من علم النفس القرآني

الدكتور عدنان الشريف

من علم النفس القرآني

المؤلف:

الدكتور عدنان الشريف


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلم للملايين
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٠

والسيرة ، الأسس الصحيحة للتربية الجنسية ، التي تكفل للفرد حياة جنسية سليمة بعيدة عن العقد ، وسنفصل ذلك لاحقا في كتاب «التنشئة الإسلامية وعلم النفس» إن شاء الله.

أما القول بأن جميع أمراض النفس العصابية واضطرابات الشخصية وحتى الأمراض الذهانية نابعة من عقد جنسية تبدأ مع ولادة الإنسان وتمتد حتى سن المراهقة كما يدعي فرويد ، وحسب تجذر وبقاء هذه العقدة الجنسية أو تلك ، خلال المراحل التي يمر بها الطفل والولد والمراهق ، تنشأ الأمراض النفسية العصابية المختلفة ، فلقد أثبت الواقع ونتائج المعالجة النفسية التحليلية حسب مبادئ فرويد ، وبعد ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن على اتباعها من بعض الأطباء النفسيين أن في مبادئ فرويد بعدا كبيرا عن معرفة ماهية النفس الإنسانية وتفهم أسباب العقد النفسية التي تتحكم في تصرفاتها.

ولو سلمنا جدلا مع فرويد وأتباع مدرسته بإرجاع أغلب مظاهر الأمراض النفسية العصابية واضطرابات الشخصية إلى عقد جنسية متأصلة ومتجذرة فينا منذ الولادة وحتى البلوغ ، واستطعنا أن نقنع المريض بقبول المعالجة النفسية التحليلية على طريقته [وهذه تتطلب على الأقل وباعترافهم أنفسهم مدة ثلاث سنوات من المعالجة المستمرة وبمعدل ثلاث جلسات في الأسبوع مع نتيجة غير مضمونة طبعا ، ومبلغا باهظا من الأتعاب الطبية يجب أن يدفعه المريض ، إذ حسب مبادئ فرويد في التحليل النفسي ، يجب أن تصدم المريض النفسي وتدفّعه غاليا ليشفى ، كيف لا وهو اليهودي في تربيته ومعتقده؟].

وبعد ثلاث سنوات من المعالجة المستمرة والنزف المالي الدائم ، يصل المريض النفسي إلى أن يكتشف بنفسه إحدى العقد الجنسية الدفينة التي ترجع

١٠١

إلى إحدى مراحل طفولته ، وبذلك حسب زعمهم يشفى! هنا نسألهم ونتساءل : ما ذا يفعلون بعقد الموت وكيف يحلونها وهي برأي الجميع من أهم وأعقد العقد النفسية الظاهرة ، أو الدفينة في النفس الإنسانية والتي لا سبيل لحلها برأينا إلا عن طريق الإيمان بوجود حياة أخرى غير حياتنا الدنيا هذه.

أ ـ الإباحية الجنسية وبدعة التربية الجنسية المدرسية

ولقد كان من نتيجة نظريات فرويد ، في الجنس والعقد الجنسية ، ردّة إباحية في أكثر المجتمعات الأوروبية والغربية انعكست سلبا على متبعيها من الأفراد والجماعات ، فكل العاملين في الحقول الاجتماعية والمؤسسات التربوية والمعالجات النفسية ، يعرفون اليوم أن أكثر الإباحيين من الذين ينظرون إلى الجنس وممارسة العلاقات الجنسية من زاوية العرض والطلب كتدخين سيجارة ، أو شربة ماء ، أو اتباع لغريزة ، هم في أكثرهم مرضى نفسيون من المصابين بالهوس الجنسي. وفي الحقيقة هم مرضى العجز الجنسي في أكثر الأحيان ، وما تصرفهم الإباحي إلا تصرف تعويضي لإخفاء أو محاولة شفاء من عجز جنسي يحاولون عن طريق الإباحية التخلص منه ، ولم ولن يتخلصوا من عجزهم الجنسي عن طريق كهذه.

ذلك أن أغلب الأمراض النفسية من عصابية وذهانية واضطرابات في الشخصية يصاحبها في أكثر الأحيان اضطرابات في العملية الجنسية. أما قول البعض من الإباحيين في العلاقات الجنسية ، بأن الإنسان يصبح مريضا نفسيا لأنه لا يمارس الجنس فهو مردود في أكثر الحالات ، إذ ليس الجنس وممارسته هو المتنفس الوحيد للراحة النفسية كما يزعم هؤلاء بل إن الراحة النفسية الحقيقية هي فهم النفس لذاتها والاطمئنان لحاضرها ومستقبلها والتفهم لمعنى وجودها ، ومعطيات كهذه لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال السلوك بالأفراد والجماعات في طريق الإيمان الصحيح الذي يعطي

١٠٢

كل إنسان الجواب المطمئن لمعنى وجوده في هذه الحياة الدنيا وما ذا ينتظره بعد موته.

برأينا ، إن الناس ، كل الناس ، غير المؤمنين قولا واعتقادا وعملا بالله واليوم الآخر وتعاليمه ، هم من المرضى العصابيين أو من مضطربي الشخصية سواء ظهرت أعراضهم للعيان أو تسترت تحت كثير من التصرفات التعويضية التسترية التي لا تخفى على لبيب ، فالمقياس الذاتي للصحة النفسية ، هو السعادة ، أي هذا الشعور الداخلي شبه الدائم بالطمأنينة ، وشعور كهذا لا يوجد إلا عند المؤمنين حقّا ، وهذه حقيقة لا جدال فيها يعرفها جيدا من ذاق طعم السعادة الحقيقية ، بل ومن أصدق من الله قيلا في تحديد مقاييس السعادة والصحة النفسية :

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس : ٦٢ ـ ٦٤).

ب ـ بدعة التربية الجنسية المدرسية

ولقد كان آخر ما وصل إليه أنصار الإباحية الجنسية أنهم أدخلوا ما سموه ب «التربية الجنسية» إلى المدارس الابتدائية والتكميلية والثانوية منذ سنوات ، ووصلت بضاعة كهذه من حضارة الغرب إلى بعض مدارسنا الخاصة ، وبدأ الأهل والأطباء النفسيون وأطباء الأمراض النسائية والتوليد يعانون من آثارها المدمرة.

تحت شعار عدم تعقيد الناشئين ، عقّدوهم جنسيا بتربيتهم الجنسية ، وتحت شعار محاربة الجهل ، والظلام ، فتحوا عيون أولادنا وفلذات أكبادنا من المراهقين والمراهقات على حقائق لا فائدة منها أن تعرف إلا في حينها ، أي عند الزواج واكتمال النضج النفسي قبل الجسدي ، بل من الحقائق ما هو السم في الدسم.

١٠٣

ما ذا ينفع أولاد التاسعة والعاشرة ، أن يشرحوا لهم في حصص التربية الجنسية في المدارس ، شكل وعمل وتركيب الأعضاء الجنسية والحيوان المنوي والبيضة وعملية التلاقح ، وفي هذه السن المبكرة من العمر؟

أما حصص التربية الجنسية في الصفوف الثانوية ، فقد تحولت في بعض المعاهد في أوروبا إلى دروس عملية تطبيقية أمام الجميع وأحيانا بواسطة الوسائل السمعية البصرية!!!

وما ذا كانت النتيجة؟ ألوف الحالات من الاجهاض السفاحي أسبوعيا في أغلب البلدان الأوروبية وأكثرها عند المراهقين. مئات الولادات من الأطفال الذين لا يعرفون آباءهم ، وأمراض نفسية وجنسية في نسبة تصاعدية مذهلة عند المراهقين والمراهقات ، واستهلاك لمئات الأطنان من حبوب منع الحمل من قبل المراهقات ابتداء من حياتهم الجنسية التعيسة هذه.

نحن نعتقد أن العملية الجنسية ، هي في الحقيقة عملية فيزيولوجية في أسسها ومرتكزاتها أي غريزية لا تتطلب تربية جنسية مدرسية ، فهي كعملية الطعام أو التنفس ، وفي التربية الدينية البيتية والمدرسية النيرة المنفتحة ، وليست المتزمتة ، جميع الأجوبة والحلول العقلية المقنعة لجميع التساؤلات التي قد يطرحها أولادنا علينا في البيت أو في المدرسة حول ما يتعلق بالجنس وعلاقة المرأة بالرجل.

ولقد وجدنا أن أبعد الأفراد من الأولاد والمراهقين والبالغين عن المشاكل والمعاناة من العوارض المرضية النفسية ، ليسوا بالضرورة هم المنفتحين والعارفين بحقائق الحياة الجنسية وممارستها قبل الزواج بل العكس من ذلك تماما.

١٠٤

٤ ـ طغيان الإنسان

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (العلق : ٦).

هذا هو الإنسان ، إنه يطغى في كل شيء ، عند ما يجد في نفسه القدرة على ذلك ، فيضيع في متاهات العقد النفسية ، فيصبح تبعا لأهوائه وشهواته وطاغوته النفسي.

كان وما يزال كما وصفه أعلم العالمين به : هلوعا ـ جزوعا ـ منوعا ـ ظلوما ـ جهولا ـ فخورا ـ مغرورا ـ قتورا ـ كفارا ـ مفسدا ـ سفاكا للدماء ـ لا عزم له ، إلا من أسلم قيادته لله. والإسلام هو التزام وعمل بتعاليم السماء الحقة ، وتعاليم السماء الحقة لا تتعارض مع العلم ، بل هي العلم الحق ، وكل علم ثابت يؤكد أن كل ما جاء في القرآن الكريم هو الثابت والحقيقي في كل مجالات العلوم.

والإسلام إذا فهم ودرّس وطبق بصورة منهجية علمية في البيت والمدرسة والمجتمع ، هو وحده القادر كنظام سماوي متكامل لا ثغرة فيه على أن يخلص الإنسان من كل عقده النفسية ، بل يتسامى بها فيحول عقد الموت وحب الحياة إلى فضيلة الجهاد وطلب الشهادة ... وعقد الحرمان والنقص والتعالي ، إلى فضائل المحبة الصادقة والثقة بالنفس والتواضع والصبر ، وعقد الحرص والشح إلى فضيلة الإحسان والإيثار ، وعقد الجنس إلى فضيلة العفة والترفع عن كل شهوة جنسية آثمة.

وتاريخ الإنسان العاقل فردا وجماعة ، منذ أن وجدت الإنسانية وحتى يومنا الحاضر هو خير تصديق لما أشرنا إليه أعلاه مصداقا لقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ).

١٠٥

(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ)

مرارة عقد الحرمان المادي والعاطفي وظلم الإنسان وطغيانه نحو الغير نقرأها على وجه هذه المرأة

١٠٦

الفصل الخامس

الأمراض النفسية والعقلية

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ، قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

(المنافقون : ٤)

«آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان». وفي رواية أخرى : «وإذا خاصم فجر».

(حديث شريف ـ رواه الترمذي)

«يهدم الإسلام بثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضللون».

(عمر بن الخطاب)

١٠٧
١٠٨

العلم علمان : علم مادي يخضع للتجربة ويقع تحت سلطان الحواس ، وعلم إنساني عقلي وشعوري. والباحث في آيات الله الكريمة يجد أنها تطرقت إلى مختلف فروع العلم التي عرفها أو سيعرفها الإنسان : فهناك آيات كريمة رسمت الخطوط الرئيسية للعلوم المادية كعلم الأجنة ، والوراثة والفلك ، والجيولوجيا ، والنبات ، والحيوان ، وغيرها ، هي وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم لم يفصلها التنزيل ؛ لكن المولى سبحانه وتعالى أمر الإنسان وأهّله بما أودعه فيه من عقل مفكر لاكتشاف تفاصيلها : (خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ). (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ). (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).

أما في حقل العلوم الإنسانية ، كعلم النفس والقانون والاجتماع والعقيدة والأخلاق وغيرها ، فالباحث يجد في القرآن الكريم ، والسنة والحديث الشريف تفصيل كل شيء. وما على الباحث في هذا الحقل إلا شرح واستنباط وبرمجة النصوص ، وذلك ، تقديرا من المولى ، وهو الأعلم بمن خلق ، من أن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى الحقيقة في حقل العلوم

١٠٩

الإنسانية بواسطة عقله فقط ، وما أنزلت الكتب السماوية ، وهي في الحقيقة كتب الصيانة للأفراد والمجتمعات ، إلا لإصلاح النفوس وإرشادها إلى السبل التي تسعدها ، والابتعاد عن السبل التي تشقيها. فمن الطبيعي إذن أن نجد في القرآن الكريم ، الوصف الأوجز والأبسط والأعمق والأصح للعلل النفسية وأسبابها وطرق علاجها.

ولقد استخلصنا في الفصول السابقة ، أسباب العلل النفسية وسبل علاجها إيمانيّا ، ونحاول في هذا الفصل أن نستخلص قدر ما يسره المولى لنا ، بعض النماذج للأمراض النفسية كما دل عليها كتاب الله الكريم.

١ ـ أمراض الشخصية

١ ـ تعريفها :

الشخصية هي مجموعة الميزات السلوكية والتصرفات والأحاسيس الشعورية واللاشعورية والأفكار والتصورات العقلية ، هي الفكرة الكلية ، غير الثابتة ، أو المستقرة ، التي يكوّنها كل إنسان عن ذاته وذات الآخرين. ومن أصعب وأجمل الأشياء ، أن يعرف الإنسان حقيقة ذاته والآخرين ، وفي القرآن الكريم نجد الوصف الحقيقي للذات الإنسانية بكل مقوماتها ومسببات شقائها وسعادتها.

٢ ـ معالم الشخصية السوية :

مئات المجلدات كتبت وستكتب حول تحديد معالم الشخصية السليمة ، وعلماء النفس لم يتفقوا في ما بينهم على نموذج معين من الشخصيات السليمة ، بل ذهب البعض منهم إلى القول بأنه لا توجد شخصية سليمة بالمعنى الحرفي للكلمة. ففي كل نفس جوانب مريضة لا تخفى على لبيب ، ونرى أن أحسن تعريف جامع للشخصية السليمة بأنها الشخصية

١١٠

السعيدة بذاتها والتي تسعد الآخرين ولا تؤذيهم ، وهي في مثلها الأعلى تمثلت بشخصية الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وصفه التنزيل بالقول (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) كذلك شخصية بقية الأنبياء والرسل وشخصيات الصديقين والأولياء الصالحين من المؤمنين.

بكلمة مختصرة نعرّف الشخصية السليمة بأنها الشخصية المؤمنة حقا أي قولا وفعلا والتزاما وما عدا ذلك فنحن نوافق علماء النفس بأنه لا توجد شخصية سليمة بالمعنى الحرفي للكلمة.

ولقد حدد القرآن الكريم معالم الشخصية السليمة بعشرات الآيات متفرقة ومجتمعة نكتفي بهذه الآيات من سورة الفرقان ، إذ يجد فيها كل دارس في علم النفس موضوع أطروحة «في معالم الشخصية السليمة» :

فالشخصية السوية هي شخصية عباد الرحمن الذين لا يتكبرون ولكن يخاطبون الناس على قدر عقولهم : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً).

الشخصية السوية هي الشخصية المؤمنة وهذه بعض صفاتها (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً).

والشخصية السوية هي الوسط بين الإسراف والاقتار في الإنفاق (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).

والشخصية السوية هي القانتة التي لا تعبد إلها إلا الله وما أكثر الآلهة التي يعبدها الناس ، فالنساء والبنون والمال والشهوات والطاغوت ، هي آلهة أكثر الناس قديما وحديثا وليست أصنام الجاهلية فقط : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَزْنُونَ).

١١١

والشخصية السوية هي الأوابة التي لا تتشبث بأخطائها وذنوبها إذا ضعفت أمام إلحاح النفس الأمارة بالسوء ، بل ترجع إلى الله وتستغفره : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران : ١٣٤ ـ ١٣٥).

والشخصية السوية هي الصادقة التي لا تكذب ولا ترتكب المعاصي التي حرمها المولى (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً). (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

والشخصية السوية هي العاقلة العالمة تتدبر آيات الله وأحكامه فتفهمها فهما سويّا نيرا علميا بالعمق ، وليست تلك الشخصية المتشنجة ، المتعصبة التي تفهم وتطبق أحكام الله من خلال عقدها وجهلها وتعصبها الأعمى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً).

وروي عن الرسول الكريم قوله : «ليس منا من دعا إلى عصبية ، ومن قاتل على عصبية ، ومن مات على عصبية».

والشخصية السوية هي الرحيمة التي تشفق على أفراد عائلتها من الضياع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى فتعمل على أن تؤمن السكينة للزوجة والزوج والأولاد ، فالعائلة هي نواة المجتمع ، وبصلاحها تصلح المجتمعات (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) (الطور : ٢٦ ـ ٢٧) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً).

١١٢

والشخصية السوية هي الملتزمة التي استطاعت أن تلتزم بوصايا الله التي نجدها مجموعة في ثلاث آيات كريمة من سورة الأنعام ، فليحفظها وليعمل بمضمونها كل من يريد أن يكون سويّ الشخصية : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (الأنعام : ١٥١ ـ ١٥٣).

وبقدر ما تقرب النفس الإنسانية من هذه الصفات وتعمل من خلال مضمونها ، تتقرب من صفة الشخصية السليمة السوية أي المؤمنة ، وبقدر ما تبتعد عن هذه الصفات قولا وعملا ، تصبح شخصية مريضة. وتختصر صفات الشخصية السوية الآية الكريمة الجامعة (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب : ٣٥).

٣ ـ الشخصية المريضة :

للشخصية المريضة أسماء كثيرة في كتب علم النفس ، إذ تدرس تحت أسماء : عصاب الشخصية ، والشخصية غير المتزنة ، والشخصية اللاأخلاقية ، ونحب أن ندعوها نحن ب «الشخصية المنافقة». وقد وصفها القرآن الكريم أشمل وأوجز وأدق وصف ، وكشف خبايا ميزاتها في العشرات

١١٣

من الآيات الكريمة ، مفصلا كل سمة من سماتها المرضية.

ولو درس كل مهتم بالأمراض النفسية كل ما كتب عن الشخصية المريضة ، وما أكثر ما كتب عنها ، لما استطاع أن يكوّن عنها الفكرة الصحيحة العميقة الموجزة كتلك التي يجدها في كتاب الله الكريم.

أ ـ الشخصية المريضة بصورة إجمالية

للشخصية المريضة ، نماذج عدة ، تبعا لسيطرة إحدى السّمات المرضية فيها على بقية السّمات إلا أنه يجمعها قاسم مشترك هو فقدان الإيمان الصحيح.

والشخصية المريضة مسئولة عن أعمالها في الدنيا والآخرة : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (الأحقاف : ٢٦).

والشخصية المريضة ، هي حالة حدود بين المرض والصحة بالمعنى المتعارف عليه في علم النفس ، إذ نادرا ما تشعر أو تعلم أو تعترف هذه الشخصيات بعدم اتزانها ما دامت تجد متنفسا لتنفيذ غاياتها وأهوائها ونزواتها اللاأخلاقية من خلال الأفراد الذين تتعايش معهم ، أما إذا جابهها الغير ورفض الانصياع لرغباتها ونزواتها وأهوائها المريضة ، فقد تصل هذه الشخصيات غير المتزنة إلى عيادة الطب النفسي ، ولكن بعد الكثير من المآسي الاجتماعية ، فهي حينئذ «محطّمة محطّمة» «معذّبة معذّبة» ، لكنها بعد فترة لا تلبث أن تعاود سيرتها الأولى من إيذاء الغير ودون أي شعور بالذنب ، بل على العكس فإنها تعتبر نفسها ضحية أخطاء وذنوب الغير ، إنها من أصعب النفوس علاجا وأشدها إيذاء للمجتمع. وتنبيها لنا من المولى عزّ وعلا إلى خطورة هذه الشخصيات اللاأخلاقية على المجتمع نجد في كتابه الحكيم

١١٤

عشرات الآيات التي رسمت صفات هذه الشخصيات ، لا بل إن المولى سمى بعض السور الكريمة بأسماء بعض النماذج منها تحذيرا من خطورتها ، كسورة «المنافقون» و «المطففين» و «الكافرون».

ب ـ الشخصية المريضة بصورة تفصيلية

هي الشخصية المنافقة ذات الوجهين : كاذبة ، تتستر وراء الدين والتقى لتصل إلى مآربها الخسيسة : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وقد ينخدع بعض الناس بجميل مظهرها الخارجي وحلاوة أقوالها ، ظاهرها جميل وباطنها فارغ أجوف عفن : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ). «وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» (حديث شريف).

وهي الشخصية الجبانة (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).

وهي الشخصية المكابرة ، المغرورة ، المتعالية التي يئست من رحمة الله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (المنافقون : ٥).

وهي الشخصية المفسدة ، التي تعيث في الأرض فسادا ، وبالرغم من ذلك لا تشعر بإفسادها ، بل تعتبر نفسها مصلحة : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

وهي الشخصية المشككة المرتابة بكل شيء ، بالله والناس : (فِي

١١٥

قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (شك) (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً). (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً). (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ).

ولقد وردت جملة (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) اثنتي عشرة مرة في القرآن الكريم وفي أكثر معانيها تعني النفوس المشككة ، سيئة الظن بالمولى ورسوله والناس.

وهي شخصية كل (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ، وكل (حَلَّافٍ مَهِينٍ) وكل سفيه في القول والتصرف ، وهي لا تعرف ذلك بل تسفه الإيمان الفطري السليم عند الغير : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ ، قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة : ١٣).

وهي الشخصية المطففة ، شخصية قوم شعيب من المطففين ، وما أكثر المطففين في يومنا الحاضر.

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين : ٢ ـ ٣).

وهي الشخصية القتورة ، البخيلة وإن تظاهرت بالعكس العكس : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) (المنافقون : ٧).

وهي الشخصية المتذبذبة بين الإيمان وعدمه إذ تتبع ما يتناسب مع أهوائها ورغباتها في مسألة الأوامر والنواهي الإيمانية ، وتترك ما يتعارض ونزواتها الشخصية ، إذ تصلي وتزني ، وتنفق على الغير علنا رئاء الناس وتسرق في الخفاء وتأكل الربا :

(يَكادُ الْبَرْقُ) (هنا بمعنى تعاليم القرآن الكريم) (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ، كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) (البقرة : ٢٠).

١١٦

أما إذا اجتمعت كل هذه الصفات المرضية بصورة بارزة ومسيطرة في شخصية واحدة ، فهذه هي شخصية أكثر الطغاة وأعداء المجتمعات على مر التاريخ وحتى يومنا الحاضر فهم : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ). أما مصيرهم في الدنيا والآخرة فهو المذلة والمهانة والعقاب : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ). (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

هذا غيض من فيض من أوصاف الشخصيات المريضة علما أنّ في أعماق كل نفس غير مؤمنة حقا شيئا من صفات هذه الشخصية المريضة التي رسمنا خطوطها العريضة ولا سبيل للتخلص من هذه الصفات قبل استفحالها إلا باتباع سبل الهداية الموجودة في نصوص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. وكل علاج نفسي لا يعتمد على ذلك هو وقتي غير مجد ، والتجربة والواقع يصدّقان ذلك.

٢ ـ الأمراض النفسية العصابية

المريض النفسي العصابي ، يختلف عن مريض الشخصية ، بأنه يعرف ويشعر ويعترف بأنه مريض في أحاسيسه وأفكاره وتصرفاته ، ونادرا ما يهدم الغير ويؤذيه ، بل يبقى على اتصال وتعامل مع محيطه ضمن القوانين السائدة فيه ، وهو يطلب المساعدة والعلاج.

لن نتوقف أمام مختلف الأمراض النفسية العصابية ، من عصاب القلق إلى عصاب الخوف والهلع إلى عصاب الهستيريا وغيرها ، إذ يجمعها قاسم مشترك وهو القلق والخوف من المجهول ، ولقد فصلنا في الفصول السابقة نشأة وجذور وعلاج هذا الخوف من الأشياء المجهولة والمعلومة ، فكل الأمراض العصابية ترجع في جذورها إلى عقد النفس الأساسية ، كعقد الموت ، وعقد الحرمان المادي والعاطفي وعقد النقص والتعالي والعقد الجنسية وغيرها ...

١١٧

عصاب الوسواس

نتوقف قليلا عند عصاب الوسواس أو ما يسمى بعصاب السلوك والتفكير الجبري ، وهو من أشد الأمراض العصابية إزعاجا وأصعبها علاجا كما هو معروف في علم النفس.

فعصاب الوسواس متجذر في أعماق النفس الإنسانية ، ويرجع في منشئه إلى عقد الموت بصورة رئيسية ، وعقد النقص والخوف من الغير وحب الظهور وعقد الحرص والحرمان بصورة ثانوية. وقد يكون للعامل الوراثي بعض التأثير ، إلا أن التربية البيتية من قبل أهل هم أيضا «موسوسين» هو العامل الرئيسي في تنشئة وتجذر وصعوبة علاج الوسواس ، كما وأن التحليل النفسي على طريقة «فرويد» أو غيره والمعالجة الكيميائية بالعقاقير ، أو المعالجة السلوكية بمواجهة المريض تدريجيا بما يخفيه ويتوسوس منه ، أثبتت كلها بعد عشرات السنين من اتباعها ، عدم جدواها أو فاعليتها المؤقتة ، ولو لم يكن الوسواس بهذه الدرجة من الإزعاج وعدم الاستجابة للمعالجات الوضعية لما أمر المولى الناس عامة والموسوسين منهم خاصة بالالتجاء إليه وإلى تعاليم كتابه في سورة مخصصة «بالوسواس» هي إحدى المعوذتين :

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).

وقد وجدنا من خلال تجربتنا العلاجية في حقل الأمراض العصابية ، وخاصة عصاب الوسواس ، أنه لا شيء يجدي بصورة دائمة إلا المعالجة النفسية التحليلية المستندة إلى ما ندعوه مبادئ التحليل النفسي المستخلصة بصورة علمية ومنهجية من كتاب الله والحديث والسنة ، وكل محاولة تحليلية نفسية تتعارض مع هذه المبادئ الإيمانية هي مضيعة للوقت والمال. وإحصائيات المهتمين بالتحليل النفسي تؤكد ما أشرنا إليه أعلاه.

١١٨

٣ ـ الأمراض العقلية الذهانية والتخلف

العقلي وفقدان القوى العقلية

إن الأمراض العقلية كالذّهان الدوري والهلوسة الحادة والمزمنة وانفصام الشخصية ، والتخلف العقلي الخلقي والاكتسابي ، هي أمراض عضوية ناتجة عن خلل في وظيفة الخلايا الدماغية وإن كانت عوارضها فكرية شعورية أو سلوكية ، لذلك يجب أن نفصلها عن الأمراض النفسية كما فصلناها سابقا ، ولقد سمح المولى باكتشاف بعض سبل معالجتها بالمواد الكيميائية منذ عشرات السنين فقط. وعلاجها كغيرها من بقية الأمراض العضوية يكون بسؤال أهل العلم والاختصاص التزاما بقوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

أما فقدان القوى العقلية في سن الشيخوخة الناتج عن تدمير في الخلايا العصبية وضمور في الدماغ فلم يكشف العلم حتى الآن وربما لن يكتشف أبدا أي دواء فعال له ، مصداقا لقوله تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يس : ٦٨). (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (الحج : ٥).

٤ ـ أمراض المس الروحي

إن ما يسمونه دجلا بالطب الروحي ، هو تجارة رابحة تمارس بصورة علنية على أيدي المنافقين والجهلة والمشعوذين في لبنان والعالم ، أما العارفون بحقيقة الطب الروحي فهم القلة النادرة جدا يعرفهم النزر القليل من الناس ، ولا يعلنون عن أنفسهم وعن قدراتهم الروحية ، ولا يتقاضون أجرا إلا ممن وهبهم هذه القوة الروحية الشافية المولى سبحانه وتعالى فهو وحده جلت قدرته (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ).

كل يوم يطرق باب عيادتنا العديد من المرضى النفسيين الذين تنقلوا بين

١١٩

عيادات الطب الروحي المنتشرة في بيروت ولبنان أو العالم ، ولم يلتجئوا إلى الطبيب النفسي المختص إلا بعد أن استنفدت ، بصورة احتيالية ، أموالهم وساءت حالتهم المرضية ، وما كنا لنتطرق لموضوع «المس الروحي» لو لا كثرة الأفكار المغلوطة عنه عند أكثر الناس حتى المؤمنين منهم.

فمن الوجهة القرآنية : إن المس الروحي لا يستطيع أن ينكرها المؤمن ما دمنا نجد في كتاب الله الكريم ما يؤيدها نصّا :

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) (البقرة : ٢٧٥).

(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ... فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (البقرة : ١٠٢).

فالمس الروحي يكون بفعل إبليس وجنوده من الجن غير المؤمن ؛ وإن حصل ، ونادرا ما يحصل فلا تأثير له إلا في النفوس غير المؤمنة. والنصوص القرآنية واضحة في هذا المعنى (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (الاسراء : ٦٤ ـ ٦٥) (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل : ٩٨ ـ ١٠٠).

ومنعا لكل جدال ، وبكل بساطة نقول لكل مؤمن ضعيف الإيمان ، أو مدعي الإيمان ، أو غير مؤمن : إذا كنت تعتقد بالمس الروحي فما عليك إلا الالتزام بتعاليم المولى والاطلاع والتعمق في فهم الآيات التي ذكرناها أعلاه وسوف تشفى.

١٢٠