نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

الخصائص العامّة

للأنبياء عليهم‌السلام

٤١
٤٢

الخصائص العامّة للأنبياء عليهم‌السلام

إنّ مهمّة هداية الخلق وتهذيب النفوس وتعليم الناس وتربيتهم وإقامة العدل وإزالة الاختلافات وتحرير الإنسان من مخالب الأسر مهمّة شاقّة وصعبة ممّا يجعلها تتطلّب استعداداً خاصّاً من الناحية الجسمية والروحية والعلمية والأخلاقية.

ولهذا السبب لا يتسنّى لأي إنسان تحمّل أعباء مثل هذه المسؤولية ، إلّالمن حصل على القدرة على تهذيب النفس وبنائها من جهة والإمداد الإلهي من جهة اخرى ، ومن البديهي أنّ الفرد العادي غير الناضج لا يتمكّن أبداً من تقبّل مثل هذه المهمّة الخطيرة.

والكلام هنا هو عن ماهيّة هذه الخصائص التي ينبغي توفّرها لدى كلّ نبي ، ومن الطبيعي أنّ الأنبياء عليهم‌السلام واولي العزم وأصحاب الشرائع والسنن يجب أن يكون لهم النصيب الأوفى منها.

وهنا يسعفنا القرآن في ذكر هذه الخصائص فضلاً عن الأدلّة العقليّة ، المتوفرة في هذا المجال.

بهذه الخلاصة نعود إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال :

١ ـ (وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً). (مريم / ٤١)

٢ ـ (وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً). (مريم / ٥٤)

٣ ـ (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (الشعراء / ١٠٦ ـ ١٠٧)

٤ ـ (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ). (الأعراف / ٦٨)

٤٣

٥ ـ (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ). (الشعراء / ١٠٩)

٦ ـ (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيَمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ). (الأنعام / ٨٤)

٧ ـ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً). (الأحزاب / ٣٩)

٨ ـ (قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لَاتُنْظِرُونِ* إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ). (هود / ٥٤ ـ ٥٦)

٩ ـ (وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً). (مريم / ٥١)

١٠ ـ (فَبَما رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). (آل عمران / ١٥٩)

١١ ـ (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ). (البقرة / ١٢٤)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

١ ـ صدق الحديث

إن أوّل خصلة لكلّ نبي قبل كل شيء هي صدق الحديث ، وذلك لأنّه يخبر عن الله تعالى ، فمع عدم الإطمئنان بصدقه لا يمكن الإعتماد على كلامه ، ولذا فقد أكّد القرآن على هذه المسألة عدّة مرّات ، من جملتها أوّل آية من آيات بحثنا إذ يقول تعالى : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً) ، كما أنّ نفس هذا الوصف قد ورد بحقّ إدريس في سورة مريم ، الآية ٥٦ ويوسف في سورة يوسف الآية ٤٦.

والملفت للنظر أنّ وصفه بـ «الصدق» قد سبق وصفه بـ «النبوّة» في هذه الآية ، وهذا

٤٤

يبيّن أنّ أصل النبوّة إنّما يرتكز على الصدق ، خصوصاً إنّ «صدّيقاً» هي صيغة مبالغة للصدق (١) ، وتعني كثير الصدق أو الذي لا يكذب أبداً والذي يوافق قوله عمله ، وبناءً على هذا فالأرضية المناسبة لتقبّل النبوّة المتوفّرة لدى جميع حملة الوحي الإلهي هي «الصدق المطلق» ليتمّ من خلاله إيصال أمر الله تعالى إلى عباده بدون أيّة نقيصة.

طبعاً يمكن للناس اكتشاف هذه الخصلة في النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال تتبّع حياته السابقة كما هو الحال تماماً في أهالي مصر عندما عرّفوا يوسف بـ «الصدّيق» وخاطبوه بـ (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ). (يوسف / ٤٦)

* * *

٢ ـ الالتزام بالعهود والمواثيق

الكلام في الآية الثانية عن الصدق أيضاً لكن لا في القول بل في العهود والمواثيق ، واللطيف هنا أيضاً هو ورود هذه الخصلة قبل الوصف بالرسالة والنبوّة والتي تشير إلى صنعها الأرضية المناسبة لمنزلة النبوّة ، لأنّ القسم الأعظم من دعوة الأنبياء عليهم‌السلام إنّما يرتكز على أساس الوعود التي تعطى للمستقبل ، ولو لم يكن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله صادقاً في وعوده لانهارت أُسس دعوته ، قال تعالى في ذلك : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً) ، وبديهي إنّ من كان كاذباً في كلّ شيء حتّى في وعوده لا يمكن أن يبلغ مقام الرسالة الشامخ وذلك لأنّ الشرط الأوّل لهذه المنزلة هو إيمان الناس بأقواله ووعوده واختبارهم لصدقه في كافّة الميادين.

ولذا فحتّى الأفراد المعدودون الذين لا يعتبرون مكانة «العصمة» شرطاً أساسيّاً للنبوّة في كافّة المجالات نراهم يعتبرون الصدق من بين الشروط.

وفيما يتعلّق بكون «إسماعيل عليه‌السلام» صادق الوعد ، فقد جاء في الكثير من كتب التفسير

__________________

(١) يقول الزمخشري : الصدّيق من صيغ المبالغة وتعني الغاية في الصدق والتصديق بالآيات الإلهيّة (تفسير الكشّاف ج ٣ ، ص ١٨).

٤٥

والروايات أنّ الله تعالى قد اعتبره «صادق الوعد» نظراً لعزمه على الوفاء بالوعد حتّى إنّه انتظر شخصاً كان قد وعده في مكان ما ، لمدّة سنة كاملة وحينما جاء ذلك الشخص قال له إسماعيل : لقد كنت في انتظارك طيلة هذه المدّة! (١).

ولا يبعد أن يكون المراد من الإنتظار لمدّة سنة هو التردّد على ذلك المكان ومراقبته بين الحين والآخر لعودة ذلك الشخص لا المكوث هناك سنة كاملة تاركاً كلّ أعماله ومشاغله الحياتية.

لكن هل يا ترى إنّ إسماعيل هذا هو نفس «إسماعيل بن إبراهيم عليه‌السلام» المعروف أم «إسماعيل بن حزقيل» الذي هو من أنبياء بني إسرائيل ، فهذا محلّ بحث ، وقد اختار الكثير الإحتمال الأوّل ، لكن تمّ التصريح بالإحتمال الثاني في البعض من الروايات الواردة في مصادر أهل البيت عليهم‌السلام ، وذلك لوفاة إسماعيل في حياة أبيه إبراهيم طبقاً لبعض الروايات ، وهذا لا يتلاءم والتعبير بالرسالة في حقّه ، في حين أنّ القرآن يقول في الآية الآنفة الذكر : «وكان رسولاً نبيّاً» ، وما قيل : إنّه كان يمتلك رسالة من قبل أبيه لهداية قبيلة «جرهم» من سكنة مكّة لا يبدو مناسباً أيضاً لأنّ ظاهر الآية هو أنّ «إسماعيل» المذكور هنا كانت له رسالة إلهيّة لا رسالة من قبل إبراهيم عليه‌السلام.

علاوة على ذلك فلو كان المراد هو إسماعيل بن إبراهيم عليه‌السلام لكان من المناسب ذكره بعد إبراهيم عليه‌السلام في الآيات السابقة لا بعد موسى عليه‌السلام.

وعلى أيّة حال فلا أثر لهذا الكلام في بحثنا الذي يدور حول مسألة خصوصيات الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

٣ ـ الأمانة

إن منزلة النبوّة والرسالة هي مكانة تتطلبـ «الصدق» و «الأمانة» ، الأمانة في نقل الوحي

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٥ ، ح ٧.

٤٦

وإيصاله إلى الناس والأمانة في حفظ الأسرار الإلهيّة ، والصدق والأمانة يعودان في حقيقة الأمر إلى أصل واحد ، غاية الأمر أنّ الصدق أمانة في الحديث والأمانة صدق في العمل! ولذا يقول القرآن في ثاني آية من آيات بحثنا : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ، كما أنّ نفس هذا التعبير (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) قد ورد بحقّ كلّ من «هود» (الشعراء / ١٢٥) ، و «صالح» (الشعراء / ١٤٣) و «لوط» (الشعراء / ١٦٢) و «شعيب» (الشعراء / ١٧٨) و «موسى» (الدخّان / ١٨) ، وممّا لا شكّ فيه هو أنّ هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام وغيرهم من الأنبياء الإلهيين كانوا قد أثبتوا أمانتهم للناس عمليّاً كما قرأنا عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يلقّب بـ «محمّد الصادق الأمين» من قبل خاصّة الناس وعامّتهم وذلك قبل نزول الوحي ، ولذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يستدلّ بسابقته هذه أمام المخالفين بأنّهم كيف لا يصدقون بإنذاره فيما يتعلّق بالوحي الإلهي مع علمهم وإقرارهم بصدقه وأمانته؟! (١).

والملفت هو أنّ القرآن قد وصف جبرئيل حامل الوحي الإلهي بهذا الوصف أيضاً حيث قال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ). (الشعراء / ١٩٣ ـ ١٩٤)

وفي الحقيقة إن حملة الوحي ، سواءً الملائكة الذين هم الواسطة في إبلاغ الوحي ، أم الأنبياء أنفسهم أو الأئمّة ونواب المعصومين الذين أُنيطت بهم مسؤولية إبلاغ وحفظ الوحي الإلهي ، هم أُمناء الله في خلقه ، ومن هنا فاننا نرى أن الامام علياً عليه‌السلام وباقي الأئمّة الاطهار عليهم‌السلام ينعتون بأمناء الله في الزيارة المعروفة بزيارة «أمين الله» ، حيث ورد هذا الخطاب : «السلام عليك يا أمين الله في أرضه» وهو شاهد آخر على إثبات هذا الادعاء.

* * *

__________________

(١) جاء في التواريخ في ذيل الآية (وَانْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله صعد إلى جبل الصفا بعد نزول هذه الآية ودعا كلاً من «بني عبدالمطلّب» و «بني عبد مناف» فلمّا اجتمعوا حوله قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لو أخبرتكم بأنّ جيشاً عظيماً يتّجه نحوكم بمحاذاة هذا الجبل فهل ستصدقّونني أم لا؟ فقال الجميع : بلى! ما عرفنا فيك الكذب أبداً ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذن فاعلموا أنّي لكم نذير من العذاب الإلهي». (الكامل ، ج ٢ ، ص ٦٠).

٤٧

٤ ـ الرغبة والشفقة الفائقتان

إنّ الإنسان الذي يقود الناس ويتحمّل مسؤولية هدايتهم وتربيتهم كمعلّم صالح لهم هو ذلك الشخص الذي له رغبة شديدة بهذا العمل وفي قلبه شفقة على الناس ، بل إنّه يعشقهم فلولا حبّ الأبوين لولدهما لما تحمّلا أبداً كلّ هذه المشاكل لرعايته وتربيته ، ولولا حبّ الأنبياء عليهم‌السلام لهداية الناس لما تحملوا أبداً أعباء هذا العمل الذي يفوق طاقه الإنسان ، ولما عرّضوا أنفسهم لأنواع المخاطر في هذا الطريق.

وقد أكّد القرآن مراراً على هذه المسألة كما ورد في الآية الرابعة من بحثنا ، ونقلاً عن لسان «هود» نبي الله تعالى حيث قال لقومه المعاندين المتعصّبين : (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ).

ونفس هذا المعنى ورد بتعبير أدقّ في حقّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يواسيه تعالى ويقول : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً). (الكهف / ٦)

كما جاء نظير هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوامُؤْمِنِينَ). (الشعراء / ٣)

«ناصح» مأخوذة من مادّة «نصح» وتعني على حدّ قول الراغب في مفرداته ، تحرّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه (أي أنّه يشمل تحرّي الصلاح قولاً وفعلاً) ، وقد جاء في القرآن أنّ نوحاً عليه‌السلام دعا قومه ألف سنة إلّاخمسين عاماً فتحمل أنواع المشقّة لتبليغهم رسالات ربه وهدايتهم وبالنتيجة لم يؤمن به خلال كلّ هذه المدّة إلّانفر قليل ، (ذكرت التواريخ أنّ عددهم لم يتجاوز نيفاً وثمانين نفراً فقط) ، وبعبارة علمية بسيطة فانّ نوحاً قد تحمّل مشقّة اثنتي عشرة سنة تقريباً لهداية كلّ واحد منهم على انفراد ، وبديهي أنّ تحمّل مثل هذا التعب والمشقّة لا يتحقّق إلّافي ظلّ الرغبة والحب الشديدين لهداية الخلق.

* * *

٥ ـ الإخلاص والإيثار الكامل

من الصفات المهمّة للأنبياء عليهم‌السلام التي أكّد عليها القرآن هي عدم انتظارهم لأي نوع من

٤٨

الأجر والمكافأة الماديّة في مقابل دعوتهم إلى الله تعالى ودين الحقّ ، فنقرأ مثلاً في الآية الخامسة من آيات بحثنا حول أوّل نبي من اولي العزم أي نوح عليه‌السلام : (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) كما أنّ هناك آيتين اخريين بنفس هذا المضمون قد وردتا في حقّ نوح عليه‌السلام أيضاً (هود / ٢٩) و (يونس / ٧٢).

وفي حقّ «هود» في موردين (هود / ٥١) (الشعراء / ١٢٧).

وفي حقّ «صالح» في آية واحدة (الشعراء / ١٤٥).

وفي حقّ «لوط» في مورد واحد (الشعراء / ١٦٤).

وفي حقّ «شعيب» في مورد واحد (الشعراء / ١٨٠).

وأخيراً فقد تكرّر التأكيد على هذه المسألة في عدّة مواضع من القرآن في حقّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الأنعام ـ ٩٠) (سبأ ـ ٤٧) (الفرقان ـ ٥٧) (ص ٨٦) (١).

على أيّة حال فإنّ تأكيد القرآن على مسألة أنّ أوّل كلام للأنبياء عليهم‌السلام الإلهيين هو عدم انتظارهم لأيّة مكافأة في مقابل جهودهم ، وسلوكهم وأفعالهم تكشف عن إمكانية التعرّف عليهم من خلال هذه الخصلة.

إنّهم عليهم‌السلام كانوا يقولون ذلك ويعكسونه من خلال سلوكهم وأفعالهم ، في حين إنّ المدّعي زوراً ربّما يقول مثل قولهم لكنّه لا يلتزم به عمليّاً أبداً.

ويحتمل أنّ ملكة سبأ أرادت اختبار سليمان عليه‌السلام وهل أنّه نبي صادق أم ملك يبغي وراء تظاهره بالدعوة إلى الله تعالى منافع ماديّة ، فقالت : (وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ). (النمل / ٣٥)

فإذا وافق سليمان عليه‌السلام على الهدية وفرح بها لاتّضح أنّ له دافعاً ماديّاً ، بينما النبي من

__________________

(١) الجدير بالذكر هو أنّ القرآن الكريم يقول أحياناً في حقّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) (الأنعام / ٩٠) ويقول أحياناً : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (الفرقان / ٥٧) وفي موضع آخر يقول : (قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى). (الشورى / ٢٣) ولا يخفى أنّ هذه الآيات بمجموعها تبيّن أنّ مسألة مودّة ذوي القربى إنّما تعود فائدتها إلى الناس ، وهذه في الواقع بمثابة ترعة تصبّ في خاتمة المطاف في نهر «الإمامة والولاية المنصوصة» التي عيّنها الله تعالى لهداية الناس وللعمل بتعليمات نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالنتيجة فكلّ منفعة تجنى من هذا الطريق إنّما تصبّ في خير الناس ولأجلهم.

٤٩

لا يهتمّ لزخرف الدنيا وزينتها ودافعه إلهي محض.

وعلى أيّة حال فإنّ تصريح القرآن بهذه النكتة في حقّ ستّة من أنبياء الله عليهم‌السلام ، والذين من بينهم إثنان من اولي العزم يثبت وجود هذه الحالة في كلّ الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا مناسبة لحصرها في خصوص هؤلاء الستّة فقط ، بل إنّ كل الأنبياء يتصفون بهذه الصفات.

* * *

٦ ـ البرّ والإحسان

من صفاتهم البارزة الاخرى هي الإحسان للصديق والعدو معاً ، فلقد كانوا في الحقيقة مظهراً لصفات «الرحمن» و «الرحيم» والفضل والإحسان للجميع.

ولذا فقد نسب القرآن هذه الصفة إلى الكثير من الأنبياء عليهم‌السلام ومن جملة ذلك ما جاء في الآية السادسة من آيات بحثنا بعد الإشارة إلى «إسحاق» و «يعقوب» ولدي إبراهيم البارّين اللذين وهبهما الله تعالى له في آخر عمره ، وكذلكـ «نوح» و «داود» و «سليمان» و «أيّوب» و «يوسف» و «موسى» و «هارون» (عشيرة من الأنبياء العظام) من بينهم ثلاثة من اولي العزم يقول تعالى : «وكذلك نجزي المحسنين» أي أنّ إحدى الصفات البارزة التي كانت لديهم هي صفة «الإحسان».

كما ورد نفس هذا المعنى أيضاً على انفراد في آيات متعدّدة من جملتها : (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ). (الصافات / ٧٩ ـ ٨٠)

و (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ* كَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ). (الصافات / ١٠٩ ـ ١١٠)

و (سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ). (الصافات / ١٢٠ ـ ١٢١)

وأخيراً : (سَلَامٌ عَلَى إِل يَاسِينَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ). (الصافات / ١٣٠ ـ ١٣١)

وهذا التكرار في التأكيد هو خير شاهد على ما تقدّم أعلاه من ماهية المراد من البرّ و «الإحسان» الذي جاء في الكثير من الآيات ، وللمفسّرين عبارات شتّى فالبعض منهم كالمرحوم الطبرسي قد فسّر «الإحسان» في الكثير من الموارد في «مجمع البيان» بمعنى

٥٠

طاعة المولى جلّت قدرته بل قد صرّح أنّه لو حصل هذا المعنى أي مقام العبودية والطاعة للآخرين لشملتهم مثل هذه العنايات الخاصّة أيضاً!.

لكنّ البعض الآخر كصاحب تفسير «روح البيان» قد فسّر ذيل الآية الثمانين من سورة الصافات بمعنى الصبر والتحمّل أمام أذى العدو واعتدائه.

كما يحتمل أيضاً أنّ كلّ واحد من الأنبياء عليهم‌السلام قد برز في أحد فروع البرّ والإحسان نظراً إلى أنّ كلّ الطاعات والأعمال الحسنة تندرج تحت عنوان «الإحسان» ، الصبر والتحمّل ، الطاعة والعبودية ، العفو والمغفرة ، وأمثالها.

* * *

٧ ـ عدم الخشية من غير الله تعالى

نظراً لتمتّع الأنبياء عليهم‌السلام بمقام رفيع في معرفة الله تعالى ، فقد كانوا يدركون جيّداً أنّ الله تعالى هو المنبع الرئيسي لكلّ خير وقوّة ولو أنّه تعالى دافع عن شخص لما تمكّن العالم بأسره من إلحاق الضرر به.

وثمرة هذه المعرفة هي الخوف من مخالفة أمر الله تعالى وحده وعدم المبالاة بمن سواه كائناً من كان.

ولذا يقول تعالى في الآية السابعة من آيات بحثنا بعد أن أشار إلى عدد من الأنبياء عليهم‌السلام السابقين ، (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً).

إنّ هذه الخاصيّة منحت الأنبياء عليهم‌السلام قدرة فائقة باعتبارهم قادة إلهيين ، ومنحتهم صموداً أمام الأعداء المعاندين بل هي في الواقع أحد أسباب موفّقيتهم.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو : أنّ الله تعالى خاطب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في آيتين سابقتين على هذه الآية ٣٧ في نفس سورة الأحزاب حول زواجه من زوجة زيد المطلقة وقال : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) ، أي أنّك تخاف غير الله فيما يتعلّق بموضوع

٥١

زواجك من هذه المرأة باعتبار أنّ زيداً هو إبنك بالتبنّي لا حقيقة ، ومن العار الزواج من زوجة الإبن بالتبنّي عند عرب الجاهلية ، في حين أنّ الأنسب أن تخاف الله تعالى.

فهذا التعبير يبيّن أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على الرغم من كونه أفضل الأنبياء عليهم‌السلام كان يخاف غير الله أيضاً في حين أنّ الآية تقول : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً). (الأحزاب / ٣٩)

فكيف يتمّ التوفيق بين هذين التعبيرين؟!

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح من خلال ملاحظة واحدة ، وقد ذكرناها في «التفسير الأمثل» وهي أنّ خوف نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله هنا لم يكن على شخصه بل كان يخشى في الواقع أن يكون إقدامه هذا على نقض عادة الجاهلية تلك (زواجه من زوجة زيد المطلّقة) سبباً في خدش مكانته وتزلزلها في أذهان عموم ذلك المجتمع باعتباره واحداً من الأنبياء عليهم‌السلام وبالتالي لا يتمكّن من تحقيق أهدافه الإلهيّة وإلّا فالإقدام على عمل كهذا وسط ذلك المجتمع الذي تغمره الامور العجيبة والغريبة لا أهميّة له أبداً من الناحية الشخصية مهما كان مخالفاً لفكر الناس وعاداتهم.

كما أنّ تقارب محلّ الآيتين من بعض يمكن أن يكون شاهداً آخر على هذا المدّعى أيضاً.

إذن فخوف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه القضيّة هو مصداق للخوف الإلهي لا الشخصي (فتأمّل جيّداً).

٨ ـ التوكّل المطلق على الله تعالى

إنّ الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يُبعثون عادة بين أقوام قد غرقوا في الفساد الأخلاقي فضلاً عن الانحراف الفكري والعقائدي ، ولذا كانت دعوتهم لإزالة هذه الآثار السيّئة تواجه بثورة عنيفة من قبل ذلك المجتمع حتّى أنّهم كانوا يتّخذون العزلة في بعض الأحيان ، والذي كان يغذّيهم بالقوّة والمنعة لمواصلة تحقيق أهدافهم في مثل هذه الظروف هو مسألة التوكّل على

٥٢

الله ، والتي نجد أحد مصاديقها في قصّة هود في الآية الثامنة من بحثنا :

إذ قال له قومه إنّك لم تأتنا بدليل واضح ولن نترك آلهتنا لكلامك هذا ، بل لن نؤمن بك أصلاً ، ونحن نعتقد بأنّ آلهتنا قد غضبت عليك وسلبتك لبك! لكنّه صمد بجرأة وقال : (إِنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لَاتُنْظِرُونِ* إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ).

عندما يرى الإنسان شخصاً جاهلاً ومتعصباً ، فيصاب بالذهول والفزع ، فكيف به إذا أراد أن ينهض لمواجهة قوم منحرفين ويحملون كافة الصفات الرذيلة ، وهو لا يملك العُدة والعدد ليتغلب بها عليهم؟! من البديهي إن عملاً كهذا لا يمكن تحققه إلّابواسطة المدد الإلهي ، وهي القوة النابعة من التوكل ، حيث أن التوكل لا يأتي إلّامن الايمان بالله سبحانه وتعالى المهيمن على كافة أرجاء العالم.

والملفت للنظر هو عدم اكتراث الأنبياء عليهم‌السلام لتهديدات أعدائهم وعدم إبراز أي رد فعل تجاههم ، بل على العكس كانوا يحتقرون قدرتهم ويعرضونها للإستفهام ويفهمونهم بأنّهم لا يعيرون لكلّ ذلك المجتمع الوثني المعاند أي اهتمام يذكر ، فهذا التوكّل المنقطع النظير هو أحد خصائص الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

٩ ـ الإخلاص المنقطع النظير

وصف «المخلص» ورد ذكره في القرآن مرّة واحدة فقط ، وذلك في حقّ موسى بن عمران عليه‌السلام فقد وصفه بالإخلاص قبل وصفه بالرسالة والنبوّة ، يقول تعالى : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً).

لكن نظراً لما ورد على لسان الشيطان في آيتين من القرآن : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ). (الحجر / ٣٩ ـ ٤٠) (ص / ٨٢ ـ ٨٣)

ولبداهة كون الأنبياء عليهم‌السلام من الذين يعجز الشيطان عن إغوائهم بأي حال من الأحوال

٥٣

فيمكن استنتاج شمولية هذا الوصف لكلّ الأنبياء سواءً موسى عليه‌السلام أو غيره.

فما هو «الإخلاص»؟ إنّ الإخلاص منزلة رفيعة جدّاً يؤكّد عليها علماء الأخلاق والعرفان كثيراً وهو أن يعتبر الإنسان ذات الباري جلّت قدرته هي المؤثّر الحقيقي في عالم الوجود لا غير ، وهذا نابع من المعرفة التامّة لتوحيد الله تعالى ، فيتوجّه العارف إلى الله تعالى بخالص نيّته ويعتبر كلّ البواعث غير الإلهيّة عبثاً ، ويضع كلّ وجوده رهن من يملك كلّ شيء ، وأخيراً يرى كلّ ما سواه باطلاً فانياً.

إنّ عمليّة تهذيب الإنسان من شوائب الشرك والهوى والبواعث الوهمية ، لها مرحلتان :

المرحلة الاولى : عن طريق تربية النفس على قدر طاقة الإنسان أي أنّه يرى نفسه بعد اجتيازه هذا الطريق بالجدّ والسعي الحثيثين في زمرة «المخلصين» (الذين قاموا بتنقية أنفسهم).

المرحلة الثانية : مرحلة تصفية الوجود الإنساني من الشوائب التي تخفى عليه لدقّتها ، وهنا يأتي دور العنايات الإلهيّة لمساعدة العبد في التخلّص من تلك الشوائب والأخذ بيده إلى مرتبة المخلصين وهذه هي المنزلة الرفيعة لأنبياء الله تعالى عليهم‌السلام وأوليائه وخاصّة عباده.

ولا يخفى أنّ آثار هذا الإخلاص تتجلّى بكلّ وضوح في أعمالهم كما يمكن إدراك بلوغهم لهذه المنزلة من خلال حسن أقوالهم وتصرّفاتهم بكلّ سهولة ، وعلى أيّة حال فالإخلاص أحد الصفات البارزة لأنبياء الله تعالى عليهم‌السلام.

* * *

١٠ ـ اللين والمحبّة وحسن الخُلُق

إنّ مسؤولية الأنبياء عليهم‌السلام القيادية تفرض عليهم ضرورة مسايرة الناس ، واللّين أمام غلظة وفظاظة الجهّال المتعصّبين قدر الإمكان ، وبعبارة أدقّ : النفوذ في قلوب مختلف شرائح المجتمع عن طريق المحبّة ، وهذه صفة اخرى من صفات الأنبياء عليهم‌السلام.

٥٤

يقول القرآن الكريم في الآية العاشرة من آيات البحث وخصوصاً فيما يتعلّق بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فَبَما رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» و «الفظّ» : و «غليظ القلب» لهما نفس المعنى تقريباً وهو الشدّة والخشونة وقساوة القب ، لكن البعض فرّق بينهما وقال : إنّ «الفظّ» يعني الخشن في القول ، و «غليظ القلب» الخشن في الفعل. وذهب البعض الآخر إلى أنّ «فظّ» إشارة إلى الخشونة الظاهرية (الأعمّ من القول والفعل) ، و «غليظ القلب» إشارة إلى الخشونة الباطنية والقلبية والتي تعدّ المصدر الرئيسي لكلّ الخشونات.

والذي يقابل هذين الوصفين هو اللّين والمحبّة والهدوء قولاً وفعلاً ممّا يؤدّي إلى استقطاب طبقات الامّة بشكل عجيب.

ويرى محقّقو التاريخ أنّ وجود هذه الصفات في شخص نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له أكبر الأثر في الإسراع من مهمّة نجاح وانتشار رسالته خصوصاً في أوساط مجتمع يدور فيه كلّ شيء حول محور الخشونة الفعليّة كالقتل والإغارة فضلاً عن الخشونة في القول ، ومن هنا فمن السهل الوقوف على الدور الفعّال لهذه الصفة الأخلاقية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وهناك الكثير من الشواهد حول هذا الموضوع في تاريخ حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو تعرّضنا لها كلّها لخرجنا عن جوهر موضوع بحثنا لكثرتها ، لكنّنا سنكتفي بنموذج واحد فقط:

ففي معركة احد التي وجّهت فيها أكبر ضربة لكيان الإسلام والمسلمين بسبب عدم التزام فريق ممّن كانوا جديدي العهد بالإسلام وهروب فريق آخر ، فضلاً عن الجراح التي اثخن بها شخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبشهادة الكثير من أقطاب الإسلام ، نراه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد انتهاء المعركة حليماً مع المسلمين يكلّمهم بلسان طيّب ولم يبد أي غضب بل كان يدعو لهداية أعدائه المجرمين أيضاً.

كما أنّ تاريخ باقي الأنبياء عليهم‌السلام يعكس أيضاً تمتّعهم بهذه الفضيلة الإنسانية الخطيرة. إنّ تصريح القرآن بأنّ «نوحاً» عليه‌السلام قد دعا قومه تسعمائة وخمسين سنة وأنّه استعان

٥٥

بكلّ الطرق والوسائل لهدايتهم على حدّ قوله ، إذ أنّه كان يدعوهم علناً أحياناً وأحياناً اخرى سِرّاً ، ليلاً أو نهاراً ، يذهب إلى بيوتهم أو يشاركهم في جلساتهم العامّة في بعض الأحيان ، وإنّه لم يؤمن به طوال كلّ هذه المدّة إلّانفر قليل ، يعكس مدى مداراته لهؤلاء الوثنيين العاصين.

ولحن قوله تعالى الوارد في سورة نوح عليه‌السلام يبيّن بكلّ وضوح استخدامه اسلوب الترغيب ، وأنّه لم يقدم على لعنهم والدعاء عليهم إلّابعد أن يئس تماماً منهم ومن ذرّيتهم.

إنّ الإنسان تصيبه الدهشة أحياناً عندما يرى ما لبعض الأنبياء من رأفة وحسن خُلق ، فقد ورد عن «لوط» عليه‌السلام مثلاً في القرآن الكريم إنّه عرض بناته على قومه المذنبين للزواج منهنّ (بعد الإيمان) أملاً في أن يمنعهم من القيام بأعمالهم الشنيعة تلك.

وعلى أيّة حال فإنّنا كلّما تمعّنا أكثر في حياة هؤلاء العظام كلّما وقفنا على مميزات وصفات أخلاقية أكبر لهم.

* * *

١١ ـ الفوز في المحن الشاقّة

تعرّض الكثير من الأنبياء عليهم‌السلام خلال حياتهم لمختلف أنواع الإختبارات الشاقّة ، وكانت صفاتهم البارزة هي تحمّل أنواع الشدائد ، وعدم الغرور عند النصر ، وباختصار الفوز في الإمتحانات الإلهيّة الصعبة.

فالنبي نوح عليه‌السلام في فترته التبليغيّة البالغة تسعمائة وخمسين سنة ، وموسى عليه‌السلام خلال خدمته لشعيب في مدين وخلال فترة تحدّيه الطويلة لفرعون وفترة انحراف بني إسرائيل عن التوحيد والخروج على أوامره ، وكذلك سائر الأنبياء مثل أيّوب وعيسى ولوط وشعيب وهود عليهم‌السلام وخصوصاً إبراهيم عليه‌السلام قد ابتلوا جميعاً في ميادين الإبتلاء هذه.

وقد جاء في الآية المعنية عن إبراهيم عليه‌السلام إنّه تعالى قد منحه مقام الإمامة المطلقة فضلاً عن مقام النبوّة وذلك بعد فوزه في الإختبار ، قال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ

٥٦

فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً).

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه قد أشارت إلى الإبتلاءات بشكل غامض ، لكن وكما ذكر المفسّرون فانّ هذه «الكلمات» (أي الامور التي اختبر الله تعالى بها إبراهيم) هي من قبيل الإستعداد لتقديم ولده قرباناً وأخذ زوجته وإبنه إسماعيل إلى أرض مكّة القاحلة وإسكانهم فيها بأمر من الله تعالى ووقوفه الشجاع أمام عبدة الأصنام والهجرة المقرونة بالحرمان إلى المناطق المؤهلة أكثر للإيمان وأمثالها.

ويرى بعض المفسّرين أنّ ابتلاءات إبراهيم عليه‌السلام قد بلغت الثلاثين مورداً (١) ، لكن ما تقدّم هو أهمّها ، فهو في الحقيقة قد وضع «حياته» و «أمواله» و «مكانته» و «زوجته» و «ولده» و «وطنه الذي كان قد ألفه» والتي تشكّل بمجموعها كيان الإنسان ووجوده في سبيل الله تعالى وخرج من بودقة الإختبار نقيّاً.

وعلى الرغم من أنّ هناك حديثاً طويلاً للمفسّرين حول تفسير «الكلمات» إذ اعتبرها البعض إشارة إلى مناقشاته الحادّة مع عبدة النجوم والشمس والقمر وبينما اعتبرها آخرون إشارة إلى سلسلة من الأحكام الفرعية للدين ، إلّاأنّ ما تقدّم هو أنسبها.

* * *

ثمرة البحث :

يمكن الإستنتاج ممّا تقدّم أنّ الأنبياء عليهم‌السلام يتمتّعون بحصيلة من ـ الصفات والمميزات الخاصّة من وجهة نظر القرآن ، ولا نقول أنّ كلّ واحدة من هذه الصفات منحصرة بهم ، أو أنّها

__________________

(١) نقل كلّ من المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» ؛ والآلوسي في «روح المعاني» والقرطبي في تفسيره أنّ هذه الخصال الثلاثين من شرائع الدين قد وردت في أربع سور من القرآن الكريم عشرة منها في سورة (التوبة / ١١٢) (التَائِبُونَ الْعَابِدُونَ ...) وعشرة في سورة (الأحزاب / ٣٥) (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...) وعشرة في سورة (المؤمنون / ١ و ٢) (قَدْ أَفلَحَ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ...) أو في سورة «المعارج» «سأل سائل». لكن يجب الالتفات إلى أنّ الصفات الواردة في السور أعلاه ، لا تبلغ الثلاثين صفة من معنى ولا تتجاوز الثلاثين من معنى آخر فضلاً عن أنّ تكرارها ممّا لا يمكن إنكاره ، وبناءً على هذا فقبول العدد ٣٠ لهذا الموضوع يبدو بعيداً بعض الشيء.

٥٧

تعكس النبوّة لوحدها ، بل نقول بإمكان العثور عليها بمجموعها عند الأنبياء عليهم‌السلام ، وبأنّ لها أثراً عميقاً للتعرّف عليهم لأنّ إحدى طرق معرفتهم كما سيأتي تفصيله هي جمع القرائن المختلفة والتي من جملتها «خصائصهم الخلقية».

* * *

٥٨

شروط الرسالة

٥٩
٦٠