الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٠

الآخر والله أعلم. وهو جائز كأنه أضمر الفعل فأراد «هل تستطيع أن تدعو ربّك» أو «هل تستطيع ربّك أن تدعوه» ، فكل هذا جائز.

و «المائدة» الطعام. و «فعلت» منها : «مدت» «أميد».

قال الشاعر (١) [من الرجز وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد المائة] :

نهدي رؤوس المجرمين الأنداد إلى أمير المؤمنين» الممتاد (٢) و «الممتاد» هو «مفتعل» من «مدت».

__________________

ـ وفي الطبري ١١ / ٢١٩ الى عامة قراء المدينة والعراق في التيسير ١٠١ الى غير الكسائي وفي حجّة ابن خالويه ١٠٩ بلا نسبة وفي البحر ٤ / ٥٣.

(١). هو رؤبة بن العجاج. ديوانه ٤٠ ومجاز القرآن ١ / ١٨٣ و ٣٤١.

(٢). ورد المصراع الثاني في مجاز القرآن ١ / ١٥٩ و ١٨٣ ، والمصراعان في مجاز القرآن ١ / ٣٠١ ب تهدي رؤوس المترفين الصداد ، وكذلك في الصحاح «ميد» مع «الأنداد» ، وفي اللسان «ميد» نهدي رؤوس ، وفي التاج «ميد» نهدي رؤوس المترفين الأنداد ، وأيضا نهدي رؤوس المترفين الصداد ، وب «نهدي» و «الأنداد وب «نهدي» و «الصداد» في التكملة «ميد».

٢٦١
٢٦٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «المائدة» (١)

فإن قيل : كيف الارتباط والمناسبة بين قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [الآية الأولى] وقوله تعالى (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) [نفسها]؟

قلنا : المراد بالعقود عهود الله عليهم في تحليل حلاله وتحريم حرامه ، فبدأ بالمجمل ثم أتبعه بالمفصل من قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وقوله بعده (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [الآية ٣].

فإن قيل : ما أكله السبع وعدم أكله وتعذره ، فكيف يحسن فيه التحريم حتى قال تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) [نفسها]؟

قلنا : معناه وما أكل منه السبع ، يعني الباقي بعد أكله.

فإن قيل : قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [نفسها] يدل من حيث المفهوم عرفا على أنه لم يرض لهم الإسلام دينا قبل ذلك اليوم ، وليس كذلك ، فإن الإسلام لم يزل دينا مرضيا للنبي (ص) وأصحابه عند الله منذ أرسله عليه الصلاة والسلام.

قلنا : قوله اليوم ظرف للجملتين الأوليين ، لا للجملة الثالثة ، لأن الواو الأولى للعطف والثانية للابتداء ، فالجملة الثالثة مطلقة غير موقتة.

فإن قيل : قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [الآية ٤] كيف صلح جوابا لسؤالهم والطيبات

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٦٣

غير معلومة ولا متفق عليها لأنها تختلف باختلاف الطباع والبقاع؟

قلنا : المراد بالطيبات هنا الذبائح ، والعرب تسمي الذبيحة طيبا وتسمي الميتة خبيثا ، فصار المراد معلوما لكنه عام مخصوص كغيره من العموميات.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى (مُكَلِّبِينَ) بعد قوله (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) [الآية ٤] والمكلّب هو المعلم من كلاب الصيد؟

قلنا : قد جاء في تفسير المكلب أيضا أنه المضري للجارح والمغري له فعلى هذا لا يكون تكرارا (١) وعلى القول الأول يقول إنما عمم ثم خصص فقال مكلبين بعد قوله : (وَما عَلَّمْتُمْ) لأن غالب صيدهم كان بالكلاب ، فأخرجه مخرج الغالب الواقع منهم.

فإن قيل : ظاهر قوله تعالى (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) يقتضي إباحة الجوارح المعلمة وهي حرام.

قلنا : فيه إضمار وتقديره : مصيد ما علمتم من الجوارح ، يؤيده ما في تمام الكلام من قوله (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [نفسها].

فإن قيل : المؤمن به هو الله لقوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة / ١٣٦] فالمكفور به يكون هو الله أيضا ، ويؤيده قوله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة / ٢٨]. وإذا ثبت هذا ، فكيف قال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) [المائدة / ٥] مع أنه لا يصح أن يقال آمن بالإيمان فكذلك ضده؟

قلنا : المراد به : ومن يرتدّ عن الإيمان يقال بشأنه : كفر فلان بالإسلام إذا ارتد عنه ، فكفر بمعنى ارتد لأن الرّدة نوع من الكفر ، والباء بمعنى «عن» كما في قوله تعالى (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) (١) [المعارج] وقوله تعالى (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٥٩) [الفرقان]. وقيل المراد هنا بالإيمان المؤمن به تسمية للمفعول بالمصدر كما في قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة / ٩٦] ، أي مصيده ، وقولهم : ضرب الأمير ونسج اليمن.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ

__________________

(١). قوله «فعلى هذا لا يكون تكرارا» لا يخفي أن دفع التكرار لا يترتب على مجرد تفسير المكلبين بما ذكر ، بل يجعله حالا من فاعل علمتم المفيد لهذا التفسير كما في البيضاوي ، لا من الجوارح المبني عليه هذا الإشكال ، فكان الأولى التعبير بذلك.

٢٦٤

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٩) [المائدة] ، ولم يقل : وعملوا السيئات ، مع أن الغفران يكون لفاعل السيئات لا لفاعل الحسنات؟.

قلنا : كل أحد لا يخلو من سيئة صغيرة أو كبيرة ، وإن كان ممن يعمل الصالحات وهي الطاعات ، والمعنى : أن من آمن وعمل الحسنات غفرت له سيئاته قال تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود / ١١٤].

فإن قيل : لم قال تعالى بعد قوله (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [المائدة / ١٢] ، (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٢) [المائدة] ، مع أن الذي كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل؟

قلنا : نعم ولكن الضلال بعد ما ذكر من النعم أقبح ، لأن قبح الكفر بقدر عظم النعم المكفورة ، فلذلك خصّه بالذكر.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) [المائدة / ١٤] ، ولم يقل ومن النصارى؟

قلنا : لأن هؤلاء كانوا كاذبين في دعواهم أنهم نصارى ، وذلك أنهم إنما سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة الله تعالى ، وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله ، ثم اختلفوا بعده نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصارا للشيطان ، فقال ذلك توبيخا لهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الآية ١٥] ، أي مما كتمتموه من الكتاب فلا يظهره ولا يبين كتمانكم إياه ، فكيف يجوز للنبي (ص) أن يمسك عن إظهار حق كتموه مما في كتبهم؟

قلنا : إنما لم يبين البعض لأنه كان يتبع الأمر ولا يفعل شيئا من الأمور الدينية من تلقاء نفسه ، بل اتباعا للوحي ، فما أمر ببيانه بيّنه ، وما لم يؤمر ببيانه أمسك عنه إلى وقت أمره ببيانه. وعلى هذا الجواب يكون لفظ العفو مجازا عن الترك ، فيكون قد أعلمه الله به وأطلعه عليه ولم يأمره ببيانه لهم فترك تبيانه لهم. الثاني أن ما كان في بيانه إظهار حكم شرعي كصفته ونعته والبشارة به وآية الرجم ونحوها بيّنه ، وما لم يكن في بيانه حكم شرعي

٢٦٥

ولكن فيه افتضاحهم وهتك أستارهم فإنه عفا عنه. الثالث أن عقد الذمة اقتضى تقريرهم على ما بدلوا وغيروا من دينهم ، إلا ما كان في إظهاره معجزة له وتصديق لنبوته من نعته وصفته ، أو ما اختلفوا فيه فيما بينهم وتحاكموا إليه فيه كحكم الزّنى ونحوه.

فإن قيل : لم قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) مع أن العبد ما لم يهده أولا لا يتبع رضوانه فيلزم الدور؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : يهدي به الله من علم أنه يريد أن يتبع رضوانه ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت / ٦٩] أي والذين أرادوا سبيل المجاهدة فينا لنهدينهم سبل مجاهدتنا.

فإن قيل : لم نر ولم نسمع (١) أن قوما من اليهود والنصارى قالوا نحن أبناء الله ، فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك؟

قلنا : المراد بقولهم أبناء الله خاصة الله ، كما يقال أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. وقيل فيه إضمار تقديره : أبناء أنبياء الله.

فإن قيل : كيف يصح الاحتجاج عليهم بقوله تعالى (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) [الآية ١٨] مع أنهم ينكرون تعذيبهم بذنوبهم ، ويدعون أن ما يذنبون بالنهار يغفر بالليل وما يذنبون بالليل يغفر بالنهار.

قلنا : هم كانوا مقرين أنه يعذبهم أربعين يوما وهي مدة عبادتهم العجل في غيبة موسى عليه‌السلام لميقات ربه ، ولذلك قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة / ٨٠]. وقيل أراد به العذاب الذي أوقعه ببعضهم في الدنيا من مسخهم قردة كما فعل بأصحاب السبت ، وخسف الأرض كما فعل بقارون ، وهذا لا ينكرونه ، وعلى هذا الوجه يكون المضارع بمعنى الماضي في قوله (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) والإضافة إليهم بمعنى الإضافة إلى آبائهم ، كأنه قال : فلم عذّب آباءكم.

فإن قيل : قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ

__________________

(١). قوله (لم نر ولم نسمع إلخ ...) لا يخفي ما في إيراد السؤال على هذا الوجه ، مما ينبو عن ساحة الأدب في عظمة التنزيل.

٢٦٦

بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [الآية ١٨] إن أريد به يغفر لمن يشاء منكم أيها اليهود والنصارى ، ويعذب من يشاء يلزم جواز المغفرة لهم وأنه غير جائز لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء / ٤٨] ، وإن أريد به يغفر لمن يشاء من المؤمنين ويعذب من يشاء لا يصلح جوابا لقولهم.

قلنا : المراد به يغفر لمن يشاء منهم إذا تاب من الكفر. وقيل : يغفر لمن يشاء ممن خلق وهم المؤمنون ، ويعذب من يشاء وهم المشركون.

فإن قيل : لم قيل : (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [الآية ٢٠] ، ولم يكن قوم موسى عليه‌السلام ملوكا؟

قلنا : المراد جعل فيكم ملوكا ، وهم ملوك بني إسرائيل ، وهم اثنا عشر ملكا ، لاثني عشر سبطا ، لكل سبط ملك. وقيل المراد به أنه رزقهم الصحة والكفاية والزوجة الموافقة والخادم والبيت فسماهم ملوكا لذلك. وقيل المراد به أنه رزقهم المنازل الواسعة التي فيها المياه الجارية.

فإن قيل : من أين علم الرجلان أنهم الغالبون حتى قالا ، كما روى القرآن الكريم : (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) [الآية ٢٣].

قلنا : من جهة وثوقهم بإخبار موسى (ع) بذلك كما ورد في التنزيل : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [الآية ٢١]. وقيل علما ذلك بغلبة الظن ، وما عهداه مع صنع الله تعالى بموسى (ع) في قهر أعدائه.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٣) يدل على أن من لم يتوكل على الله لا يكون مؤمنا ، وإلا لضاع التعليق وليس كذلك.

قلنا : «إن» هنا بمعنى إذ ، فتكون بمعنى التعليل كما في قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٧٨) [البقرة].

فإن قيل : كيف التوفيق بين قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [الآية ٢١] وبين قوله (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) [الآية ٢٦].

قلنا : معناه كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها ، فلما أبوا الجهاد ، قيل : فإنها محرمة عليهم. الثاني أن

٢٦٧

كل واحد منهما عام أريد به الخاص ، فالكتابة للبعض وهم المطيعون ، والتحريم على البعض وهم العاصون. الثالث أن التحريم موقت بأربعين سنة والكتابة غير موقّتة ، فيكون المعنى أن بعد مضي الأربعين يكون لهم. وهذا الجواب تام على قول من نصب الأربعين بمحرمة وجعلها ظرفا. فأما من جعل الأربعين ظرفا لقوله تعالى (يتيهون) مقدما عليه ، فإنه جعل التحريم مؤبدا فلا يتأتى على قوله هذا الجواب ، لأن التقدير عنده : فإنها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة ، وهو موضع قد اختلف فيه المفسرون والقراء من جملة من جوز نصب الأربعين بمحرمة ويتيهون ، والزجاج من جملة من منع جواز نصبه بمحرمة ، ونقل أن التحريم كان مؤبدا ، وأنهم لم يدخلوها بعد الأربعين ، ونقل غيره أنه دخلها بعد الأربعين من بقي منهم وذرية من مات منهم ، ويعضد الوجه الأول كون الغالب في الاستعمال تقدم الفعل على الظرف الذي هو عدد ، لا تأخّره عنه ، يقال : سافر زيد أربعين يوما وما أشبه ذلك ، وقلّما يقال على العكس.

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) [الآية ٢٧] ، ولم يقل قربانين لأن كل واحد منهما قرب قربانا؟

قلنا : أراد به الجنس فعبر عنه بلفظ الفرد كقوله تعالى (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة / ١٧]. الثاني : أن العرب تطلق الواحد وتريد الاثنين ، وعليه جاء قوله تعالى (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧) [ق] وقال الشاعر :

فإنّي وقيّار بها لغريب

تقديره : فإني بها لغريب وقيار. كذلك كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) [البقرة / ٦٢]. وقيل إنما أفرده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع.

فإن قيل : أصلح قوله تعالى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢٧) جوابا لقوله (لَأَقْتُلَنَّكَ).

قلنا : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل ، قال له ذلك كناية عن حقيقة الجواب وتعريضا ، معناه إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا منّي فلم تقتلني؟

٢٦٨

فإن قيل : كيف قال هابيل لقابيل كما ورد في التنزيل : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [الآية ٢٩] أي تنصرف بهما مع أن إرادة السوء والوقوع في المعصية للأجنبي حرام ، فكيف للأخ؟

قلنا : فيه إضمار حرف النفي تقديره : إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل / ١٥] ، أي أن لا تميد بكم وقوله تعالى (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) [يوسف / ٨٥] وقول امرئ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

الثاني أن فيه حذف مضاف تقديره : إني أريد انتفاء أن تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة / ٩٣] ، أي حب العجل. الثالث أن معناه : إني أريد ذلك إن قتلتني لا مطلقا. الرابع أنه كان ظالما ، وجزاء الظالم تحسن إرادة من الله تعالى فتحسن من العبد أيضا.

فإن قيل : قوله تعالى (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١) يدل على أن قابيل كان تائبا لقوله عليه الصلاة والسلام «الندم توبة» فلا يستحق النار.

قلنا : لم يكن ندمه على قتل أخيه ، بل على حمله على عنقه سنة ، أو على عدم اهتدائه إلى الدفن الذي تعلمه من الغراب ، أو على فقد أخيه لا على المعصية ، ولو سلمنا أن ندمه كان على قتل أخيه ، ولكن يجوز أن الندم لم يكن توبة في شريعتهم بل في شريعتنا ، أو نقول : التوبة تؤثر في حقوق الله تعالى لا في حقوق العباد ، والدم من حقوق العباد فلا تؤثر فيه التوبة.

فإن قيل : كيف يكون قتل الواحد كقتل الكل (١) ، وإحياء الواحد كإحياء الكل والدليل يأباه من وجهين : أحدهما أن الجناية كلما تعددت وكثرت كانت أقبح فتناسب زيادة الإثم والعقوبة ، هذا هو مقتضي العقل والحكمة. الثاني أن المراد بهذا التشبيه إما أن يكون تساوي قتل الواحد والكل في الإثم والعقوبة ، أو تقاربهما ، وإنما كان يلزم منه أنه إذا قتل الثاني أو الثالث وهلم جرا أن لا يكون عليه إثم آخر ، ولا يستحق عقوبة أخرى لأنه أثم إثم قتل الكل واستحق عقوبة قتل الكل

__________________

(١). اشارة الى الآية ٣٢ من سورة المائدة.

٢٦٩

بمجرد قتل الأول أو الأول والثاني ، لأن قتل الواحد إذا كان يساوي قتل الكل أو يقاربه ، فقتل الاثنين يجعل عليه إثم قتل الكل وعقوبة قتل الكل ، فكيف يزداد بعد ذلك بقتل الثالث والرابع وهلم جرا ، ولو قتل الكل عن إثم ، فلا يجوز أن يستحق بقتل الواحد أو الاثنين إثم قتل الكل ، وبقتل الكل إثم قتل الكل؟

قلنا : أقرب ما قيل فيه أن المراد من قتل نفسا واحدة بغير حق كان جميع الناس خصومه في الدنيا إن لم يكن له ولي ، وفي الآخرة مطلقا لأنهم من أب وأم واحدة. وقيل : معناه من قتل نفسا نبيا ، وإماما عادلا ، فهو كمن قتل الناس جميعا من حيث إبطال المنفعة على الكل ، لأن منفعتهما عامة للكل. وقيل المراد بمن قتل هو قابيل ، فإن عليه من الإثم بمنزلة إثم قتل الكل لأنه أول من سن القتل ، فكل قتل يقع بعده يلحقه شيء من وزره بغلبة التسبب لقوله عليه الصلاة والسلام «من سن سنة حسنة» الحديث ، وهذا أحسن في المعنى ، ولكن اللفظ لا يساعد عليه وهو قوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الآية ٣٢] لأن هذا المعنى إذ أريد به قابيل لا تختص كتابته ببني إسرائيل.

فإن قيل : كيف وجه قوله تعالى (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الآية ٣٣] ، وحقيقة المحاربة بين العبد والرب ممتنعة؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : يحاربون أولياء الله. وقيل أراد بالمحاربة المخالفة.

فإن قيل : لم قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) [الآية ٣٦] ولم يقل بهما ، والمذكور شيئان؟

قلنا : قد سبق جواب مثله قبيل هذا في قوله تعالى (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) [الآية ٢٧] ، وهنا جواب آخر وهو أن يكون وضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قال ليفتدوا بذلك ، وذلك يشار به إلى الواحد والاثنين والجمع.

فإن قيل ، ما فائدة قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الآية ٤٢] وحال النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل الكتاب لا يخلو عن هذين القسمين ، لأنه إما أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم؟

٢٧٠

قلنا : فائدته تخيير النبي عليه الصلاة والسلام بين الحكم بينهم وعدمه ، ليعلم أنه لا يجب عليه أن يحكم بينهم كما يجب عليه ذلك بين المسلمين إذا تحاكموا إليه ؛ وقيل إن هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [الآية ٤٨] وهو القرآن يدل عليه قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [الآية ٤٨] ، أي في الحكم بالتوراة.

فإن قيل : لما أنزل الله القرآن صار الإنجيل منسوخا به ، فكيف قال تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) [الآية ٤٧]؟

قلنا : هو عام مخصوص : أي ما أنزل الله فيه من صدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بعلاماته المذكورة في الإنجيل ، وذلك غير منسوخ.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [الآية ٤٩] مع أن الكفار معاقبون بكل ذنوبهم؟

قلنا : أراد به عقوبتهم في الدنيا ، وهو ما عجله من إجلاء بني النّضير وقيل بني قريظة وذلك جزاء بعض ذنوبهم لأنه جزاء منقطع ، وأما جزاؤهم على شركهم فهو جزاء دائم لا يتصور وجوده في الدنيا وقيل أراد بذلك البعض ذنب التولي عن الرضا بحكم القرآن ، وإنما أبهمه تفخيما له وتعظيما.

فإن قيل : حسن حكم الله وصحته أمر ثابت على العموم بالنسبة إلى الموقنين وغير الموقنين ، فكيف قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥٠).

قلنا : لما كان الموقنون أكثر انتفاعا به من غيرهم ، بل هم المنتفعون به في الحقيقة لا غير ، كانوا أخص به ، فأضيف إليهم لذلك ، ونظيره : قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٤٥) [النازعات].

فإن قيل : قوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [الآية ٥١] يقتضي أن يكون من وادّ أهل الكتاب وصادقهم كافرا وليس كذلك لقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة / ٨].

قلنا : المراد بقوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) : المنافقون ، لأنها نزلت في شأنهم وهم كانوا من الكفار في الدنيا ضميرا واعتقادا ، ومعناه أنه منهم في الآخرة جزاء ، وعقابه أشد.

٢٧١

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١) [المائدة] وكم من ظالم هداه الله تعالى فتاب وأقلع عن ظلمه؟

قلنا : هاهنا ثلاثة معان : الأول أنه لا يهديهم ما داموا مقيمين على ظلمهم ؛ الثاني أن معناه : لا يهدي من قضى في سابق علمه أنه يموت ضالا ؛ الثالث أن معناه : لا يهدي القوم الظالمين يوم القيامة إلى طريق الجنة : أي المشركين.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [الآية ٥٤] ولم يقل أذلة للمؤمنين ، وإنما يقال ذل له لا ذل عليه؟

قلنا : لأنه ضمن الذل معنى الحنوّ والعطف فعداه تعديته ، كأنه قال حانين على المؤمنين عاطفين عليهم.

فإن قيل : كيف قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) وكم مرة غلب حزب الله تعالى في زمن النبي (ص) وبعده إلى يومنا هذا؟

قلنا : المراد به الغلبة بالحجة والبرهان لا بالدولة والصولة ، وحزب الله هم المؤمنون غالبون بالحجة أبدا.

فإن قيل : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف قال تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) [الآية ٦٠].

قلنا : لا نسلم أن الثواب والمثوبة مختص بالإحسان ، بل هو الجزاء مطلقا بدليل قوله تعالى : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦) [المطففين] أي هل جوزوا ، وقوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) [آل عمران / ١٥٣]. وهو كلفظ البشارة لا اختصاص له ، لغة ، بالخبر السار ، بل هو عام شامل للشر ، قال الله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢١) [آل عمران].

فإن قيل : ما فائدة إرسال الكتاب والرسول إلى أولئك الكثيرين الذين قال تعالى في حقهم (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) [الآية ٦٤].

قلنا : فائدته إلزام الحجة عليهم. الثاني تبجيل الكتاب والرسول إذا كان مرسلا إلى الخلق كلهم ، كان ذلك أفخم وأعظم للرسول والمرسل.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [الآية ٦٦] ،

٢٧٢

يقتضي تعلّق الرخاء وسعة الرزق بالإيمان بالكتاب والعمل بما فيه ، وليس كذلك فإن كثيرا من المؤمنين بالكتب الأربعة العاملين بما فيها ما لم ينسخ ، عيشهم في الدنيا منكد ورزقهم مضيّق.

قلنا : هذا التعليق خاص بحق أهل الكتب ، لأنهم اشتكوا من ضيق الرزق حتى قالوا (يد الله مغلولة) فأخبرهم الله تعالى أن ذلك التضييق عقوبة لهم بشؤم معاصيهم وكفرهم ، والله تعالى يجعل ضيق الرزق وتقديره نعمة في حق بعض عباده ، ونقمة في حق بعضهم ، وكذلك الرخاء والسعة فيعاقب بهما على المعصية ، ويثيب بهما على الطاعة ، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الأشخاص ، فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام ، ولا من تضييقه الإهانة ولا يلزم عكسه أيضا ، ولهذا رد الله تعالى ذلك بقوله (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) [الفجر / ١٥] إلى قوله تعالى : (كَلَّا) [الفجر / ١٧] أي ليس الأمر كما ظن الإنسان وزعم من أن توسيع الرزق دليل الكرامة ، وتضييقه دليل الإهانة ، بل دليل الكرامة هو الهداية والتوفيق للطاعات ، ودليل الإهانة هو الإضلال وحرمة التوفيق.

فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [الآية ٦٧]. ومعلوم أنه إذا لم يبلغ المنزل إليه لم يكن قد بلغ الرسالة؟

قلنا : المراد حثه على تبليغ ما أنزل عليه من معايب اليهود ومثالبهم. فالمعنى بلغ الجميع ، فإن كتمت منه حرفا كنت في الإثم والمخالفة كمن لم يبلغ شيئا البتة ، فجعل كتمان البعض ككتمان الكل. وقيل أمر بتعجيل التبليغ كأنه (ص) كان عازما على تبليغ جميع ما نزل إليه ، إلا أنه أخر تبليغ البعض خوفا على نفسه وحذرا مع عزمه على تبليغه في ثاني الحال ، فأمر بتعجيل التبليغ ، يؤيد هذا القول قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

فإن قيل : كيف ضمن الله تعالى لرسوله العصمة بقوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، ثم إنه (ص) شجّ وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟

قلنا : المراد به العصمة من القتل لا من جميع الأذى ، فإن جميع العصمة من جميع المكاره لا تناسب أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم

٢٧٣

جامعون مكارم الأخلاق ومن أشرف مكارم الأخلاق تحمل الأذى. الثاني أن هذه الآية نزلت بعد أحد ، لأن سورة المائدة من آخر ما نزلت من القرآن.

فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٧٢) (١) مع أن بعض الظالمين وهم العصاة من المؤمنين يشفع فيهم النبي (ص) يوم القيامة فيكون ناصرا لهم؟

قلنا : المراد بالظالمين هنا المشركون ، يعلم ذلك من أول الآية ووسطها (٢).

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٧٧) بعد قوله في الآية نفسها : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) قلنا : المراد بالضلال الأول ضلالهم عن الإنجيل ، وبالضلال الثاني ضلالهم عن القرآن.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) [الآية ٧٩] والنهي عن المنكر بعد فعله ووقوعه لا معنى له؟

قلنا : فيه إضمار حذف مضاف تقديره : كانوا لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله كما يرى الإنسان أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فينكر ، ويجوز أن يريد بقوله (لا يَتَناهَوْنَ) لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه ، بل يصرون عليه ويداومون ، يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه بمعنى واحد : أي امتنع عنه وتركه.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٨١) والمراد بقوله منهم المنافقون أو اليهود على اختلاف القولين وكلهم فاسقون؟

قلنا : المراد به فسقهم بموالاة المشركين ودسّ الأخبار إليهم لا مطلق الفسق ، وذلك الفسق الخاص مخصوص بكثير منهم ، وهم المذكورون في أول الآية السابقة في قوله تعالى : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) [الآية ٨٠] ، وليس شاملا لجميعهم.

فإن قيل : لم قال تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ

__________________

(١). ورد قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٧٢) في موضعين آخرين هم : [البقرة / ٢٧٠] و [آل عمران / ١٩٢].

(٢). يقصد الآية ٧٢ من سورة المائدة.

٢٧٤

وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [الآية ٩٠] وهذه الأعيان كلها مخلوقات لله تعالى فأين عمل الشيطان في وجودها؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : إنما تعاطي الخمر والميسر إلى آخره أو مباشرته إلخ.

فإن قيل : مع هذا الإضمار كيف قال تعالى من عمل الشيطان ، وتعاطي الخمر والقمار ونحوهما من عمل الإنسان حقيقة؟

قلنا : إنما أضيف إلى الشيطان مجازا لأنه هو السبب في وجود الفعل بواسطته ووسوسته وتزيينه ذلك للفساق ، فصار كما لو أغرى رجل رجلا بضرب آخر فضربه ، فإنه يجوز أن يقال للمغري هذا من عملك.

فإن قيل : لم جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام في الآية الأولى ثم خص الخمر والميسر في الآية الثانية؟

قلنا : لأن العداوة والبغضاء بين الناس تقع كثيرا بسبب الخمر والميسر وكذلك يشتغلون بهما عن الطاعة ، بخلاف الأنصاب والأزلام فإن هذه المفاسد لا توجد فيها ، وإن كانت فيها مفاسد أخر. وقيل إنما كرر ذكر الخمر والميسر فقط لأن الخطاب للمؤمنين بدليل قوله تعالى في الآية نفسها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهم إنما يتعاطون الخمر والميسر فقط ، وإنما جمع الأربعة في الآية الأولى لإعلام المؤمنين ، وأن هذه الأربعة من أعمال الجاهلية ، وأنه لا فرق بين من عبد صنما أو أشرك بالله تعالى بدعوى علم الغيب ، وبين من شرب الخمر أو قامر مستحلّا لهما.

فإن قيل : كيف يحسن أن يفعل الله تعالى فعلا يتوسل به إلى تحصيل علم حتى قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [الآية ٩٤].

قلنا : معناه ليميز الله الخائف من غير الخائف عند الناس. وقيل معناه ليعلم عباد الله من يخافه بالغيب وهو قريب من الأول. وقيل معناه ليعلم الخوف واقعا كما علمه منتظرا.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [الآية ٩٥] ، ووصف العمدية ليس بشرط لوجوب الجزاء ، فإنه لو قتله ناسيا أو مخطئا وجب الجزاء أيضا؟

٢٧٥

قلنا : عند ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، وصف العمدية شرط لوجوب الجزاء ، فلا يرد عليهم السؤال ، وأمّا على قول الجمهور ، فإنما قيّده بوصف العمدية ، لأن الواقعة التي كانت سبب نزول الآية ، كانت عمدا على ما يروى عن الصحابة ، أنه اعترض حمار وحش بالحديبية وهم محرمون ، فطعنه ابو اليسر برمحه ، فقطعه ، فنزلت الآية ، فخرج وصف العمدية ، مخرج الواقع لا مخرج الشرط. وقال الزهري : نزل الكتاب بالعمد ، ووردت السنّة بالوجوب في الخطأ.

فإن قيل : لم قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [الآية ٩٥] مع أن الشرط بلوغه الى الحرم لا غير؟

قلنا : لمّا كان المقصود من بلوغ الهدي الى الحرم تعظيم الكعبة ، ذكر الكعبة تنبيها على ذلك. وقيل معناه بالغ حرم الكعبة.

فإن قيل : قوله تعالى (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٩٧) ، أي دلالة لهذه الأمور المذكورة على علم الله تعالى بما في السماوات وما في الأرض ، وأنه بكل شيء عليم.

قلنا : ذلك إشارة إلى كل ما سبق ذكره ، من الغيوب في هذه السورة ، من أحوال الأنبياء والمنافقين واليهود ، لا الى المذكور في هذه الآية. الثاني ان العرب كانت تسفك الدماء وتنهب الأموال ، فإذا دخل الشهر الحرام ، أو دخلوا الى البلد الحرام كفّوا عن ذلك ، فعلم الله تعالى أنّه لو لم يجعل لهم زمانا أو مكانا يقتضي كفهم عن القتل ، ونهب الأموال لهلكوا ، فظهرت المناسبة.

فإن قيل : لم قال تعالى (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) [الآية ١٠٣] والجعل هو الخلق بدليل قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الزّمر / ٦] وقوله تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام / الآية الأولى] ، وخالق هذه الأشياء هو الله تعالى؟

قلنا : المراد بالجعل هنا الإيجاب والأمر : أي ما أوجبها ولا أمر بها. وقيل المراد بالجعل التحريم.

فإن قيل : قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [الآية ١٠٥] يدل

٢٧٦

على عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما واجبان.

قلنا : معنى قوله (أَنْفُسَكُمْ) : أي أهل دينكم كما قال تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء / ٢٩] ، أي أهل دينكم. وقيل المراد به آخر الزمان عند فساد الزمان ، وتعذّر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو زماننا هذا.

فإن قيل : كيف يقول الرسل : (لا عِلْمَ لَنا) [الآية ١٠٩] ، إذا قال الله تعالى لهم : (ما ذا أُجِبْتُمْ) [نفسها] وهم عالمون بما ذا أجيبوا؟

قلنا : هذا جواب الدهشة والحيرة ، حين تطيش عقولهم من زفرة جهنم ، نعوذ بالله تعالى منها ، ومثله لا يفيد نفي العلم ولا إثباته. الثاني : أنهم قالوا ذلك تعريضا بالتشكّي من قومهم ولإظهار الالتجاء الى الله تعالى في الانتقام منهم ، كأنهم قالوا : أنت أعلم بما أجابونا به من التصديق والتكذيب. الثالث معناه : لا علم لنا بحقيقة ما أجابونا به لأنا نعلم ظاهره وأنت تعلم ظاهره ومضمره ، ويؤيد ما بعده.

فإن قيل : أيّ معجزة لعيسى (ع) في تكليم الناس كهلا حتى قال : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [الآية ١١٠].

قلنا : قد سبق جوابه في سورة آل عمران (١) مستقصى.

فإن قيل : كيف قال الحواريون (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [الآية ١١٢] شكّوا في قدرة الله تعالى على بعض الممكنات وذلك كفر ، ووصفوه بالاستطاعة وذلك تشبيه ، لأن الاستطاعة إنما تكون بالجوارح ؛ والحواريون خلّص أتباع عيسى (ع) ، والمؤمنون به ، بدليل قوله تعالى حكاية عنهم : (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) (١١١).

قلنا : هذا استفهام عن الفعل لا عن القدرة ، كما يقول الفقير للغنيّ القادر : هل تقدر ان تعطيني شيئا ، وهذا يسمّى استطاعة المطاوعة لا استطاعة القدرة ، والمعنى : هل يسهل عليك ان تسأل ربك؟ كقولك لآخر : هل تستطيع ان تقوم معي؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك.

فإن قيل : لو كان المراد هذا

__________________

(١). هو قوله تعالى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران / ٤٦].

٢٧٧

المعنى ، فلم أنكر عليهم عيسى عليه‌السلام بقوله : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١١٢)؟

قلنا : إن إنكاره عليهم إنّما كان لأنهم أتوا بلفظ يحتمل المعنى الذي لا يليق بالمؤمن المخلص إرادته ، وإن كانوا لم يريدوه.

فإن قيل : كيف قال عيسى (ع) : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [الآية ١١٦] وكل ذي نفس فهو ذو جسم ، لأن النفس عبارة عن الجوهر القائم بذاته المتعلّق بالجسم تعلّق التدبير ، والله تعالى منزه عن الجسم.

قلنا : النفس تطلق على معنيين : أحدهما هذا ، والثاني حقيقة الشيء وذاته كما يقال : نفس الذهب والفضة محبوبة : أي ذاتهما ، والمراد به في الآية ثانيا هذا المعنى. [والنّفس ترد بمعنى عند ، أي تعلم ما عندي ، ولا أعلم ما عندك ولعل هذا المعنى أقرب المعاني للآية الكريمة] (١).

فإن قيل : كيف قال عيسى (ع) : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) [الآية ١١٧] ، مع أنه قال لهم كثيرا من الكلام المباح غير الأمر بالتوحيد؟

قلنا : معناه قلت لهم فيما يتعلق بالإله.

فإن قيل : إذا كان عيسى لم يمت ، وإنّما هو حي في السماء فكيف قال (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) [الآية ١١٧].

قلنا : أراد بالتوفّي إتمام مدة إقامته في الأرض ، وإتمامه قد سبق في قوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران / ٥٥] والسؤال إنما يتوجّه على قول من قال : إن السؤال والجواب وجدا يوم رفعه الى السماء ، وأمّا من قال : إن السؤال إنّما يكون يوم القيامة وعليه الجمهور ، فالجواب مطابق ولا إشكال فيه.

في قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨).

فإن قيل : لو قال عيسى عليه‌السلام : إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ، كان أظهر مناسبة؟

__________________

(١). راجع لسان العرب ، مادة نفس.

٢٧٨

قلنا : معناه إن تعذّبهم فإنهم عبادك ، وتصرّف المالك المطلق الحقيقي بعبيده مباح : أيّ تصرف كان ، وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم ، الذي لا ينقص من عزه شيء ، بترك العقوبة والانتقام ممن عصاه ، الحكيم في كل ما يفعله من العذاب او المغفرة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [الآية ١١٩] يعني يوم القيامة ، والصدق نافع في الدنيا والآخرة ، ولفظ الآية في قوة الحصر؟

قلنا : لمّا كان نعت الصدق في الآخرة ، هو الفوز بالجنّة والنجاة من النار ، ونفعه في الدنيا دون ذلك ، كان كالعدم بالنسبة الى نفعه في الآخرة ، فلم يقيّد به في مقابلته.

فإن قيل : قوله تعالى (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [الآية ١١٩] إن أراد به صدقهم في الآخرة ، فالآخرة ليست بدار عمل ، وإن أراد به صدقهم في الدنيا ، فليس بمطابق لما ورد فيه ، وهو الشهادة لعيسى (ع) بالصدق ، فبما يجيب به يوم القيامة؟

قلنا : أراد به الصدق المستمرّ ، بالصادقين في دنياهم وآخرتهم وعن قتادة رحمه‌الله : متكلمان صدقا يوم القيامة ، فنفع أحدهما صدقه دون الآخر : أحدهما إبليس الذي قال : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إبراهيم / ٢٢]. وصدق يومئذ فلم ينفعه صدقه ، لأنه كان كاذبا قبل ذلك ، والآخر عيسى (ع) الذي كان صادقا في الدنيا والآخرة ، فنفعه صدقه.

فإن قيل : ما في السموات والأرض العقلاء وغيرهم ، فلما ذا لم يغلّب العقلاء على غير العقلاء ولم يأت بالموصول «من» ، بل أتى بالموصول «ما» فقال ، جل من قائل : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) [الآية ١٢٠]؟

قلنا : لأن كلمة «ما» تتناول الأجناس كلها تناولا عاما بأصل الوضع ، و «من» لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع ، فكان استعمال «ما» في هذا الموضع أوفى.

٢٧٩
٢٨٠