نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

على أيّة حال فأداء هذه الامور من قبل البعض لا يمكن إنكاره ، لكن الشيء المهمّ هو الوقوف على مميّزات كلّ من «المعجزات» و «السحر وخرق المرتاضين للعادات» ، ليتبيّن الفرق بينهما بالكامل.

وهنا نواجه بعض الاختلافات البارزة :

١ ـ المعجزة مستندة على القوّة الإلهيّة في حين أنّ سحر السحرة وخرق المرتاضين للعادات ينبعان من القوّة البشرية ، ولذا فالمعجزات عظيمة جدّاً وغير محدودة ، بعكس السحر وخرق العادات المحدودين.

وبعبارة اخرى ، فالسحرة والمرتاضون على استعداد لأداء تلك الامور التي تمرّنوا عليها لا غير ، دون التي تقترح عليهم ، ولم يحدث إلى الآن أن عَبَّرَ السحرة أو المرتاضون عن استعدادهم لأداء ما يشير إليه الآخرون ، وذلك لِتدُرّب كلّ واحد منهم على نوع معيّن.

صحيح أنّ الأنبياء عليهم‌السلام كانوا يبادرون إلى إظهار المعجزات حتّى قبل أن يطالبهم بها الناس ، (كالقرآن بالنسبة لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعجزة عصا موسى ويده البيضاء ، وإحياء المسيح للموتى) لكنّهم مع ذلك لم يعجزوا عن إجابة إقتراحات الامم عليهم ، كمسألة شقّ القمر ، أو رفع الفتن والبلايا عن الفراعنة ، أو نزول مائدة سماوية للحواريين ، وأمثال ذلك (طبعاً على شرط كون ذلك بدافع الكشف عن الحقيقة لا التعنّت).

ولذا نجد في قصّة موسى عليه‌السلام أنّ الفراعنة طلبوا منه مزيداً من الوقت لجمع السحرة وترتيب مقدّمات العمل ، وذلك تحت عنوان : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً). (طه / ٦٤) في حين أنّ موسى كان في غنىً عن مثل هذه المقدّمات ، كما أنّه لم يطلب منهم اعطائه الفرصة للتفكير في كيفية مقاومة السحرة ، حتّى بعد اطّلاعه على سحرهم ، وذلك لاعتماده على القدرة الإلهيّة واعتماد السحرة على القدرة البشرية المحدودة.

ومن هنا فالخرق البشري للعادات قابل للمواجهة والمقابلة بالمثل ، وبإمكان الآخرين الإتيان بمثله ، ولنفس هذا السبب أيضاً لا يجرؤ من يأتي بهذا العمل على «التحدّي» أي الدعوة للمقابلة والإدّعاء بعجز الكلّ عن أداء ما يؤدّيه ، في حين أنّ المعجزات كانت مرفقة

٢٤١

بالتحدّي دائماً ، وذلك لعجز أي إنسان عن الإتيان بمثلها أبداً (إعتماداً على القوّة البشرية) ، فقد أمر الله تعالى نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم بهذه الآية : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ...). (الإسراء / ٨٨)

ومن هنا أيضاً فسرعان ما تقهر الخوارق البشرية أمام المعجزات ، ولا يستطيع السحر الوقوف امام المعجزة أبداً لعجزه عنها ، بالضبط كعجز أي إنسان عن الوقوف أمام الخالق.

المثال الواضح لهذه المسألة في القرآن الكريم قصّة موسى وفرعون ، إذ إنّهم جمعوا كلّ السحرة من مختلف اصقاع مصر ، وأخذوا قسطاً وافراً من الوقت لترتيب مقدّمات إبداء السحر ، وقاموا برسم الخطط لذلك ، لكنّهم ما لبثوا أن تقهقروا في لحظة واحدة أمام إعجاز موسى وأضحى سحرهم كسراب بقيعة.

* * *

٢ ـ نظراً لكون المعجزات من قبل الله فهي غنية عن التدريب والتعليم الخاصّين ، في حين أنّ السحر ورياضات المرتاضين مسبوقة دائماً بنوع من التدريب والتمارين المستمرّة ، إلى درجة أنّ التلميذ لو لم يتقن تعليمات استاذه لاحتمل عجزه عن أداء ذلك أمام الناس وافتضاحه في خاتمة المطاف.

وبعبارة اخرى يمكن للمعجزة أن تتحقّق في لحظة واحدة وبدون أيّة مقدّمات ، في حين أنّ الخوارق الاخرى للعادات عبارة عن تلك الامور التدريجية التي تحصل الإحاطة بها والسيطرة عليها بمرور الأيّام ، بل السنوات والتي لا يمكنها الظهور بشكل دفعي فجائي أبداً.

وقد تمّت الإشارة في قصّة موسى وفرعون إلى هذه المسألة أيضاً ، حيث يتّهم فرعون السحرة بكونهم تلامذة موسى عليه‌السلام ، وأنّه استاذهم الذي أطلعهم على أسرار السحر : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ). (طه / ٧١)

ومن هنا يحدث أحياناً أن يستغرق السحرة عدّة أشهر وسنين في تعليم تلاميذهم وتدريبهم.

* * *

٢٤٢

٣ ـ أحوال صاحب المعجزة دليل على صدقه ، الطريق الآخر لتمييز المعجزات عن خوارق العادات البشرية هو المقارنة بين حالات أصحابها ، فأصحاب المعجزات مبعوثون من قبل الله لهداية الناس ، ولذا نراهم متّصفين بأوصاف تتناسب ودورهم هذا ، في حين أنّ السحرة والكهنة والمرتاضين لا يهدفون إلى هداية الناس ، ولا يتكفّلون بمتابعة مثل هذه الأهداف ، بل ينحصر هدفهم عادةً في واحد من الامور الثلاثة التالية :

١ ـ إستغفال البسطاء من الناس.

٢ ـ كسب الشهرة بين عامّة الناس.

٣ ـ المكاسب المادّية التي تجنى عن طريق إشغال الناس وإلهائهم.

وحينما ينزل هذان الفريقان (الأنبياء ، والسحرة وأمثالهم) إلى الميدان لا يتمكّنون أبداً من كتمان امنياتهم وأهدافهم مدّة طويلة ، بالضبط كما طلب السحرة وقبل نزولهم للميدان أجراً عظيماً من فرعون ، وقد وافق على ذلك : (قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ* قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ). (الأعراف / ١١٣ ـ ١١٤)

في حين أنّ الأنبياء يكرّرون دائماً القول : (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ). (الشعراء / ١٠٩) (وقد ورد هذا التعبير في حقّ الكثير من الأنبياء في العديد من الآيات).

ووقوف السحرة في خدمة فرعون يكفي بنفسه للتمييز بين «السحر» و «المعجزة».

ولا يخفى أنّ حقيقة الإنسان لابدّ وأن تنعكس من خلال تصرّفاته ، وإن أجاد في كتمان أفكاره وأهدافه.

خلاصة القول هي أنّ الوقوف على بدايات حياة أمثال هؤلاء الأشخاص وكيفية استفادتهم من خرقهم للعادات التي يؤدّونها ، مع الأخذ بنظر الإعتبار مكانة أمثالهم بين مختلف شرائح المجتمع ، بالإضافة إلى نوعية تصرّفاتهم وأخلاقهم ، يمكنها بمجموعها أن تكون دليلاً حسناً لتمييز «السحر» عن «المعجزة» ، ومع غض النظر عن موارد الأخلاق الاخرى التي ذكرت ، نجد أنّ من السهل تشخيص المعجزات عن السحر وبقيّة خوارق العادات من خلال هذا السبيل.

٢٤٣

وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة بتعابير دقيقة ، إذ يقول في موضع : (قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَايُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ). (يونس / ٨١)

أجل فالسحرة أشخاص مفسدون ذوو أعمال باطلة ، ومن الواضح أنّ أعمالاً كهذه لا يمكنها أبداً أن تكون لها حيثية إيجابية في المجتمع.

وفي موضع آخر حينما يخاطب الله تعالى موسى يقول : (لَاتَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) ثمّ يضيف : (وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى). (طه / ٦٨ ـ ٦٩)

نعم ، فعمل الساحر مكر وخديعة ، ولابدّ لميوله النفسية أن تتلاءم وعمله هذا ، إنّهم أشخاص متقلّبون مخادعون ، كما يسهل تشخيصهم بسرعة من خلال صفاتهم وتصرّفاتهم ، في حين أنّ إخلاص وصدق وصفاء الأنبياء عليهم‌السلام دليل مقرون بإعجازهم أضفى عليهم المزيد من الجلاء والوضوح (١).

* * *

٥ ـ منطق منكري الإعجاز

يتشبّث منكرو الإعجاز في بعض الأحيان بدلائل عقلية ظاهرية ، وقد ذكرنا فيما سبق نماذج لها وأجبنا عليها ، كما تمسّك البعض أيضاً بقسم من آيات القرآن ظنّاً منه بنفيها لمسألة معجزة الأنبياء ، خصوصاً معجزة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إنكارها للمعجزات من غير القرآن ، وأهمّ الآيات التي تمسّكوا بها أو التي يحتمل البحث فيها هي الآيات التالية :

١ ـ نقرأ في سورة الإسراء : (وَقَالُوا لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً (قطعاً) أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَنْ نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى (من هذا

__________________

(١) ورد نظير هذا المعنى في سورة يونس الآية ٧٧.

٢٤٤

الكلام الفارغ) هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً). (الإسراء / ٩٠ ـ ٩٣)

وكما نلاحظ فنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستجب أبداً لواحدة من خوارق العادات والمعجزات التي طلبها هذا الفريق من مشركي قريش ، بل اقتصر جوابه على القول : (سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).

٢ ـ كما ونقرأ في نفس هذه السورة : (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ). (الإسراء / ٥٩)

إذ إنّ هذه الآية أيضاً تبين أنّ الله لم يعط المعجزة لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لأجل تكذيب الأوّلين بالآيات الإلهيّة!

٣ ـ وجاء في سورة هود : (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ). (هود / ١٢)

هذه الآية كالاولى أيضاً التي تقول في قبال طلب الكفّار : «إنّما أنت نذير».

٤ ـ وجاء في سورة الرعد أيضاً : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ). (الرعد / ٧)

ألا تصرّح هذه الآيات بعدم استجابة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لطلباتهم بشأن الاتيان بالمعجزة؟

٥ ـ ونقرأ في سورة الأنعام أيضاً : (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ). (الأنعام / ٣٧)

يقول المفسّر الكبير المرحوم أمين الإسلام الطبرسي في ذيل هذه الآية : وقد اعترض جمعٌ من الملاحدة على المسلمين بهذه الآية فقالوا : إنّها تدلّ على أنّ الله تعالى لم يُنَزّلْ على محمّدٍ آية ، إذ لو نزّلها لذكرها عند سؤال المشركين إيّاها (ثمّ يتعرّض بعد ذلك للردّ على هذه الشبهة وهو ما سنشير إليه فيما بعد).

يتّضح من كلام هذا المحقّق أنّ مثل هذه الوساوس حول المعجزات كانت منذ قديم الأيّام ، ولم تقتصر على عصرنا هذا.

٢٤٥

كما أنّ هنالك عدّة روايات ذكرت حول هذا الموضوع ، لكن ضعف استدلالها دفعنا لغضّ الطرف عنها.

الجواب :

الإلتفات إلى بعض الملاحظات يكفي لتوضيح تفسير هذه الآيات ، كما ويضع نهاية لهذه الحجج أيضاً.

١ ـ من الواضح أنّ أيّاً من هذه الآيات لا ينفي المعجزات بشكل مطلق ، وعلى فرض دلالتها على ما توهّمه المستدلّون فهي لا تتعدّى أكثر من نفي المعجزة عن نبي الإسلام فحسب ، فضلاً عن بداهة عدم نفيها لمعجزة القرآن ، وذلك لأنّ الكثير من آيات القرآن قد اعتبرت هذا الكتاب السماوي معجزة خالدة ، كما ودعت كلّ المخالفين للمنازلة ، لكنّهم عجزوا عن مقابلتها ، فأيّة معجزة أكبر وأرفع من دعوة الإنس والجن للمقابلة وعجزهم عن ذلك (١).

وبناءً على هذا فعلى فرض صحّة كلّ هذه الإستدلالات ستنحصر معجزة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن المجيد ، وهذه المسألة (وعلى فرض صحّتها) لا تخدش في مسألة نبوّة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّها لن تخدم مخالفي النبوّة بأي وجه.

آيات القرآن مليئة بمعجزات الأنبياء السابقين وخرقهم للعادات ، وبهذا فمعجزاتهم هي ممّا لا يمكن إنكاره ، امّا فيما يتعلّق بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فانّها تصرّح بإعجاز القرآن ، وهكذا لن يبقى سوى نفي باقي المعجزات عن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا على فرض صحته لا يؤثّر في المسائل الإعتقادية باعتباره مسألة فرعية وتأريخية لا غير.

٢ ـ لسان هذه الآيات يكشف عن أنّ الهدف ليس نفي المعجزات الحقيقية بل الإقتراحية.

بيان ذلك : إنّ الواجب على كلّ الأنبياء هو إثبات صدق دعواهم عن طريق المعجزات أو

__________________

(١) راجع الآيات يونس ، ٣٨ وهود ، ١٣ والإسراء ، ٨٨.

٢٤٦

طرق اخرى ، وبناءً على هذا فكلّما جاءوا بالمعجزة بما فيه الكفاية لم يبق هناك دافع يدفعهم لإظهار المزيد من المعجزات ، إذ إنّ مهمّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن خرق العادة فقط ، ليجلس في زاوية ويقترح عليه كلّ شخص معجزة طبقاً لهواه ، ثمّ ليقترح اخرى بعد مشاهدتها لو طاب له ذلك ويعبث بقوانين الخلقة ، وبعد كلّ هذا أيضاً فإمّا أن يذعن لدعوة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو يرفضها لو لم يرغب فيها.

وبعبارة اخرى ، فالنبي مكلّف بإبداء المعجزات لطالبي الحقّ ، بما يكفي لإقامة الحجّة وليس مسؤولاً أبداً للإستجابة للمعجزات الإقتراحية التي يثيرها المتذرّعون طبقاً لأهوائهم ، لا لتحقيق الحقّ ، بل للحصول على منفذ يخلصهم من الحقيقة.

الإقتراحات التي ذكرت في أوّل آية دليل واضح على هذا الموضوع ، فهم من جهة قد طلبوا سبع معجزات! مع أنّ واحدة تكفي للباحث عن الحقيقة.

وطلبوا من جهة اخرى معجزات يكمن فيها فناؤهم ، إذ قالوا مثلاً : «أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً» ، ومن الواضح أنّ طالب الحقيقة لا يطلب تلك المعجزة التي فيها فناؤه أبداً ، إذ الهدف من المعجزة هو الإيمان لا الموت والفناء.

ومن جهة ثالثة فقد طلبوا المحال ، كاقتراحهم مثلاً نزول الله والملائكة عليهم : «أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً» ، وعدم وجود الله في مكان معيّن ليتركه ويأتي إلى هؤلاء المتعلّلين هو ممّا لا يخفى.

ومن جهة رابعة نراهم يصرّحون بعد طلبهم للمعجزة المقترحة بأنّهم لا يؤمنون به ، حتّى تؤدّي العمل الفلاني الآخر أيضاً : (أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً (من الله) نَقْرَؤُهُ).

ومع الأخذ بنظر الإعتبار لما تقدّم نفهم بوضوح أنّ هدفهم لم يكن سوى المعجزات الإقتراحية ، وليس هناك أي نبي يستجيب لمثل هذه الطلبات.

اللطيف هو ما نقرأُهُ في الكثير من الحوادث التأريخية المرتبطة بعصر ظهور الأنبياء ، خصوصاً نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الكفّاروبعد مشاهدتهم للمعجزات نراهم يتوسّلون بذريعة

٢٤٧

كونها سحراً ، تهرّباً من المسؤولية وتحاشياً للرضوخ لها ، وهو ما قام به بالضبط فرعون وأتباعه أيضاً في قبال موسى عليه‌السلام ، حيث إنّهم وحتّى بعد مشاهدتهم لغلبة موسى عليه‌السلام بمفرده على كلّ اولئك السحرة الماهرين المرتاضين وإيمان السحرة به ، والذي يدلّ بما لا يدع مجالاً للشكّ على إعجاز موسى عليه‌السلام ، واعتماده على القدرة الإلهيّة ، لم يتنازلوا عن كلامهم أيضاً ، بل قالوا :

(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ). (طه / ٧٠)

وكذلك يقول : (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) (ليجبرهم على الإيمان). (الأنعام / ١١١)

وكذلك يقول : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَايُؤْمِنُوا بِهَا). (الأنعام / ٢٥)

كما يصرّح وفي معرض الردّ على طلبهم لمعجزات مختلفة ، بالقول : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ). (العنكبوت / ٥١)

مفهوم هذا الكلام هو أنّ المعجزة يجب أن تهدف إلى إثبات حقّانية دعوة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ هذا الكتاب السماوي «القرآن» هو أفضل دليل ومعجزة ، فما الداعي بعد كلّ هذا للإصرار على المزيد من المعجزات الواحدة تلو الاخرى؟

٣ ـ لا شكّ أنّ المعجزات هي من عند الله في الواقع ، وأنّ كلّ ما يملكه الأنبياء منها إنّما هو بإذن الله وأمره ، لكن ربّما يخطر على ذهن البعض أحياناً تصوّر بأنّ الأنبياء عليهم‌السلام ، قد أصبحوا فيما يتعلّق بالمعجزات مصداقاً لـ «فعّال لما يشاء» ، وأنّهم يفعلون كلّ ما يريدونه ، وهذا ما ساعد على اتّساع رقعة الغلو في الأنبياء عليهم‌السلام ودفع بالكثير إلى اعتبارهم كالإله ، ولهذا السبب لم يستجب الرسل والأنبياء عليهم‌السلام الإلهيّون لما يقترح عليهم من المعجزات ، بل قالوا : إنّ هذا ليس من شأننا ، إنّما هو منوط بإذن الله وأمره ويجب أن نعرف ما هي إرادته.

الدليل على هذا الكلام هو ما نقرأه في قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). (الرعد / ٣٨)

كما ورد نفس هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ

٢٤٨

جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَايُؤْمِنُونَ). (الانعام / ١٠٩)

هذه الآية تكشف عن إلحاحهم في طلب المعجزات من جهة ، وارتباط المعجزات بإرادة الله المطلقه من جهة اخرى.

آخر ما يتعلّق بهذا الموضوع هو أنّ القرآن قد ذكر الكثير من معجزات الأنبياء السابقين وخرقهم للعادات ، ومن البديهي أنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتمكّن أبداً من ذكر هذه المعجزات في كتابه السماوي ، ويكشف الستار عن بعضها عن طريق الوحي الإلهي ، لو لم يعكس هو بنفسه جزءاً منها في وقت يعتبر نفسه خاتم الأنبياء وأفضلهم ، وكون دينه دينَ الخلود وأفضل الأديان.

كيف يقتنع الناس بامتلاك باقي الأنبياء عليهم‌السلام لكلّ تلك المعجزات دون نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع كلّ ما يتمتّع به من منزلة وعظمة؟

هذا التحليل يبيّن أنّ لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإضافة إلى القرآن معجزات اخرى كثيرة ، لم تكن أقلّ أهميّة من معجزات سالف الأنبياء عليهم‌السلام ، وهناك أيضاً آيات قرآنية تشهد على هذا الموضوع ستأتي في محلّها إن شاء الله ، وبناءً على هذا فالإصرار على نفي باقي المعجزات من قبل بعض المغفّلين لا يبدو صحيحاً بأي وجه.

* * *

٢٤٩
٢٥٠

٢ ـ التحقيق في مضمون دعوة الأنبياء عليهم‌السلام

إحدى الطرق الاخرى لمعرفة الأنبياء الإلهيين عليهم‌السلام هي التحقيق فيما تتضمّنه دعواتهم ، أي مجموعة المعارف والأحكام والقوانين ، والبرامج الإنسانية والأخلاقية البنّاءة التي يدعون إليها.

وسنتكلّم عن هذه المسألة بالتفصيل في بحث النبوّة الخاصّة ، أي إثبات نبوّة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله كمثال على ذلك ، إذ حينما نتأمّل في تعاليمه بدقّه نجدها وبالرغم من ظهوره في محيط يفتقر إلى كلّ أنواع الحضارة الإنسانية بين قوم نصف متوحشين غارقين في الخرافات والعادات الجاهلية ، تمزّقهم الخلافات الكثيرة والعقائد السخيفة والكثير من الأحقاد والعداوات ، نعم ، وبالرغم من كلّ ذلك نجد أنّ تعاليم الدين الاسلامي عبارة عن مجموعة من العقائد التوحيدية الخالصة الحاوية على أفضل المعلومات عن الله وصفاته الجلالية والجمالية ، والعديد من تواريخ الأنبياء عليهم‌السلام المذكورة بما يتناسب ورفعة منزلتهم بالإضافة إلى الأحكام والقوانين المتضمّنة للعدالة الاجتماعية ، والبرامج العارية عن أوهام الخرافات والأخلاق والقيم التي تعدّ بحقّ متمّمة لمكارم الأخلاق ، ونظير هذه المسائل هو ما سنتطرق لشرحه مستدلّين بالآيات والروايات.

فهل بالإمكان ظهور مثل هذه التعاليم في مثل تلك البيئة ومن إنسان امّي؟ أليس هذا بنفسه خير دليل على صدق من جاء بها؟

ويكفي صدق نظير هذا المعنى لوحده في حقّ كلّ واحد من الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام للتدليل على صدقهم أيضاً ، وبعبارة اخرى : هل هناك معجزة أكبر من ظهور مثل تلك التعاليم من البشر؟ إنّ استحالة هذه المسألة بدون إمداد إلهي لا تخفى على أحد ، فهي المعجزة بعينها.

٢٥١

بل التحقيق في مضمون دعوة الأنبياء ونكاتها الدقيقة ، وروعة إرشاداتهم يعدّ أحياناً عند أهل النظر والمعرفة أرفع درجة من المعجزات من قبيل شقّ القمر وإحياء الموتى وإشفاء المرضى ، وإن كانت المعجزات المادية والحسيّة أهمّ عند عامّة الناس ، وسنكتفي بهذه الخلاصة حول هذا البحث ، ونترقّب شرحه في مكان آخر.

* * *

٢٥٢

٣ ـ جمع القرائن

المراد بـ «جمع القرائن» الذي نطرحه هنا باعتباره أحد أدلّة النبوّة هو كون دعوة كلّ نبي مقرونة بسلسلة من الاوضاع الزمانية والمكانية ، والحيثيات الاخرى المحيطة بحياته الخاصّة والعامّة ، فتشكّل بمجموعها عاملاً قويّاً يدلّل على صدق مدّعي النبوّة (مع قطع النظر عن مضمون دينه والذي تمّت الإشارة إليه سابقاً).

وهذا هو ما يستفاد منه اليوم في المحافل القضائية ، للكشف عن الحقيقة عند عدم وجود الشهود وعدم إقرار أو اعتراف المتّهم ، بل يتيقّن القاضي من سلسلة القرائن التي تحفّ بالواقعة ببراءة المتّهم أو إدانته ، وقد تفوق هذه القرائن بمجموعها الإقرار وشهادة الشهود من حيث الأهميّة في بعض الأحيان ، نظراً لإمكان الإقرار بدافع المصلحة الشخصية كالإعتراف بالجريمة لتبرئة ساحة المجرم الحقيقي في قبال ثورة كبيرة يحصل عليها المتهم غير الواقعى سرّاً ، أو أن يكون في الظاهر من ذوي الصلاح ، أما سرائرهم فملوّثة ، في حين أنّه لو تمّ جمع القرائن بشكل صحيح وكانت بالقدر الذي يعتدّ به القاضي لكان لها دور أكبر.

فوقوع حادثة قتل مثلاً في مكان ما مع إنكار المتّهم أو المتّهمين وعدم وجود البينة ، يدفع بالقاضي الفطن إلى الخوض في جمع القرائن وتسليط الضوء على امور من قبيل :

نوع العلاقة التي تربط المتّهمين بالمقتول وهل هي قائمة على الصداقة أم العداوة؟

مكان وقوع الحادثة ومميّزاته ومدى انسجامه مع المتّهمين.

وكذلك زمان وقوع الحادثة والمكان الذي كان فيه المتّهم حينها (وما هو الدليل على ذلك).

٢٥٣

كيفية القتل ونوعية السلاح الذي استخدم في القتل ، مع مقارنته بالسلاح الذي شوهد أحياناً عند المتّهم.

* * *

روحية المتّهم وسوابقه :

ومن القرائن ردود فعل المتّهم حين مشاهدة ثياب المقتول الملوّثة بالدماء أو باقي آثار الجريمة ، وإفادات الجيران وتردّد المتّهمين هناك وامور اخرى من هذا القبيل.

والتحقيق في بعض الامور الاخرى قد يدفع بالقاضي أحياناً للبتّ بانتفاء العلاقة بين المتّهم والجريمة ، منها السيرة الحسنة وعدم تناقض الأجوبة وامور اخرى وبذلك يكشف عن براءة المتّهم أو كونه المجرم الحقيقي ، وبإمكان القاضي إصدار حكمه النهائي على أساس يقينه وعلمه الحاصل من هذه المقدّمات التي هي أقرب إلى الحسّ.

هذا النوع من الاستدلال لا يختصّ بالمسائل القضائية ، بل كثيراً ما يستند إليه العلماء لحلّ المشاكل التأريخية والاجتماعية العالقة ، وحتّى فرضيات العلوم الطبيعية ، بل أن دور هذا الاسلوب لا يمكن إنكاره خصوصاً فيما يتعلّق بالمسائل السياسية التي تبقى جذورها ـ ولأسباب لا تستحقّ التعليق ـ غامضة على الأعمّ الأغلب.

كما ويمكن غالباً التعرّف عن هذا الطريق على الأنبياء الصادقين ، وتمييزهم عن غيرهم فيما يتعلّق بالمدّعين للنبوّة ، إذ ينبغي هنا مثلاً الإلتفات إلى الامور التالية :

١ ـ ما هو وضع البيئة والاصول العقائدية والأخلاقية الحاكمة عليها ، وهويّة القوم الذين ينتمي إليهم؟

٢ ـ زمان الدعوة ووضع العالم آنذاك ، وماهيّة الظروف المهيمنة على محيط حياة مدّعي النبوّة في ذلك الزمان.

٣ ـ الخصوصيات الأخلاقية والصفات والروحيات وسيرته من حيث التقوى والورع والأمانة.

٢٥٤

٤ ـ هل الأفراد الذين اتّبعوه متّصفون بالصدق والذكاء أم أنّهم سفهاء لا تقوى لهم؟

٥ ـ مدى إيمانه بادّعائه وحجم تضحيته وإيثاره.

٦ ـ الطرق التي يسلكها للتعجيل بتحقيق أهدافه وهل هي مشروعة ، أم ظالمة وغير منطقية؟

٧ ـ ما هو ردّ فعله فيما يتعلّق بالقبائح أو خرافات المجتمع ، وهل أنّه يخطّط لإصلاح المجتمع أم يساوم مع مفاسد المجتمع طمعاً في كرسي الحكم؟

٨ ـ مدى حبّه للدنيا والمظاهر المادية والمال والمقام؟

٩ ـ ما هو موقفه من الأعداء لحظة الإنتصار ، وهل يتصرّف مع معارضيه بعدالة أم لا؟

١٠ ـ هل تدور شعاراته مدار المصلحة الشخصية ، أم أنّه يسير دائماً على اصول ثابتة بقدم راسخة؟ وقرائن اخرى.

جميع هذه القرائن التي تحفّ بحياة المدّعي العامّة والخاصّة (مع قطع النظر عن مضمون دعوته ، تكون أحياناً بمثابة المشعل الوضّاء الذي يكشف عن صدقه أو كذبه بكلّ وضوح دونما حاجة إلى معجزة أو دليل) ، بل وأحياناً يُعتبر توفّر بعض ما تقدّم ذكره دليلاً قاطعاً على إثبات هذا المقصود ، وسنتناول هذا البحث بالتفصيل في مبحث النبوّة الخاصّة لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله إن شاء الله.

والملفت للنظر هو ما نقرأُهُ في العديد من الروايات في التواريخ الإسلامية عن اعتناق أشخاص لدين الله ، لمجرّد الوقوف على عدد من هذه القرائن ، بل إنّ عدداً من الأعداء اللَّدودين غيّروا مواقفهم وعادوا أصدقاء حميمين نتيجة ذلك ، ولو تمّ جمع هذه الروايات لظهر منها بحث موسّع ولطيف ، يعكس نور الإيمان الذي سطع من القلوب المؤمنة لمجرّد اطّلاعها على هذه القرائن دون البحث عن أيّة معجزة.

* * *

إرشادات القرآن حول هذين الدليلين :

إنّ لآيات القرآن الكريم تعابير لطيفة حول الدليلين الأخيرين (جمع القرائن ، والتحقيق

٢٥٥

في مضمون الدعوة) أو على الأقل هناك إشارات بليغة إليهما من جملتها :

١ ـ نقرأ في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ...). (الأعراف / ١٥٧)

تشير هذه الآية إلى أحد الأدلّة اللاحقة أي شهادة الأنبياء السابقين من جهة ، وإلى عظمة مضمون دعوة ذلك النبي من جهة اخرى ، وتذكر من جهة ثالثة قسماً من صفاته كشاهد على حقّانيته.

ولا شكّ أنّ الدعاة غير الإلهيين إنّما يهدفون إلى كبت طاقات الامة واستثمارها واستعمارها بدل السعي لتحريرها.

إنّهم لا يؤيّدون أبداً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهل يعقل صدور كلّ هذه المعارف الرفيعة والأحكام والقوانين والأوامر المدروسة من شخص جاهل ياترى؟

٢ ـ تمّت الإشارة إلى خمسة أوصاف من صفات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي يمكنها أن تشهد على صدق دعوته ، يقول تعالى : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). (التوبة / ١٢٨)

٣ ـ تمّت الإشارة في سورة (الكهف / ٦) إلى حرص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الشديد على هداية المؤمنين ، والذي يعدّ بنفسه دليلاً ناطقاً على إيمانه بهذا الدين الإلهي : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (١). (الكهف / ٦)

٤ ـ تمّ التأكيد على أنّ النبي الأكرم كان امّياً ، لما في ذلك من دور في إزالة حالة الشكّ والتردّد التي تثار حول نبوّته ، يقول تعالى : (وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ). (العنكبوت / ٤٨)

__________________

(١) وورد نظير هذا المعنى في سورة (الشعراء / ٣).

٢٥٦

٥ ـ وفي الآية التي بعدها تمّت الإشارة إلى المبشّرين بهذا الدين والمؤمنين به ، يقول تعالى : (بَلْ هُوَ (القرآن) (آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). (العنكبوت / ٤٩)

لا شكّ أنّ تأكيد علماء الامّة ومفكّريها على شيء ما ، يمكنه أن يكون دليلاً وقرينة على حقّانيته.

٦ ـ كثيراً ما نقرأ في آيات القرآن عند وصفها للأنبياء الإلهيين ونبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهم لم يطلبوا أجراً أبداً ، ولم يفكّروا في العطايا الماديّة وأنّهم بقوا على عهدهم هذا طول عمرهم ، في حين أنّ المدّعي كذباً لهذا الأمر سيكون ادّعاؤه بلا شكّ لُامور ماديّة.

من جملتها ما نقرأه في قوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لَايَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ) (وآثار التقوى والنزاهة ظاهرة عليهم). (يس / ٢١)

٧ ـ كما نجد في أكثر آيات القرآن الطبقات المسحوقة والمستضعفة ، كانت في الصفّ الأوّل من الذين آمنوا بالأنبياء الإلهيين ، وهذا ما كان يطعن به الأثرياء المتكبّرون غالباً.

ومن جملتها ما نقرأه في القرآن الكريم حينما استشكل فريق من الأغنياء على نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله حول هذا الموضوع إذ أمره القرآن بعدم التخلّي عن هذه الثلّة المؤمنة المستضعفة أبداً :

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً* وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ...). (الكهف / ٢٨ ـ ٢٩)

ولا شكّ أنّ المصلحة المادية تدفع بالمدّعين كذباً ، وعبدة الدنيا للإلتفاف حول أهل الثراء على طول الخطّ.

بل نقرأ في قسم من الآيات الشريفة أنّ هذه الطبقة المستكبرة اعتبرت المؤمنين المستضعفين طبقة المجتمع السفلى ، التي لم تثبت وجودها وعبّرت عنها بـ «الأراذل» ، والتدقيق في آيات القرآن يكشف عن أنّ الكثير منها تشير إلى هذا الدليل والذي قبله.

* * *

٢٥٧
٢٥٨

٤ ـ شهادة الأنبياء السابقين

الطريق الآخر الذي يمكن من خلاله تمييز الأنبياء عليهم‌السلام عن المدّعين كذباً هو إخبار الأنبياء السابقين القطعية الصريحة بالنسبة للأنبياء اللاحقين ، باستثناء أوّل نبي إذ لا يمكن التعرّف عليه عن هذا الطريق بل لابدّ من الرجوع إلى أحد الطرق الثلاثة التي تقدّم شرحها وهي (الإعجاز ، والتحقيق في مضمون الدعوة ، وجمع القرائن).

وهذا الطريق ليس بتلك السهولة التي توهّمها بعض النفعيين بالرغم من كونه أسهل من سابقيه ، ولغرض الحصول على نتيجة قطعية غير قابلة للإنكار هنا ينبغي مراعاة الشروط الأربعة التالية :

١ ـ إثبات «نبوّة» النبي السابق الذي يخبر عمّن يأتي بعده ويذكر صفاته ، بالدليل القطعي الذي لا يقبل الإنكار ، ولا يعتدّ بإخباره وشهادته هذه إلّابعد إحراز نبوّته بشكل تامّ مسلّم به.

٢ ـ صدور هذا الخبر عن النبي السابق يجب أن يكون قطعيّاً ، وعلى هذا فلا يعتدّ بالأخبار الضعيفة والمشكوكة من أي مصدر كانت ، بل لا يعتدّ حتّى بأخبار الكتب المعتبرة لو لم تبلغ مرتبة القطع واليقين.

٣ ـ دلالة هذا الخبر يجب أن تكون صريحة قطعية غير قابلة للاحتمال ، إذ من الخطأ التمسّك بأحد شقّي الإحتمال والتكلّف بتطبيقه على نبوّة المدّعي الجديد بتفاسير وتوجيهات ، بل وحتّى «تحريفات» في بعض الأحيان ، لأنّ هدف النبي السابق من إخباره هذا إنّما هو الكشف عن حقيقة خطيرة تقرّر مصير المستقبل ، وتوقف أصحابه على هويّة النبي الجديد ، وليس اللعب بالألغاز لإسدال الستار على «السرّ المكتوم» ، إذ الصراحة في

٢٥٩

موقف كهذا حاكمة على الكناية بكلّ تأكيد ، وذلك لسدّ الباب أمام المتذرّعين ومثيري الفتن.

وقد تمسّك بعض مبتدعي الدين المحترفين بتأويلات وتخريجات عجيبة بالنسبة للكتب السماوية ، وبلغ بهم الحدّ إلى التوسّل بحسابات الـ «ابجد»! وحسابات العرّافين وأمثالها.

كيف يفكّرون ياترى؟ فالنبوّة التي ينبغي أن تكون مشعلاً لهداية البشرية ليست شيئاً محظوراً مبهماً كأسرار الكيميائيين القدماء لتتمّ عن طريق حسابات الأبجد «الصغير» و «الكبير» خوفاً من وقوعها في غير محلّها.

٤ ـ يجب أن تنطبق العلامات التي جاءت في أقوال الأنبياء السابقين بالكامل على حالة المدّعي الجديد ، لا أن نتصرّف فيها بملء الفراغات وحذف الإضافات التي نتصوّرها ، لأنّ ذلك يعني بالتأكيد خداعنا لأنفسنا ، إذ إنّ نبيّاً كهذا إنّما هو مرسل من قبلـ «أفكارنا الشيطانية» لا من قبل الله تعالى!

لو تمّ جمع هذه الجهات الأربع الواردة في أخبار النبي السابق لأمكن التعرّف من خلالها على مقام نبوّة المدّعي الجديد ولو غاب أحدهما لاعتلَّت النتيجة.

وعلى أيّة حال فقد تمّت الإشارة إلى هذه المسألة في موردين قرآنيين على أقلّ تقدير ، وقد اكتفينا في هذا البحث الكلّي (النبوّة العامّة) بشرح مختصر على أمل تفصيل ذلك في «النبوّة الخاصّة» :

١ ـ حول بشارة المسيح عليه‌السلام بالنسبة لظهور نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله نقرأ في الآية : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ). (الصف / ٦)

لا يخفى وجود هذه البشارة (أو البشارات) حتّى في أناجيل اليوم المحرّفة ، وهو ما سنوكل البحث فيه وكذا فيما يتعلّق بكون الإسم «أحمد» من أسمائه الشريفة صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى

٢٦٠