من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - ج ٣

الدكتور زغلول النجار

من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - ج ٣

المؤلف:

الدكتور زغلول النجار


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الشروق الدولية
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٥

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

ملامح من الإعجاز العلمي فى القرآن الكريم

فى أى حديث عن القرآن الكريم لا بدّ لنا من التأكيد على أنه كلام الله (تعالى) الموحى به إلى خاتم أنبيائه ورسله ، والمحفوظ بين دفتى المصحف الشريف ، بنفس اللغة التى أوحى بها : (اللغة العربية) محفوظا حفظا كاملا : كلمة كلمة وحرفا حرفا ، تحقيقا للوعد الإلهى الذي قطعة ربنا (تبارك وتعالى) على ذاته العلية ، فقال (عز من قائل) :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) (الحجر : ٩)

من هنا كان القرآن الكريم متميزا عن كل كلام البشر ، بمعنى أن البشر يعجزون عن الإتيان بمثله (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ، وهذا هو المقصود بإعجاز القرآن.

الإعجاز القرآنى

لما كان القرآن الكريم هو كلام الله (تعالى) ، في صفائه الرباني وإشراقاته النورانية فلا بد وأن يكون مغايرا لكلام البشر ، أى متميزا عنه بمزايا يعجز البشر عن تحقيقها من الكمال ، والشمول ، والإحاطة ، ودقة التعبير ، وجمال النظم ، وروعة

٥

الإشارة ، وصدق الإخبار فى كل قضية من القضايا التى تعرض لها ، وهذا هو المقصود بالتعبير عن «إعجاز القرآن الكريم».

ونحن نعلم أن القرآن الكريم هو في الأصل كتاب هداية للإنسان ، فى القضايا التى لا يمكن للإنسان أن يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحة ، مثل قضايا العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات ، والتى تشكل القواعد الأساسية للدين ، وذلك لأن هذه القضايا إما أن تكون من أمور الغيب المطلق ، الذى لا سبيل لوصول الإنسان إليه إلا عن طريق وحى السماء ، كقضايا العقيدة ، أو هى أوامر تعبدية ، لا بدّ وأن تكون توقيفية على الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، ولا بدّ للإنسان فيها أيضا من وحى السماء ، أو هى ضوابط للأخلاق والسلوك. والتاريخ يؤكد لنا أن الإنسان كان عاجزا دوما عن وضع الضوابط الصحيحة لأخلاقياته وسلوكه فى غيبة الهداية الربانية.

وهذه القضايا المتعلقة بالعقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات ، هى من أوضح صور الإعجاز فى كتاب الله ، إذا نظر إليها الإنسان بشيء من الموضوعية والحيدة ، والتبصر والحكمة ، ولكن الناس قد درجوا فى غالبيتهم على ميراث الدين ، دون النظر فيه بعين البصيرة ، فأخذوه بشيء من التعصب الأعمى والحمية الشخصية ، حتى لو لم يلتزموا به ، مما جعل إقناعهم بالحق أمرا صعبا فى أغلب الأحيان ، خاصة ما كان منه متعلقا بقضايا الغيب وضوابط السلوك.

ونحن نعلم أن كل نبى وكل رسول من رسل الله قد أوتى عددا من المعجزات الحسية ، فى الأمور التى برع فيها قومه لتشهد له بصدق نبوته أو رسالته فموسى (عليه‌السلام) بعث في زمن كان السحر قد بلغ مبلغا عظيما ، فأتاه الله (تعالى) من المعجزات ما أبطل به سحر السحرة ؛ وعيسى (عليه‌السلام) بعث في زمن كان الطب قد بلغ مبلغا عظيما فأتاه الله (تعالى) من المعجزات ما تفوق به على أطباء عصره.

ونعلم أيضا أن القرآن الكريم قد نزل على خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه

٦

وسلم) فى زمن كان العرب قد وصلوا إلى قمة الفصاحة وحسن البيان بالعربية ، والبلاغة فى التعبير بها شعرا ونثرا ، وجاء هذا الوحى الخاتم بأسلوب عربى مبين ، مغاير لأساليب العرب ، فهو ليس بالشعر وليس بالنثر ، وجاء يتحدى العرب جميعا أن يأتوا بقرآن مثله ، أو بعشر سور مفتريات من مثله ، أو حتى بسورة واحدة من مثله ، ولا يزال هذا التحدى قائما ، منذ أربعة عشر قرنا ، دون أن يجرؤ عربى أن يجابهه بجدارة!!

وصدق الله العظيم إذ يقول :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) (الإسراء : ٨٨).

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤) (الطور : ٣٣ ، ٣٤).

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣) (هود : ١٣).

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) (البقرة : ٢٣).

وقد اعترف بلغاء العرب بروعة النظم القرآني ، وتميزه عن كلام البشر ، فهذا الوليد بن المغيرة يقول في القرآن الكريم ـ رغم كفره ـ : «إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه».

وقد دفع ذلك بنفر من المسلمين إلى تصور الإعجاز القرآنى أساسا فى جوانب بيانه ونظمه ، وأفاض الأقدمون والمحدثون فى ذلك ؛ فأفصحوا عن جوانب من

٧

الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم ، ملأت العديد من المجلدات ، دون أن يتمكنوا من إيفاء ذلك الجانب حقه كاملا.

ومع تسليمنا بالإعجاز البيانى للقرآن الكريم ، وبأنه المجال الذى نزل كتاب الله يتحدى به العرب ـ وهم فى قمة من أعلى قمم الفصاحة والبلاغة ، والقدرة على البيان ـ أن يأتوا بشيء من مثله ، إلا أن البيان يبقى إطارا لمحتوى ، والمحتوى أهم من الإطار.

ومحتوى القرآن الكريم هو الدين بركائزه الأربع الأساسية : العقيدة ، والعبادة ، والأخلاق ، والمعاملات. وهذه القضايا ـ كما جاءت في كتاب الله ـ إذا نوقشت بشيء من الموضوعية أثبتت إعجاز القرآن الكريم ؛ ولكن القرآن الكريم لا بدّ وأن يكون معجزا فى كل أمر من أموره ؛ لأنه كلام الله الخالق البارئ المصور ، فما من أمر من الأمور تعرّض له هذا الكتاب الخالد إلا وهو معجز حقا ، وما من زاوية من الزوايا ينظر منها إنسان عاقل بشيء من الموضوعية والحيدة إلى هذا القرآن الكريم إلا ويرى منها جانبا من جوانب الإعجاز ، فالقرآن الكريم معجز فى بيانه ونظمه ، كما أنه معجز فى عرضه لقضايا العقيدة ، وأوامر العبادة ، معجز فى دستوره الأخلاقى الفريد ، معجز فى تشريعه ، معجز فى استعراضه التاريخى للعديد من أخبار الأمم السابقة : أمة بعد أمة ، كيف تلقت وحى ربها ، وتفاعلت مع أنبيائه ورسله ، وكيف كان جزاؤها أو عقابها ؛ معجز فى خطابه للنفس البشرية ، وتحريك كوامن الخير فيها ، وتربيتها التربية الصحيحة ، معجز فى إشاراته الطبية العديدة ، وفى تنبؤاته المستقبلية ، التى تحققت بعد نزوله بفترات طويلة ، ولا تزال تتحقق إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة ، معجز فى إشاراته إلى العديد من أشياء الكون ، ومن أبرزها وصف مراحل الجنين في الإنسان ، وفى استعراضه لكيفية بداية الخلق ، وإفناء الكون ، وإعادة خلق كل ذلك من جديد ، معجز فى استعراضه للعديد من أمور الغيب ، مثل البعث والحشر ، والحساب ، والصراط ، والجنة والنار ، معجز فى كل كلمة من كلماته ، وكل حرف من حروفه ، وكل آية من آياته ، وفي ذلك يقول

٨

المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «إن هذا القرآن لا تنتهى عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد» (١) وقد عالج كثير من العلماء عددا من جوانب الإعجاز القرآنى ، لكن الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم لم تتضح لنا جوانبه الكثيرة كما اتضحت فى زمن التقدم العلمى ، والتقنى ، الذى نعيشه فى هذه الأيام ؛ فأصبح أسلوبا فريدا فى الدعوة إلى دين الله ، فى زمن فتح الله على الإنسان بالعديد من أبواب العلم ، بالكون ومكوناته ، وفتن الناس فيه بالعلوم الكونية ومعطياتها فتنة كبيرة.

الفرق بين التفسير العلمى ، والإعجاز العلمى للقرآن الكريم

يحتوى القرآن الكريم على أكثر من ألف آية صريحة تتحدث عن الكون ، وعن بعض مكوناته وظواهره ، بالإضافة إلى آيات أخرى كثيرة تقترب دلالاتها من الصراحة ، وهذه الآيات لم ترد من قبيل الإخبار العلمى المباشر للإنسان ، وذلك لأن الكشف العلمى ترك لاجتهاد الإنسان وتحصيله عبر فترات زمنية طويلة ، نظر المحدودية القدرات الإنسانية ، وللطبيعة التراكمية للمعارف المكتسبة ، ويؤكد ذلك أن تلك الآيات الكونية قد جاءت فى مقام الاستدلال على عظيم القدرة الإلهية فى إبداع الخلق ، وعلى أن الخالق المبدع (سبحانه وتعالى) قادر على إفناء خلقه ، وعلى إعادة هذا الخلق من جديد ، وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير كما يحتاج غيرها من آيات هذا الذكر الحكيم ، ومن هنا كان لزاما علينا أن

__________________

(١) عن الإمام علي (كرم الله تعالى وجهه) قال : «سمعت رسول الله (صلى الله علي وسلم) يقول : «ستكون فتن» ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تتشعب معه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الأتقياء ، ولا يخلق على كثرة الترداد ، ولا تنقضي عجائبه ؛ من علم علمه سبق ، ومن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم». (أخرجه الترمذي والدارمي وغيرهما).

٩

نوظف النافع المتاح من المعارف المكتسبة فى تفسير تلك الآيات الكونية الواردة فى كتاب الله.

ولما كانت المعارف المكتسبة فى تطور مستمر ، وجب على أمة الإسلام أن ينفر منها فى كل جيل نفر من علماء المسلمين ، الذين يتزودون بالأدوات اللازمة ، للتعرض لتفسير الآيات الكونية الواردة في كتاب الله ، من مثل الإلمام باللغة العربية ، ودلالات ألفاظها ، وأساليب التعبير بها ، وقواعدها النحوية والبلاغية وغير ذلك من علومها المختلفة ، وبأصول الدين ، وبأسباب النزول ، وبالناسخ والمنسوخ ، وبالمأثور من التفسير ، وبجهود السابقين من كبار المفسرين ، وبالقدر اللازم من العلوم المتاحة عن الكون ، ومكوناته ، وغير ذلك مما يحتاجه كل من يتشرف بالقيام بمثل هذه المهمة العظيمة.

وفى التفسير العلمى للآيات الكونية لا بدّ من الحرص على توظيف الحقائق العلمية الثابتة كلما توفرت ، ولكن لما كانت العلوم الكونية لم تصل بعد إلى الجواب النهائي في كل قضية من قضايا الكون ومكوناته وظواهره ، فلا نرى حرجا من توظيف أفضل النظريات المتاحة ؛ وذلك لأن التفسير يبقى جهدا بشريا لمحاولة فهم دلالة الآية القرآنية ، لمن أصاب فيه أجران ولمن أخطأ أجر واحد.

أما الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم فلا يجوز أن يوظف فيه إلا القطعى الثابت من الحقائق العلمية ، وذلك لأن الإعجاز العلمى هو موقف تحد ، والمتحدى لا بدّ وأن يكون واقفا على أرضية صلبة ، وذلك لأننا نقصد بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم هو سبق هذا الكتاب الخالد ، بالإشارة إلى عدد من حقائق الكون وظواهره لم تكن معروفة لأحد من البشر في زمن تنزله ، ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله ، وإثبات أن القرآن الكريم ، الذى أوحى به إلى نبى أمى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فى أمة أميّة قبل أربعة عشر قرنا ، يحوى من حقائق هذا الكون ما لم يتمكن الإنسان من الوصول إليه إلا منذ عقود قليلة ، وبعد مجاهدات طويلة عبر عدد من القرون

١٠

المتواصلة ، وهذا لا يمكن لعاقل أن يتصور إمكانية حدوثه إلا بوحى من الله الخالق البارئ المصور.

ويستثنى من هذه القاعدة آيات الخلق والإفناء والبعث بما في ذلك خلق الكون ، وخلق الحياة ، وخلق الإنسان ؛ لأنها من القضايا التي لم يشهدها الإنسان ، وفي ذلك يقول الحق (تبارك وتعالى) :

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (٥١) (الكهف : ٥١).

وعلى ذلك فإن العلوم المكتسبة لا يمكن لها أن تتعدى في قضايا الخلق والإفناء والبعث مرحلة التنظير ، وتتعدد النظريات بتعدد خلفية واضعيها. ويبقى للمسلم نور من الله الخالق متمثل في آية قرآنية صريحة أو حديث نبوي صحيح يعينه على أن يرتقى بإحدى هذه النظريات إلى مقام الحقيقة ، فينتصر للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف ، وليس العكس ، وهذا هو المقام الوحيد من مقامات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة الذي نضطر فيه إلى اللجوء للنظريات ؛ لعدم توفر الحقيقة ، والتي لا تتوفر إلا في وحي السماء.

وهنا لا بدّ من التأكيد على ضرورة الالتزام بالضوابط العديدة التي وضعت للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي في كتاب الله وفي سنة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

وهنا أيضا لا بدّ من التأكيد على صعوبة التعرض لقضايا الإعجاز العلمى فى كتاب الله إلا من قبل المتخصصين ، كلّ فى حقل تخصصه ، فلا يقوى فرد واحد على معالجة كل القضايا الكونية ، التى تعرض لها القرآن الكريم من خلق الكون وإفنائه ، إلى خلق مراحل الجنين الإنسانى المتعاقبة ، إلى العديد من الظواهر الكونية ، إلى غير ذلك من مختلف الآيات الكونية الواردة فى كتاب الله.

١١

نماذج من آيات الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم

قبل التعرض بشيء من التفضيل لآيات الجبال في القرآن الكريم ، نعرض هنا لسبع مواضع من كتاب الله تعرضت فيها الآيات لذكر كوكب الأرض ، وذلك على النحو التالي :

١ ـ يقول ربنا (تبارك وتعالى) فى محكم كتابه :

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) (٣١) (النازعات : ٣٠ ، ٣١).

قال عدد من المفسرين : (دحاها) بمعنى كوّرها ، من (الدحية) أى البيضة (فى بعض اللهجات الدارجة) ، و (أخرج منها ماءها ومرعاها) ، هو إشارة إلى خروج ماء الأرض من العيون والينابيع والآبار ، وخروج النبات من بين حبات التوبة بعد بذرها وريها ، وهو صحيح. ولكن حين سئل ابن عباس (رضى الله تبارك وتعالى عنهما) عن معنى دحاها؟ قال : «فسّرها ما جاء بعدها» أى : (أخرج منها ماءها ومرعاها).

وقد أثبت العلم الحديث أن الثورات البركانية وما ألقته حول الأرض من غازات وأبخرة ، وعلى سطحها من حمم ورماد بركانى ، قد لعبت دورا أساسيا فى بناء اليابسة ، وفى تكون كلّ من الغلافين الغازى والمائى للأرض ، ولعل ذلك هو المقصود بالدحو ، وهو فى اللغة العربية : المد والبسط والإبقاء والإزاحة ، من دحا الشيء أى بسطه ، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن غالبية ما يتصاعد من فوهات البراكين أثناء ثوراناتها هو بخار الماء () ٧٠ خ) ، ويليه فى الكثرة ثانى أكسيد الكربون ، وبعض الغازات الأخرى ، وأن بخار الماء المتصاعد من فوهات البراكين سرعان ما يتكثف ويعود إلى الأرض مطرا ، وقد أدى ذلك إلى إثبات أن جميع الماء على سطح الأرض وفى غلافها الغازى قد أخرج أصلا من داخلها مع ثورانات البراكين ، وهذه حقيقة لم يعرفها الإنسان إلا منذ سنوات قليلة ، كذلك أدرك

١٢

العلماء أن ثانى أكسيد الكربون يلعب دورا مهما فى عملية التمثيل الضوئى ، التى يقوم النبات بها (من أجل تمثيل غذائه وتحويله إلى المواد البانية لخلاياه والمنتجة لثماره وأخشابه وأوراقه) ، والتى بغيرها لا يمكن للأرض أن تنبت ، فخروج الماء من داخل الأرض هو تعبير عن حقيقة واقعة مؤداها أن كل ماء الأرض على كثرته قد أخرج أصلا من داخلها ، وأن ثانى أكسيد الكربون اللازم لحياة كل نبات يقوم بعملية التمثيل الضوئى وإنتاج المادة الخضراء فيه (اليخضور) قد أخرج أيضا من داخل الأرض.

٢ ـ يقول ربنا (تبارك وتعالى) فى محكم كتابه :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (١١) (الطارق : ١١).

وفي تفسير هذه الآية الكريمة قال المفسرون : رجع السماء هو : المطر ، وهو صحيح ؛ لأن من أعظم ما يعود إلينا من السماء هو المطر ، الذى بدونه لا تستقيم الحياة على الأرض ، ونحن نعلم اليوم أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من داخلها على هيئة أبخرة تصاعدت من فوهات البراكين ، وأن هذه الأبخرة تكثفت عند اصطدامها بالطبقات الدنيا من الغلاف الغازى المحيط بالأرض (نطاق المناخ) وعادت إلى الأرض مطرا ؛ وذلك لأن نطاق المناخ قد خصه الله (تعالى) بتناقص فى درجة الحرارة. مع الارتفاع حتى تصل إلى ناقص ٦٠ م ، على ارتفاع حوالى ١٠ كم من سطح البحر فوق خط الاستواء (مع تفاوت قليل من منطقة مناخية إلى أخرى) ، ولو لا ذلك ما عاد إلينا بخار الماء المندفع من داخل الأرض أو المتبخر من سطحها أبدا.

ونحن نعلم أيضا أن دورة الماء حول الأرض هى دورة منضبطة انضباطا محكما ، بدليل أن البخر من أسطح البحار والمحيطات يفوق ما يسقط فوقها من مطر بحوالى ٠٠٠ ، ٣٦ كم ٣ وأن المطر فوق اليابسة يزيد على البخر من سطحها ، بنفس القيمة التى تفيض من اليابسة إلى البحار والمحيطات ، ولو لا هذه الدورة لفسد ماء الأرض كله ، فى فترة زمنية وجيزة.

١٣

وإذا كان الأمر كذلك ، فلما ذا قال الله (تبارك وتعالى) :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (١١) (الطارق : ١١).

ولم يقل : والسماء ذات المطر؟

نعلم اليوم أن الله (تعالى) قد جعل فى الغلاف الغازى المحيط بالأرض عددا من نطق الحماية التى تردّ إلى الأرض كل مفيد وتردّ عنها كل ضار ومهلك من مختلف صور المادة والطاقة ، ومن أمثلة ذلك :

(أ) النطاق الأسفل من نطق الغلاف الغازي للأرض (نطاق المناخ) والذي له من الصفات الكيميائية والفيزيائية ما يجعله صالحا للحياة ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، يتبادل كل من الإنسان والحيوان مع النبات غازى الأكسجين وثانى أكسيد الكربون ، وكلّ منهم يطلق بخار الماء إلى الغلاف الغازي ، ونتيجة للبخر من الأسطح المائية ، ولتنفس وإفرازات كل من الأناسى والحيوانات ، ونتح النباتات يرتفع بخار الماء إلى الأجزاء العليا من نطاق المناخ حيث يتكثف ، فيعود منه مطرا أو بردا أو ثلجا.

ولنطاق التغيرات المناخية خاصة في أجزائه السفلي من الكثافة ما يسمح له بترجيع الصوت ، ومن الغريب أن اسم هذا النطاق باليونانية هو نطاق الرجع (troposphere).

(ب) السحب التى ترد إلينا أكثر من التسعين بالمائة من حرارة الشمس ، التي تمتصها صخور الأرض وتعيد إشعاعها إلى الجو ، بعد غياب الشمس ، ولو لا ذلك لتشتت تلك الحرارة إلى طبقات الجو العليا ، وتجمدت الحياة على الأرض بالليل ، وهذه صورة من صور الرجع الحرارى إلى الأرض ، لم تكن معروفة من قبل.

(ج) طبقة الأوزون (the ozonosphere) والتى تسمح بمرور ضوء الشمس الأبيض والموجات تحت الحمراء إلى الأرض ، وترد عنّا ما يصاحب ذلك الضوء من

١٤

أشعات ضارة من مثل : الأشعة فوق البنفسجية (وهى أشعة مهلكة) فيما عدا جزءا يسيرا منها تحتاجه الحياة على الأرض.

(د) الطبقة المتأينة من الغلاف الغازى للأرض (the ionosphere). وهى طبقة مشحونة بالكهرباء ، ترد عن الأرض الجسيمات الكونية المتسارعة ، وترد إلى الأرض الموجات الراديوية (الإذاعية والتلفازية وموجات الاتصال اللاسلكى) ، وهى صور من الرجع. لم تكن معروفة للإنسان وقت تنزيل القرآن الكريم ولا لقرون متطاولة من بعد ذلك.

وهذا النطاق المتأين يحوى أحزمة الإشعاع (radiation belts). وتمثل بزوجين من الأحزمة على كل جانب من جوانب الأرض يدفعان عن الأرض الجزء الأكبر من ويلات الجسميات الكونية المتسارعة ، المنتشرة فى السماء الدنيا ، والتي تصل إلى الأرض من الشمس ومن غيرها من النجوم.

(ه) النطاق الخارجى من الغلاف الغازى للأرض (the exosphere). وهو كذلك يرد عن الأرض ويلات الجسميات الكونية المتسارعة ، وتحترق فيه وفي الطبقات التى دونه أغلب الأجسام السماوية الصلبة (النيازك) ، والتى لا يبقى منها إلا الرماد أو بعض الجسميات الصغيرة التى تصل إلى الأرض ؛ فتكون مادة يتعرف بواسطتها الإنسان على تركيب الأجزاء البعيدة من الكون.

من أجل ذلك وغيره ، مما لم يعرفه الإنسان إلا منذ عشرات قليلة من السنين أقسم ربنا (تبارك وتعالى) ـ وهو الغنى عن القسم ـ بالسماء ذات الرجع ، ولم يقصر ذلك على المطر فقط كما فهم الأقدمون ؛ لأنه (تعالى) أعلم بخلقه من جميع خلقه ، وقد يرى القادمون بعدنا في لفظة «الرجع» في هذه الآية الكريمة من المعاني والدلالات أكثر مما عرفناه اليوم ، وهو عشرة صور ، خمس منها للرجع المفيد إلى الأرض ، وخمس أخرى للرجع الضار عن الأرض.

١٥

٣ ـ يقول ربنا (تبارك وتعالى):

(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (١٢) (الطارق : ١٢).

قال الأقدمون : هو انصداعها عن النبات ، وهو صحيح ؛ لأن الله (تعالى) جعل فى تركيب تربة الأرض من المعادن والمركبات الكيميائية ما يتميأ (أى يمتص الماء) فيتمدد وينتفش حتى يرتفع إلى أعلى ، فترق التربة رقة شديدة وتنشق ، وبذلك تفسح التربة للنبتة الطرية الندية المندفعة من داخل البذور المدفونة بالتربة والمعروفة باسم السويقة (تصغير ساق) طريقا سهلا إلى أعلى ، تصل منه إلى سطح الأرض بسلام ، نبتة طيبة ، أو شجرة باسقة ، ولو لا تلك الخاصية التى وضعها الله (تعالى) فى التربة ما أنبتت الأرض ولا كانت صالحة للحياة ، وهذا صحيح.

ولكن بعد الحرب العالمية الثانية ، اتجه العلماء إلى قيعان البحار والمحيطات بحثا عن عدد من الثروات المعدنية التى بدأت احتياطياتها على اليابسة فى التناقص باستمرار فى ظل الحضارة المادية المسرفة التى يعيشها إنسان اليوم ، فوجدوا أن بأواسط البحار والمحيطات سلاسل جبلية عملاقة تفوق فى ارتفاعها أحيانا أعلى القمم فوق اليابسة ، وعند دراسة تلك الحواف البارزة فى أواسط المحيطات ، اتضح أنها عبارة عن طفوح بركانية متراكمة فوق بعضها البعض عبر فترات زمنية طويلة ، وأن تلك الطفوح لا تزال تندفع عبر شبكة هائلة من الصدوع التى تمزق الغلاف الصخرى للأرض ، بعمق يتراوح بين ٦٥ كم ، ١٥٠ كم ، وأنها تمتد لمئات الآلاف من الكيلومترات فى جميع الاتجاهات (وكأنها صدع واحد) ؛ لتحيط بالأرض إحاطة كاملة ، وتمزق غلافها الصخرى إلى عدد من الألواح الأرضية المتباينة فى مساحاتها وفى كتلتها ، وأن هذه الشبكة الهائلة من الصدوع هى بمثابة صمامات الأمن للأرض ، حيث تنطلق عبرها كميات هائلة من الحرارة الناتجة عن عمليات التحلل الإشعاعي في الغلاف الصخرى للأرض ، وفى نطاق الضعف الأرضى ، (asthenosphere) الذى يليه إلى الداخل فى اتجاه مركز الأرض. ولو لا أن قدّر الله (تعالى) للأرض تلك الشبكة الهائلة من الصدوع لانفجرت منذ اللحظة الأولى

١٦

لتجمد قشرتها ، ومن هنا علمنا أن من صفات أرضنا الأساسية أنها أرض ذات صدع ، ولم نعلم ذلك بيقين إلا فى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين.

٤ ـ يقول الله (تعالى) فى محكم كتابه :

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) (الطور : ٦).

في اللغة سجر التنور : أوقد عليه حتى أحماه.

والمسجور فى اللغة : هو المتقد نارا ، والماء والنار من الأضداد ، وقد دفع ذلك بعدد من المفسرين إلى اعتبار البحر المسجور من أمور الآخرة ، استنادا إلى الآية الكريمة التى يقول فيها الحق (تبارك وتعالى) :

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٦) (التكوير : ٦).

وسياق القسم فى سورة التكوير كله ، يتعلق بأمور سوف تقع فى الآخرة ، أما سياق القسم فى مطلع سورة الطور ، فيتعلق كله بأمور واقعة فى حياتنا الدنيا.

وقد دفع ذلك بعدد آخر من المفسرين إلى البحث عن معنى آخر للفظة (مسجور) غير المتقد نارا ، فوجدوا أن من معانى (سجر) ملأ وكف فقالوا : البحر المسجور أى المملوء بالماء ، المكفوف عن اليابسة ، وهو صحيح ؛ وذلك لأن ٥ ، ٩٧ خ من الماء العذب على اليابسة محجوز على قطبى الأرض ، وفوق قمم جبالها على هيئة طبقات من الجليد الذي يصل سمكه فوق القطب الجنوبي إلى أربعة كيلومترات ، وفي القطب الشمالي إلى ٣٨٠٠ متر ، وهذا الجليد إذا انصهر يقدر له أن يرفع منسوب الماء فى البحار والمحيطات بأكثر من مائة متر ، وقد انصهر فى عدد من الأزمنة الأرضية السابقة فغمرت البحار مساحات أكبر من اليابسة التى نحيا عليها اليوم. وفيما يعرف بالأزمنة الجليدية حجزت مساحات أكبر من الجليد فوق اليابسة ، فانحسرت البحار كثيرا عن حدود شواطئها الحالية. وعلى ذلك فإن تفسير (الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) بالبحر المملوء بالماء المكفوف عن اليابسة ، تفسير صحيح.

١٧

ولكن بعد غوص الإنسان إلى أعماق البحار والمحيطات ، وجد أن كلا من محيطات الأرض وعددا من بحارها يتسع قاعه ، بفعل التحرك بعيدا عن شبكة الصدوع الأرضية ، بفعل ما يندفع عبرها من ملايين الأطنان من حمم وطفوح بركانية فى درجات حرارة تتعدى الألف درجة مئوية ، مما يجعل قيعانها مسجرة فعلا بدرجات حرارة عالية ، وهى ظاهرة من أعظم الظواهر الأرضية وأشدها غرابة ، ولم تعرف تلك الظاهرة بأبعادها الدقيقة إلا فى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي :

٥ ـ يقول الحق (تبارك وتعالى) فى محكم كتابه :

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) (النبأ : ٧).

يصف القرآن الكريم الجبال فى تسع وثلاثين آية صريحة ، منها هذه الآية الكريمة التى تصف الجبال بالأوتاد ، وكما أن الوتد أغلبه مدفون فى الأرض ، وأقله ظاهر على السطح ، ووظيفته التثبيت ؛ فقد اكتشف علماء الأرض مؤخرا أن هكذا الجبال ، فكل نتوء فوق سطح الأرض له امتداد فى داخلها يتراوح طوله بين ١٠ إلى ١٥ ضعف ارتفاعه فوق مستوى سطح البحر ، فكلما كان الارتفاع فوق سطح الأرض كبيرا تضاعف الجزء الغائر فى الأرض امتدادا إلى داخلها ؛ ليخترق الغلاف الصخرى للأرض بالكامل ، ويطفو فى نطاق الضعف الأرضي ، وهو نطاق شبه منصهر ، المادة فيه لدنة ، عالية الكثافة ، عالية اللزوجة ، تطفو فيها أوتاد الجبال كما تطفو جبال الجليد فى مياه المحيطات ، تحكمها فى ذلك قوانين الطفو ، فكلما برت عوامل التعرية قمم الجبال ، ارتفعت تلك الجبال إلى أعلى حتى تخرج امتداداتها الداخلية من نطاق الضعف الأرضى بالكامل ، وحينئذ تتوقف الجبال عن الحركة حتى يتم بريها ، فيظهر فى أعماقها من الثروات الأرضية ما لا يمكن أن يتكون إلا تحت مثل تلك الظروف الاستثنائية من الضغط والحرارة ، التى سادت فى أعماق الجبال.

١٨

هذا البيان القرآنى المعجز ، الذى يصف كلّا من الشكل الخارجى للجبل ، وامتداده الداخلى ، ووظيفته ، فى كلمة واحدة (أوتاد) ، يظهر تفوق القرآن الكريم على جميع المعارف الإنسانية ، التى لا تزال إلى يومنا هذا تورد تعريف الجبل فى أكثر القواميس العلمية واللغوية انتشارا على أنه نتوء فوق سطح الأرض ، يختلف العلماء فى تحديد ارتفاعه بأكثر من ٣١٠ متر أو من ٦٢٠ متر فوق سطح الأرض من حوله.

٦ ـ يقول ربنا (تبارك وتعالى) فى محكم كتابه :

(وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣) (النازعات : ٣٢ ، ٣٣).

ويقول (عز من قائل) :

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥) (النحل : ١٥).

والآيات القرآنية فى إرساء الأرض بالجبال كثيرة (عشر آيات) ، ولم تعرف هذه الحقيقة إلا منذ ثلاثة عقود فقط ، فتمزق الغلاف الصخرى للأرض بشبكة الصدوع يقسم ذلك الغلاف إلى عدد من الألواح واللويحات (الألواح الصغيرة) التى تطفو فوق نطاق الضعف الأرضى ، وتتحرك مع دوران الأرض حول محورها حركة سريعة منزلقة فوق نطاق الضعف الأرضى ، كما تتحرك باتساع قيعان البحار والمحيطات واندفاع ملايين الأطنان من الطفوح والمتداخلات النارية عبر صدوعها لتدفع قيعان تلك البحار والمحيطات تحت كتل القارات مما يجعلها تميد وتضطرب بصورة لا تسمح لتربة أن تتجمع ، ولا لماء أرضى أن يخزن ، ولا لنبتة أن تخرج ، ولا لعمران أن يقام ، ولا تهدأ هذه الحركة إلا بتكون الجبال التى تثبت بامتداداتها العميقة كتل القارات فى قيعان البحار والمحيطات ، وإذا تلاشى قاع البحر الفاصل بين قارتين فإنهما تصطدمان مكونتين أعلى السلاسل الجبلية على حافة القارة الراكبة ، فتقوم الامتدادات العميقة للجبال بربط كتلتى القارتين المتصادمتين ،

١٩

وتتوقف حركتهما فى هدوء يسمح بالعمران (كما حدث فى ارتطام شبه القارة الهندية بالقارة الآسيوية وتكون جبال الهيمالايا ، وهى من أحدث السلاسل الجبلية وأعلاها ارتفاعا فوق سطح البحر).

ومن العجيب أن لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حديثا صحيحا فى مسند أحمد بن حنبل يقول فيه : (لما خلق الله الأرض جعلت تميد «أى : تضطرب» ، فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت ...) (*).

٧ ـ يقول ربنا (تبارك وتعالى) في محكم كتابه :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥) (الحديد : ٢٥).

قال الأقدمون والمحدثون من المفسرين : أنزلنا هنا بمعنى : قدرنا وجعلنا ، وذلك لأن الحديد يتركز فى جوف الأرض ، وأن نسبته تتناقص من مركز الأرض إلى قشرتها ، وأن له من الصفات الفيزيائية والكيميائية ما يجعله متميزا عن جميع العناصر الأخرى المعروفة لنا ، والتى يتعدى عددها مائة وأربعة عناصر ؛ فركز المفسرون على بأسه الشديد ومنافعه للناس.

ولكن فى السنوات المتأخرة من القرن العشرين ، لاحظ العلماء أن الغالبية العظمى من تركيب الجزء المنظور لنا من الكون هو غاز الإيدروجين (أخف العناصر وأبسطها تركيبا ، ولذلك وضع فى الرقم واحد من الجدول الدورى للعناصر) ، ويلى غاز الإيدروجين فى الكثرة غاز الهيليوم (العنصر الثانى فى الجدول الدورى للعناصر) ، وهذان الغازان معا يكونان أكثر قليلا من ٩٨ خ () ٧٤ خ غاز الإيدروجين ، ٢٤ خ غاز الهيليوم) من مادة الكون المنظور ، وباقى العناصر

__________________

* حديث رقم ١١٨٠٥ في مسند أحمد بن حنبل. وفي جامع الترمذي (حديث رقم ٣٢٩١) جاء بالصياغة التالية : «لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فقال بها عليها فاستقرت ..».

٢٠