نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

طلب من الله تعالى أن ينظر إليه ببصره وسمع الجواب : إنّك لن تراني أبداً!

(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِى) وفي هذه الأثناء جاءه الأمر بالنظر إلى الجبل : (انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). (الأعراف / ١٤٣)

من هنا يقال :

أوّلاً : لماذا طلب موسى مثل هذا الطلب من الله تعالى مع كونه يتمتع بمنزلة رفيعة في المعرفة والإيمان؟

ثانياً : لابدّ وأن صدرت منه مخالفة ليبتلى بالصعقة ويغمى عليه؟

ثالثاً : جملة «تُبت إليك» تظهر أنّه تاب من عمل سيء قام به.

وللمفسّرين هنا أجوبة متنوّعة أيضاً ، أجلاها هي : إنّ آيات القرآن تبيّن بكلّ وضوح أنّ ذلك الطلب لم يصدر من موسى عليه‌السلام ، بل من بني إسرائيل الذين ألحّوا عليه ليُريهم الله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ). (البقرة / ٥٥)

بل الآيات الاخرى أيضاً تبيّن أنّ موسى كان مأموراً بأخذ جمع من أشراف بني إسرائيل معه إلى جبل الطور لتكرار طلبهم هناكـ «حتّى يقفوا على الجواب بشكل عملي» ، ويشير الى ما تقدّم ما أطلق على هذه الحادثة ، اسم «ميقاتنا» في الآية الآنفة الذكر وكذلك في الآية (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ). (الأعراف / ١٥٥)

وبناءً على هذا فما قاله موسى عليه‌السلام كان بأمر وتكليف من الله تعالى ، كما أنّه ليس لنزول الصاعقة أيّة صفة جزائية ، بل كان الهدف إيقاف عامّة بني إسرائيل على هذه الحقيقة ، وليبين لهم بأنهم عاجزون عن رؤية شرارة صغيرة من قدرته تعالى بحيث تسقطون على الأرض

١٠١

فيغمى على البعض منكم ويصعق البعض الآخر ، فكيف والحالة هذه تطلبون رؤية ذاته تعالى بعظمتها؟

أمّا جملة «انّي تُبت» فقد كانت من جانب بني إسرائيل ، كما أنّ جملة (رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ) كانت من قبلهم أيضاً.

يستفاد من عدّة آيات من سورة الكهف أنّ موسى عليه‌السلام ابتلي بالنسيان ، فهو تارةً يقول : (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً). (الكهف / ٦١) إذن فلقد وجد النسيان طريقه إليهما.

وفي آيتين بعدها ينقل عن صاحب موسى عليه‌السلام : (فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ). (الكهف / ٦٣)

فلو كان صاحبه وهو يوشع بن نون ـ كما هو معروف بين أقطاب المفسّرين ـ وكان في تلك الحالة نبيّاً ، فسيثبت جواز النسيان للأنبياء.

كما نقرأ في عدّة آيات بعدها وعلى لسان موسى عليه‌السلام ، أنّه حينما التقى بذلك الرجل الإلهي «الخضر» تعهّد بألّا يسأله عن أسرار ما قام به إلى أن يبيّنها هو بنفسه ، لكن موسى عليه‌السلام نسي ذلك في أوّل مرّة ، ولذا اعترض على الخضر لخرقه تلك السفينة السالمة ، وحينما ذكّره الخضر بالعهد قال : (قَالَ لَاتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ). (الكهف / ٧٣) كما تكرّر هذا الشيء ثانية وثالثة أيضاً.

ألّا يستفاد من مجموع هذه الآيات إمكان نسبة النسيان للأنبياء؟! أوليس الصيانه عن ارتكاب الخطأ والنسيان أحد فروع العصمة؟

* * *

الجواب :

لقد سلك المفسّرون طرقاً شتّى للإجابة عن هذا السؤال : إذ قال البعض : إنّ «النسيان» يعني تارةً ترك الشيء وإن لم يكن منسياً ، كما نقرأ في قصّة آدم : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِىَ ...). (طه / ١١٥)

١٠٢

من المسلّم أنّ آدم لم ينس العهد الإلهي فيما يتعلّق بالإجتناب عن الأكل من الشجرة الممنوعة ، لكن نظراً لعدم اهتمامه بذلك العهد فقد عبّر عنه بالنسيان.

وقال البعض أيضاً : إنّ «الناسي» هو في الحقيقة صاحب موسى عليه‌السلام وليس موسى عليه‌السلام ، والناسي لم يكن نبيّاً ، إذ لم يثبت ذلك فيما لو اقتصرنا على الآيات القرآنية على أقلّ تقدير ، فنحن نقرأ في الآيات مورد البحث أنّ صاحب موسى عليه‌السلام قد شاهد سقوط الحوت في الماء واستعادتها للحياة والحركة ، وقرّر إخبار موسى عليه‌السلام بذلك لكنّه نسي ، إذن فالناسي هو صاحب موسى لا غيره باعتباره الشاهد الوحيد لهذه الحادثة ، والنسبة إليهما في جملة «نسيا» هي من قبيل نسبة عمل الفرد إلى الجماعة وهي شائعة الإستعمال.

ولو قيل : كيف يعقل إيداع مسألة بكلّ هذه الأهميّة في زاوية النسيان؟ لقلنا : إنّ صاحب موسى عليه‌السلام كان قد شاهد معجزات أهمّ من هذه ، فضلاً عن كونهما في هذا السفر يطلبان هدفاً أهمّ ، فنسيان الحوت بسبب هذا الهدف لا يدعو للعجب.

ونسبة النسيان إلى الشيطان ، قد تكون لوجود علاقة بين حادثة إحياء السمكة ومسألة العثور على ذلك الرجل العالم ، الذي كان من المقرّر أن يستفيد موسى عليه‌السلام من علمه ، وحيث إنّ عمل الشيطان هو الإغواء والحؤول دون بلوغ بني الإنسان أهدافهم المقدّسة ، أو تأخيرهم عنها على أقلّ تقدير ، فقد قذف النسيان في ذهن «صاحب موسى».

جاء في بعض الروايات عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ما مضمونه : إنّ موسى كان نائماً حين انسابت الحوت وسقطت في البحر وذهبت في سبيلها ، وأنّ صاحبه «الذي كان يشاهد هذا الموقف» لم يرغب في إيقاظه وإخباره بذلك ، كما أنّه نسي أن يخبره بعد استيقاظه أيضاً ولذلك فقد واصلوا مسيرهم يوماً وليلة آخرين ، ثمّ تذكّر هذا الرجل الحادثة وقصّها على موسى عليه‌السلام فاضطرّا للرجوع إلى مكانهما الأوّل ، الذي سقطت فيه السمكة في الماء (١).

كما قال البعض أيضاً : إنّ الأنبياء معصومون من النسيان المرتبط بدعوتهم ، دون ما له علاقة بأمر عادي يومي ، فالنسيان أمر عادي لا يرتبط من قريب أو بعيد ، بمسألة الوحي

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ١٥ ، ص ١٧٤.

١٠٣

والنبوّة والتربية والتعليم والتبليغ ، بل إنّ عدم ترابطهما أمر واضح للجميع ولا يخدش هذا في مقام عصمة الأنبياء ، والنسيان الوارد في الآيات المذكورة هو من هذا القبيل.

يقول العالم الكبير المرحوم السيّد المرتضى رحمه‌الله : إنّ هناك ثلاثة أوجه فيما يتعلّق بقول موسى للخضر : «لَاتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ» :

الأوّل : النسيان بمعناه الحقيقي المتعارف ، ولا عجب أن ينسى موسى مثل هذا العهد خلال هذه الفترة القصيرة ، لانشغاله فكريّاً (بمسائل أهمّ).

الثاني : أنّ مراده هو أن لا تؤاخذني على ما تركته (أي أنّ موسى كان قد ترك العهد عمداً ، ومعلوم أنّه كان مشروطاً ، أي لو شئت البقاء معي فلا تسألني حتّى اوضّح لك بنفسي).

الثالث : مراد موسى هو أن لا تؤاخذني على عمل شبيه بالنسيان.

ثمّ يضيف قائلاً : ولا إشكال لو حملنا الجملة على النسيان غير الحقيقي ، وإلّا لو حملناه على النسيان الحقيقي فتعليله أنّ النسيان بهذا المعنى لا يجوز بحقّ الأنبياء ، في بيان الامور الإلهيّة ، أو التشريعية ، أو الخارجة عن المتعارف ، ولا مانع لما خرج عن نطاق هذه الدائرة ، كما لو نسي النبي طعامه ، أو شرابه لكن لا بتلك الدرجة والتكرار الزائدين عن الحدّ لاستحالة مثل هذا الشيء في حقّه.

الآية الاخرى المتعلّقة بأعمال هذا النبي العظيم والتي دار حولها النقاش وردت في قوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنْ بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلِأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). (الأعراف / ١٥٠ ـ ١٥١)

وهنا ترد عدة علامات للإستفهام :

أوّلاً : لماذا ألقى موسى بالألواح المكتوب فيها احكام الله وآيات التوراة على الأرض؟

ثانياً : لماذا أبدى ردّ الفعل الشديد تجاه أخيه الذي لم يكن قد ارتكب إثماً؟

١٠٤

ثالثا : لماذا طلب العفو والمغفرة لنفسه ولأخيه؟!

لكن لو تأمّلنا في تلك الحادثة التي واجهها هذا النبي العظيم بعد رجوعه من ميقات ربّه ، لسلَّمنا بصحة وضرورة تصرفه هذا.

فلقد قضى موسى سنوات طويلة مليئة بالمشقّة ، لزرع بذرة «التوحيد» في قلوبـ «بني إسرائيل» القاسية ، وذهب إلى مكان الوحي لميقات ربّه حينما نبتت تلك البذرة على أمل نموّها ، لكنّه حينما رجع لاحظ أنّ كل جهوده ذهبت أدراج الرياح وقد استسلم الأكثرية الساحقة من بني إسرائيل لوساوس «السامري» وسجدوا للعجل! فضلاً عن إحاطة فتنة الوثنية والشرك بكلّ شيء وانطفاء نور الإيمان والتوحيد.

وهنا استغرب موسى كثيراً وغضب غضباً شديداً ، وكان غضبه لله طبعاً ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى كان لابدّ له من مواجهة ماحدث بشدة ، حيث تعدّ أقسى حادثة في حياة موسى عليه‌السلام ، وذلك ليقف بنو إسرائيل على خطورة الموقف وقبح عملهم ، وبالنتيجة تزال كلّ آثار الشرك والوثنية من قلوبهم ، وإلّا لاحتمل بقاء آثار الشرك في قلوبهم وقلوب الأجيال القادمة أيضاً ، فليس المهمّ هنا مسألة احترام إنسان أو بعض الألواح المقدّسة ، بل المهمّ هو مسألة التوحيد وخطورة انحراف قوم بأكملهم.

كان ينبغي لموسى عليه‌السلام التعبير عن غضبه الكامن في نفسه ، وإظهار قبح هذا العمل للجميع ، وذلك ما كان ميسوراً إلّابإبداء ردّ فعل عنيف ، ولذا عاتب أخاه هارون بشدّة حتّى أنّه جرّه من رأسه بعد أن ألقى الألواح جانباً ، بل صرخ في الواقع من أعماق وجوده ، حتّى تردّد صداه بين بني إسرائيل ليقول بعضهم لبعض : ما أقبح عبادة العجل يا ترى! بحيث يتعامل موسى عليه‌السلام بكلّ هذه الخشونة مع أخيه؟ وعلى فرض أنّ مثل هذا التصرّف لا يليق بشأن هارون عليه‌السلام (مع أنّ علاقة الاخوّة بين الأخوين تنفي مثل هذا الشيء) فإنّه وبسبب التأثير الاجتماعي العميق له لم يجد موسى عليه‌السلام بدّاً من فعله.

كما أنّ نفس هذا الهدف كان وراء إلقاء الألواح ، بالرغم من اعتقاد البعض بأنّ لفظة «الإلقاء» هنا تعني الوضع على الأرض والذهاب وراء عمل ما ، ولذا لم تنته المسألة عند هذا الحدّ ، بل كان ذلك القرار الشديد على بني إسرائيل بسبب ارتداد ذلك الفريق بالشكل

١٠٥

الذي جاء في ذيل الآية ٥٤ من سورة البقرة.

كما واجه مؤسّس الوثنية بين بني إسرائيل ، أي : «السامري» ذلك العقاب الشديد أيضاً ، خلاصة القول هي أنّ ردّ الفعل العنيف كان يرمي إلى أهدافٍ عظيمة ، ولم يكن خالياً من الإشكال فحسب ، بل كان واجباً أيضاً في مثل تلك الظروف (تأمّل جيّدا ً).

٦ ـ داود عليه‌السلام

هناك آيات في القرآن الكريم تشير إلى أنّ نبي الله العظيم داود عليه‌السلام قد استغفر ربّه لعمل قام به ، وأنّ الله تعالى قد غفر له وذلك قوله : (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ). (ص / ٢٤ ـ ٢٥)

ألم يكن استغفار داود والعفو عنه من قبل الله سبحانه وتعالى دليلاً على صدور الذنب منه؟ وهل يتلاءم هذا ومقام عصمته؟

للحصول على جواب هذا السؤال لابدّ من الرجوع إلى القرآن ، والبحث قبل كلّ شيء عن العمل الذي يرتبط به هذا الإبتلاء وتلك المغفرة.

تحكي الآيات التي سبقت آيات بحثنا أنّ خصمين تسوّرا محراب داود عليه‌السلام ، ودخلا عليه على حين غرّة ، ففزع لدخولهما المفاجيء عليه : (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَاتَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ). (ص / ٢٢ ـ ٢٣)

فقال داود بدون تحقيق أو استفسار : (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ...). (ص / ٢٤)

هذه هي القصّة التي ذكرت في آيات القرآن بأكملها بلا زيادة أو نقصان.

هناك تفاسير مقبولة قدّمت تفسيراً مقنعاً لهذه الآيات ، كما أنّ هناك روايات موضوعة

١٠٦

وردت في بعض الكتب ، تعرّضت لمعاني هذه الآيات بشكل مسيء ومشوّه.

أمّا ما يتّفق ومحتوى الآيات المذكورة ، فهو القول : إنّ الشيء الوحيد الذي صدر من داود عليه‌السلام كان فقط تركه للأولى وذلك بتسرّعه في القضاء ، لكن لا بتلك السرعة التي تكون على خلاف «واجبات» موازين القضاء ، إذ «يستحبّ» للقاضي التمعّن أكثر ما يمكن ، فلو ترك الأكثر واكتفى بالحدّ الأوسط أو الأقل فقد ترك الأولى ، وهذا ما فعله داود ، فقد قضى بظلم الأخ لأخيه الفقير ، وربّما كان السبب وراء هذا التسرّع هو ذعره من دخولهما المفاجيء عليه في خلوته ، فضلاً عن أنّ اجحافاً كهذا من قبل أخ لأخيه يبعث على الأسف والشفقة.

صحيح أنّ داود عليه‌السلام أصغى لادّعاء طرف واحد فقط ، لكن سكوت الطرف الآخر وعدم التفوّه بأي كلام ، أو اعتراض يعدّ في نفسه دليلاً على اعترافه ، وعلى أيّة حال فمن آداب مجلس القضاء أن يطلب القاضي توضيحاً أكثر من الطرف المقابل وهذا ما لم يفعله داود.

وما استغفار داود إلّالتركه الأولى ، وقد تقبّل الله تعالى توبته وغفر له.

وهو أفضل دليل على عدم صدور أي ذنب عن داود عليه‌السلام ، والجملة الواردة في ذيل نفس هذه الآيات : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) تشير إلى ذلك ، كما أنّ هناك أوصافاً أخرى كثيرة في حقّه قد وردت في الآيات السابقة ، ونُعت بتلك المنزلة الرفيعة عند الله تعالى بحيث غدت سيرته نموذجاً لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله يقتدى به ، ولا شكّ أنّ هذا المعنى لا يتناسب مع العصيان والذنب أبداً.

حينما يصرّح القرآن في ذيل هذه الآيات ويقول : (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ ...). (ص / ٢٦)

يتبيّن بكلّ وضوح أنّ خليفة الله لا يذنب ، ومسألة ردعه من اتّباع هوى النفس إنّما هي بمثابة الأمر ولا تدلّ على ارتكاب معصية ، ومن هنا يتّضح مدى تفاهة تلك القصّة التي أبرزتها التوراة بشكل مُشوَّه ، وبالغت في تضخيمها أكثر من الوضع الطبيعي ، وربطت هذه القضيّة بحادثة مختلقة وهي عشق داود عليه‌السلام لزوجة أحد ضبّاط جيشه وهيامه في حبّها ،

١٠٧

والتدبير لقتله في خاتمة المطاف وأخذ زوجته.

تشتمل التوراة التي حُرِّفت عن مواضعها على بعض العبارات التي تبيّن مدى فضاعة هذه القصّة ، والتي لا تسمح عفّة القلم ومنزلة الأنبياء عليهم‌السلام (١) بذكرها.

هذه القصص الموضوعة ، والعبارات البذيئة تعدّ بنفسها أفضل دليل على تحريف التوراة الحالية.

من الطبيعي أنّ مثل هذا التحريف ليس غريباً بالنسبة لمحقّقي تاريخ التوراة على مدى آلاف السنين ، لكنّ العجب إنّما هو من كيفية إقدام بعض المفسّرين المسلمين على نقل تلك الخرافات القبيحة في كتبهم ، في الوقت الذي نقرأ في رواية عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لا اوتى برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أُوريا إلّاجلدته حدّين حدّاً للنبوّة وحدّاً للإسلام» (٢).

كما احتمل البعض كون هذه الحادثة إشارة إلى أنّ داود عليه‌السلام لم يأسف لنبأ مقتل اوريا في ميدان القتال كأسفه على غيره ، وذلك لرغبته في الزواج من امرأته بعد مصرعه ، ولكن من دون (اتّفاق مسبق) حول الموضوع.

لكن وكما أشار المرحوم السيّد المرتضى أيضاً ، فانّ هذه التصرّفات وإن لم تعدّ ذنباً لكنّها ممّا تشمئزّ منها النفوس ، ومعلوم أنّه لا ينبغي للأنبياء والأئمّة القيام بمثلها (٣).

كما احتمل بعض المفسّرين أنّ العادة في ذلك الزمان كانت جارية على عدم تزويج المرأة الأيّم أبداً ، وأنّ داوداً قد تزوّج زوجة اوريا بعد موته لتحطيم هذه السنّة الخاطئة.

لكنّ هذا التفسير أيضاً لا يتناسب بدوره مع ظاهر الآيات التي تبيّن صدور ترك الأولى من داود ، لأنّ تحطيم هذه السنّة الخاطئة يعدّ واجباً فضلاً عن عدم كونه تركاً للأولى ، إلّاأن

__________________

(١) لمزيد من الإطلاع راجع الكتاب الثاني لـ «اسموئيل» (من كتب التوراة) الفصل الحادي عشر ، الجملة الثانية إلى السابعة والعشرين ، ثمّ نقدها وتحقيقها من التفسير الأمثل ذيل الآيات ٢١ إلى ٢٥ من سورة ص.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآيات من سورة ص ، كما ذكر الفخر الرازي نفس هذا الموضوع بعبارة اخرى.

(٣) تنزيه الأنبياء ، ص ٩١ و ٩٢.

١٠٨

يقال : إنّ هذا العمل كان سبب العناء الروحي لُاوريا ، كما جاء في إحدى الروايات (١).

لكن التفسير الأوّل هو الأنسب من بين هذه التفاسير.

* * *

٧ ـ سليمان عليه‌السلام

وهناك أيضاً آية في القرآن الكريم وردت بحقّ هذا النبي العظيم ، تبيّن أنّه قد طلب العفو من ربّه واستغفره على بعض الأعمال التي صدرت منه ، (وأنّ الله تعالى قد قبل توبته).

يقول القرآن حول هذا الموضوع : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيَمانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لَايَنْبَغِى لِاحَدٍ مِنْ بَعْدِى إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ* فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ...). (ص / ٣٤ ـ ٣٦)

ولنرى ما هو هذا الإختبار؟ ولمن يعود هذا الجسد الجامد الذي القي على كُرسيّه؟ فهذا ما لم يتعرّض القرآن لبيانه ، لكن هناك تفاسير إسلامية تناولت هذه الحادثة ، وروايات تعرضت لها ، كما أنّ الرواة الذين وجدوا في هذا الموضوع أرضاً خصبة لهم فحاكوا حوله أساطير وهمية لا أساس لها ، ونسبوا إلى هذا النبي العظيم ما لا يتناسب حتّى مع المنطق والعقل السليمين ، فضلاً عن منزلة العصمة والنبوّة ، ومن جملة ذلك اسطورة شنيعة وملفّقة تدّعي ضياع خاتم سليمان ، واختطافه من قبل أحد الشياطين وجلوسه على عرش سليمان ثمّ استلامه للحكم ، (وذلك لوجود علاقة بين الخاتم والحكومة والتسلّط على الإنس والجنّ طبقاً لهذه الاسطورة) ، وهذه الاسطورة المذكورة في بعض الكتب بكلّ جدّية واعتقاد ، والتي تبدو حسب الظاهر من خرافات الاسرائيليات الممتدّة جذورها إلى «التلمود» كتاب اليهود ، (وهو عبارة عن مجموعة روايات في تفسير قوانين موسى) ، والتي يصعب التفوّه بها أو نقلها لوقاحتها.

والذي يبدو صحيحاً من بين التفاسير والذي اشير إليه في الروايات الإسلامية ، تفسيران :

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ، ج ١ ، الباب ١٤ ، ص ١٥٤.

١٠٩

الأوّل : أنّ سليمان عليه‌السلام كان يتمنّى أن يكون له أبناء شجعان وأكفاء ليديروا حكومته من بعده ، ويعينوه في حياته على إدارة البلاد والنظام والجيش ، ولذلك قال في إحدى الليالي : لقد صممت على مقاربة العديد من نسائي على أمل أن ارزق بأولاد أكفاء ، لكنّه لم يقل : (إن شاء الله) ، فبسبب ترك الأولى هذا لم يرزق من زوجاته سوى طفل ناقص الخلقة كالجثّة الهامدة حيث ألقوه على كرسيّه.

جاء في حديث عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي نفس محمّد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً!» (١).

وهنا انتبه سليمان عليه‌السلام إلى أنّه ترك الأولى فتاب لذلك وعفى الله تعالى عنه.

الثاني : أنّ المراد من جملة : (أَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) هو أنّ سليمان قد مرض مرضاً شديداً حتّى عاد كالجثّة الهامدة فوق كرسيّه ، فكان ذلك ابتلاءً إلهيّاً ، ثمّ استعاد عافيته وشفى ، وهو المراد من كلمة «أناب» في الآية.

طبقاً لهذا التفسير الوارد في تفاسير الكثير من أقطاب المفسّرين تكون جملة : (أَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) ، بمعنى : (القيناه على كرسيه جسداً) وهي خلاف ظاهر الآية بطبيعة الحال.

فضلاً عن عدم وضوح ما هو ترك الأولى الصادر من سليمان عليه‌السلام على أثر هذا المرض ليستغفر ربّه؟ إلّاأن يقال : إنّ الإنسان يرتكب تركاً للأولى في حالاته المختلفة بشكل عامّ وحال مرضه بشكل خاصّ ، وأنّ سليمان قد استغفر ربّه لمثل هذه الحالات ، لكنّ هذا الجواب مبهم وغير مقنع.

الموضوع الآخر الذي اثير حول هذا النبي العظيم ، هو الجملة التي تلي نفس هذه الآية وهي قوله : (وَهَبْ لِى مُلْكاً لَايَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى).

فهل يتلاءم ، هذا الطلب مع الروح السامية والنظرة البعيدة والزهد المنقطع النظير

__________________

(١) ذكر البخاري هذا الحديث في صحيحه ، كما ذكرته بعض التفاسير ومن جملتها روح البيان ؛ وفي ظلال القرآن في ذيل الآيات مورد البحث.

١١٠

الذي يتمتّع به الأنبياء المعصومون عليهم‌السلام؟ ألا يُشمُ من هذا الكلام رائحة البخل ياترى؟

ورغم أنّ الحديث يدور هنا حول عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، لكن على أيّة حال فالنقائص الأخلاقية الاخرى خصوصاً تلك التي تشمئزّ منها النفوس لا تتناسب مع درجاتهم ومنزلتهم الرفيعة.

وقد أجاب المرحوم السيّد المرتضى في «تنزيه الأنبياء» والمحقّق الطبرسي في «مجمع البيان» وباقي المفسّرين عن هذا السؤال في تفاسيرهم بأجوبة متعدّدة (١) ، والأجوبة أدناه تعدّ أنسبها :

إنّ سليمان عليه‌السلام طلب من الله تعالى أن تكون له معجزة خاصّة ، كما أنّ لكلّ نبي معجزته الخاصّة ، وكانت معجزته هي الحكم الذي لا مثيل له ، الحكم على الإنس والجنّ وعلى الرياح والسحاب و... ، فوهبه الله مثل هذه المعجزة ، حكومة واسعة تتصف بالإعجاز في مختلف الجوانب ، ومن البديهي أنّ طلباً كهذا لا يعدّ عيباً ونقصاً للنبي.

والجواب الآخر هو : إحساس سليمان بالإذن لمثل هذا الطلب عن طريق الوحي ، أو بعبارة اخرى : أنّ الله تعالى شاء أن يتجسّد شعاع من قدرته وحاكميته عن طريق أحد أنبيائه العظام ، فوجد سبحانه سليمانَ صالحاً لهذا الغرض فأجازه لمثل هذا الطلب ، فطلب سليمان بدوره تلك المعجزة ، فوهبه الله تلك الحكومة العجيبة التي لا مثيل لها ، والتي لم ولن يكون لها نظيرٌ في العالم ، ومن المسلّم أنّه حينما يجد اللهُ أحداً صالحاً لعمل ما ، ويجيزه في ذلك ، لا يبقى هناك أدنى مجال للشكّ والترديد والإشكال.

الدليل على هذا الكلام هو ما ورد عن سيرة سليمان من أنّه كان زاهداً جدّاً في حياته ، كما نقرأ في حديث عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال حول هذا الموضوع : «كان يأكل الشعير ويطعم الناس الحُوَّاري! (٢) وكان لباسه الشَعر وكان إذا جنّه الليل شدّ يده إلى عنقه فلا يزال قائماً يصلّي حتّى الصباح!» (٣).

__________________

(١) تنزيه الأنبياء ، ص ٩٧ و ٩٨ ؛ تفسير مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٤٧٦.

(٢) الحواري (بالحاء المضمومة والواو المشدّدة) هو «الطحين الأبيض».

(٣) سفينة البحار ، مادّة (الزهد) ، وتفاسير اخرى.

١١١

وهناك تفسير لطيف حول هذا الموضوع في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وذلك حينما سئل عن تفسير الآية : (رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لَايَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى) قال عليه‌السلام : «الملك ملكان ملك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس ، وملك مأخوذ من قبل الله تعالى ، كملك آل إبراهيم وملك طالوت وذي القرنين ، فقال سليمان (وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) أن يقول إنّه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس ، فسخّر الله عزوجل له الريح ... وسخّر الله عزوجل له الشياطين ... وعلّم منطق الطير ، ومكّن في الأرض ، فعلم الناسُ في وقته وبعده أنّ ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل الناس ، والمالكين بالغلبة والجور» (١).

والمراد من هذا الحديث هو أنّ سليمان عليه‌السلام لم يطلب حكماً محدوداً ، بل حكماً لا مجال فيه للقيل والقال والإتّهام بالزور والظلم ، ولذا فقد مزج الله هذه الحكومة بالمعجزات العجيبة لإثبات كونها من عنده تعالى ، لا من الناس ولا عن طريق الظلم والغلبة (٢).

الجواب الثالث : ما أُثير حول مقام عصمة سليمان عليه‌السلام هو ما جاء في نفس الآيات السابقة حيث يقول تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (الخيل الأصيلة) ـ فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّى (إنّي أحبّ هذه الجياد في سبيل الله ومن أجل الجهاد ، فبقي ينظر إليها ..) حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ* رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (يمسح عليها لأنّها لائقة للقتال)). (ص / ٣١ ـ ٣٣)

طبقاً للمعنى المتقدّم الذي تبيّن من هذه الآيات ، لا يبدو هناك أي إشكال في عمل سليمان عليه‌السلام هذا ، فهو يعتدّ بقدرته العسكرية ويلتذّ بالتطلّع إلى الجياد المهيأة للجهاد ، ويأمر بردّها عليه ثانية لاعتزازه بها ، وهذه التصرّفات كلّها تبدو بشكل عام معقولة ومنطقية وإلهية.

لكن البعض فسّر هذه الآية بشكل آخر واعتبرها كبداية للإشكال على سليمان ، وقال : إنّ الضمير في كلتا جملتي «توارت» و «ردوها» يعود إلى الشمس التي لم ترد في العبارة ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٤٥٩ ، ح ٥٦.

(٢) وبناءً على هذا التفسير فهناك جملة مقدرة في الآية تقديرها : وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول ليس من عند الله.

١١٢

والتي يمكن استنتاجها من التعبير بـ «العشي» الوارد في الآية ، وطبقاً لهذا التفسير فقد ذهل سليمان بالنظر إلى هذه الجياد ، إلى أن غابت الشمس وتوارت وراء الحجب ، فغضب لذلك كثيراً لفوات صلاة العصر عليه ، وحينئذ طلب من الملائكة إعادة الشمس ثمّ توضّأ وصلّى ، وأنّ جملة (فطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) إشارة إلى وضوئه.

كما ذهب البعض إلى أبعد من هذا أيضاً ، وقال : إنّ المراد من هذه الجملة هو : أنّه أعطى أمراً بقطع أعناق الجياد وقوائمها ، باعتبارها السبب وراء غفلته عن ذكر الله (العذر الذي هو أقبح من الفعل) ، والقول : إنّه ذبحها ووزّع لحومها في سبيل الله يبدو عجيباً أيضاً ، لأنّ جياداً بتلك القيمة والخاصيّة التي تلفت نظره إليها حتّى يذهل لذلك لا ينبغي ذبحها كالأبقار والأغنام ، إذ لو أراد إنفاقها لوجب إعطاؤها للآخرين وهي على قيد الحياة ، ولا يخفى على أحد سقم هذه التفاسير ، وذلك لأنّ :

١ ـ لو كانت هذه الجملة (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) إشارة إلى وضوئه ، فليس لديه سوى رقبة واحدة ، والتعبير بـ «الأعناق» بصيغة الجمع مما يكون ، كما أنّ لديه ساقَيْن ، والتعبير ب (السوق) بصيغة الجمع يكون لا معنى له أيضاً ، ومَن قالَ إنَّ الوضوء كانَ بالمَسْح؟ لا معنى له.

ولو كانت بمعنى قطع أعناق وقوائم الجياد ، فهو عمل غير منطقي جدّاً ، لا يقدم عليه حتّى الفرد العاقل العادي فكيف بنبي عظيم كسليمان عليه‌السلام ، إذ لا ذنب لها ، بل لو كان هناك ذنب فهو منه حينما انشغل بالنظر إليها.

أكثر ما يمكن أن يقال هنا هو أن يهبها للآخرين لتبقى بعيدة عنه ولا تشغله بنفسها ، ولا داعي للقتل أبداً؟!

٢ ـ لم يرد في هذا الحوار كلام عن «الشمس» ، والاستدلال عليها عن طريق «العشي» بعيد جدّاً ، لأنّ أقرب ما يعود إليه الضمير هنا هو «الخير»الذي يعني هنا «الجياد» بكلّ تأكيد ، كما لم يرد شيء عن الملائكة أيضاً ليكونوا من مخاطبي سليمان ، فضلاً عن أنّ هذا التعبير الذي وجهه سليمان إلى الملائكة تشمّ منه رائحة صيغة الأمر ، ويبدو مستبعداً جدّاً لعدم لياقته وشأن الملائكة.

١١٣

٣ ـ لو قبلنا هذا التفسير على سبيل الفرض ، لأمكن القول : إنّ الصلاة التي أدّاها قضاءً كانت صلاة مندوبة ، قد فاتت سليمان وأنّها كانت قبل غروب الشمس ، فكيف يثبت كونها صلاة واجبة؟ وأساساً كيف يثبت كون الفائت هي الصلاة؟! ربّما كانت أذكاراً خاصّة يؤدّيها سليمان قبل الغروب ، وقال بعض المفسّرين أيضاً : إنّ «ذِكر رَبّي» لو كان يعني الصلاة الواجبة ، وأنّ سليمان عليه‌السلام كان قد غفل عنها لانشغاله بالجياد استعداداً للجهاد ، فلن يرد عليه إشكال أبداً ، لأنّ نفس عمل سليمان هذا يعدّ عبادة عظيمة قد أغفلته عن عبادة اخرى.

لكن هذا التفسير أيضاً يبدو بعيداً ، نظراً للأهميّة الخاصّة التي تتمتّع بها الصلاة ، والصحيح هو ما قيل أوّلاً.

* * *

٨ ـ يونس عليه‌السلام

وهناك آية في القرآن الكريم حول هذا النبي العظيم أيضاً ، حيث تبيّن أنّه اعترف أمام الله تعالى بالظلم ثمّ طلب العفو والمغفرة وأنّ الله استجاب دعاءه وغفر له بعد اختبار طويل ، يقول تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) ثمّ يضيف قائلاً : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِى الْمُؤْمِنِينَ). (الأنبياء / ٨٧ ـ ٨٨)

وهنا يثار هذا السؤال وهو : كيف يتناسب وضع يونس في صفوف الظلمة مع منزلة عصمته ، ولمن ظلم؟ ، وما هي نوعية الظلم؟ ثمّ أنّ يونس عليه‌السلام على من غضب؟ ولماذا ظنّ أنّ الله لن يضيّق عليه؟ ألا يمكن لهذه الجهات الثلاث مجتمعة أن تكون بمثابة علامة إستفهام على مسألة عصمته؟

ورد نفس هذا المعنى بشكل غامض في القرآن الكريم : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ* لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ* فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). (القلم / ٤٨ ـ ٥٠)

كما يستفاد من هذا التعبير أيضاً أنّه كان قد تسرّع في أمره وأشرف على الهلاك لولا أن أسعفه لطفه تعالى.

١١٤

ونفس هذا المعنى تكرّر أيضاً في سورة الصافات ، وذلك بعد الإشارة إلى قصّة هربه من قومه وركوبه في السفينة ، وإلقاء القرعة ثمّ إلقائه في فم حوت عظيم ، يقول تعالى : (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). (الصافات / ١٤٣ ـ ١٤٤)

ما هو الذنب الذي اقترفه ليسجن في بطن الحوت ، ويلبث فيه مدّة مديدة لولا تسبيحه لله تعالى؟ ، خلاصة القول : إنّ قصّة يونس عليه‌السلام التي جاءت في ثلاث سور من القرآن الكريم (الأنبياء ، القلم ، الصافات) وبعبارات مختلفة تثير استفهامات شتّى حول مقام عصمة هذا النبي العظيم وتستدعي جواباً منطقيّاً.

* * *

الجواب :

صحيح أنّ التعابير المختلفة للآيات المذكورة تبيّن أنّ ذنباً ما قد صدر من يونس عليه‌السلام ، فالتعبير بـ «الظالم» و «المليم» (يأتي أحياناً بمعنى ملامة النفس ، أو القيام بعمل يستوجب ملامة الآخرين لفاعله ، لأنّ لفظة «المليم» قد فسّرت بكلا المعنيين) ، وكذلك التعبير بأنّ يونس عليه‌السلام : (فلَوْلا أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ الى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، والتعبير بـ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) وتعبير (لَاتَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) ، الذي يأمر نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : بأن لا يكون كيونس عليه‌السلام ، وكذلك تعبير : (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) ، كلّ هذه التعابير تبيّن وقوع شيء ممّا لا ينبغي وقوعه.

لكن القرائن تشير إلى أنّ هذا العمل المخالف لم يكن سوى ترك الأولى ، لأنّ الله تعالى وفي نفس هذه الآيات قد تحدّث عن يونس كنبي مرسل ، موضع العناية الإلهيّة الخاصّة ، وفي سورة (الأنعام / ٨٦) يعتبره الله تعالى من الأنبياء العظام الذين فضّلهم على العالمين ، كما يعتبره في عداد الأنبياء عظيمي الشأن كإبراهيم ونوح وإسماعيل وعيسى عليهم‌السلام ، وذلك في سورة (النساء / ١٦٣).

امّا ما هو ترك الأولى هذا؟ فهناك احتمالات متنوّعة ، يمكن لكلّ واحد منها منفرداً

١١٥

فضلاً عن مجموعها ، أن يكون دليلاً على ترك الأولى فقط ، من جملتها : أنّه تسرّع في ترك قومه إذ كان الأجدر به أن يصبر أكثر ، أو أنّه تعجّل بالدعاء عليهم ، أو أنّه كان ينبغي عليه انتظار الأمر الإلهي حين خروجه من بين قومه حتى ولو كان قد يئس من هدايتهم على ما يبدو.

ولا يخفى أنّ أيّاً من هذه الامور لا يعدّ ذنباً ، لكنّها لو لم تكن لكان أفضل ، وبناءً على هذا فقد استحقّ العتاب والملامة ، والتعبير بـ «الظلم» أو «الإبتلاء بالعقاب الإلهي» إنّما هو من بابـ «حَسَناتُ الابْرارِ سَيِئاتُ الْمُقَرَّبينَ» ، والذي تقدّم الكلام عنه مفصّلاً عند البحث عن ترك آدم عليه‌السلام للأولى ، كما يحتمل أيضاً تصوّره بأنّ الله تعالى لن يضيق عليه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ، أنّ تصوّره هذا كان بمثابة ترك الأولى ، وذلك لأنّ تمتّع الأنبياء عليهم‌السلام بمستوى عالٍ من الإيمان يفرض عليهم العيش دائماً بين الخوف والرجاء لا اعتبار أنفسهم في أمان من العقاب الإلهي ، أو القنوط من رحمته.

أمّا التعبير بـ «مغاضباً» فواضح أنّه يعني الغضب على أعمال قومه المذنبين ، لا الغضب على الله تعالى! كما ذهب إليه بعض المغفّلين ، لأنّ هذا ليس فقط متنافياً مع مقام الأنبياء ، بل لا يتناسب وأدنى حدّ من الإيمان أيضاً لأنّ ما يقابل الغضب على الله هو الكفر بالله.

وعبارة «مغاضباً لربّه» الواردة في الروايات أو كلمات بعض أقطاب أهل التفسير إنّما تعني «مُغَاضِباً لَاجْلِ رَبِّهِ» أي أنّه غضب لأجل الله تعالى نتيجة أعمال قومه.

ومن هنا يتّضح سبب مكوثه في سجن مظلم تتوالى ظلماته الواحدة بعد الأخرى (ظلمة بطن الحوت ، ظلمة البحر ، وظلمة الليالي)؟ وسبب عزمه على التضرّع والإستغفار وطلب العفو ، بتلك العبارات الموزونة المتينة : (لَاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

الملفت للنظر هو ما جاء في البعض من الروايات ، أنّ الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : «حينما كان يونس في خلوته في بطن الحوت متوجّهاً بكلّ وجوده إلى العبادة مستجيراً بالله تعالى وحده ، اعتبر نفسه من الظالمين لأنّه لم يأت بعبادة خالصة كهذه من قبل ، فقال أن

١١٦

لا إله إلّاأنت سبحانك انّي كنت من الظالمين ، بتركي مثل هذه العبادة التي فرغْتَني لها في بطن الحوت ، فقبل الله تعالى منه ذلك ، وقال عزوجل : «فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون» (١).

امّا فيما يتعلّق بتفسير الآيات المتعلّقة بـ «يونس» عليه‌السلام وما هو ذلك الحوت الذي تمكّن من الإحتفاظ به في بطنه؟ وكيف يمكن للإنسان البقاء حيّاً مدّة طويلة بلا ماء أو طعام أو هواء؟ وكيف يمكن لذلك الإنسان ألّا يذوب ويهضم في المعدة الواسعة للحيوان؟ واسئلة أُخرى من هذا القبيل ، فالكلام عنها خارج عن موضوع بحث العصمة ، ومن أراد الوقوف على أجوبة هذه الأسئلة يمكنه الرجوع إلى «التفسير الأمثل» ، الأجزاء ١٣ و ١٩ و ٢٤ في تفسير الآيات التي تتحدّث عن يونس عليه‌السلام.

٩ ـ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله

هناك آيات قرآنية مختلفة تثير التساؤلات حول مسألة عصمة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيما يلي أهمّها :

أ) (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً). (الفتح / ١ ـ ٢)

بما أنّ كلمة«الذنب» تعني المعصية ، إذن فكيف ينسجم هذا المعنى مع العصمة والمنزلة الرفيعة لهذا النبي العظيم؟

للمفسّرين أبحاث كثيرة وآراء متنوّعة في معرض إجابتهم عن هذا السؤال ، من جملتها : إنّ المراد هو ترك الأولى ليس إلّا ، والذي لا يتنافى أبداً مع مقام العصمة ، إذ إنّ الإنسان حينما يرجّح المهمّ على الأهمّ والحسن على الأحسن يقال له : لقد «ترك الأولى». (تأمّل جيّداً» ، إذ إنّه وفضلاً عن عدم ارتكابه لذنب فقد أدّى مستحبّاً أيضاً ، غاية ما في الأمر أنّه كان هناك مستحبّ أقوى ممّا أدّاه ، وإطلاق الذنب والمعصية على مثل هذا العمل إنّما هو لعلو

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٤٥٠ ، ح ١٣٧.

١١٧

مقامه إذ كما قلنا : «حسنات الابرار سيئات المقربين».

الآخر هو أنّ المراد بالذنب هو معصية الامّة (وبناءً على هذا ففي الآية شيء مقدّر وهو كلمة «الامّة» ، أي (من ذنب امّتك ..).

وقول ثالث يشير إلى أنّ المراد به الذنوب التي ارتكبت في حقّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (إذ إنّ للذنب معنىً مصدريّاً يضاف أحياناً إلى الفاعل واخرى إلى المفعول) ، ومن المسلّم أنّ الأعداء لم يتمكّنوا من تكرار ارتكاب نفس تلك المظالم والذنوب ، التي ارتكبوها في حقّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل فتح مكّة.

لكن ما عدا التفاسير الثلاثة المتقدّمة وتفاسير اخرى أهملناها لعدم أهميّتها ، فلدينا تفسير أنسب وأكثر انسجاماً مع مضمون ومحتوى الآيات المذكورة والقرائن الموجودة فيها ، وذلك من جهات شتّى ، كما ويتلاءم مع روايات المعصومين عليهم‌السلام أيضاً :

توضيح ذلك : لغرض فهم معنى الآية يجب التركيز على التعابير السابقة واللاحقة لها ، بالإضافة إلى التعابير التي تتضمّنها الآيات نفسها ، إذ تمّ التصريح في هذه الآية بوجود علاقة بين «الفتح» المذكور وغفران هذه الذنوب ، يقول تعالى : إنّ الهدف من هذا «الفتح المبين» (صلح الحديبية أو فتح مكّة على حدّ قول البعض) هو أن يغفر الله ذنوبك السابقة واللاحقة.

علاوة على هذا ، فغفران الذنوب السابقة معلوم ، امّا الذنوب التي لم ترتكب بعد فكيف تشملها المغفرة الإلهيّة ، ألا يفهم من هذا الكلام إعطاء الضوء الأخضر بجواز ارتكاب أي ذنب في المستقبل؟ فهل هذا الأمر منطقي ومعقول؟!

من خلال التدقيق في هاتين الملاحظتين يمكننا إدراك المفهوم الواقعي للآية ، وهو أنّ من الطبيعي عند حدوث ثورة إلهيّة فسوف يتعرّض ذوو المصالح اللامشروعة للخطر بسببها ، ومنهم المؤيّدون للعادات الخرافية ، والمتعصّبون بلا دليل ، والمتحجّرون الجامدون الذين يجدون عقائدهم الخاطئة مهددة بالخطر والزوال ، فسوف يقفون في وجه تلك الثورة بكلّ قوّة ، ونراهم ينسبون إليها كلّ ما هو مُشين ، لغرض إجهاضها وإخمادها ، فيصطنعون

١١٨

ضدّها الأكاذيب ، ويلصقون بها التّهم ، وينسبون لقائدها شتّى الرذائل ، من جملتها أنّه قد أحدث الفرقة وشقّ وحدة الصفّ ، وأهان المقدّسات ، ولا يرمي سوى الوصول إلى السلطة والحكومة واستعباد الناس ونيل المنزلة والثروة ، وأنّه آلة بيد الآخرين ومنفذ لأهداف الأجانب!! فلو لم يحالف النجاح هذه الثورة ، فانّ هذه التّهم تتعاظم شيئاً فشيئاً بدل انحسارها وتوقّفها ، وبديهي أنّ فشلها يعدّ بمثابة الدليل على صدق هذه الإدّعاءات.

لكن حينما انتصرت الثورة بلطف الرعاية الإلهيّة ، وتم القضاء على العادات الخرافية ، وتلاشت المصالح الشخصية اللامشروعة ، واتّضحت حقّانية دعوة ذلك القائد السماوي ، فسرعان ما تبدّدت كلّ تلك الإساءات التي نُسبت إليه والإتّهامات الباطلة سواء المتعلّقة منها بالماضي أو التي كان من المقرّر طرحها في المستقبل ، وحلّ الندم والاسف محلّ التهجّمات والإتّهامات الزائفة ، وخسِئ حتّى المنافقون الذين أعمى الله أبصارهم ، والمتعصّبون الذين يعاندون ولا يؤمنون ، لأنّهم أيقنوا بالفشل أمام هذه الحقيقة.

ولذا يقول تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (أي ممّا كانوا يعدّونه ذنباً وممّا سيرمونك من تهمة الذنب) (١).

ومن هنا يتّضح السبب وراء نسبة هذا الغفران إلى الله ، باعتباره هو الذي هيّأ مقدّمات هذا الغفران ، والتي هي عبارة عن نفس ذلكـ «الفتح المبين».

والملفت هنا هو انّنا نجد هذا المطلب متجسّداً بكلّ وضوح في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في كتابـ «عيون أخبار الرضا» ، حيث قال عند ردّه على سؤال المأمون عن كيفية تناسب هذه الآية مع درجة عصمة الأنبياء : «لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول الله ، ثمّ يضيف موضّحاً ذلك قائلاً : وحيث إنّهم كانوا يعبدون ثلاثمائة وستّون صنماً ، فحينما دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى التوحيد شقّ عليهم ذلك كثيراً وقالوا باستغراب ، هل تستبدل كلّ آلهتنا بإله واحد؟ ياللعجب؟! كما أضاف قائلاً : فلمّا فتح الله

__________________

(١) «غفر» و «غفران» و «مغفرة» تعني في الأصل ستر الشيء وتغطيته على حدّ قول صاحب مقاييس اللغة ، ومن هنا اطلق على غفران الذنوب أيضاً.

١١٩

تعالى على نبيّه مكّة قال له يامحمّد إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر عند مشركي أهل مكّة ، بدعائك توحيد الله فيما تقدّم وما تأخّر لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة ، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذ دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم.

فحينما سمع المأمون هذا التفسير قال : لله درّك ياأبا الحسن! (١).

كما ورد نفس هذا المعنى بعبارات اخرى في حديث عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، رواه السيّد ابن طاووس في كتابـ «سعد السعود» ، وهو : أنّ قريشاً وأهل مكّة قد نسبوا الكثير من الذنوب إلى نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الهجرة وبعدها ، وحينما تمّ فتح مكّة وتعامل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلك الرأفة مع أعدائه المعاندين ، غضّوا الطرف عن كلّ تلك الذنوب التي كانوا قد نسبوها إليه (٢).

وأخيراً يقول القرآن : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً).

واضح أنّ نعمة الله قد اكتملت ليس فقط بالنسبة للنبي ، بل لكلّ المجتمعات الإسلامية عن طريق هذا الفتح العظيم ، فلقد خسر أعداء الإسلام وإلى الأبد ، بينما مهّد الطريق لمسير النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكافّة المسلمين لتقدّم أكبر.

* * *

ب) نقرأ في آية أخرى أنّ الله يخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ).

أو ليس التعبير بـ «العفو» من جهة و «العتاب والملامة» ، والإستغفار عن سبب ترخيصه لهم من جهة أخرى ، دليلاً على أنّ سماح النبي لبعض المنافقين بعدم الإشتراك في القتال كان عملاً مخالفاً؟ هل تتلاءم هذه الآية مع درجة عصمة هذا النبي العظيم؟

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٦ ، ح ١٨.

(٢) المصدر السابق ، ح ١٧ بتلخيص واقتباس.

١٢٠