من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - ج ٣

الدكتور زغلول النجار

من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور زغلول النجار


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الشروق الدولية
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٥

الأخرى مجتمعة لا تشكل سوى أقل من ٢ خ فقط ، وقد دفعت هذه الملاحظة بعالمين معاصرين هما «فريد هويل» ، و «فاولر» إلى وضع نظرية عن تآصل العناصر ، بمعنى أن جميع العناصر المعروفة لنا فى الجزء المدرك من الكون قد تخلقت باندماج نوى ذرات الإيدروجين مع بعضها البعض ، فى سلاسل متتالية ، أنتجت تلك العناصر المتزايدة فى أوزانها وأرقامها الذرية بطريقة متتابعة ، وبعملية تعرف باسم عملية الاندماج النووى (nuclear fusion) تنتج عنها كميات هائلة من الحرارة التى تمثل حرارة النجوم.

وهذه العملية المعروفة باسم عملية الاندماج النووي تستمر مطلقة للطاقة (exothermic) حتى تصل إلى مرحلة تخليق نوى الحديد ، فتتحول إلى عملية مستهلكة للطاقة (endothermic) ؛ وحين يتحول لب النجم إلى حديد ينفجر وتتناثر أشلاؤه في صفحة السماء ؛ لتدخل بقدر الله في مجال جاذبية أجرام سماوية تحتاج إلى الحديد ؛ أو تتفاعل مع اللبنات الأولية للمادة والموجودة في صفحة السماء على هيئة الأشعة الكونية ؛ لتكون العناصر الأعلى في وزنها الذري من الحديد.

وحينما نظر العلماء فى شمسنا ، لاحظوا أن عملية الاندماج النووى فيها لا تتخطى انتاج عنصر السيليكون ، لذلك فدرجة حرارة سطحها لا تتعدى ٦٠٠٠ م ، وتزداد تلك الحرارة فى اتجاه مركزها إلى حوالى خمسة عشر إلى عشرين مليون درجة مئوية ، وأن هذه الحرارة أقل بكثير من الحرارة اللّازمة لتخليق الحديد بعملية الاندماج النووى.

ثم نظر العلماء فى صفحة الكون خارج مجموعتنا الشمسية ، فوجدوا نجوما عملاقة تتوهج في مرحلة من مراحل حياتها ، فتزيد درجة حرارتها إلى مئات البلايين من الدرجات المئوية ، ولاحظوا أن تلك النجوم ، التى عرفوها باسم النجوم المستعرة أو المستعرات (novae) هى التى تصل فيها عملية الاندماج النووى إلى مرحلة تخليق الحديد ، ولكنها لا تستطيع أن تستمر فى إنتاج الحديد طيلة عمرها ؛ لأنه في الوقت الذي تنتج فيه عملية الاندماج النووي لتكوين العناصر قبل

٢١

الحديد كميات هائلة من الحرارة فإن هذه العملية تستهلك كميات هائلة من الحرارة في إنتاج الحديد ، ولذلك فإن المستعرات تنفجر على هيئة مستعرات عظمي (supernovae) عند ما تصل نسبة الحديد فيها إلى حوالى ٥٠ خ من كتلتها ، فتتناثر أشلاؤها فى صفحة الكون ، وتدخل بقدر الله فى نطاق جاذبية الأجرام السماوية التى تحتاج إلى هذا القدر من الحديد ، تماما كما تدخل النيازك الحديدية إلى أرضنا اليوم ، وبذلك ثبت لنا أن الحديد فى أرضنا قد أنزل إليها من خارج مجموعتنا الشمسية إنزالا حقيقيا ، وأن أرضنا حينما انفصلت عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد ليس فيها من العناصر شىء أثقل من الألومنيوم والسيليكون ، ثم رجمت بوابل من النيازك الحديدية ، التى استقرت فى جوفها ، فانصهرت بحرارة الاستقرار ، وصهرتها ومايزتها إلى سبع أرضين : لب صلب داخلي أغلبه من الحديد والنيكل ، ولب سائل حول تلك النواة الحديدية الصلبة أغلبه أيضا من الحديد والنيكل ، ثم أربعة أوشحة متتالية ومتباينة فى صفاتها الطبيعية والكيميائية ، تتناقص فيها نسبة الحديد من الداخل إلى الخارج والنطاق الأعلى منها شبه منصهر ، ثم الغلاف الصخرى للأرض وبه أيضا نسبة من الحديد تصل إلى ٦ ، ٥ %.

ومن الثابت الآن أن الحديد الذى يشكل أكثر من ثلث كتلة الأرض (٩ ، ٣٥ خ من كتلة الأرض) المقدرة بحوالي (ستة آلاف مليون مليون مليون طن) قد أنزل إلى الأرض من السماء ، وأن جميع الأجرام الموجودة فى مجموعتنا الشمسية قد أرسل الحديد إليها من خارج المجموعة الشمسية ، وهذا ما أثبته القرآن الكريم من قبل أربعة عشر قرنا ، بقول الحق (تبارك وتعالى) : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥) (سورة الحديد : ٢٥).

ولو لا جديد الأرض ما أمكن أن يكون لها مجال مغناطيسى ، وبالتالى ما أمكن لها أن تجتذب غلافا هوائيا أو غلافا مائيا ، ولا أمكن لها أن تكون صالحة للحياة ،

٢٢

خاصة أن الحديد يشكل جزءا مهما من المادة الحمراء (الهيموجلوبين) فى دماء الإنسان ، وفي دماء كثير من الحيوانات.

هذه الإشارات الكونية فى القرآن الكريم تبقى شاهدة على أن القرآن كلام الله الخالق ، البارئ ، المصور ، وأن سيدنا محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) هو خاتم أنبيائه ورسله ، وأنه (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) كان موصولا بالوحى ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض ؛ لأنه لا يمكن لعاقل أن يتصور توافر تلك المعلومات الدقيقة عن الكون ومكوناته قبل أربعة عشر قرنا إلا عن طريق وحى السماء.

هذا أسلوب فى الدعوة إلى الله (تعالى) وإلى دينه الخاتم لم يكن متوفرا لنا من قبل ، وعلى المسلمين استعماله بحكمة بالغة فى زمن فتن الناس فيه بالعلم ومنجزاته فتنة كبيرة ، وكثرت مفتريات المفترين على الإسلام والمسلمين في كافة وسائل الإعلام ، كما كثرت المؤامرات على أمة الإسلام في كل أرض وفي كل مكان. وأصبحت أراضي المسلمين مثخنة بالحروب ومستباحة من قبل الأعداء ، وغارقة في الدماء ومدمرة تدميرا كاملا بسبب ما شوه به أعداء الله صورة هذا الدين وصورة أتباعه من المسلمين ، وعجز هؤلاء عن القيام بواجب الدعوة إلى دين الله الخاتم ، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من حال ، ولا مخرج لنا منه إلا بحسن الدعوة إلى دين الله الخاتم ، وأحسب أن الدعوة بتوظيف الإعجاز العلمي في كتاب الله وفي سنة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) هي من أنسب أساليب الدعوة في زماننا ، زمن العلوم الكونية والتقنية.

وفي الصفحات التالية أوضح جانبا من جوانب الإعجاز العلمي في كتاب الله بتفصيلاته العلمية المطلوبة ألا وهو موضوع «الجبال في القرآن الكريم» وقد أشرت إلى عدد من آياته في العجالة السابقة ، وسأفصله في الأبواب التالية كأنموذج من نماذج التعامل العلمي مع الآيات الكونية في كتاب الله.

* * *

٢٣
٢٤

الفصل الأول

المفهوم اللغوي للجبال

أولا : الجبال في اللغة العربية :

(الجبل) فى اللغة العربية : هو ما ارتفع من الأرض إذا عظم وطال ، جمعه (جبال) و (أجبال) و (أجبل) ، ويقال (أجبل) المسافر ، و (تجبّل) و (جابل) أى صار إلى الجبل بمعنى وصل إليه أو دخله وسكن فيه ، ويقال للحية (ابنة الجبل) لأن الجبل مأواها ، ويقال للداهية كذلك (ابنة الجبل) لأنها تثقل الكاهل كأنها جبل ، كما يقال للصدى (ابن الجبل) ، و (الجبلة) و (الجبلة) و (الجبلة) و (الجبلّة) القوة أو صلابة الأرض.

و (الجبال) : البدن ، يقال : فلان (مجبول) أو (خطير الجبال) : أى عظيم البدن تشبيها بالجبل ، و (تجبّل) ما عنده أى استنظفه ؛ و (الجبل) : ساحة البيت ؛ أو الكثير يقال : حىّ (جبل) أى كثير ، والجبلّة : الكثير من كل شيء أو السنة المجدبة. (الجبلة) : المادة السائلة بداخل الخلية الحية (البروتوبلازم أو السيتوبلازم).

ويقال : (جبله) الله (جبلا) أى خلقه وفطره من مثل قولك : (جبله) الله على الكرم ، أى فطره عليه.

و (الجبلة) و (الجبلة) الخلقة والطبيعة ، و (الجبلّى) الطبيعي ؛ و (الجبلّة) : الأصل وأصله الوجه وما استقبلك منه ، و (الجبل) و (الجبلة) الجماعة من الناس ؛ والجبل : الغليظ.

٢٥

يقال : (جبل) التراب (جبلا) أى صب عليه الماء ودعكه حتى صار طينا.

وجبّله : أي قطعه قطعا شتى ، وأجبله : وجده بخيلا ، والجبل : الممسك البخيل ؛ وأجبل : أى فشل وأخفق.

ويعرف (الجبل) ـ كشكل من أشكال تضاريس الأرض ـ بأنه كتلة من الأرض ترتفع بشكل واضح بارزة فوق ما يحيطها ، وتكون أعلى من التل.

ثانيا : الجبال في القواميس اللغوية والعلمية غير العربية :

يعرف الجبل في معجم المصطلحات الجيولوجية (*) بأنه تل مرتفع أو قطعة من الأرض ترتفع بشكل كبير على الأراضى المجاورة لها ، وتوجد عادة متصلة فى أطواف ، أو فى منظومات أو سلاسل جبلية طويلة ، ولكنها قد تكون أحيانا على شكل مرتفعات فردية معزولة.

ويطلق مصطلح الجبل عادة على الارتفاعات التى تزيد على ٥١٠ م أو ٦١٠ م ، أما المرتفعات التى تقل عن ذلك ، فتسمى تلالا (hills) وإن كان ارتفاعها فى هذه الحدود كبيرا ، فإنها تسمى ربوة (hillock) ، ومع ذلك فإن المعجم نفسه يصف (فى الصفحة ٢٠٧) التل بأنه «يقتصر على الارتفاعات الفجائية أو التى تقترب من تلك الفجائية وتقل عن ٣٠٥ م ، وكل ما يزيد على ذلك من المرتفعات يسمى جبلا ، (علما بأن كثيرا من المراجع تعتبر المرتفعات التى تزيد على ٣٠٠ م جبالا).

ويعرف الطوف الجبلى (the mountain range) في المرجع نفسه بأنه كتلة واحدة كبيرة ، تتكون من تتابعات متعاقبة من الجبال أو الحواف الجبلية المتقاربة ، ذات القمم أو بدونها ، والمتواصلة فى المكان والاتجاه والتكوين والعمر.

ويعتبر الطوف الجبلى من العناصر المكونة لأى من المنظومة الجبلية أو السلسلة الجبلية ، وتعرف المنظومة الجبلية (mountain system) بأنها «عدد من أطواف الجبال

__________________

* ١٩٧٦ م ، صفحة ٢٨٩.

٢٦

المتوازية والمتقاربة والتى يمكن جمعها فى منظومة واحدة». أما السلسلة الجبلية (mountain chain) فتعرف بأنها «نسق معقد ومتصل من العديد من الأطواف والمنظومات الجبلية المتوازية إلى حد ما ، والتى تجمع معا دون أى اعتبار للتشابه فى الشكل أو البنية أو الأصل ، ولكنها تكون ذات ترتيب طولى عام أو اتجاه محدد».

وبعبارة أخرى فإن الطوف الجبلى هو عبارة عن نسق من مجموعات متوازية أو شبه متوازية من الحواف التى تشكلت كلها من صخور ترسبت فى حوض واحد من أحواض الترسيب ، بينما تتكون المنظومة الجبلية من عدد من المجموعات الجبلية المتوازية أو المتتابعة ، والتى تشكلت من ترسبات عدد من أحواض الترسيب المختلفة وإن كانت قد طويت فى عمر واحد ، وتتكون السلسلة الجبلية من منظومتين جبليتين أو أكثر ، لهما نفس الاتجاه العام تقريبا ونفس الارتفاع ، دون ارتباط ببيئة ترسيبية واحدة أو حركة واحدة من الحركات البانية للجبال ، فى حين أن الأحزمة الجبلية (mountain belts or cordillera) تتكون من عدد من السلاسل الجبلية فى نفس الجزء من إحدى القارات (cf.milligan ، ٧٧٩١ ، p ٥٤٤).

ويعرف منكهاوس وسمول (monkhouse small) فى معجم البيئة الطبيعية (١٩٧٨) مصطلح «جبل» على النحو الآتى : «قطعة من الأرض مرتفعة بشكل ملحوظ ، تحيط بها حواف شديدة الانحدار ، وتصل فى ارتفاعاتها إلى مستوى الحواف البارزة أو القمم الفردية المرتفعة ، وليس لها أى ارتفاع محدد ، ولكنها تعتبر عادة فى بريطانيا أكثر من ٦٠٠ م (٢٠٠٠ قدم) إلا إذا ارتفعت فجأة من الأراضى المنخفضة كجبل كونوى (conway) على سبيل المثال ، وفى مثل هذه الحالة يستخدم مصطلح (mount) فى بعض الأحيان».

وتعرف دائرة المعارف البريطانية الجديدة (new encyclopaedia britannica) الجبل بأنه «منطقة من الأرض أعلى بكثير نسبيّا من الأراضى المحيطة بها» وتضيف : «وعليه فإن ما يدعى بالتلال المصاحبة لمجموعات الجبال السامقة كجبال الهيمالايا تعتبر جبالا لو وجدت فى مكان آخر أقل ارتفاعا».

٢٧

وبالمثل فإن دائرة المعارف الأمريكية (encyclopedia americana) تعرف الجبل بأنه «جزء من سطح الأرض يرتفع على مستوى المنطقة المحيطة به» وتضيف : «وبصفة عامة يتضاءل ارتفاع الأطواف الجبلية (mountain ranges) على مراحل مارة بمرحلة التلال إلى المناطق المنخفضة التى تدعى السهول ، ولكن هذه العملية تكون سريعة جدا فى بعض الحالات ، وتوجد الجبال فى كافة أرجاء المعمورة فى المناطق القارية والمحيطية سواء بسواء» (*).

ولكن اليوم يعرف الجبل بأنه كتلة برية عالية لا تستوى الأرض فيها إلا قليلا عند القمة ، وتوجد بعض الجبال منعزلة ، ولكن الأغلب يوجد فى مجموعات أو فى صفوف ـ إما فى شكل حيد واحد مركب يعرف باسم الطوف الجبلي (mountain range) ، أو فى سلسلة من الحيود المترابطة التي منها المنظومة الجبلية (mountain system) وهى عدد من صفوف الجبال المترابطة من حيث الشكل والأصل ، والسلسلة الجبلية (mountain chain) التي تنتظم عددا من المجموعات الجبلية التى تشغل منطقة عامة بعينها ، والأحزمة الجبلية (mountain beltsor cordillera) التي تتركب من عدد من الصفوف الجبلية المعقدة من الأطواف والنظم والسلاسل الجبلية.

وبعض الجبال قد تكون مجرد بقايا لهضاب نحتتها عوامل التعرية ، وبعضها الآخر قد يكون مخاريط بركانية ، أو متداخلات نارية كبيرة ، والبعض الثالث قد يكون جبالا صدعية تكونت نتيجة لرفع كتل ضخمة من الأرض بالنسبة للكتل المجاورة لها ؛ والبعض الرابع قد يكون نتيجة لعمليات الطي (جبال الطى) ولكن الغالبية الساحقة من الجبال هي جبال ذات تراكيب بنيوية معقدة ، دخل فى بنائها كلّ من الطى والتصدع والمتداخلات النارية والطفوح البركانية ، ومعظمها يتعرض للرفع الرأسى بعد حدوث عمليات التعرية.

__________________

* وإن كانت الجبال في أواسط المحيطات ليست جبالا حقيقية ؛ لأنها تبنى بناء معاكسا لبناء الجبال ، ولذلك يطلق عليها اسم الأوتاد المعكوسة (anti ـ roots).

٢٨

وكان القدامى يرون الحركات الأرضية البانية للجبال صدى لتلاؤم قشرة الأرض مع انكماشها ككل ؛ ويرى المحدثون فيها صورة من صور الاتزان الأرضى ؛ لتساوى الضغوط على مركزها من كافة النقاط على سطحها ، مهما تباينت منا سيب تلك النقاط على سطح الأرض ، ويتم ذلك مع انجراف ألواح الغلاف الصخرى للأرض مصطدمة مع بعضها البعض ، فيؤدى تصادمها إلى تجعد حوافها نتيجة للاحتكاكات والمقاومة الشديدتين ، كما هو الحال فى سلاسل جبال غربى الأمريكتين (سلاسل جبال روكى والإنديز) ، والحزام الأوروبى الأسيوي الذى يضم جبال البرانس ، الألب ، جبال البلقان ، طوروس ، زاجروس ، القوقاز ، هندكوش ، والهيمالايا.

يتضح مما تقدم أن كلا من التعريف اللغوى والعلمى الشائع للجبال يقتصر على النتوءات البارزة من هذه التضاريس بالنسبة للمنطقة المحيطة بها ، وعلى قممها ومنحدراتها ، وكذلك على وجودها إما فى مجموعات معقدة من الأطواف والمنظومات ، والسلاسل الجبلية المتوازية أو شبه المتوازية ، والأحزمة الجبلية ، أو فى مرتفعات فردية ، وبتعبير آخر فإن التعريفات الشائعة كلها تقتصر على الأشكال الخارجية لتلك التضاريس دون أدنى فكرة عن امتداداتها ـ تحت السطح ـ التى ثبت مؤخرا أنها تبلغ أضعاف ارتفاعها الخارجي لمرات عديدة.

وعلى النقيض من ذلك ، فإن القرآن الكريم الذى أنزل قبل ١٤ قرنا يصف الجبال بأنها أوتاد ، وكما أن الوتد أغلبه مدفون فى الأرض ، وأقله ظاهر فوق السطح ووظيفته التثبيت ، فقد أوضحت الدراسات الحديثة أن هكذا الجبال ، بمعنى أن كل ارتفاع على سطح الأرض له امتداد فى داخل غلافها الصخرى يتراوح بين ١٠ ، ١٥ ضعف ذلك الارتفاع ، وأن هذا الانغراس فى داخل الأرض هو الذى يثبت ألواح الغلاف الصخرى للأرض ويجعلها صالحة للإعمار ؛ لأن تلك الألواح الصخرية تطفو فوق نطاق الضعف الأرضى ، وهو نطاق لدن شبه منصهر عالى الكثافة ، عالى اللزوجة ، وبدوران الأرض حول محورها تنزلق تلك الألواح عليه بسرعة فائقة ،

٢٩

يعين عليها اندفاع الصهارة الصخرية عبر صدوع الأرض بملايين الأطنان في كل ثانية ؛ وعلى ذلك فإن الجبال تعمل على تثبيت الغلاف الصخرى للأرض بقوة حتى لا تهتز بنا ، وكأوتاد للأرض ، فإن الجبال تعمل على تثبيت تلك الألواح الصخرية فى مكانها بالاتجاه إلى الأسفل فتطفو في نطاق الضعف الأرضي ؛ تحكمها في ذلك قوانين الطفو ، تماما كما تطفو جبال الجليد في مياه المحيطات ، فتعين الجبال على الانتصاب فوق سطح الأرض.

وقد وصف القرآن الكريم من قبل أربعة عشر قرنا ـ وبكلمات محددة ـ كلّا من الشكل الخارجى للجبل ، وارتفاعه فوق سطح الأرض ، وامتداداته الهائلة بداخلها ، والدور الدقيق الذى يؤديه الجبل كوسيلة لتثبيت الغلاف الصخرى للأرض ، ولتثبيت الكوكب ككل وتثبيت التربة على سفوحه ؛ وأجاب عن تساؤل الإنسان عما إذا كان للجبال جذور ضاربة فى الأرض تحت الأجزاء الظاهرة منها قبل أن يدرك الإنسان أى قيمة لوجود الجبال على سطح كوكبنا ، وهى القيمة التى لم يبدأ الإنسان في تصورها إلا فى العصر الراهن ومن قبل عدد محدود من المتخصصين فى ميدان علوم الأرض.

كذلك جاءت الإشارات القرآنية للجبال على أنها «رواسى» تثبت الأرض بمجموعها ، كما تثبت كتل القارات التى نحيا عليها ، وشبهت الجبال بالسفن التى ترسو فى مياه البحار ، ويأتى العلم الحديث ليؤكد على أن الجبال تمتد باندفاعاتها الداخلية ؛ لتطفو فى نطاق الضعف الأرضى كما تطفو جبال الجليد فى مياه المحيطات ، فهي رواس حقيقة لا مجازا ؛ كذلك فإنها تعمل على التقليل من ترنح الأرض فى دورانها حول محورها ، كما تعمل قطع الرصاص التى توضع حول إطار السيارة للتقليل من ترنحه فى أثناء دوران ذلك الإطار ؛ وسفوح الجبال بانحداراتها اللطيفة عند أقدام تلك المرتفعات الأرضية محضن جيد للرسوبيات التي ترتكز إليها براحة واستقرار تامين.

* * *

٣٠

الفصل الثاني

الإشارات القرآنية للجبال

وردت كلمة جبل بصيغة المفرد والجمع فى القرآن الكريم ٣٩ مرة ، منها (٦ مرات فى صيغة المفرد و ٣٣ مرة فى صيغة الجمع) وجاءت الإشارة إليها بالتعبير (رواسى) فى عشر آيات أخرى ، ويمكن تصنيف هذه الإشارات القرآنية للجبال ، والتي يبلغ عددها ثمان وأربعين إلى ٩ فئات مميزة على النحو الآتي :

١ ـ آيات تشير إلى شكل مرتفع ارتفاعا ملحوظا من الأرض ، كما جاء في قول الحق (تبارك وتعالى) : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠) (البقرة : ٢٦٠).

وكما جاء في قوله (تعالى) : (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٤٣) (هود : ٤٣).

٢ ـ آيات تشير بصورة رمزية إلى ضخامة الكتلة الجبلية أو تدل على ارتفاعها وطبيعتها الصلبة الهائلة ، وذلك من مثل قوله (تعالى) : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١) (الرعد : ٣١).

٣١

وقوله (تعالى) : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦) (إبراهيم : ٤٦).

وقوله (عز من قائل) : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (٣٧) (الإسراء : ٣٧).

وقوله (سبحانه) : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (٩٠) (مريم : ٩٠).

وقوله (تبارك اسمه) : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) (الأحزاب : ٧٢).

وقوله (تبارك وتعالى) : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) (الحشر : ٢١).

٣ ـ آيات تذكر كلمة جبال فى مقام التشبيه ، وذلك مثل قول ربنا (تبارك اسمه) : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) (٤٢) (هود : ٤٢).

وقوله (تعالى) : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣) (النور : ٤٣).

٤ ـ آيات تشير إلى جبال ذات أهمية تاريخية كجبال ثمود ، وذلك مثل قوله (سبحانه) : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧٤) (الأعراف : ٧٤).

٣٢

وقوله (عز من قائل) : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) (٨٢) (الحجر : ٨٢).

وقوله (تعالى) : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) (١٤٩) (الشعراء : ١٤٩).

٥ ـ آيات تشير إلى الجبال التى شهدت بعض المعجزات مثل قول ربنا (تبارك وتعالى) : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠) (البقرة : ٢٦٠).

وقوله (تعالى) : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣) (الأعراف : ١٤٣).

وقوله (سبحانه) : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧١) (الأعراف : ١٧١).

٦ ـ آيات تذكر استخدام كلّ من الإنسان والحيوان للجبال كملجإ أو كمصادر للمياه الجارية ، وفي ذلك قال (تعالى) : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (٦٨) (النحل : ٦٨).

وقال (عز من قائل) : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (٨١) (النحل : ٨١).

وقال (سبحانه) : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣) (الرعد : ٣).

٣٣

وقال : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥) (النحل : ١٥).

وقال : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦١) (النمل : ٦١).

وقال (عز من قائل) :

(وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧) (المرسلات : ٢٧).

٧ ـ آية واحدة تصف الجبال بأنها أوتاد ، إشارة إلى امتداداتها الداخلية الهائلة وآيات أخرى تؤكد على دور الجبال فى تثبيت الأرض ، أو تصف كيفية قيام الجبال على سطحها. وفي ذلك قال ربنا (تبارك وتعالى) :

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) (النبأ : ٧).

وقال (سبحانه) : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣) (الرعد : ٣).

وقال (سبحانه) : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٩) (الحجر : ١٩).

وقال (عز من قائل) :

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥) (النحل : ١٥).

وقال : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣١) (الأنبياء : ٣١).

٣٤

وقال (سبحانه وتعالى) : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦١) (النمل : ٦١).

وقال (تبارك اسمه) : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١٠) (لقمان : ١٠).

وقال : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠) (فصلت : ١٠).

وقال : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٧) (ق : ٧).

وقال : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧) (المرسلات : ٢٧).

وقال : (وَالْجِبالَ أَرْساها) (٣٢) (النازعات : ٣٢).

وقال (سبحانه وتعالى) : (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) (١٩) (الغاشية : ١٩).

وهناك فئة أخرى من الآيات الكريمة فى هذه المجموعة تصف بعض النواحى العملية للجبال ، من مثل وجود جدد مختلفة الألوان فيها ، وفي ذلك يقول ربنا (تبارك وتعالى) : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٢٧) (فاطر : ٢٧).

أو تؤكد حقيقة أن الجبال ليست أجساما ثابتة بالرغم من حجمها الهائل ؛ إذ إنها تتبع حركات الأرض ، فتدور معها حيث تدور ، وفي ذلك قال ربنا (وهو أحسن القائلين) : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٨٨) (النمل : ٨٨).

٣٥

وتبين هذه الآيات المفهوم العلمى للجبال ، وهو محور الاهتمام الرئيسى لهذا الفصل وللفصول التالية من هذا الكتاب.

٨ ـ آيات تشير إلى الجبال بوصفها من الخلق المسبح لله العابد له (تعالى) ، وذلك من مثل قوله (تبارك اسمه) : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٧٩) (الأنبياء : ٧٩).

وقوله (عز من قائل) : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨) (الحج : ١٨).

وقوله (سبحانه) : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) (سبأ : ١٠).

وقوله (عز من قائل) : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (١٨) (ص : ١٨).

٩ ـ آيات تصف مصير الجبال يوم الحساب ودمارها التام ، وفي ذلك يقول ربنا (تبارك وتعالى) : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٤٧) (الكهف : ٤٧).

ويقول : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (١٠٥) (طه : ١٠٥).

ويقول : (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (١٠) (الطور : ١٠).

ويقول (عز من قائل) : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) (٥) (الواقعة : ٥).

ويقول (سبحانه) : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (١٤) (الحاقة : ١٤).

٣٦

ويقول : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٩) (المعارج : ٩).

ويقول : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (١٤).

(المزمل : ١٤).

ويقول : (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) (١٠) (المرسلات : ١٠).

ويقول : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٢٠) (النبأ : ٢٠).

ويقول : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) (٣) (التكوير : ٣).

ويقول : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥) (القارعة : ٥).

* * *

٣٧

الفصل الثالث

الآيات القرآنية التى تشير

إلى المفاهيم العلمية الأساسية للجبال

يبين القرآن الكريم ـ الذى هو أساسا كتاب هداية ـ المفاهيم العلمية الأساسية للجبال فى اثنى عشر موضعا منه على النحو الآتي :

١ ـ إن الجبال ليست فقط تلك الارتفاعات الكبيرة التى تبدو على سطح الكرة الأرضية ، ولكنها أيضا امتدادات تلك الارتفاعات فى داخل الأرض ، والتي يسميها علماء الأرض اليوم باسم «جذور الجبال» ، وهذه حقيقة تؤكدها الآيات القرآنية بوصفها للجبال بأنها أوتاد. وكما يختفى معظم الوتد إما فى التربة أو الصخر ؛ لتثبيت أركان الخيمة ، ويبقى الجزء الأصغر منه ظاهرا فوق سطح الأرض ، فلا بد وأن الجزء الأكبر من الجبال يختفى بالمثل فى القشرة الأرضية.

يقول (سبحانه وتعالى) فى الآيتين ٦ ، ٧ من سورة النبإ : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧).

ويعتبر مصطلح (وتد) الذي استخدمه القرآن الكريم لوصف الجبل أكثر دقة من الناحيتين اللغوية والعلمية من كلمة «جذر» المستعملة حاليا لوصف الامتدادات الداخلية للجبال.

٣٨

٢ ـ يؤكد القرآن الكريم فى عشر مواضع أخرى على الدور الذى تؤديه الجبال فى توازن الأرض ، حيث يقول ربنا (تبارك وتعالى) :

(أ) (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣) (الرعد : ٣).

(ب) (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٩) (الحجر : ١٩).

(ج) (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥) (النحل : ١٥).

(د) (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣١) (الأنبياء : ٣١).

(ه) (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦١) (النمل : ٦١).

(و) (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١٠) (لقمان : ١٠).

(ز) (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠) (فصلت : ١٠).

(ح) (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٧) (ق : ٧).

(ط) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧) (المرسلات : ٢٥ ـ ٢٧).

٣٩

(ي) (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣) (النازعات : ٣٠ ـ ٣٣).

وفى موضع آخر ، يحث القرآن الكريم الناس على التفكر فى عدد من الظواهر فى خلق الله (سبحانه وتعالى) ، ككيفية تكون الجبال ، وقد أدى هذا التأمل إلى بلورة نظرية التوازن التضاغطى (Isostacy) للقشرة الأرضية ، أى تعرضها لضغوط متساوية من جميع الجهات التى تفسر كيف تنصب الجبال على سطح الأرض. وفي ذلك يقول الله (سبحانه) فى القرآن الكريم :

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) (الغاشية : ١٧ ـ ٢٠).

٤ ـ ويصف القرآن الكريم فى آية أخرى من سورة فاطر الجبال بأنها تتكون من جدد بيضاء وحمراء مختلفة الألوان ومن جدد أخرى سوداء ، فيقول :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٢٧).

ولعل فى ذلك إشارة إلى كلّ من الجبال الحامضية وفوق الحامضية فى تركيبها الكيميائى والمعدنى ، والتى تتكون أساسا من الصخور الجرانيتية وشبه الجرانيتية ويطغى عليها اللونان الأبيض والأحمر بدرجات متفاوتة ، ولذلك قال ربنا «عز من قائل» : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) والجبال القاعدية وفوق القاعدية التى تتكون أساسا من صخور خضراء اللون داكنة الخضرة إلى سوداء اللون من مثل جبال أواسط المحيطات ، (وفي اللغة العربية يوصف الأخضر بالسواد ، والأسود بالخضرة) ولكل نوع من هذين النوعين من الجدد نشأته الخاصة وتركيبه الكيميائى والمعدني الخاص بصخوره.

٥ ـ ويؤكد القرآن الكريم فى الموضع الأخير من هذه المجموعة على حقيقة أن

٤٠