من أقصاها إلى أدناها ؛ فالطمأنينة ، وأعلى درجاتها السكينة ومن مظاهرها النوم الهادئ العميق المريح ، وفيه أمنة أي راحة الجسد والنفس والروح ، لا يمنحها البارئ عز وعلا ، إلا لمن اتبع تعاليمه والتزم بها من المؤمنين مصداقا لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (الفتح : ٤).

٢ ـ مراحل النوم كما كشفها العلم

منذ سنة ١٩٥٥ ، وبعد دراسة عشرات الآلاف من حالات النوم في مختبرات النوم العلمية حيث يسجل مخطط الدماغ الكهربائي للنائم مع حركة تنفسه وعينيه وغفلاته ، قسم العلماء النوم إلى عدة مراحل :

المرحلة الأولى : مرحلة الدخول التدريجي في النوم ، وتؤلف ٢ ـ ٤ خ من مدة النوم الكامل.

المرحلة الثانية : مرحلة النوم الخفيف غير العميق الذي يؤلف ٥٠ خ من مدة النوم الكامل.

المرحلتان الثالثة والرابعة : مرحلة النوم البطيء العميق العادي الهادئ ، وهي مرحلة النوم المريح أي نوم الأمنة والطمأنينة وتشكل ٢٠ خ من مدة النوم الكامل.

المرحلة الخامسة : مرحلة النوم العميق المصحوب بالأحلام والحركة

١٤٤

أو النوم العجيب ، لأن النائم خلال مرحلة نوم الأحلام يكون تخطيط الدماغ الكهربائي وحركة التنفس والدورة الدموية وحركات العين كما لو كان في حالة اليقظة رغم أنه في نوم عميق جدا. وربما كان هكذا نوم أهل الكهف والله أعلم (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ...) ومدة هذا النوم العميق العجيب نوم الأحلام تشكل ٢٥ خ من مدة النوم الكامل.

ولقد ثبت أن أكثر الناس لا يدخلون في مرحلة النعاس أي النوم العميق سواء كان النوم العميق العادي أو النوم العميق العجيب نوم الأحلام ، إلا بعد المرور بمرحلة النوم التدريجي. كما ثبت أن مراحل النوم العميق وهي تشكل ٤٥ خ من مدة النوم الكامل هي مراحل النوم المريح لجميع وظائف أجهزة الجسم والقوى العقلية من ذاكرة وقوة استيعاب وقدرة على التفكير. ويختصر كل ذلك قوله تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً) أي إذ يغطيكم ويغلفكم في النوم العميق الذي يعطي الأمان والطمأنينة. (لغويا : النعاس هو النوم العميق ، وقد وصف المولى النعاس بأنه أمنة أي راحة جسدية ونفسية وعقلية : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) (آل عمران : ١٥٤). وجاء العلم اليوم يثبت أن النعاس أي النوم العميق ويشكل نصف مدة النوم ، هو النوع المريح من النوم للنائم ...).

٣ ـ الموتة الكبرى والموتة الصغرى

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر : ٤٢).

لكلمة الوفاة قرآنيا معنيان :

أ ـ الوفاة الكبرى أي مفارقة الروح كليّا للنفس والجسد إلى يوم البعث حيث تزوج الروح بالنفس والجسد من جديد (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)

١٤٥

فالقرآن الكريم فرّق تفريقا واضحا بين النفس والروح والجسد كما أشرنا إلى ذلك في بحث سابق.

ب ـ الوفاة الصغرى : وهي النوم وفيه تفارق الروح النفس والجسد جزئيّا وليس كليّا ، وهذا المعنى لا يعرفه إلا القلة مع أنه واضح من خلال قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ). ومن دعاء الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ما روي عنه قبل استسلامه للنوم : «اللهم بك أحيا وبك أموت وإليك النشور». وعند يقظته : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» (الترمذي ـ البخاري).

ولقد بين العلم اليوم أن جميع أعضاء الجسم تعمل بصورة بطيئة خلال النوم ؛ كما أن أكثر الثوابت في الدم من هرمونات ومواد كيميائية أخرى تتغير خلال النوم ، وليس من تعليل علمي حتى الآن لهذه التغيرات ، وقد لا يجد العلم تعليلا لكثير من ظواهر النوم ، ومنها الأحلام ، إذا لم يسلم جدلا بوجود الروح. ونحن نعتقد من زاوية إيمانية أن الروح ، خلال النوم ، تترك الجسد والنفس جزئيّا وليس كليّا وتنتقل إلى بارئها. فالنوم هو وفاة صغرى للجسد والنفس فقط وبرجوع الروح جزئيا إلى خالقها خلال النوم ترتاح النفس وكذلك مختلف أعضاء الجسم وتستعيد نشاطها خلال النوم ، ذلك أن الروح وهي العلة الأولى أي المسير الأول للنفس والجسد ، ومن خلال تواجدها فيهما تتعبهما ، وبالنوم ترتاح دوريا أجسام المخلوقات من هذا السر الإلهي الهائل القوة ، علة الحياة في المخلوقات. ودليلنا القرآني على ثقل وقع الروح على الجسم والنفس هو الآتي :

١ ـ كان عليه الصلاة والسلام كلما أتاه ملاك الوحي بالتنزيل ، يتفصد عرقا ، أو يسمع عند أذنيه طنين كطنين النحل ، ويبقى مجهدا لبعض الوقت حتى يسري عنه. [سأل الحارث بن هشام رضي الله عنه ، رسول الله فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله : أحيانا يأتيني مثل

١٤٦

صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ...» (البخاري).

روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : «كان إذا نزل على رسول الله الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل ...»].

٢ ـ للقرآن الكريم صفات كثيرة ، منها صفة الروح وقد وصفه المولى أيضا بأنه (قَوْلاً ثَقِيلاً) أي يثقل حمله على من يتنزل عليه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل : ١ ـ ٥). (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل : ٢).

إذن فالقرآن الكريم هو روح ، بل أعلى درجات الروح ، وقد كان يثقل حمله على من تنزل عليه ، الرسول الحبيب عليه‌السلام. وأرواحنا التي هي أمر المولى ، أي قوله الذي به تحول الطين إلى إنسان يثقل حملها بصورة دائمة في أجسامنا وأنفسنا ، وفي النوم يرتاح الجسم والنفس وقتيا من ثقلها!

ومن دون الأخذ بالناحية الروحية ، في فهم أسرار النوم ، لن يستطيع علماء النفس أن يفهموا في العمق أسرار النوم واضطراباته ومسبباته : فبعض المرضى الذين يشكون من فقدان النوم أو اضطرابه لا يرتاحون نفسيا بتناول الأدوية المنومة أو إرغامهم على النوم بواسطة المواد الكيميائية لمدة أسبوع أو عشرة أيام ، وعند ما يرفع عنهم تأثير الأدوية المنومة يصرحون بأنهم لم يرتاحوا من نومهم الاصطناعي هذا بل ازدادوا تعبا ومرضا! لما ذا؟ ذلك بأنهم لم يفهموا بعد بأن النوم هو «أمنة» من الله أي نعمة ورحمة ، وأن فقدان النوم عند بعض الناس قد يكون جزاء لما اقترفته أيديهم من سوء ، فليأخذوا ما طاب لهم من المهدئات والمنومات فلن يجعل الله في نوم اصطناعي كهذا هو

١٤٧

من صنع يد الإنسان راحة وأمانا ما داموا لم يلتجئوا بقلوب تائبة مؤمنة إلى الذي بيده مفاتيح الرحمة والنوم رحمة من الله.

وعبثا حاولنا من خلال تجربتنا العلاجية لهؤلاء المرضى من مضطربي النوم وفاقديه ، أن نداويهم بالعقاقير المنومة ، فلقد ظلوا يشكون من نوعية النوم ونوعية اليقظة ، إلى أن يسّر الله لنا أن نفهم ونفهم الغير ، أن الإيمان بالله هو أحسن الطرق وأسلمها للوصول إلى النوم الآمن الذي فقدوه.

والتنويم المغنطيسي (التسمية غير موفقة ونحب تسميته بالتسيير الإيحائي ، لأنه ليس نوما من الوجهة العلمية) رغم وفرة استعماله في شتى حقول الجراحة والمعالجات النفسية لم ولن نفهم آلياته إلا إذا آمنا بوجود الروح ، فالتنويم المغنطيسي هو في الحقيقة تسلط روح المنوّم على المنوّم ؛ لذلك كانت صحوة المنوّم من نومة التنويم المغنطيسي متعبة جدا ، ومن هنا خطورة التنويم المغنطيسي إذا بقي بين يدي أكثر الناس ، إذ يجب حصر استعماله في العلماء ممن هم على درجة عالية من الثقافة الروحية والالتزام الإيماني والأخلاقي.

٤ ـ الروح مفتاح الشعور والإحساس بالألم

ومن هذه الزاوية بالذات نفهم بعض الخوارق التي تتأتى على يد الصوفيين الحقيقيين أي الروحيين الذين يستطيعون أن يدفنوا أنفسهم بدون طعام أو شراب مع قليل من الهواء في توابيت زجاجية محكمة لمدة أسابيع ، ثم يعودون من نومهم الطويل هذا أو موتتهم الصغرى إلى الحياة. إنها مسألة إيمان بالله والروح ، وممارسة يومية للطرح الروحي خارج الجسد. ولا ننصح العامة بسلوك هذه الرياضة الخطرة ، إنها مسألة إيمان أولا وتيسير من المولى الذي وهبهم هذه القدرة الخارقة. وسبحان الذي يزيد في الخلق ما يشاء ، ليبين لبقية الخلق من عباده بعضا من أسراره وقدراته!!

١٤٨

واليوم وقد تبين لعلماء التشريح وعلماء وظائف الأعضاء أكثر العوامل الفيزيائية والكيميائية التي تتحكم في الألم وتسببه ، تبقى حلقة ضائعة لم ولن يتوصلوا إلى فهمها إلا من زاوية إيمانية روحية بحتة ؛ فاختلاف الإحساس والشعور بالألم بين إنسان وآخر ، بالرغم من أن العوامل المسببة للألم قد تكون واحدة ، يرجع سببه إلى الروح ، فهي التي تتحكم في مقدار الإحساس والشعور بالألم. وبقدر ما يسمو الإنسان بروحه ويهذبها ويخلصها من التعلق بشوائب الجسد ومتطلبات النفس ، يخف إحساسه بالألم وتكثر سعادته وطمأنينته. ومن اطلع على حياة المرضى من المتألمين وأذهله الفرق الهائل في الإحساس والشعور بالألم بين مريض وآخر مع أن المرض واحد ، يعي البعد الروحي الإيماني المؤثر بالإحساس لكل ما يؤلمنا ، مصداقا لقوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).

ولقد روي عن أحد الصالحين أنه أصيب يوما بالتهاب في أحد أطرافه السفلى أوجب بتره ، ولما طلب الأطباء منه شرب الخمر حتى الغيبوبة لكي لا يتألم ، (لم يكن التخدير قد عرف بعد) ، رفض ذلك ، واكتفى بأن أدخل جسده في غيبوبة روحية هي عبارة عن طرح للروح خارج الجسد ، فبتروا ساقه دون أي إحساس بالألم. ولما رجع إلى وعيه أنبئوه أن ابنه الأكبر قد قتل وهو في الجهاد فكان رده المأثور : «الحمد لله الذي أخذ ولدا وسلّم أولادا وأخذ عضوا وسلّم أعضاء» .. اللهم أسبغ علينا شيئا من إيمان هذا العبد الصالح.

٥ ـ وقفة موجزة مع الأحلام

وكما أن العلم لن يفهم في العمق أسرار النوم ما دام لم يسلم بوجود الروح ، كذلك بالنسبة للأحلام. فمن الوجهة الإيمانية هناك نوعان من الأحلام :

١ ـ الأحلام الغيبية الصادقة وهي إشارات من المولى إلى النائم ومنها

١٤٩

أمر سماوي واضح لا يتطلب التأويل كرؤيا سيدنا إبراهيم الذي أمره المولى في المنام بذبح ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى ...) (الصافات : ١٠٢).

ـ وكذلك رؤيا الرسول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ...) (الأنفال : ٤٣).

ـ ومنها أحلام غيبية صادقة غير واضحة تتطلب التأويل : كرؤيا سيدنا يوسف عليه‌السلام ورؤيا «صاحبي السجن» مع يوسف ورؤيا ملك مصر أيام كان يوسف مسجونا (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف : ٣٦) وتأويل هذا النوع من الرؤيا هو عطاء من الله لا يعلمه إلا القليل : (... وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ...) (يوسف : ٢١).

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (يوسف : ٤١).

والعلم لا يستطيع إلا أن يقر بوجود هذا النوع من الأحلام الغيبية الصادقة التي تحصل كل يوم ، فالواقع والإحصاءات والتحقيقات الرزينة تؤكد صدق وحصول ما أنبأت به لاحقا ، إلا أن العلم يبقى عاجزا عن تعليل ذلك ، ما دام لم يقر ويعترف بوجود الله والروح! أما تعليلها بنظرية الصدفة فهذا منطق الإفلاس العلمي والجدلي العاجز ، لذلك كان النوم والأحلام يشكل ٢٥ خ منه ، ومن آيات الله أي من البراهين الدالة على وجوده (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (الروم : ٢٣).

١٥٠

ـ والعلم بالرغم أنه درس الأحلام ، وعرف شيئا عن مراكزها العصبية في الدماغ وجذع الدماغ خاصة ، يبقى عاجزا عن فهم آلياتها ومسبباتها ولما ذا ينسى النائم لأكثرها عند اليقظة ما دام النائم يحلم ربع مدة نومه تقريبا.

ـ أما إذا أسلمنا بأن الروح خلال النوم تترك الجسد جزئيا وتصعد إلى خالقها فترتاح بلقائه فترى ما يسمح المولى برؤيته وتذكره وكما يرتاح الجسد وقتيا من ثقلها ووقعها عليه ، ربما فهمنا شيئا من أسرار النوم والأحلام بالعمق ، وربما فهمنا خاصة معنى الأحلام الغيبية التي لا يستطيع الواقع والعلم إلا أن يقر بوجودها!!!

وكثير من المشاكل المستعصية والاكتشافات والأفكار والنظريات العلمية وجدت حلا خلال النوم ، ربما لأن الروح بتخلصها المؤقت خلال النوم من شوائب الجسد وأهواء النفس ، ساعدت العقل على حل ما استعصى عليه خلال اليقظة!! فالروح هي علة فهم الأشياء التي يصعب حلها في الأحياء ، ومنها مسألة النوم والأحلام ... ومن هنا نشأ علم جديد هو «البارسيكولوجيا» الذي يدرس في الجامعات الغربية مع علم النفس منذ عشرات السنين فقط.

ـ والعلم من وجهة مادية بحتة لا يستطيع أن يشرح بالعمق الآليات والمسببات للعوارض الفيزيولوجية التي تحصل في الأحلام كالتغيرات في المخطط الكهربائي الدماغي خلال النوم والأحلام ، كذلك التغيرات في الثوابت الفيزيولوجية ، كنبضات القلب والضغط الشرياني ونسب المواد الكيميائية الموجودة في الدم وعمل سائر أعضاء الجسم ، أما إذا سلمنا بوجود الروح وبأنها المحرك الأول الأساسي في كل حي ، فربما استطعنا فهم الكثير عن النوم والأحلام ، لذلك كان النوم من آيات الله ، وما لم نسلم بوجود الروح وخالق الروح فلن نفهم في العمق شيئا يذكر عن النوم والأحلام!

١٥١

٢ ـ والنوع الثاني من الأحلام هو ما نسميه بالأحلام النفسية التي تنشأ عن المشاكل النفسية المستعصية سواء كانت معروفة واعية أو مدفونة في أعماق اللاوعي منذ السنوات الأولى من الطفولة. وهذا النوع من الأحلام يدرسه علماء التحليل النفسي لسبر أغوار المشاكل النفسية عند الناس والمرضى النفسيين ، فالحلم حسب تعريف «فرويد» هو الطريق الملكية التي تقود إلى اللاوعي ؛ إلا أن مشكلة المحللين النفسيين كفرويد وغيره ، أنهم يدرسون الأحلام انطلاقا من نظريات مسبقة عندهم ويستعملون الأحلام تأييدا لنظرياتهم هذه ، من هنا تضارب الآراء بشأن الأحلام وقيمتها ككاشف للنوازع النفسية الدفينة عند المهتمين بهذا النوع من العلوم ؛ وعند ما تتضارب النظريات نحن نتلمس الحقيقة دائما في كتاب الله العظيم وأحاديث رسوله الكريم لذلك سنكتفي بهذا القدر من الأحاديث الجامعة التي رواها البخاري ففيها كل صحيح بشأن الأحلام.

ـ «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة».

ـ «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها ، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره».

ـ «لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة».

ـ «من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني».

ـ «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي».

ـ «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وما كان من النبوة فإنه لا يكذب».

١٥٢

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ)

صورة توضيحية لمراكز النوم في الدماغ

١٥٣

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)

نموذج لمخطط الدماغ الكهربائي خلال النوم

١٥٤

الفصل التاسع

الموت في المنظار العلمي والمفهوم القرآني

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

(البقرة : ٢٨)

«كفى بالموت واعظا وباليقين غنى».

(حديث شريف رواه الطبراني)

ما رأيت يقينا أقرب إلى الشك من الموت.

حكيم

١٥٥

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

عوامل الموت والحياة البيولوجية هي مخلوقة أي مكتوبة سلفا في الثروة الوارثية عند الأحياء (هنا صورة حقيقية للثروة الوراثية في خلية الانسان المؤلفة من ٢٣ زوجا من الصبغيات ، كل صبغية تحمل من ١٠ إلى ١٥ ألف ناسلة أو مورثة وكل مورثة تتألف من مائة مليار ذرة وفي جسم الانسان ما تعداده التقريبي مائة ألف مليار خلية ...)

١٥٦

إن فكرة الحياة والموت هي في ضمير وشعور وتصرف كل مخلوق حي ؛ هو يفتش عن أسباب الحياة التي تؤمن وجوده واستمراريته ويهرب من الموت ومسبباته. هذا التصرف هو بيولوجي غريزي مكتوب في الثروة الوراثية عند كل حي ، كما كشف العلم ذلك منذ عشرات السنين فقط مصداقا لقوله تعالى :

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك : ٢).

ولئن لم تحدث فكرة الموت والحياة أي مشكلة سلوكية ، أو نفسية ، أو فلسفية بالنسبة للمخلوقات المسيرة من خالقها ، فللحياة والموت معان عدة بالنسبة للإنسان العاقل ، وهو المخير دون سائر المخلوقات. فمن غريزة حب الحياة والبقاء والمحافظة عليها ، نشأت عقدة الموت عند الإنسان العاقل ، وهي أهم وأصعب العقد الرئيسية عنده ، وكل المدارس الفلسفية أو النفسية أو المادية التي تعرضت لمعنى الحياة وحاولت إيجاد الحل الشافي لعقدة الموت ، وما يمثله ، فشلت في إيجاد الحل المقنع لها ، إلا الإسلام الذي أعطى الحل المنطقي الشافي لها من خلال دستوره : القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، والسنة العطرة.

١٥٧

وكل ما سننشره لاحقا بإذن الله في موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ما هو إلا محاولة متواضعة لإعطاء الدليل المنطقي العلمي على أن القرآن الكريم هو كلام الله ويجب الاعتقاد به ككل ، فهناك مئات الآيات العلمية في حقول العلوم المادية التي سبقت بمضمونها العلم بقرون لا يعقل أن تكون منطقيا إلا من لدن الله ، أما فكرة البعث بعد الموت ، فيجب اليقين بها من باب المنطق والقياس لأنها لا تقع تحت سلطان التجربة ، والحواس وهي غيب ، ولا يوجد إيمان صحيح إلا مع يقين بالآخرة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

والمنطق السليم يفرض اليقين بكل ما جاء في القرآن الكريم ، ومنه الآيات الغيبية التي لا تقع مضامينها تحت سلطان العلم والحواس كالجنة والنار والملائكة والعرش ما دام في القرآن الكريم مئات البراهين العلمية المادية التي تخضع مضامينها لسلطان الحواس والتجربة ، وقد جاء العلم الصحيح يطأطىء الرأس أمام إعجازها ، ولا يستطيع كل ذي عقل ومنطق إلا أن يقرّ بأنها من لدن الله ، أما أن نوقن بهذه الآيات لأن العلم بيّنها بالصورة ورأيناها بالعين ، وننكر الآيات الغيبية لأن العلم والحواس لا يستطيعان تبيانها ، فهذا هو عين المنطق الازدواجي المرضي وهو منطق الملحدين الماديين.

١ ـ الموت في المفهوم القرآني

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (النجم : ٤٤)

أ ـ لا شفاء من الموت

يعتقد أكثر الناس في أعماق شعورهم ولا شعورهم وإن أنكروا ذلك بألسنتهم أن العلم سيجد يوما ما علاجا شافيا من الموت ، وهناك قلة من العلماء المهووسين يفتشون ويصرحون علنا بأنهم سيجدون يوما ما العلاج الشافي من الموت ، وما بدعة حفظ الأموات في الثلاجات بحرارة ٢٨٠ درجة

١٥٨

تحت الصفر حتى إذا وجد العلم يوما سر الحياة حقنوها بهذه المادة التي يفكرون باكتشافها ، إلا تفتيش عن سراب ، وسينتظرون كثيرا وكثيرا جدا فلقد انتظرت مومياء الفراعنة عودة الحياة إليها منذ خمسة آلاف سنة ولا تزال تنتظر وستظل تنتظر إلى يوم البعث! العلم لم ولن يصل يوما ما إلى إعادة الروح والحياة إلى الأموات : هذا أول تحدّ قرآني ، ونحن نقول ذلك بكل ثقة ويقين استنادا إلى عشرات الآيات الكريمة والتي نسميها بالتحديات القرآنية. فالله وحده جلت قدرته هو يحيي ويميت (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

العلم لم ولن يخلق شيئا من العدم ف (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) (الأحقاف : ٤) ، وهذا ثاني تحدّ قرآني.

العلم وكل علماء الدنيا مجتمعين لم و (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) وهذا تحدّ قرآني ثالث قائم إلى يوم الدين.

والعقلاء من علماء الأحياء يقرون اليوم بأن العلم عاجز عن خلق خلية حية واحدة ، فكيف بذبابة مؤلفة من آلاف الخلايا المختلفة؟

العلم وجميع القوانين الوضعية التي تتعارض مع القوانين السماوية الحقة لم ولن تؤمن السعادة للأفراد والمجتمعات ، وهذا تحدّ قرآني رابع قائم حتى يوم الدين : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى ؛ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (طه : ١٢٣ ـ ١٢٤).

وما دام العلم ، في مختلف فروعه ، عاجزا ، كما تبين للجميع ، عن الوقوف أمام هذه التحديات والمسلّمات القرآنية ، فهو لم يستطع شفاء الموت ، ولم ولن يرجع الحياة إلى الميت ، فلما ذا لا يأخذ الناس من باب

١٥٩

المنطق بالمعاني القرآنية للموت ، وفيها سبيل الشفاء من القلق النفسي الذي يلف كل المجتمعات والأفراد من غير المؤمنين إيمانا صحيحا ، إذ لا إيمان من دون اليقين بعقيدة البعث والحياة بعد الموت.

ليقف الذين ينكرون وجود الله ووجود الروح أمام الموت وليمنعوا عنا الموت ، ثم ليقولوا بعد ذلك بعدم وجود الحياة الآخرة والبعث والحساب والعقاب!!

ليرجع الذين ينكرون وجود الله والروح الحياة إلى الأجساد التي فارقتها الحياة ثم لينكروا بعد ذلك وجود الخالق! نحن نتحداهم في ذلك بكل ثقة ويقين واستنادا إلى آيات الله الكريمة.

فالمولى سبحانه وتعالى الذي قال باستحالة وقوف الإنسان أمام الموت ، أو إعادة الحياة إلى الأموات ، وتبين للعلم حقيقة ذلك ، قال بوجود حياة روحية بعد الموت وقبل البعث ، وبنشأة أخرى يوم البعث ، ومن باب المنطق والقياس أن نأخذ بما قاله المولى عز من قائل ، وقوله كما تبين للعلم هو دائما الحق.

الإسلام يعطي للحياة معنى جميلا مشعا بالأمل بحياة أفضل من خلال فكرة البعث والحساب والعقاب ، ويمحو من شعور الإنسان الصورة المرعبة للموت. أما في منظار العلم المادي فللحياة معنى تعيس متعس بائس فهي تنتهي عاجلا أو آجلا إلى الفناء والعدم ، هي لا تستحق أن نعيشها كما قال أكثر الذين كتبوا في معنى الحياة ورأوا أن في الموت خلاصا من أعباء آلامهم وتعاستهم ، لأنهم لا يعتقدون بحياة النشأة الأخرى ، لذلك نجد أن أكثر الذين لا يعتقدون بالبعث يقضون آخر سني حياتهم مرضى الإحباط النفسي. ومن هنا نفهم نسبة الانتحار العالية خلال العقد الثالث من العمر عند هؤلاء لأن لا معنى للحياة عندهم خاصة في مرحلة الشيخوخة.

١٦٠