من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - ج ١

الدكتور زغلول النجار

من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور زغلول النجار


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الشروق الدولية
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٠٩

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تقديم

بقلم الأستاذ أحمد فراج

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) [الكهف : ١ ـ ٣].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الخالق البارئ المصور المبدع ، القائل في كتابه : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١].

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله ، النبى الأمى الذي مدحه ربه وزكّاه فقال فى محكم كتابه مخاطبا إياه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤].

وقال مؤكدا على صدق نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وواصفا إياه بقوله ـ عز من قائل ـ : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤].

صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..

وبعد ..

فإن نظرة واحدة في القرآن الكريم تؤكد لنا أن الله. جل وعلا. كما أنزل للناس

٥

كتابا مقروءا ، فقد جعل هذا الكون ناطقا بخالقية الله سبحانه وتعالى ، يدرك ذلك من يقرأ فى آيات الله ، قدرته وما يشهد الكون به على عظمة الله فى الخلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١]

ولذلك يمكن القول بأن القرآن الكريم والكون هما مصدرا الحقائق الدينية والعلمية ، والله أنزل الكتاب بالحق (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء : ١٠٥] ، وخلق ـ أيضا ـ الكون بالحق (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) ، ولا يتصور تصادم حقين مصدرهما واحد ، أو تصادم الحق مع نفسه ، ومن ثم فلا تصادم بين الدين المتضمن فى الكتاب ، والعلم المنشور فى صفحة الكون.

إن القرآن الكريم كما أنه كتاب هداية وإرشاد فى مجال العقيدة والتشريع والأخلاق والمعاملة ، فإن من وجوه الهداية فيه ، الهداية القرآنية في الآفاق والأنفس ، قال الله ـ جل وعلا ـ : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣].

والحق أنه عند ما تطرح قضية «الإعجاز العلمى في القرآن الكريم» يتحفز بعض المعارضين لها بإثارة عدد من المخاوف ، من نحو : أليس تفسير القرآن الكريم في ضوء العلم ونظرياته يجعل آياته عرضة لتأويلات متغيرة تلقى بظلالها على القرآن الكريم نفسه؟ وإذا كان القرآن الكريم يتضمن إشارات علمية وحقائق كونية اكتشفت فى العصر الحديث على أيدى غير المسلمين ، فلما ذا لم يكن المسلمون هم مكتشفو هذه الحقائق؟ ألا يدفع هذا غير المسلمين إلى التباهى والتشكيك فى القرآن والزعم بأن ما فيه من حقائق مأخوذ عنهم؟ أليس القرآن الكريم كتاب هداية في المقام الأول والأخير ، فلما ذا إقحام مثل هذه الفروض العلمية في تفسير بعض آياته؟ وما فائدة تفسير القرآن بالعلم للمسلم في عالم اليوم؟ ثم ما الضوابط والضمانات التى تنأى بجهود المتحدثين في مسألة الإعجاز العلمى عن ضروب الخلط والرجم بالظن؟

٦

هذه المخاوف والاعتراضات وغيرها تثار ، وهى مخاوف واعتراضات قد تمثل اتهاما لكل من يخوض في قضية الإعجاز العلمى للقرآن الكريم دونما تفريق بين أصحاب التفسير العلمى القائم على الحقائق اليقينية الثابتة ثبوتا قطعيّا ، وبين أصحاب النظر الطائش وأدعياء العلم والفكر ممن يندفعون وراء الحدس الظنى والخيال الوهمى ويحمّلون آيات القرآن الكريم ما لا تحتمل.

القرآن الكريم يجعل من آيات الله الكونية دلائل على طلاقة القدرة وخالقية الله عزوجل ، والإعجاز العلمى فيه تأكيد على أن خالق الأكوان هو منزل القرآن ، وتأكيد موصول على أن العلم فى خدمة الإيمان وأن العلماء أولى الناس بخشية الله يتحدث عن ذلك ضمن تناوله لسائر العلوم دون العلوم الشرعية أو الدينية ، وكأنما يوجه العقول إلى موضوعاتها كضرورة من الضرورات الدينية ، ومفتاحا لتحقيق خشية الله فيقول الله سبحانه وتعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) [الروم : ٢٢] ، وقال جل وعلا : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ* وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر : ٢٧ ، ٢٨].

إن خير عبادة لله أن يهتدى الإنسان إلى أسراره في خلقه ، وأن يدرك حقائق الوجود في نفسه وفى الكون من حوله ، والخبر القرآنى يفسره العلم الحق ، والعلم الحق يسترشد بالخبر القرآنى ؛ ولذلك إذا ثبتت الحقائق العلمية واتفقت مع ما أشار إليه القرآن الذى أنزل قبل ثبوتها بسنين أو بقرون ، فلا ضير من تسخيرها في خدمة قضية الإعجاز.

وليس معنى هذا أن المسلم بحاجة إلى إثبات الإعجاز العلمى للقرآن الكريم وأن إيمانه وقف على إثبات هذا الإعجاز ، أو إثبات إعجازه من أى ناحية أخرى ، فهو بحكم كونه مسلما يؤمن بإعجاز النص القرآنى إيمانا يقينيّا لا لبس فيه.

٧

وبقدر إثبات الإعجاز العلمى في القرآن ، فإنه يمثل عامل جذب ودعوة لغير المسلمين إلى الإسلام ، ويفيد إغلاق أبواب الإلحاد عندهم وعند من يجاريهم من ناشئة الشرقيين ومستغربى الفكر والثقافة ؛ حيث إن تأثيره على العقول أعظم أثرا من سائر البراهين.

ثم إن القول بأن أهداف القرآن الكريم التى جاءت بها آياته الكريمة تبين أنه كتاب هداية ، هو قول حق لا شك فيه ، ومع ذلك فهو لا يحصر أغراض القرآن الكريم ويقصرها على الهداية في مجالات : الاعتقاد والتشريع والتأمل الداعى إلى اكتساب المعارف وحسب ، فالباحث المحقق والمدقق إذا تدبر القرآن الكريم بإنعام نظر وفكر وعقل ، فإنه سيقف على إشارات تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها ، أو تسم بأسمائها ؛ واحتواؤه على هذه العلوم يأتى آية له كلما انتشر العلم بين الناس ، وحجة على أهل العلم قائمة كلما اخترقوا أستار الطبيعة ، وكشفوا حقائق الموجودات.

ولا ندعى بذلك أن القرآن الكريم تضمن العلوم الكونية أو تفصيلاتها الدقيقة ، وإنما هى مجرد إشارات فى الواقع لعدد من الحقائق الكونية يؤدى استيعابها إلى إيناس العقل بالإيمان ولا تجعل منها مصدرا لدراسة تلك العلوم ، وإنما المقصود هو التأكيد على أن الحقائق العلمية المشار إليها في القرآن الكريم يؤدى فهمها إلى تعميق الإيمان بالله وقدرته. وليس معنى ذلك بحال من الأحوال أننا نمضى إلى ما يتوهمه ـ أو يتخوفه ـ البعض من تفسير القرآن كله تفسيرا علميّا ، أو تفسيره فى ضوء الإعجاز العلمى للقرآن ، وإنما المقصود هو الآيات الكونية فى القرآن الكريم.

أمّا أن المسلمين لم يكونوا هم السابقين إلى اكتشاف هذه العلوم أو بالأحرى الحقائق العلمية التى تثبت فى نطاقها ـ على الرغم من إشارات القرآن الكريم إليها ـ فإن هذا يعد قصورا فيهم هم ، فضلا عن أنه ليس من مقصود الكتاب الكريم على كل حال ، فالقرآن دعاهم وأمرهم وحثهم على التأمل والتنقيب والبحث.

وقصارى مطلوب العقل من الدين ألا يحجر عليه وألا يحول دون انطلاقه ، ولم

٨

يكن ذلك فحسب هو موقف الإسلام ، ولكنه تجاوز إلى حثه الدائم على النظر والتفكر والسير والبحث ، بلا قيد على النظر العقلى والبحث دون حدود (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ٢٠] ومع ذلك فلا ينبغى أن ننسى حقيقة بالغة الأهمية وهى أن علماء المسلمين قاموا بدورهم ، حينما استجابوا لدعوة القرآن الكريم فكانت عصور حضارة الإسلام الزاهية ، وتوصلوا إلى العديد من حقائق الكون ، وأثروا الحركة العلمية الإنسانية ، وابتكروا المنهج العلمى ـ وهو من أعظم إنجازات علماء الإسلام ـ بما أفاد النهضة العلمية المعاصرة التى توصلت إلى كشف الكثير من حقائق الكون التى أشار إليها القرآن الكريم ، فكانت استجابتهم للقرآن الكريم سببا مباشرا في اكتشاف هذه الحقائق بما قدموه من إنجازات علمية كانت بمثابة المرتكزات التى قامت عليها ـ من بعد ـ النهضة الحديثة في اكتشاف أسرار الكون المبهرة.

كذلك فإنه ليس معنى ذلك أنهم أدوا دورهم وانتهى الأمر ، وإنما عليهم دائما أن يصلوا ما انقطع من جهود السابقين ويبنوا على جهود من لحق بهم.

إن علماء الإسلام لما التزموا بقيمه العقلية ومنطلقاته ومبادئه العلمية حققوا ما لم يحققه أحد قبلهم ، كما أفاد منهم من جاء بعدهم ، وبخاصة الأوروبيون ، الذين استثمروا ما ترجم إلى لغاتهم من ناحية وما صححه وأبدعه علماء المسلمين من ناحية ثانية في نهضتهم الحديثة ، ولو لا علماء المسلمين لكانت بدايتهم من نقطة الصفر ، ولتأخرت مسيرة التطور قرونا ، كما أقر بذلك المنصفون من علمائهم ؛ ذلك أن إنجازات العلوم اليوم لم تهبط من السماء وإنما هى نتاج سعى البشرية وعلمائها سنين إثر سنين ، وقرونا إثر قرون ، وإذا كان لعلماء كل حقبة أن يفخروا بما قدموه أو أضافوه لصروح العلوم والمعارف ، فقد كان لعلماء المسلمين فضل الريادة ، بل كانت هناك علوم إسلامية بحتة هى الأساس فى الإنجازات العلمية المعاصرة لتلك العلوم.

٩

ودعونا نتأمل دلالة ما يقال ويتردد بين الحين والحين ، لقد ابتلينا ـ مع الأسف ـ في بلادنا العربية والإسلامية بعادات أو بمنطق حب المحاكاة والتقليد لدى بعض الشرائح ، لقد عادى الغرب الدين لأنه وقف عندهم في وجه العلم ، فلما تقدموا وتراجعنا ، نقلوا إلينا العداء بين العلم والدين ، وهو أمر صحيح بالنسبة لثقافتهم وغلط شائن بالنسبة للإسلام وحضارته ، ثم انتحلوا لأنفسهم كثيرا من أعمال المسلمين ، ونسبوها إلى أنفسهم غشا ونكرانا ، بينما لم يكن ذلك من خلق المسلمين حين أخذوا عن حضارات من سبقوهم ، وحفظوا الفضل لأهله ، لا ينتقص ذلك من جهودهم شيئا ، بدليل أنهم سموا الفارابى العظيم المعلم الثانى ، وأطلقوا على أرسطو المعلم الأول.

ولا يزال البعض يردد : لما ذا نتحدث عن إعجاز القرآن ، ونزعم أن فيه من الآيات التى نزلت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ما يفصح عن حقائق علمية لم تكتشف إلا حديثا؟

ولما ذا إذن لم يكتشفها المسلمون حتى اكتشفها غيرهم؟

الذين يقولون ذلك ربما لا يعرفون شيئا كافيا عما اكتشفه علماء المسلمين بالفعل وعن فضل الحضارة الإسلامية وفضل علماء المسلمين في مختلف التخصصات على سائر العلوم العقلية ومنجزاتها حتى اليوم وإلى الغد القريب والبعيد.

وأول ذلك هو المنهج العلمى التجريبى الاستقرائى كما ألمحنا ، والمسلمون أصحابه الحقيقيون ، وهو أساس كل تقدم.

وقد قرر «سى برانتل» أن «روجر بيكون» الذي ينسب إليه البعض المنهج العلمى ـ أخذ كل النتائج المنسوبة إليه في العلوم الطبيعية عن العرب (*).

وأعمال المسلمين وكتبهم في الرياضيات مثلا ، كانت هى المراجع الرئيسية

__________________

* اقرأ إن شئت ترجمة كتاب «الله ليس كذلك» ـ للدكتورة الألمانية زيجريد هونكه ـ نشر دار الشروق.

١٠

للغرب ، في علوم الجبر وحساب المثلثات واللوغاريتمات والهندسة الفراغية ، وبعضها علوم إسلامية بحتة ، والأرقام التى يستخدمها الأوروبيون اليوم هى ارقام عربية ، وكان الصفر من أعظم أفضال العرب على الحضارة ، وقد استخدموه مائتين وخمسين سنة ، ثم اقتنعت أوروبا في القرن الثانى عشر أنه لم يكن اختراعا أحمق إلى الدرجة التى توهمها مدعو العلم الغربيون ، كما قال «روم لاندو».

ولذلك فأعمال المسلمين واكتشافاتهم ومؤلفاتهم في العلوم الطبية والصيدلة لا حصر لها ولا عدد ، فإذا أبدينا إعجابنا وانبهارنا بما نعرفه اليوم من تقدم في هذه المجالات في أوروبا وأمريكا وغيرهما ، فلا بد ألا ننسى أن أصحاب الفضل والريادة فيها كانوا علماء المسلمين الذين وضعوا الأسس وأقاموا القواعد وعلموا العالم.

لقد عرف الأوروبيون «الكليات» لابن رشد ، ودرسوا كتب أبى بكر الرازى ، وموفق الدين البغدادى ، وابن النفيس الذي توصل إلى الدورة الدموية الصغرى قبل هارفى الإنجليزى وسارفيتوس الإسبانى بعدة قرون ، ودرسوا علم الجراحة على علماء مثل الرازى ، والمنصورى ، وتتلمذوا على أبى القاسم الزهراوى الذي وضع كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» وهو موسوعة طبية في ثلاثين جزءا مزودة بوصف الآلات المستخدمة في إجراء العمليات الجراحية ، وكيفية استخدامها ، وجراحات المخ وظل مرجعا لتدريس الطب في الجامعات الأوروبية لعدة قرون ، وإذا رغب بعض المبهورين أو المفتونين بعلماء الغرب في البحث عن هذه العبقرية العلمية ، وكانت لديه الرغبة الصادقة في الاعتزاز بانتمائه لثقافته وحضارته وعدم التمادى في جلد الذات ، فإننى اقترح عليه ألا يبحث عن اسم أبى القاسم ، بل يبحث من اليسار إلى اليمين عن اسم (Abulcasis) الذي يعتز به غيرنا أكثر من اعتزاز بني جلدته وعقيدته به.

وعرف الأوروبيون أيضا عن المسلمين علم الطب السريرى (الإكلينكى) ،

١١

والمراقبة السريرية لتدوين الملاحظات وتطور الحالات ، وطب النساء والتوليد ، وطب الأطفال ، وكان علىّ بن عباس هو أول من وضع نظرية علمية في التوليد مخالفا أبو قراط الذي ثبت خطأ نظريته.

ودرسوا طب العيون على عمار بن على الموصلى وعلى بن عيسى الكحال ، وطب وجراحة الفم والأسنان للزهراوى ، وغير ذلك.

وعلى الرغم من كل ذلك فلا زال الانهزاميون من أبناء جلدتنا يرددون : «إذا كان القرآن فيه كل شىء كما تزعمون. هكذا يقول قائلهم ـ فلما ذا لم يكشف علماء المسلمين عن شىء ، واقتصروا على ترديد ما كشفه الغرب غير المسلم رغم وجوده في القرآن؟

ولعنا نذكّر مرة أخرى فنقول : ليس القرآن كتابا في الجيولوجيا أو غيرها من العلوم ، وإن وردت به إشارات عنها ، ولكن المسلمين الذين فهموا القرآن وآمنوا به والتزموا هدايته ، هم الذين قرءوا فيه (اقْرَأْ) [العلق : ١] ، وقرءوا : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ٢٠] ، وقرءوا فيه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ* وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٧ ، ٢٨].

ودون استطراد قد يلفتنا أن ذكر العلماء في هذا الموضع من الآية الكريمة جاء بعد الإشارة إلى علوم النبات والجبال والجيولوجيا والإنسان والحيوان ، ولا حرج على من يفهم ـ فيما أرجو ـ أن الإشارة ليست إلى علماء الدين هنا ، وإنما إلى علماء تلك العلوم ، والعلماء في كل الأحوال هم أكثر إدراكا لبديع صنع الله ، وأحق الناس بأن يكونوا أجدر بخشية الله.

المهم أن المسلمين قرءوا ذلك ، فانطلقوا يحثون الخطى على دروب العلم ، وفى

١٢

ملكوت الله ، وإعمال العقل فيما سخره الله للإنسان في كونه ، وكانت لهم اكتشافاتهم وتصحيحاتهم العلمية وإبداعاتهم العلمية التى انطلقت من إيمانهم بالله واستجابتهم لما أمر به في كتابه : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] ، وما دعاهم إليه نبيه عليه الصلاة والسلام فى قوله : «سلوا الله علما نافعا وتعوذوا بالله من علم لا ينفع» وقوله : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» ، حتى حققوا ما كان من إنجازات علمية باهرة بكل المقاييس وأعمال عظيمة ، جاءت هدية من العقول المسلمة والقلوب المؤمنة التى أقبلت بفهم على العلم ، إلى الإنسان في كل زمان ومكان في سعيه إلى التعلم والمعرفة وارتياد آفاق الكون.

وبين الكثير الذي قدموه إلى البشرية في هذا المجال وغيره ، نجد «صورة الأرض» للخوارزمى ، و «البلدان» لليعقوبى ، و «الممالك» لابن حوقل ، و «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» للمقدسى ، و «مسالك الممالك» للإصطخرى ، و «مروج الذهب» للمسعودى ، و «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» للشريف الإدريسى ، (وهو جغرافى رائد وراسم خرائط من الطراز الأول ومصمم لأجهزة الملاحة) ، و «أزهار الأفكار في خواص الأحجار» للتيفاشى ، و «الجماهر في معرفة الجواهر» للبيرونى ، و «الشفاء» لابن سينا ، و «الفوائد في أصول علم البحار والقواعد» لابن ماجد ، وهذه المعارف في هذه الكتب التراثية أساس لعلم الجغرافيا وعلم الجيولوجيا.

لا ذنب للإسلام ـ إذن ـ أن يجهل ذلك فى زماننا ، أو يتجاهله المتعالمون من بيننا ، فيكرسون الشعور بالنقص والتبعية ، ثم يتعجبون في نفس الوقت من بعض العلماء المعاصرين الذين يعمقون الاعتزاز بالدين والإيمان والعلم من خلال محاولة تفسير علمى لبعض آيات القرآن الكريم تستهدف توظيف معطيات العلم لحسن فهم دلالة تلك الآيات ، أو من خلال تناول حقائق علمية يقينية كشف عنها العلم الحديث ، ثم تبين أن هناك آيات قرآنية نزلت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا

١٣

تتناول تلك الحقائق ، ويتسع الفهم والتفسير لها ودون تعسف للإفصاح عن تلك الحقائق ، فيثبت لكل صاحب عقل حرونزيه أن خالق تلك الحقيقة أو الحقائق هو منزل القرآن العظيم على قلب هذا النبى الأمى عليه الصلاة والسلام.

ويقول بعضهم : إذا كان القرآن يكشف في بعض آياته عن تلك الحقائق العلمية ، فهل نخرج بالقرآن عن طبيعته ونصرفه عن مراميه في هداية البشرية؟ ونحوله إلى كتاب علم؟

ونود أن نقرر ودون التباس أنه لا بدّ أولا أن يعى هؤلاء وأولئك أن وجود إشارات في بعض آيات القرآن لعدد من العلوم أو المعارف في الفلك أو الطب أو الجيولوجيا أو غيرها ، لا يعنى أن القرآن الكريم كتاب في فرع من فروع هذه العلوم أو المعارف ولا يعنى أن تلك العلوم أو المعارف ينبغى أن تلتمس من القرآن العظيم ، فذلك أمر لا يستقيم مع الفهم الصحيح لمرامى القرآن ، فالقرآن كتاب هداية ، ولكن هذه الإشارات فيه مع ما يتوالى كشفه من الحقائق العلمية في موضوعاتها ، هو تجديد لدعوة الإسلام ؛ لأن التحدى به وبإعجازه ـ في كل ناحية ـ مستمر إلى يوم الدين ، ولكل البشر في كل زمان ومكان ، والإعجاز العلمى في القرآن يجعلنا نشهد وكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم في كل عصر يدعو الناس إلى دين الله ، ويريهم دلائل موصولة على صدقه ، في آية من آيات الكتاب الكريم يتطابق فيها العلم والفطرة والقرآن ، وتدلل على طلاقة القدرة الإلهية ، وعلى صدقه عليه الصلاة والسلام. وصدق الله العظيم إذ يقول فى كتابه الكريم : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣].

لقد أنجبت حضارة الإسلام الكثير من العلماء ، أمثال : البيرونى والحسن بن الهيثم ، وأبى بكر الرازى ، وأبى القاسم الزهراوى ، وابن سينا ، وأبى حيان التوحيدى ، والخوارزمى ، وابن النفيس ، وغيرهم الكثير ممن ذكرنا سلفا ومن غيرهم.

هؤلاء العلماء الذين أبدعوا وألفوا وخلفوا علما زاخرا ، صححوا نظريات من

١٤

قبلهم ، فالبيرونى الذي قال عنه المستشرق الألمانى سخاو : «أعظم عقلية رياضية عرفتها البشرية» صحح نظرية بطليموس عن الأرض ، بأنها ثابتة والفلك يدور حولها ، فبرهن على أن الأرض تدور حول ذاتها وتجرى حول الشمس.

فإذا أثبت العلم حقيقة علمية اليوم وكانت تلك الجهود مقدمة لها ، ثم كان القرآن قد أفصح عنها منذ قرون ، وفهمت الآية فى زمن التنزيل أو بعده بكيفية تتناسب مع معارف الإنسان فى ذلك الزمان ، ثم أصبح فى إمكاننا مع ثبوت حقيقة علمية بيقين ، أن نفهم الآية فهما جديدا وصحيحا فى ضوء التقدم العلمى ، وبحيث يتسع فهمنا لحقائق العلم دون تعسف ، أفلا يقدم لنا ذلك إعجازا علميّا يضيف إلى الإيمان ويعزز اليقين؟ وهل سنقول : ذلك اكتشاف علماء اليوم؟ أم سنقول : ذلك اكتشاف علماء المسلمين ، أم تصحيحهم لأخطاء من سبقهم ، أو هو من إبداعات علمائنا؟ وأ ليس البيرونى هو العالم المسلم الذى حدد زاوية العروج التى استخدمت فى الوصول إلى القمر؟

وأ ليس العالم المصرى المسلم الدكتور فاروق الباز هو الذى حدد موضع الهبوط على سطح القمر فى أول رحلة لرواد الفضاء الأميريكيين؟

أليس من حقنا أن نفخر بعلمائنا العظماء منذ القرن العاشر ـ وما حوله ـ وحتى آخر القرن العشرين وما يليه فى الألفية الثالثة إن شاء الله.

إننا نقول بكل تواضع ، تلك ثمار التراكم العلمى والمعرفى التى ساهم فيها العلماء عبر العصور والقرون ، وكان لعلماء المسلمين فيها فضل وشأن ذكره المنصفون وأنكره الجاحدون والحاقدون ، والأتباع من المستغربين والمبهورين.

واللافت للنظر أن بعض علماء الغرب لم ينسبوا إلى المسلمين نظرياتهم وأبحاثهم ، بل لقد انتحلها بعضهم لنفسه دون إشارة لدور علماء المسلمين ، أضف إلى هذا أن كثيرا من الألفاظ والاصطلاحات العربية في العلوم وغيرها تسربت إلى لغاتهم كاشفة سبق المسلمين وريادتهم فى كثير من المجالات.

١٥

فمن الألفاظ مثلا نجد : لفظ (سكر ـ sucre ـ sugar ـ zucker) ، ولفظ (الكحول ـ Alkohol) ولفظ (شفاف ـ Chiffon) .. وغيرها ..

ومن اصطلاحات الكواكب والنجوم نجد

(الغول ـ Algol) ، و (الطير ـ Attair) ، و (الذنب ـ Denab) ، و (فم الحوت ـ Fam alhaut).

حتى الرموز الفلكية انتقلت من العربية إلى غيرها ، نحو

(السّمت ـ Zenith) ، (سموت الشمس ـ Azimut) ، و (النظير ـ Nadir) ، و (المقنطرات ـ Almuqantarat).

لقد حدا هذا بكثير من المنصفين من علماء الغرب أنفسهم إلى الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على حضارتهم ونهضتهم الحديثة ، فيقول أحدهم وهو سيديو : «مهما حاول الغرب أن ينكر فضل الحضارة العربية الإسلامية على العالم ، فإنه لن يستطيع أن ينزع بصماتهم من فوق قبة السماء».

لقد كان يعنى الأسماء العربية التى أطلقها العرب والمسلمون على الكواكب والنجوم ، وما زالت تحتفظ بها حتى اليوم في اللغات الأجنبية ، كما أشرنا إلى بعضها. وقال غيره ، كما قال جورج سارتون إنه لو لا علماء المسلمين وإنجازاتهم لاضطر علماء النهضة إلى البداية من نقطة الصفر ولتأخرت الحضارة بضعة قرون.

وتعالوا نقرأ سطورا مما كتبت زيجريد هونكه فى كتابها «الله ليس كذلك» :

لقد صار العالم العربى ـ فى قرون التخلف الوسطى للغرب ـ هو مؤسس علوم الكيمياء العضوية ، ولم يتردد فى امتحان الفروض اليونانية وإخضاعها لمعايير النقد العربية التجريبية ، وكان معظمها لا أساس له سوى التخمين ، وصوبوا مئات ومئات من تلك الفروض العلمية الخطأ ، ومنها أخطاء جالينوس التى صوبها

١٦

الطبيب عبد اللطيف أحد أطباء صلاح الدين الأيوبى ، وفساد نظريته حول وجود ثقوب فى الحجاب الحاجز بالقلب ، وصححها ابن النفيس الذى بين أنها خيال محض وصوبها باكتشافه الدورة الدموية الصغيرة ، وأخطاء إقليدس وبطليموس الزاعمة أن العين ترى بتسليط نورها على المرئيات ، بالتصويب العبقرى لعالم البصريات الحسن بن الهيثم الذى وضع نظريات وقوانين عديدة فى عالم البصريات مقدما لأوروبا نظرية تكاد تكون متكاملة حول الأشعة ، بما فى ذلك الأسس التى يقوم عليها استخدام العدسات والمجاهر وجميع أنواع المرايا وآلة التصوير بالتعتيم الشمسى وكشافات الضوء الكهربية وغير ذلك.

إن انجازات علماء العرب من أطباء وكيميائيين ورياضيين وفلكيين ومخترعاتهم الفنية هطلت على أوروبا كالغيث على الأرض الميتة فأحياها قرونا ، وخصبها من نواح متعددة .. لقد قدموا البواعث التى أشعلت الشرارة الأولى لإطلاق البحث العلمى الذى كان منذ القرن التاسع الميلادى مشلولا يكاد يموت خنقا ، وذلك بسبب عدم السماحة الكنسية ، والملاحقة والمنع والتحريم الذى فاق كل حد.

وها هو ذا «إدلهرد» يأسى على ما يسود وطنه من جو خانق ، بعد عودته من السعة والحرية السائدتين فى عالم الفكر العربى .. فيطلق من أعماقه زفرات ، أطلقها بعده بمائة عام خلفه روجر ، لكنه أيضا وإن كان الأخير قد شدوا وثاقه شدا ، فكرا وجسدا : «إننا إن تهاونا وقصرنا فى تفهم أسرار هذا الكون الرائعة ، وجماله وجلاله البديع الحكيم ، ونحن نعيش فيه ، فإننا نستحق كل الاستحقاق أن نطرد منه طردا ؛ لأننا نكون أشبه بالضيف الجاهل حرمة البيت وكرامته ، الذى أحله إياه المضيف لقد أتيح لى أن أتعلم شيئا من الأساتذة العرب الحكماء

١٧

عن الانقياد للعقل ؛ أما أنت فإنك تتبع صورة فرضتها عليك هيمنة مستبدة ...» (*).

لقد لاحظنا أن بعض مدعى التنوير فى هذا الزمان ، يرددون عن ثقافتنا الإسلامية ـ كالببغاوات ـ ما تنفثه أفواه الحاقدين على حضارة الإسلام والكارهين للمسلمين ، ويتناسون ما ذكره المنصفون من علماء الغرب الذين نقلوا عن العرب المسلمين وتعلموا منهم كيف تكون حرية الفكر مع استقامة الدين.

فهل يعلم مدعو التنوير عندنا هذه الحقائق؟ وهل يعلمون فضل العرب والمسلمين على الحضارة الغربية وما قدموه في مجالات العلوم الطبيعية والتجريبية؟ مما كان له الفضل فيما يجرى كشفه من حقائق علمية ، بعضها هو ما يتجدد به إعجاز القرآن.

أظن أنهم لو أحاطوا بإسهامات الحضارة الإسلامية وفضلها على الغرب ما قالوا ما قالوه ..

ولا نجتزئ بهذا المثال أو ذاك ؛ لأنه لا ينبغى اجترار الماضى ، وإنما نؤكد على ريادة المسلمين التى بنى عليها الغرب وعلماؤه لبنة فوق لبنة.

ولا نلومن إلا أنفسنا أن كشف غيرنا كنوز ما عندنا بل ونكون من الشاكرين ، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى الناس بها ، فالقرآن الكريم لا تنتهى عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد ، وقد يكشف غير المنتسبين إليه من جوانب العظمة فيه ما لا يدرك معه أنه يكشف عن عظمة كتاب الله ؛ في التشريع أو في إعجازه العلمى.

وليس معنى ذلك ـ كما قلنا ونكرر ـ أن المسلمين أدوا دورهم في عصر من العصور ، هو عصر ازدهارهم وعلو شأنهم ، ثم لا تثريب عليهم بعد ذلك ،

__________________

* راجع ترجمة كتاب «الله ليس كذلك» للمستشرقة الألمانية الدكتورة زيجريد هونكه ـ الناشر دار الشروق ، ط ١ ، ١٩٩٥ م وخاصة الصفحات من ٨١ وما بعدها إلى ٩٢.

١٨

كلا ، إنها رسالة موصولة ، لا تسقط مسئوليتهم عنها في أى عصر ، حتى لو كانت هناك دورات حضارية شهدت قمة نهضتهم ، ثم آلت إلى أفول وذبول ، ولأنهم تعلموا من الدين ذاته أن هناك شروطا للنهضة إذا التزموها وأدوا حقها عز الإسلام وعزوا ، وإذا تخلوا عنها زالت دولتهم وذلوا (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد : ٣٨]. وليس هناك ما يسمى «تفويضا يضمن للمسلمين الغلبة والنصر» ولكن هناك سنن لا تتخلف (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧].

وفى معرض تثبيت الإيمان واليقين في قلوب المسلمين ، عامتهم وخاصتهم ، يجيء تناول بعض الآيات الكونية فى القرآن الكريم تناولا علميّا تأصيليّا دقيقا بالحقائق الثابتة التى تؤكد إعجاز هذا القرآن العظيم في مجال من المجالات التى تناسب لغة العصر وهو العلم.

ويجب أن ندرك أن الحقيقة العلمية مع ذلك ليست مقصودة لذاتها ، وإنما هى في سياق المقاصد الأساسية للقرآن ، وهى هداية البشرية ، والإيمان بالله ووحدانيته وقدرته ، وبالإسلام ومبادئه وسموه وشموله وكماله ، شريطة الالتزام في ذلك بطلب الحقيقة العلمية الثابتة بيقين ، وعدم العدول عن حقيقة اللفظ القرآنى إلى مجازه إلا بقرينة واضحة قاطعة.

وأخيرا وليس آخرا ، لا بد من ملاحظة أن اللفظ القرآنى راعى في خطابه حال العرب ومعارفهم عند نزوله ، ضمانا لهدايتهم ، واحتوى مع ذلك على الحقيقة الأبدية التى لا تتبدل : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] ويتجدد بها إيمان الناس كلما تكشفت لهم عصرا بعد عصر ، ولا يوجد هذا في غير القرآن الكريم.

ولو خاطب القرآن الناس فى عصر التنزيل عن الكون بما لا تستطيع عقولهم إدراكه ، لأقام بينه وبينهم سدّا وحائلا يمنع قبولهم لدعوته ، ولأنكروه وكذبوه ، كذلك فإن هداية القرآن تقتضى ألا يقر الناس على فساد ما يعتقدون ـ حين يعتقدونه ـ حتى لو كان ذلك يؤدى إبّان نزوله إلى القبول بهدايته ؛ لأن ذلك لو وقع ـ وما كان

١٩

ليقع بحال من الأحوال ـ لاستحال قبوله حين يتقدم العلم فى عصور سوف تأتى ولو بعد قرون.

وأبسط مثال نسوقه فى هذا الصدد هو ما نعرفه من وقوع كسوف للشمس صادف وفاة إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واهتزت مشاعر الناس ، وظنوا أن تلك الظاهرة معجزة كونية ساقها المولى ـ عزوجل ـ لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى تلك المناسبة ، ولو لم يكن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيّا مرسلا من ربه ، لأضاف ـ وحاشاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل ـ تلك الظاهرة الكونية ـ أو المعجزة كما رآها بعض الناس ـ إلى رصيده الشخصى ، ولكنه الصادق المصدوق رسول الله حقا وصدقا الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين ، ما إن بلغه ما يردده الناس ، حتى خرج عليهم مبينا وهاديا : «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله ، وكبروا ، وصلوا ، وتصدقوا» [البخارى ـ الفتح ، (١٠٤٤)].

وبعد ، فتلك مقدمة لم أكن أريد لها أن تطول ، ولكنى أضعها بين يدى دراسة مكثفة رائعة لعالم فذو مرموق ، شرفت باستضافته فى برنامج «نور على نور» ، هو الأستاذ الجليل والعالم الكبير الدكتور زغلول راغب محمد النجار ، الذى قدم فى حلقتين من البرنامج (*) فيوضا من إشراقات عقله وفكره وفهمه للقرآن الكريم ، ما فجر إشراقات اليقين فى نفوس مشاهديه الذين تابعوه بكل التأثر والعرفان والامتنان وهو يطوف بين آيات القرآن العظيم وما فيها من دلالات مبهرة على طلاقة القدرة الإلهية ، وعلى الإعجاز العلمى فيها عند ما يتضح من حقائق لم يكتشفها العلم بيقين إلا منذ عهود قريبة بينما تنزلت على قلب النبى الأمى ـ عليه الصلاة والسلام ـ منذ أكثر من أربعة عشر قرنا لتؤكد أن خالق تلك الحقائق هو

__________________

* تم تسجيل سبع حلقات أخرى مع الدكتور زغلول النجار امتدت لنحو ست ساعات ونصف الساعة بتكليف من مدينة الإنتاج الإعلامى ، لم يذع منها حتى أوائل يونيو ٢٠٠١ سوى حلقة واحدة.

٢٠