نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

أقوال وآراء حول عصمة الأنبياء عليهم‌السلام

مسألة تنزيه الأنبياء من الذنب والخطأ يتفق عليها أغلب المسلمين ، بل وحتى أصحاب الملل والشرائع الاخرى ، لكن هناك اختلافات كثيرة وآراء وأقوالاً متنوّعة فيما يتعلّق بخصوصياتها ، قد تناولتها كتب العقائد والتفسير ، والحديث بالشرح والتفصيل.

المرحوم العلّامة الحلّي في كتابه «نهج الحقّ وكشف الصدق» (١) وكذلك هو وكل من شرح «تجريد العقائد» في شرح كلام الخواجة الطوسي «ويجب في النبي العصمة» ، وكذلكـ «ابن أبي الحديد» في شرح نهج البلاغة (٢) ، حيث تناولوا كلّهم هذه الأقوال بشكل مطوّل ، لكن المرحوم «العلّامة المجلسي» قام بشرح وترتيب هذا البحث بشكل أفضل من غيره ، وهو ما سنذكر خلاصته أدناه على أمل الإحاطة بكل الأقوال المتعلقة بهذه المسألة ، (إضافات وضعناها بين قوسين تخللت كلام هذا المحقّق العظيم).

يقول في بحث عصمة الأنبياء عليهم‌السلام :

اعلم أنّ الاختلاف الواقع في هذا الباب بين علماء الفريقين يرجع إلى أربعة أقسام : أحدها ، ما يقع في باب العقائد. وثانيها ، ما يقع في التبليغ. وثالثها ، ما يقع في الأحكام والفتيا. ورابعها ، في أفعالهم وسيرهم عليهم‌السلام. وأمّا الكفر والضلال في الإعتقاد ، فقد أجمعت الامّة على عصمتهم عنهما قبل النبوّة وبعدها ، غير أنّ الأزارقة من الخوارج جوّزوا عليهم الذنب.

وكلّ ذنب عندهم كفر ، فلزمهم تجويز الكفر عليهم ، بل يحكى عنهم أنّهم قالوا : يجوز أن

__________________

(١) دلائل الصدوق ، ج ١ ، ص ٣٦٨.

(٢) شرح نهج البلاغة لإبن ابي الحديد ، ج ٧ ، ص ٧ ـ ٢٠.

١٤١

يبعث الله نبيّاً علم أنّه يكفر بعد نبوّته! (لكن ضعف هذا الكلام هو بدرجة لا يمكن اعتباره ضمن أقوال العلماء المتقدّمين ، وكذلك تعبير بعض مفسّري أهل السنّة في ذيل الآية : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى). (الضحى / ٧)

وذيل الآية : (مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ). (الشورى / ٥٢)

وذيل الآية : (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ). (الشرح / ٢)

والآية : (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). (البقرة / ١٣١)

يبيّن أنّ البعض منهم يقول بجواز مسألة الكفر والشرك قبل النبوّة ، لكن ـ وكما قلنا ـ لا يمكن اعتبار هذا الكلام من أقوال علماء الإسلام).

وامّا النوع الثاني وهو ما يتعلّق بالتبليغ فقد اتّفقت الامّة ، بل جميع أرباب الملل والشرائع على وجوب عصمتهم عن الكذب والتحريف ، فيما يتعلّق بالتبليغ عمداً أو سهواً إلّا «القاضي أبو بكر الباقلاني» ، فإنّه جوّز ما كان من ذلك على سبيل النسيان وفلتات اللسان ، (هذا القول نادر بدرجة بحيث لا يعتبر شيئاً في مقابل القول بالإجماع).

أمّا النوع الثالث وهو ما يتعلّق بالفتيا فأجمعوا على أنّه لا يجوز خطأهم فيها عمداً وسهواً ، إلّاشرذمة قليلة من العامّة (التي خرقت هذا الإجماع ، والتي لا يعتدّ بها أيضاً) (ينقل ابن أبي الحديد هنا عن الكرامية والحشوية (١) بأنّهم لم يقتصروا على القول بجواز الخطأ فقط في هذا القسم ، بل استدلّوا باسطورة الغرانيق الموضوعة لإثبات هذا المقصود بالنسبة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله «والعياذ بالله»).

وامّا النوع الرابع وهو أفعالهم ، فقد اختلفوا فيها على خمسة أقوال :

١ ـ مذهب الشيعة الإمامية وهو أنّه لا يصدر عنهم الذنوب الصغيرة أو الكبيرة ولا العمد والنسيان والخطأ في التأويل ولا للإسهاء من الله سبحانه ، ولم يخالف فيه (وفي مورد واحد فقط) إلّاالشيخ الصدوق وشيخه محمّد بن الحسن بن الوليد فانّهما جوّزا الإسهاء لا السهو ،

__________________

(١) «الكرامية» هم أتباع محمّد بن كرام الذي ظهر في القرن الثالث وقال بالتجسيم ، و «الحشوية» (بفتح الشين أوسكونها) طائفة من المعتزلة الذين ذهبوا وراء ظواهر القرآن وقالوا بالتجسيم ، وقال البعض إنّ هذه الفرقة الضالّة شاركت أوّلاً في درس الحسن البصري ، وحينما سمع الحسن منهم كلاماً يخالف الإسلام أمر بإخراجهم.

١٤٢

الذي يكون من الشيطان وكذا القول في الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام.

٢ ـ أنّه لا يجوز عليهم فعل الكبائر ، ويجوز عليهم فعل الصغائر إلّاالصغائر التي تشمئز منها النفوس ، وكلّ ما ينسب فاعله إلى الدناءة والضعّة ، وهذا قول أكثر المعتزلة (١).

٣ ـ أنّه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة بشكل عمد ، لكن يجوز على سبيل الخطأ أو السهو ، وهو قولـ «أبي علي الجبائي» أحد متكلّمي المعتزلة ومن أقطابهم (٢).

٤ ـ أنّه لا يقع منهم الذنب إلّاسهواً اوخطأً ، لكنّهم مسؤولون عما يقع منهم سهواً ، وإن كان موضوعاً عن أممهم ، لقوّة معرفتهم وعلو رتبتهم وكثرة دلائلهم ، وأنّهم يقدرون من التحفّظ على ما لا يقدر عليه غيرهم .. وهو قول النظام (٣) (الذي هو من علماء المعتزلة المعروفين في عهد بني العبّاس) وجعفر بن مبشّر ومن تبعهما.

٥ ـ أنّه يجوز عليهم الكبائر والصغائر عمداً وسهواً وخطأً ، وهو قولـ «الحشوية» (الاخباريين من أهل السنّة ، لكن لا يُعلم في الوقت الحاضر أحد منهم مؤيّد لهذا المذهب) وكثير من أصحاب الحديث من العامّة.

ثمّ يضيف المرحوم «العلّامة المجلسي» قائلاً :

ثمّ اختلفوا في وقت عصمة الأنبياء على ثلاثة أقوال.

الأوّل : إنّهم معصومون منذ ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه ، وهو مذهب أصحابنا الإمامية.

الثاني : إنّ عصمتهم تبدأ من حين بلوغهم ، ولا يجوز عليهم الكفر والكبيرة قبل النبوّة ، وهو مذهب كثير من المعتزلة.

الثالث : إنّ عصمتهم تبدأ من وقت «النبوّة» ، وأمّا قبل ذلك فيجوز صدور المعصية عنهم ،

__________________

(١) «المعتزلة» أتباع «واصل بن عطاء» الذي هو من تلاميذ الحسن البصري ثمّ أعلن عن مخالفته إيّاه واعتزله ، ولذا عرف أصحابه بالمعتزلة ولهم مؤيّدون كثيرون بين أهل السنّة.

(٢) «جبا» كان إسماً لإحدى مناطق خوزستان.

(٣) إسمه «إبراهيم بن سيّار» ولقّب بـ «النظام» لأنّه كان يمتهن حرفة ترتيب الأختام وبيعها في سوق البصرة ، أو لأنّه كان يتحدّث بشكل منظّم.

١٤٣

وهو قول أكثر «الأشاعرة» ومنهم الفخر الرازي ، وبه قالـ «أبو هذيل» «وأبو علي الجبائي» من المعتزلة (١).

والملفت للنظر أنّ المصدر الرئيس لهذه الأقوال المتفرقة يعود بالدرجة الاولى إلى عاملين كما يبدو :

١ ـ عدم وضوح البعض من ظواهر آيات القرآن التي يشمّ منها للوهلة الاولى نفي العصمة في بعض امورهم ، في حين أنّ التدقيق في هذه الآيات ، وتفسيرها على ضوء آيات القرآن الاخرى ينفي هذا التوهّم بالمرّة ، ولكن نظراً لأنّ أهل الظاهر والجمود لم يكلّفوا أنفسهم عناء التحقيق والتدقيق فقد ابتلوا بمثل هذه العقائد.

٢ ـ فريق اعتبر بعض افراده الأدلّة العقليّة دخيلة في هذه المسألة ، وفسّر آيات القرآن أفضل من صاحبه ، كلّ اعتمد أحد الأقوال المتقدّمة ، نظراً لتوهّمهم بأنّ الهدف من البعثة إنّما يتحقّق بالعصمة بعد النبوّة ، أو العصمة في خصوص نطاق دائرة التبليغ ، أو من الذنوب الكبيرة.

لكن الحقّ هو أنّ الأنبياء معصومون بشكل عامّ من الذنوب العمدية وغيرها ، كبيرة كانت أم صغيرة ، قبلـ «البلوغ» و «النبوّة» أم بعدها ، وكذلك من الخطأ سواء أكان في العقيدة ، أو تبليغ النبوّة وأداء الرسالة ، أو بيان الأحكام أو غيرها.

هذه هي عقيدة علماء الشيعة ، عقيدة أصحابنا في تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام من كلّ ذنب ودناءة ومنقصة قبل النبوّة وبعدها ، ودليلهم على ذلك روايات أئمّة الهدى عليهم‌السلام الثابتة قطعاً عن طريق إجماع الأصحاب ، والروايات المتظافرة ، حتّى صار ذلك من قبيل الضروريات في مذهب الإمامية» (انتهى كلام العلّامة المجلسي) (٢).

ومع هذا فمن المثير للعجب ما ينسبه بعض أعداء الشيعة لهذا المذهب بما يتنفّرون منه في كلماتهم ، كقولهم مثلاً : إنّ الشيعة يجوّزون تظاهر الأنبياء بالكفر تقيّة خوفاً على حياتهم!

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٨٩ ـ ٩١.

(٢) المصدر السابق ، ٩١.

١٤٤

ثمّ إنّهم انهالوا على هذه العقيدة بكلّ عنف! (١).

في حين أنّه لم يقُل أي من علماء الشيعة أي شيء حول هذا الموضوع ، وكم كان مناسباً لو أنّ هذا القائل ذكر ولو اسم شخص واحد ، أو كتاباً واحداً على أقلّ تقدير تذكر فيه مثل هذه العقيدة ، وحسب قول المرحوم «العلّامة المظفّر» إنّ هذا الكلام كذب جلي ، وربّما يكون السبب وراء هذه النسبة هو جعل عقيدة الشيعة في التقيّة محوراً لاستنباطهم الخاطيء ، فمع أنّ إظهار الكفر بل وحتّى ما دونه غير جائز للأنبياء أبداً ، مهما تعرّضت حياتهم المقدّسة للخطر في هذا الطريق ، وغدت قرباناً للدين والعقيدة.

لكن التقية العملية ، كالتي ظهرت من نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسألة الهجرة ، حين خروجه من مكّة سرّاً حتّى وصل المدينة فلا محذور فيها ، ولا ربط لهذا بما قالوه.

الأدلّة العقليّة على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام :

ذكر أقطاب علماء الكلام أدلّة كثيرة على لزوم عصمة الأنبياء عن طريق العقل ، والتي يمكن دمج البعض منها في البعض الآخر ، واستبدال الضعيفة منها بالقوية ، بحيث ينتج من مجموعها ، أدلّة أربعة تستحقّ القبول والذكر :

١ ـ العوامل الداخلية ـ النفسية ـ

بتحليل مختصر يمكن القول بسيطرة العوامل المانعة عن الذنب على العوامل الدافعة إليه في نفوس الأنبياء.

بيان ذلك : للذنوب التي يقترفها الأنسان عوامل ومصادر شتّى لكنّها تعود بالدرجة الاولى إلى عاملين مهمين :

١ ـ الجهل وعدم تصور سوء عاقبة الأمر.

٢ ـ سيطرة الشهوات والأهواء بشكل ، بحيث يستسلم لها العلم والعقل مع قدرتهما على إدراك الآثار السيّئة للذنوب.

__________________

(١) الشيخ روزبهان في كتاب إبطال الباطل ، طبقاً لما نقله في كتاب دلائل الصدوق ، ج ١ ، ص ٣٦٩.

١٤٥

فالشخص الذي تتلوث يداه بدماء ضحيّة بريئة مثلاً ، أو يختار طريق السرقة والسقوط والرشوة ، أو يبتلى بلعب القمار وشرب الخمور وتعاطي المواد المخدّرة ، لا يخرج عن أحد حالين : إمّا أنّه لا يعلم بمفاسد هذه الأمور بشكل تامّ ، أو أنّه عالم بها إلّاأنّه لا يستطيع الصمود أمام ثورة الشهوات والأهواء وعنفوانهما.

وبناءً على هذا فالعلم والإطّلاع لوحدهما غير كافيين للردع عمّا هو غير مرغوب فيه ، بل لابدّ ـ إلى جانب ذلك ـ من التسلّط على النفس والأهواء.

إن الثمرة التي يمكن أن نجنيها من هذا البحث هي أنّ الإنسان لو كان له اطّلاع كافٍ بقباحة عمل ما ، وتسلّط كامل على نفسه وميوله ، فيستحيل صدور هذا العمل منه (المراد هنا بطبيعة الحال هو المحال العادي لا العقلي كاجتماع الضدّين) (تأمّل جيّداً).

ويمكن بيان هذه الحقيقة ببعض الأمثلة ، وهي أنّ الكثير منّا يمتلك حالة شبيهة بالعصمة في قبال البعض من الذنوب ، (أمام البعض منها فقط) مثلاً ، لا نجد بيننا من يوافق على الخروج إلى الأزقّة عارياً في وضح النهار ، ولو صادف أن قام أحدنا بمثل هذا العمل فسوف نقطع بزوال عقله ورشده ، وإلّا فيستحيل الإقدام على هذا الشيء مع وجود العقل والوعي.

شرب مياه المجاري القذرة والملوّثة حرام قطعاً ، فهل ياترى يوجد بيننا عاقل يُقدم على عمل كهذا؟

الطبيب الماهر المتبحّر في أسرار علم الطب وخطورة أنواع الأمراض المعدية ، لا يوافق أبداً على شرب غسالة ملابس المرضى المبتلين بالأمراض والأوبئة المعدية.

وبهذا يمكن القول باختصار : إنّ لنا حصانة ومناعة أمام مثل هذه الأعمال القبيحة ، وذلك لوقوفنا عن كثب على مفاسدها ، بل إنّ قوّة عقولنا ومعارفنا وإيماننا ستحطّم تلك الميول والرغبات ، لو حاولت في يوم ما إيقاعنا في مخالب مثل هذه الأمور ، إذن فلو وجد هناك من له اطّلاع كاطّلاعنا على قبح الذنوب والمعاصي ، فمن المسلّم أنّه سيتجنّبها بجديّة.

وبعبارة أخرى ، إنّ الدوافع نحو المعصية ـ أعمّ من الجهل أو غلبة الشهوات والأهواء ـ وقد انتهت وتلاشت في وجود الأنبياء والأئمّة المعصومين في ظلّ علمهم ومعرفتهم وتقواهم.

١٤٦

ولا يخفى أنّ الأنبياء ـ وبفضل ارتباطهم بعالم الغيب وبحر علم الباري اللامتناهي ـ لهم إحاطة كافية بحجم مفاسد الذنوب ، وقبح مثل هذه الأعمال وفلسفة النهي عنها ، ومن جهة أخرى فنفس هذا الإرتباط الذي يكون على مستوى الشهود ومشاهدة عالم الغيب ، يخلق فيهم حالة من التقوى بحيث تعدّ رادعاً قويّاً أمام دوافع تلك الأهواء والميول.

خلاصة القول هي : إنّ الوقوف على دوافع المعصية من جهة ، وعلى مستوى معرفة وتقوى الأنبياء الناتج من ارتباطهم بعالم الغيب من جهة أخرى ، يدعونا للتصديق بحصانتهم وابتعادهم عن كلّ أنواع المعصية.

ورد في رواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام الإشارة باختصار ، مع دلالة تامّة إلى الملاحظة الأولى ، حيث يقول : «قرنت الحكمة بالعصمة» (١).

مع أنّ العصمة هنا قد جاءت بمعناها العام ، أي كلّ أنواع الحصانة من المعصية وفي كلّ مراحلها ، لكنّها على أيّة حال تعدّ شاهداً على مرادنا.

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قالـ «المعصوم هو الممتنع بالله من جميع المحارم ، وقد قال الله تبارك وتعالى ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم» (٢).

ويمكن أن يكون هذا الحديث إشارة إلى الملاحظة الثانية أو كلتيهما ، كما ورد نفس هذا المعنى في حديث هشام بن الحكم بشكل أوفى ، فعن ابن أبي عمير ـ الذي يعدّ من كبار أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام ـ أنّه قال : «ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي إيّاه شيئاً أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام ، فانّي سألته يوماً عن الإمام أهو معصوم؟ قال نعم ، قلت له : فما صفة العصمة فيه؟ وبأي شيء تُعرف؟ قال : إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها : الحرص والحسد والغضب والشهوة ، فهذه منتفية عنه. ثمّ أضاف قائلاً :

__________________

(١) غرر الحكم.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥ ، ص ١٩٤ ، ح ٦ ؛ والآية من آل عمران ١٠١.

١٤٧

لا يجوز أن يكون حريصاً على هذه الدنيا وهي تحت خاتمه ، لأنّه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص؟

ولا يجوز أن يكون حسوداً لأنّ الإنسان إنّما يحسد من هو فوقه وليس فوقه أحد ، فكيف يحسد من هو دونه.

ولا يجوز أن يغضب لشيء من أمور الدنيا ، إلّاأن يكون غضبه لله عزوجل ...

ولا يجوز أن يتّبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الآخرة ، لأنّ الله عزوجل حبّب إليه الآخرة ، كما حبّب إلينا الدنيا فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا ، فهل رأيت أحداً ترك وجهاً حسناً لوجه قبيح؟ وطعاماً طيّباً لطعام مرّ؟ وثوباً ليّناً لثوب خشن؟! ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟» (١).

مع أنّ «هشام بن الحكم» لم ينسب هذا الحوار إلى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام مباشرة ، لكن نظراً لكونه من ألمع تلاميذ الإمام الصادق عليه‌السلام ، وتصريحه قائلاً : «كلّ ما عندي فهو من الإمام الصادق عليه‌السلام» ، فيبدو أنّه قد استلهم تحليله اللطيف والمنطقي هذا ، والذي يمكن أن يكون أحد الأدلّة العقلية على مسألة عصمة الأنبياء والأئمّة ، من إمامه الإمام الصادق عليه‌السلام.

* * *

٢ ـ دليل الإعتماد

من الواضح أنّ الهدف من بعثة الأنبياء هو هداية البشرية على ضوء التعاليم الإلهيّة ، هذا الهدف الذي يمكن ضمانه حيث لا يبقى هناك أدنى مجال للشكّ والترديد ، يساور الناس فيما يتعلّق بأقوالهم وأفعالهم ، بشكل بحيث يعتبرون كلامهم كلام الله ، وتعاليمهم تعاليم إلهية ، حتّى يتقبّلوها قلباً وقالباً ويسلّموا لها تسليماً ويعتمدوا عليها.

ومن البديهي أنّ احتمال الكذب ، وتحريف الحقائق والخطأ والإشتباه سيجد طريقه إلى كلماتهم إن لم يكونوا معصومين عن «الذنب» و «المعصية» ، وبالتالي يسلب الاعتماد عليهم

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٥ ، ص ١٩٢ ، ح ١.

١٤٨

حتّى لو كانوا أناساً طيبين ، لأنّ فقدان منزلة العصمة يستلزم احتمال تعلقهم في يوم ما بالمظاهر المادية ومغرياتها ، أو أن يرتكبوا الخطأ والزلل من حيث لا يشعرون وبلا سبب يذكر.

هذا الاحتمال يبعث على التشويش الفكري لأتباعهم على الدوام ، كما أنّه سيكون أساساً للشكّ والريبة ، فضلاً عن بقاء مسألة «إتمام الحجّة» ناقصة أيضاً ، نظراً لوجود ذريعة بيد المخالفين على الدوام مفادها أنّ سبب عدم اتّباعهم لتعاليم النبي يكمن في احتمال صدور الخطأ والزلل (لا سمح الله) منه.

خلاصة القول : إنّ رأس المال الحقيقي للنبوّة هو كسب ثقة طلّاب الحقيقة ، ولا يتحقق هذا المعنى بفقدان منزلة العصمة والصيانة من الذنب والخطأ.

ويمكن القول : أنّ الناس عموماً إنّما يتّبعون العلماء الأتقياء ، ويأخذون منهم أحكام دينهم ويثقون بهم ، مع علمهم بعدم عصمتهم من الذنب والخطأ.

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ أصل الدين يختلف عن فروعه وجزئياته ، ويمكن إرساء أصل الدين وأساسه على الشكّ أو الظنّ ، ولا يمكن قبول الوحي الإلهي مقروناً بالاحتمال والشكّ والترديد ، في حين أنّ احتمال الخطأ والإشتباه في الفروع والجزئيات لا يؤثّر في أساس العقيدة ، إذن فلابدّ من القول هناك بالعصمة والإكتفاء بالعدالة هنا ، وذلك لإمكان غضّ الطرف عن احتمال الخطأ في هذه الجهة ، دون الخطأ والإشتباه في الوحي وإبلاغ الرسالة ، حيث لا يمكن غض البصر والتسامح في هذا المورد ، كما يثار هنا سؤال آخر أيضاً وهو أنّ آخر شيء يمكن أن يستفاد من هذا الدليل هو تنزيههم من الخطأ والكذب والتحريف في تبليغ الرسالة ، لكن هذا الدليل قاصر عن شمول كافّة الذنوب والمعاصي.

لكن الإنصاف هو اشتراك معظم الذنوب باسس مشتركة ، فالكذب والإتّهام والسرقة والإبتلاء بشرب الخمر ولعب القمار والسقوط الأخلاقي ، نابعة من اتباع هوى النفس واتّباع الشهوات وحبّ الدنيا ، فكيف يمكن ألا يكذب أبداً من يبتلى بأنواع المعاصي؟

وعلى فرض وجود مثل هذا الشخص ولو نادراً ، فإنّه لن يفلح مع ذلك في كسب ثقة

١٤٩

الناس ، إذ سيقولون كيف يمكن الإعتماد على كلام الشخص الفلاني الخائن والظالم والمنحرف؟ لأنّ الفصل في هذه المسائل وعلى فرض إمكانه في الواقع مرفوض عند عامّة الناس (تأمّل جيّداً).

فكيف يمكن لشخص يخطيء في امور الحياة اليومية أن يكون مورد اعتماد في إبلاغ الوحي الإلهي؟ وسيقول الناس حتماً : إنّه ربّما ابتُلي عند إبلاغ الوحي بنفس تلك الإشتباهات التي يقع بها في حياته الشخصية.

خلاصة القول أنّ مسألة تجزئة وفصل الأخطاء والذنوب مرفوضة عند السواد الأعظم من الناس ، وأنّ من يرتكب ذنباً أو خطأً لا يمكن أن يكون مورد اعتماد في تبليغ الوحي (تأمّل جيّداً).

* * *

٣ ـ مخالفة الغاية وعدم تحقق أهداف البعثة

من المسلّم أنّ الشخص العاقل الحكيم لا يقدم أبداً على عمل يخالف هدفه وغايته ، وإلّا فلا يصح أن ينعت بالحكمة والوعي ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، فنحن نعلم أنّ الله عزوجل قد أرسل أنبياءه لهداية العباد وتربيتهم ، فلو لم يكونوا معصومين عن الذنب والمعصية لأضلّوا الناس بدل هدايتهم ، وهذا هو الجانب المنافي للهدف من بعثة الأنبياء بالضبط.

بالإضافة إلى أنّ الدور الرئيسي في تربية الناس ، إنّما يعود للبرامج العملية للأنبياء ، لأنّ كيفية تصرّف المربّين وصفاتهم وحالاتهم تعدّ النموذج الأمثل لمن يتبعهم ويتولّاهم ، وإنّ الأدلّة العقليّة والخطب الحماسية والبيان الجيّد مهما كان لها دور مهم في توعية الناس ، إلّا أنّها لا تعدّ شيئاً أمام النماذج العملية ، خصوصاً لو ظهر هناك تضادّ بين القول والفعل ، وبين النظرية والتطبيق ، فانّ حالة من الشلل ستسري إلى تلك البيانات والنداءات وتعدم تأثيرها!

ومن هنا ينبغي أن يكون الأنبياء عليهم‌السلام قدوة حسنة للناس في كافّة أبعاد الحياة ، وأن تنعكس دروسهم الدينية للناس من خلال تصرّفاتهم.

١٥٠

ولو كانوا أفراداً مثقلين بالذنوب ، مبتلين بالكذب والخيانة والظلم واتّباع أهوائهم لفقدوا اعتبارهم تماماً ، ولاصبح الهدف من بعثتهم غير مجدٍ ولا مفيدٍ.

كيف يعقل أن يضع الله هذا المنصب الخطير الذي يعدّ أسمى منصب ديني ومعنوي واجتماعي ، في عهدة شخص قد تمكنت منه الذنوب ووقع في أسر الهوى والشهوات ، ولم يسيطر على نفسه؟ هل يمكن لشخص كهذا ياترى أن يكون قائداً ربّانياً وروحياً للناس؟!

وهنا يجب الإذعان بأنّ هذا الهدف الحسّاس لا يمكن ضمان القيام به ، إلّافي حالة تنزيههم عن كلّ أنواع الذنوب صغيرها وكبيرها ، بل مطلق الخطأ والإشتباه.

ولذا نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّه قال في وصف الإمام عليه‌السلام : هو معصوم مؤيّد موفّق مسدّد قد أمن الخطايا والزلل والعثار يخصّه الله بذلك ليكون حجّته على عباده وشاهده على خلقه (١).

* * *

٤ ـ لا يمكن الإغراء بالجهل والتشجيع على الخطأ

بديهي أنّ الله تعالى ولغرض هداية عباده لا يقدم على أدنى شيء يكون سبباً في انحرافهم وركونهم للباطل وسلوكهم سُبل الضلال لأنّ صدور عمل كهذا من أي كان فهو قبيح فكيف بذاته تعالى؟

لو وضع الله أسرار النبوّة ـ الشاملة للاعجاز والأدلّة العلمية ـ تحت تصرف غير المعصوم ، أي في خدمة من يحتمل كذبه وخطأه وارتكابه للمعاصي ، فقد أوقع عباده في الضلال ، وهذا بالضبط يشبه قيام شخص معروف بانتخاب شخص مخادع منحرف وكيلاً عنه ، أليس هذا العمل قبيحاً؟

كيف نحتمل صدور مثل هذا العمل من الله تعالى ، أن يضع المعجزات وأسرار النبوّة بيد شخص مذنب كذاب منحرف وعاصٍ؟!

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٠٣ ، باب النادر الجامع في فضل الإمام وصفاته ، ح ١.

١٥١

وقد صرح القرآن بكلّ جلاء بهذا الموضوع قائلاً : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (أى فلا أحد منكم يقدر على منعنا من ذلك أو الدفاع عنه). (الحاقة / ٤٤ ـ ٤٦)

هذه الآيات تؤكّد على نفس الحقيقة التي تمّت الإشارة إليها ، وهي أنّ من يمتلك الآيات والحجج الإلهيّة والمجهّز بسلاح الإعجاز القوي ، فقد وعده الله تعالى بقوله ، لو انحرف حتّى للحظة واحدة عن المسير الإلهي ، فلن يمهله الله تعالى ، بل سيضربه في أخطر نقطة من بدنه أي شريان قلبه ويقضي عليه ، وفيما عدا ذلك فانّ الله هو السبب وراء إضلال الناس وإغرائهم بالجهل ، وهذا بنفسه يعدّ دليلاً صارخاً على مسألة العصمة.

ومع أنّ مسألة الخطأ خارجة عن إرادة الإنسان فلا يمكن معاقبة أحد على الأخطاء التي يستحيل اجتنابها ، ولكن بما أنّ هفوة النبي وخطأه يترك نفس الأثر الذي يتركه افتراؤه على الله ، أي يكون السبب وراء إضلال خلق الله ، إذن يمكن الاستفادة من مضمون هذه الآية أنّ النبي مصون من مثل هذا الخطأ أيضاً.

وكدليل على ذلك نقرأ هذا الحديث عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام حيث قال للمأمون : «من دين الإمامية ، لا يفرض الله طاعة من يعلم أنّه يضلّهم ويغويهم ، ولا يختار لرسالته ولا يصطفي من عباده من يعلم أنّه يكفر به وبعبادته ، ويعبد الشيطان دونه» (١).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال :

«إنّ الله إنّما أمر بطاعة رسوله لأنّه معصوم مطهّر لا يأمر بمعصية الله وإنّما أمر بطاعة اولي الأمر لأنّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية الله ، فهم اولو الأمر ، والطاعة لهم مفروضة من الله ومن رسوله ، لا طاعة لأحد سواهم» (٢).

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٧٦ ، ح ٣ ، باب عصمة الأنبياء.

(٢) من كتاب بحرالمناقب المخطوط ص ١٠٠ طبقاً لما نقله صاحب إحقاق الحقّ ، ج ١٣ ، ص ٧٨.

١٥٢

٥ ـ عدم أهلية غير المعصوم لتلقّي الوحي

إنّ كلّ مأمورية ـ كما نعلم تتطلّب في نفسها استعداداً وأهلية مناسبتين لها ، وأنّه يستحيل أن يقوم بأدائها على أتمّ وجه من لا أهلية ولا قابلية له عليها ، كما نعلم أيضاً أنّ أنبياء الله يتلقّون كلام الله عن طريق الوحي ، وهو ذلك النداء المليء بالنور والمعنوية ، والمتضمّن لكلّ درجات الإيمان والتقوى ويبلغونه للناس. ومن البداهة أنّ التلقّي لمثل هذا الوحي ينبغي أن يكون منزّهاً طاهراً ، بدرجة بحيث يتمكّن من الإتّصال بعالم ما وراء الطبيعة ، وذات الباري الطاهرة المنزّهة من كلّ عيب ونقص ، واستلام الرسالة المشحونة بالطهارة والتقوى ..

كيف يستطيع الملوّث بالذنوب صاحب القلب المظلم أن يجد الطريق إلى عالم النور؟ كيف يصير القلب المليء بالشهوات والأهواء مهبطاً للوحي الإلهي ومحلاً للعلم الربّاني؟ هل يُعقل تحقّق هذا المعنى بدون وجود التجانس والسنخية بينهما؟

ثمّ أنّ وكيل كلّ شخص إنّما يعكس وجود موكّله وصفة من صفاته ، ولذا لا يسمح مرجع ديني كبير لنفسه أبداً بانتخاب وكلائه من بين الأفراد المشبوهين ، ولو اتّفق وفعل ذلك لعابه الناس كلّهم ، واعتبروا تصرّفه هذا قبيحاً ، ولخرجوا على أمره أيضاً.

فهل يمكن أن ينتخب الله الذي هو مصدر القدسيّة والتقوى والطهارة ، وخليفته من بين المذنبين ، ويوكل هذه المسؤولية العظيمة لغير المعصوم؟

نرى أنّ القرآن وفي معرض إجابته على المشركين حينما صرّحوا : (قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللهِ). يقول : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). (الأنعام / ١٢٤)

* * *

٦ ـ أدلّة اخرى

ذكر بعض من العلماء العظام أدلّة أخرى في هذا الباب لها صبغة فرعية وتعود أحياناً إلى الأدلّة المتقدّمة ، من جملتها :

١ ـ أنّه لو صدر عن النبي ذنب لزم اجتماع الضدّين ، أي صدور أمرين متضادّين ، الأول

١٥٣

وجوب الامتثال له في كلّ شيء من جهة ، ووجوب مخالفته عند الخطأ من جهة أخرى ، ونعلم باستحالة صدور أمرين متضادّين من الله الحكيم.

٢ ـ لو أقدم النبي على المعصية لوجب أن يكون مردود الشهادة ، لأنّ شهادة الفاسق وأخباره غير مقبولة ، فكيف يمكنه والحالة هذه أن يكون شاهداً على الوحي الإلهي في الدنيا أو على الأمم يوم القيامة؟!

٣ ـ لو صدر من الأنبياء ذنب فهذا يعني أنّ منزلتهم أقلّ من عصاة الأمّة ، إذ إنّ مقام النبوّة في غاية الرفعة والسمو ، فارتكابهم للمعاصي ، والإعراض عن أوامر ربّهم ونواهيه من أجل لذّة فانية أقبح وأشنع من عصيان هؤلاء ، وهذا ما لا يقرّه عاقل.

٤ ـ أنّهم لو كانوا يأمرون الناس بصالح الأعمال واجتناب قبيحها ، ولم يلتزموا هم بذلك لدخلوا تحت قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). (البقرة / ٤٤)

وهو غير معقول.

٥ ـ لو صدر عن النبي ذنب صار مصداقاً للظالم (ظلم الآخرين أو ظلم نفسه) ولجاز لعنه ، إذ يقول القرآن : (أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). (هود / ١٨)

فكيف يمكن لعن النبي؟ وهل يتناسب هذا مع مقام نبوّته؟

٦ ـ أنّ القرآن الكريم صرّح بأنّ الشيطان أقسم بعزّة الله تعالى على إغواء جميع الناس ، إلّا المخلَصين : (فَبِعزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ). (ص / ٨٢ ـ ٨٣)

فلو صدر من النبي ذنب لوجب أن يكون من حزب الشيطان ، مع بداهة كونه من المخلَصين.

هذه الأدلّة الستّة قويّة ومتينة ، وبالرغم من أنّها ترجع إلى الأدلّة الرئيسية المتقدّمة ، لكنّها فروع يانعة من تلك الأصول المعطاءة.

* * *

١٥٤

أسئلة متعدّدة :

هنالك عدّة أسئلة مطروحة في بحث عصمة الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام نشير إلى أهمّها :

١ ـ هل لعصمة الأنبياء صفة «جبريّة»؟

الكثير من الأشخاص حينما يقرأون بحث عصمة الأنبياء ، يتبادر إلى أذهانهم فوراً هذا السؤال وهو أنّ مقام العصمة موهبة إلهيّة مفروضة على الأنبياء والأئمّة ، وكلّ من نال هذه «الموهبة» فقد حُفظ من المعصية والخطأ ، ومن هنا فلن تعد معصوميتهم فضيلة وفخراً ، لكونها أمراً إلهيّاً مفروضاً كما تقدّم.

وبناء على هذا فارتكاب الخطأ مع وجود مقام العصمة مستحيل ، وواضح أنّه لا فضيلة في ترك المحال ، فعدم ظلمنا مثلاً للناس الذين سيأتون بعد مائة عام أو الذين عاشوا قبل مائة عام لا يعدّ لنا فضيلة وفخراً ، لأنّ أداء مثل هذا العمل بالنسبة لنا محال!

الجواب :

بالرغم من أنّ هذا الإشكال لا يتعرّض إلى عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، بل إلى كونها فضيلة أم لا ، مع ذلك فالتمعّن في عدّة ملاحظات يمكن أن يزيح الستار عن الغموض المحيط بهذا السؤال :

١ ـ إنّ الذين يثيرون هذا الإشكال لا يلتفتون إلى جذور عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، بل يتصوّرون أنّ مقام العصمة مثلاً هو كالمناعة من بعض الأمراض والتي تحصل للإنسان عن طريق بعض اللقاحات ، فكلّ من يلقّح بمثل هذا اللقاح لن يبتلى بذلك المرض شاء أم أبى.

لكنّنا عرفنا في الأبحاث السابقة أنّ مصونية المعصومين من المعاصي نابعة من مقام معرفتهم وعلمهم وتقواهم ، بالضبط كاجتنابنا لقسم من الذنوب لعلمنا وإحاطتنا بسلبياتها ، كعدم الخروج إلى الزقاق عراةً ، وهكذا بالنسبة لمن له اطّلاع تامّ بالآثار السلبية للمواد المخدّرة ويعلم بأنّ الإدمان عليها يتسبّب في موت تدريجي بطيء ، فسوف يتجنب تعاطيها.

١٥٥

فمن المسلّم أنّ تركه هذا يعدّ فضيلة حتّى لو كان الدافع له على تركها هو علمه بمفاسدها ، وذلك لقدرته على استعمالها ، إذ لا إجبار في البين.

ولهذا السبب نسعى لرفع مستوى معرفة وتقوى الأفراد عن طريق التربية والتعليم ، لنضمن ابتعادهم عن الذنوب الكبيرة والأعمال الشنيعة على أقل تقدير.

أفلا يعدّ ترك البعض لقسم من هذه الأعمال نتيجة للتربية والتعليم فضيلة؟!

وبعبارة أخرى إنّ ترك الأنبياء للذنوب محال عادي لا عقلي ، ونعلم بعدم المنافاة بين المحال العادي وبين الإختيار ، وكمثال على المحال العادي هو : أن يصطحب عالم جليل معه خمراً إلى المسجد ويشربه بين صفوف الجماعة ، فهذا محال عادي لا عقلي كما لا يخفى.

خلاصة القول : إنّ المستوى الرفيع للإيمان ومعرفة الأنبياء عليهم‌السلام والذي يعدّ بنفسه فضيلة وافتخاراً ، هو السبب في فضيلة أخرى ، ألا وهي مقام العصمة (تأمّل جيّداً).

ولو قيل من أين لهم هذا الإيمان وتلك المعرفة؟ ، لقلنا من الألطاف الإلهيّة ، إلّاأنّها لا تعطى لأي شخص اعتباطاً ، بل لوجود الأهلية الكامنة فيهم ، بالضبط كما يقول القرآن الكريم بالنسبة لإبراهيم الخليل إنّه لم يبلغ مقام الإمامة إلّابعد اجتيازه للإمتحانات الإلهيّة الخطيرة : (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً). (البقرة / ١٢٤)

أي أنّ إبراهيم وبعد طيّه لهذه المراحل بمحض إرادته واختياره ، نال تلك الموهبة الإلهيّة العظيمة.

وكما يقول تعالى بالنسبة ليوسف عليه‌السلام : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ). (يوسف / ٢٢)

وذلك بعد تكامله البدني والروحي واستعداده لتلقّي الوحي.

إنّ جملة (وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمحْسِنِينَ) تعدّ شاهداً قويّاً على مرادنا ، إذ يقول القرآن : إنّ أعمال يوسف الإيجابية ولياقته هي التي هيّأته لتلك الموهبة الإلهيّة العظيمة ، كما أنّ هناك

١٥٦

تعابير توضّح هذه الحقيقة بالنسبة لموسى عليه‌السلام حيث يقول القرآن : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى). (١) (طه / ٤٠)

ومن الواضح وجود مؤهلات وقابليات كامنة في نفوس هؤلاء العظماء ، لكن تنميتها وتقويتها ليس فيه صفة إجبارية مطلقاً ، بل إنّهم قد قطعوا هذا الطريق بمحض اختيارهم وإرادتهم ، وما أكثر اولئك الذين يتمتّعون بالقابليات لكنّهم مع ذلك لا يسعون لتطويرها ورفع مستواها ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، فتمتّع الأنبياء عليهم‌السلام بمثل هذه المواهب ، قد وضع بالمقابل في اعناقهم مسؤوليات خطيرة ، وبعبارة أخرى إنّ الله تعالى إنّما يهب الشخص قدرة وطاقة بحيث تتناسب والمسؤولية التي يضعها على عاتقه ، ثمّ يختبره في أداء وظيفته.

٢ ـ الجواب الآخر لهذا السؤال هو أنّه ومع فرض كون الأنبياء منزهين من ارتكاب أي ذنب وخطأ ، بالعناية الإلهيّة اجبارياً لغرض كسب ثقة الخلق ، وليكونوا مشعلاً ينير الطريق لهدايتهم ، فلا زال الطريق في «ترك الأولى» أي العمل الذي لا يتناسب وشأنهم مع عدم كونه معصية ، مفتوحاً أمامهم بالرغم من كلّ ذلك.

ففضيلتهم تعود إلى عدم تركهم حتّى للأولى مع كونه اختيارياً بالنسبة إليهم ، وتعرّض البعض من الأنبياء للخطاب والعتاب الإلهي الشديد اللهجة والإبتلاء بالحرمان في بعض الأحيان ، إنّما هو لاحتمال تركهم للأولى نادراً ، وأيّة فضيلة أسمى من اجتنابهم لترك الأولى طاعة لأوامر الحقّ؟

إنّ فخر الأنبياء يكمن في تحمّلهم للمسؤولية بحجم هذه المواهب ، واجتنابهم حتّى لترك الأولى ، ولو حدث أن صدر منهم ترك للأولى استثناءً فسرعان ما يبادرون إلى جبران ذلك.

__________________

(١) جملة (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) فسّرت أحياناً بالإستعداد لتلقّي الوصيّة وأحياناً أخرى بالمعنى الزماني أي أنّه ولغرض تلقّي الرسالة كان من المقدّر أن تأتي إلى هنا.

١٥٧

٢ ـ هل تنسجم العصمة مع التقيّة؟

يقال أحياناً : كيف يمكن أن يكون الأنبياء والأئمّة معصومين مع جواز التقيّة لهم ، وجواز الكذب وأمثاله في مقام التقيّة ، أليست تلك ذنوباً؟ فلو جازت التقيّة لهم لاستحالت عصمتهم من الذنب والمعصية.

* * *

الجواب :

يجب الإلتفات إلى ملاحظتين دقيقتين :

١ ـ الشبهة الخطيرة التي راودت البعض من المغفّلين حولـ «التقيّة» والتي غدت مصدراً لشبهات جمّة أخرى ، هي توهّمهم بأنّ «التقيّة» تعني إبداء موقف الضعف أمام الآخرين ، واسدال الستار على الحقائق ، وانحصار مؤيّديها في أتباع المذهب الشيعي فقط.

في حين أنّ «التقيّة» بمعناها الحقيقي قانون عقلائي معروف وواضح يتّبعه كلّ العقلاء في الوقت المناسب ، وهي في الحقيقة نوع من التكتيك لمحاربة العدو أو مواجهة الأحداث الخطيرة.

بيان ذلك : هناك أحداث في تاريخ الجهاد الديني والاجتماعي والسياسي ، يتعرّض أتباع الحقّ ومذهبهم للخطر فيما لو قاوموا بشكل علني ، ومن هنا نرى أنّ وجه الصراع يتغيّر وتستبدل المقاومة المباشرة بغير المباشرة والعلنية بالسرّية ، والهدف هو توجيه «ضربات أكثر» للعدو بـ «خسائر أقل» ، وبعبارة أخرى الحدّ من ضياع القوى ، وهذا النوع من الصراع والعمل السرّي ليس سوى «التقيّة» ولكن بأسلوب آخر.

إنّ النشاط السرّي مقابل العدو يعتبر في كلّ حروب العالم على طول التاريخ (خصوصاً اليوم) من أهمّ أصول المقاومة ، الخطط الحربية كلّها سرّية ، كلّ ملابس الجنود وأنواع العتاد والسلاح بعيدة عن أنظار العدو ، وهذه كلّها صور أخرى من «التقية».

لو وقع أحد الضبّاط الكبار في أسر العدو ، واحتمل أن يستفيد العدو كثيراً من معلوماته ،

١٥٨

لوجب عليه كتمان أمره وعدم إخبار العدو بالحقيقة ، بل لو تمكّن من إغوائهم بعباراته لوجب ذلك ، وهذه أيضاً من أوجه التقيّة.

لِمَ نذهب بعيداً ، ففي صدر الإسلام حين كان المسلمون يشكّلون الأقلّية ، كانوا يكتمون عقائدهم حين وقوعهم في قبضة العدو ، لئلّا تذهب الطاقات سدى ، فالكل قد سمع قصّة عمّار وأبيه ، كما أنّ القرآن أجاز هذه المسألة في العديد من الآيات (١).

ومؤمن آل فرعون الذي وردت قصّته بالتفصيل في القرآن كمثال على ذلك ، حيث استخدم أسلوب التقيّة ، وعبّر عنه القرآن صراحةً بـ (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ). (غافر / ٢٨)

ولا يجيز أي عاقل أن يكشف المجاهدون عن أنفسهم في مثل هذه الظروف الحسّاسة وهم قلّة ، لئلّا يتعرّف عليهم العدو بسهولة ويقضي عليهم.

اللطيف هو أنّ «التقيّة» قد اعتبرت بمثابة الدرع الواقي بالنسبة للمؤمن في الروايات الإسلامية ، كما ورد ذلك عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «التقيّة ترس المؤمن» (٢).

فلو أنّ أحداً لجأ إلى مكان منيع في ساحة المعركة ليقي نفسه من ضربات العدو ، هل يعدّ مرتكباً لعمل مخالف ياترى؟!

ومن هنا يتّضح أنّه كلّما ابتلي أحد بموارد التقيّة وكتم أمره وعقيدته التي يؤمن بها لمصلحة أهمّ ، أو تحدّث على خلافها ، فهو فضلاً عن عدم ارتكابه للذنب يكون عاملاً بالمباح أو الواجب ، وشأن ذلك شأن الكذب لإصلاح ذات البين ، أو لإنقاذ حياة مؤمن.

واللطيف هو أنّ القرطبي المفسّر السنّي المعروف ، وفي ذيل الآية (١٠٦) من سورة النحل حينما يصل إلى مبحث «التقيّة» يقول : «يعتقد كلّ علماء الإسلام أنّه لو أجبر أحد على التفوّه بعبارات الكفر خوفاً على حياته ، فلا حرج عليه في ذلك مع اطمئنان قلبه بالإيمان ، ولا تبّين منه زوجته ، ولا يحكم بأحكام الكفر» وبعد تعرّضه لقول ضعيف حول

__________________

(١) راجع (آل عمران / ٢٨) و (النحل / ١٠٦).

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ح ٦ ، من الباب ٢٤ من أبواب الأمر بالمعروف ص ٤٦١.

١٥٩

الإرتداد الظاهري لشخص كهذا يقول : «هذا كلام ينفيه الكتاب والسنّة والقرآن وحديث النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله».

طبعاً الأنبياء عليهم‌السلام في موقع لا يسمح لهم بالتقيّة أبداً ، أي إنّهم لا يكتمون حقائق الدين بأيّ ثمن ، ولا يقولون خلاف الواقع في هذا الطريق ، وإلّا لبقيت حقائق دعوتهم خفيّة ، ولزال الإعتماد على كلامهم ، ولفقد إخبارهم عن الوحي السماوي اعتباره ، لكنّهم لو ابتلوا بمشاكل شخصية فيحتمل كتمانها من قبلهم ، وقد اختفى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في غار ثور أثناء هجرته من مكّة إلى المدينة وسلك الأودية والبوادي ، وسار ليلاً واختفى نهاراً لئلّا يعثر عليه العدو وتتعرّض حياته المباركة للخطر ، هذه كلّها كانت تقية ولا معصية في ذلك كلّه ، كما إنّه لم يصدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يخالف الحقّ.

وبهذا نكون قد وصلنا إلى خاتمة مبحث عصمة الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

١٦٠