تراثنا ـ العددان [ 71 و 72 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 71 و 72 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٨

هذا لم ينقله أحد من المصنّفين في العلم ، لا الصحيح ولا المسند ولا الفضائل ولا التفسير ولا السير ونحوها ، رغم توفّر الهمم والدواعي على نقله ، فعلم بذلك كذب هذه الرواية.

رابعاً : إنّ أهل مكّة لمّا استفتحوا بيّن الله أنّه لا ينزل عليهم العذاب ومحمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فيهم ؛ فقال تعالى : (وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) ثمّ قال : (وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون).

خامساً : لقد جاء في رواية الثعلبي التي ساقها الموسوي قول السائل : يا محمّد! أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلنا منك. وهي عبارة تدلّ على إسلام هذا السائل. ومن المعلوم بالضرورة أنّ أحداً من المسلمين على عهد النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لم يصبه هذا.

سادساً : وهذا الرجل لا يعرف في الصحابة بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية من جنس الأحاديث التي في سيرة عنترة ودلهمة. وقد صنّف الناس كتباً كثيرة في أسماء الصحابة الّذين ذكروا في شيء من الحديث ، حتّى في الأحاديث الضعيفة ، مثل كتاب الاستيعاب لابن عبد البرّ ، وكتاب ابن مندة ، وأبي نعيم الأصبهاني ، والحافظ أبي موسى ، ونحو ذلك ، ولم يذكر أحد منهم هذا الرجل فعلم أنّه ليس له ذكر في شيء من الروايات. انتهى. منهاج السُنّة ٤ / ١٣ و ١٤.

ثمّ إنّ الموسوي يتّهم أهل السُنّة ـ ممثّلين بشيخ الأزهر ـ بالمراوغة في المراجعة ٥٩ و ٦٠ لا لشيء إلاّ لأنّ شيخ الأزهر ـ على فَرَضِ صحّة مانُسب إليه من مراجعات ـ قد أوضح تفسير بعض العلماء المعتبرين في

٤١

نظر الموسوي لحديث الغدير ، وهو تفسير يغاير مذهب الموسوي.

والردّ على هذا الاتّهام أن نقول :

أوّلاً : هل مجرّد الاستدلال برأي ابن حجر في الصواعق ، والحلبي في سيرته يعتبر مراوغة؟! فإن كان الأمر كذلك فالموسوي أوْلى بأن يوصف بالمراوغة لأنّه كثيراً ما يستدلّ بكلام هذين العالِمَيْنِ بما يوافق هواه ومذهبه ، وإن كان الوصف بالمراوغة بسبب مخالفة كلامهما لمذهبه فكيف يجعل مذهبه حكماً ومرجعاً ودليلاً ، في الوقت الذي يفتقر هو إلى دليل يثبت صحّته؟!

ثانياً ـ وإن كانت المراوغة إنّما تعني الحيدة عن الأدلّة الشرعية الصحيحة ، والأُصول الثابتة فإنّ الموسوي وشيعته لم يتركوا من أساليب المراوغة شيئاً لأحد من الناس ؛ لأنّهم باتّفاق أهل العلم قوم استباحوا الكذب وعدم الانصياع إلى الدليل ، والتَفَلُّتَ منه بإنكاره ، وتحريفه إنقاصاً منه ، أو زيادة فيه ، أو تحميله ما لا يحتمل ، فهم أبعد الناس عن الدليل وأجهل الناس به.

ثالثاً : إنّ المراوغة في نظر الموسوي وشيعته الرافضة وصف لازم لكلّ من خالف مذهبهم ، ولو كان أصدق الصادقين ، والصدق عندهم وصف لازم لكلّ من وافقهم ولو كان من أكذب الكاذبين ؛ لذا فإنّه لا يلتفت إلى حكمهم ورأيهم في قليل ولا كثير.

رابعاً : إذا كان القرآن والسُنّة ليس فيهما نصّ على خلافة أحد من الناس ، وأنّ ما جاء فيهما كان مجرّد ذكر لفضائل الصحابة جملة أو تفصيلاً باتّفاق الصحابة والتابعين وأصحاب القرون الثلاثة الأُولى لم يخالف في ذلك منهم أحد حتّى آل البيت والعترة الطاهرة بما فيهم عليّ بن أبي طالب.

٤٢

ولم يفهم أحد منهم أنّ هذه الفضائل نصوص تدلّ على خلافة أو استخلاف صاحبها بعد النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بحال من الأحوال.

فإنّ المراوغ هو الذي زاغ عن الحقّ الذي جاء في كتاب الله وسُنّة رسول الله ، وأجمعت عليه الأُمّة بما فيهم العترة الطاهرة ، فتأمّل هذا.

وإنّ العلماء من أهل السُنّة بحثوا في كتب السُنّة كثيراً ليجدوا مايحتجّوا به على إمامة عليّ رضي الله عنه ، فلو ظفروا بحديث موافق لهذا الغرض لفرحوا به لأنّهم كانوا حريصين على هذا الأمر. كلّ هذا يدلّ على أنّ كلّ ما ينقله الرافضة في هذا المجال إنّما هو محض كذب وافتراء ..

قال ابن تيمية : (وأحمد بن حنبل مع أنّه أعلم أهل زمانه بالحديث احتجّ على إمامة عليّ بالحديث الذي في السُـنن : «تكون خلافة النبوّة ثلاثين سنة ثمّ تصير مُلكاً» ، وبعض الناس ضعّف هذا الحديث لكنّ أحمد وغيره يثبتونه ، فهذا عمدتهم من النصوص على خلافة عليّ ، فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به ، فعلم أنّه ما تدّعيه الرافضة من النصّ هو ممّا لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لا قديماً ولا حديثاً ، ولهذا كان أهل العلم بالحديث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل ، كما يعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة). انتهى. المنهاج ٤ / ١٤.

خامساً : إنّه لم يثبت عن أحد من أصحاب القرون الثلاثة الأُولى أنّه استدلّ بحديث واحد على خلافة عليّ رضي الله عنه رغم توفّر الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النصّ ، ورغم كثرة شيعة عليّ رضي الله عنه إبان الفتنة والتي كانت قد تنتهي أو تنقضي بإظهار مثل هذا النصّ. فدلّ هذا

٤٣

على أنّه لا نصّ في هذا الأمر ، وأنّ كلّ ما تنقله الرافضة من منقولات هو محض كذب.

قال ابن تيمية : (وقد جرى تحكيم الحكمين ومعه أكثر الناس ، فلم يكن في المسلمين من أصحابه ولا غيرهم مَن ذكر هذا النصّ مع كثرة شيعته ، ولا فيهم من احتجّ به في مثل هذا المقام الذي تتوفّر فيه الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النصّ ، ومعلوم أنّه لو كان النصّ معروفاً عند شيعة عليّ فضلاً عن غيرهم لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم هذا نصّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم على خلافته فيجب تقديمه على معاوية ، وأبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين لو علم أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم نصّ عليه لم يستحلّ عزله ، ولو عزله لكان من أنكر عزله عليه يقول : كيف تعزل من نصّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على خلافته ، وقد احتجّوا بقوله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : «تقتل عمّاراً الفئة الباغية» ، وهذا الحديث خبر واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوهم وليس هذا متواتراً ، والنصّ عند القائلين به متواتر فيالله العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة عليّ بذلك الحديث ولم يحتجّ أحد منهم بالنصّ). انتهى. المنهاج ٤ / ١٥.

أقـول :

يتلخّص كلام السيّد في حديث الغدير في نقاط :

١ ـ أورد نصوص روايات جمعٍ من أكابر القوم ، أمثال :

أحمد بن حنبل ..

والنسائي ..

٤٤

والطبراني ..

والحاكم ..

والذهبي.

٢ ـ وذكر وجوهاً لتواتره.

٣ ـ وتعرّض لدلالته ودعوى التأويل فيها من بعضهم.

أمّا كلام المفتري الأثيم فيتلخّص في :

١ ـ أنّه طرح أوّلاً الآية المباركة : (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك ...) ثمّ جعل يردّ القول بنزولها في غدير خمّ ، بثلاثة وجوه.

٢ ـ ثمّ ـ في الوجه الرابع ـ ادّعى أنّ حديث الغدير «خبر آحاد مختلف في صحّته».

٣ ـ فقال ـ في الوجه الخامس ـ : (وعلى فرض ثبوت هذه الألفاظ وصحّتها ، فإنّه لا دلالة لها على ما ذهب إليه الموسوي ... لأنّ «المولى» لاتأتي بمعنى «الأوْلى بالتصرّف» عند أهل اللغة) ..

ثمّ نقل عن العلاّمة الدهلوي : (أنكر أهل العربية قاطبة ثبوت ورود «المولى» بمعنى الأوْلى) ..

ثـمّ ذكر عن الدهلوي إشكالاً آخر في دلالة الحديث حيث قال : «قال الشيخ الدهلوي : وفي هذا الحديث دليل صريح على اجتماع الولايتين ...».

هذا ، ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ أغلب ما كتبه هذا الرجل إنّما هو تكرارٌ لما جاء في كتاب منهاج السُنّة لابن تيمية ، وفي مختصر التحفة الاثني عشرية للدهلوي فقط ، وأغفل آراء الذهبي وابن كثير وأمثالهما من علماء قومه الّذين شحن كتابه بأقوالهم واستند إليها في مختلف المسائل ،

٤٥

وسيتّضح السبب في ذلك ..

فنقول :

أمّا تعرّضه ـ قبل كلّ شيء ـ للآية المباركة : (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك ...) فما هو إلاّ فرار من البحث ، وتطويل بلا طائل ؛ إذ المهمّ هو الردّ على الاستدلال بحديث الغدير ، بالمناقشة في سنده أو دلالته ؛ لأنّه هو موضوع المراجعة ، وعلينا إثبات الحديث ودلالته على ما نذهب إليه ، والردّ على المناقشات ... كلّ ذلك استناداً إلى كتب القوم وكلمات أعلام علمائهم ، ثمّ يأتي دور القضايا المتعلّقة بالموضوع ..

سند حديث الغدير :

يقول الخصم : «حديث الغدير خبر آحاد مختلف في صحّته ...».

فهل نسي أو تناسى قول إمامه ابن تيميّة ـ الذي احتجّ بكلماته ـ : «وقد صنّف أبو العبّاس ابن عقدة مصنّفاً في جمع طرقه» (١)؟!

فطرقه كثيرة حتّى صنّف في جمعها الحافظ ابن عقدة كتاباً ، واعترف ابن تيميّة بذلك ، فكيف يكون من أخبار الآحاد؟!

وهل جهل أو تجاهل قول الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : «وأمّا حديث : من كنت مولاه فعليُّ مولاه ، أخرجه الترمذي والنسائي ، وهو كثير الطرق جدّاً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتابٍ مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان» (٢)؟!

____________

(١) منهاج السُنّة ٤ / ٨٦ الطبعة القديمة.

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٦١.

٤٦

وفي هذا الكلام :

١ ـ إنّ حديث الغدير كثير الطرق جدّاً.

٢ ـ أخرجه الترمذي والنسائي ؛ وهما من أرباب الصحاح.

٣ ـ استوعب طرقه ابن عقدة في كتاب مفرد.

٤ ـ كثير من أسانيدها صحاح وحسان.

وفي كلامٍ آخر لابن حجر العسقلاني التصريح بتأليف أبي جعفر الطبري أيضاً كتاباً في ذلك ؛ قال : «وقد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلَّف فيه أضعاف مَن ذكر ، وصحّحه ، واعتنى بجمع طرقه أبو العبّاس ابن عقدة ، فأخرجه من حديث سبعين صحابيّاً أو أكثر» (١).

وفي هذا الكلام :

١ ـ إنّ ابن جرير الطبري جمع طرق حديث الغدير في مؤلَّف فيه أضعاف من ذكره ابن عبد البرّ والمزّي.

٢ ـ إنّ ابن جرير صحَّح حديث الغدير.

٣ ـ إنّ ابن عقدة أخرجه من حديث سبعين صحابيّاً أو أكثر.

وقال الذهبي في حديث الغدير : «رأيت مجلّداً من طرق الحديث لابن جرير ، فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق» (٢).

وقال ابن كثير : «وقد رأيت كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خمّ في مجلَّدين ضخمين ، وكتاباً جمع فيه طرق حديث الطير» (٣).

وروى ابن كثير بالإسناد عن أبي هريرة ، قال : «لمّا أخذ رسول الله

____________

(١) تهذيب التهذيب ٧ / ٣٣٩ ترجمة أمير المؤمنين.

(٢) تذكرة الحفّاظ ١ / ٧١٣ ، ترجمة محمّد بن جرير الطبري.

(٣) البداية والنهاية ١١ / ١٤٧ ، ترجمة محمّد بن جرير الطبري.

٤٧

صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بيد عليّ قال : مَن كنت مولاه فعليّ مولاه ، فأنزل الله عزّ وجلّ : (اليوم أكملت لكم دينكم). قال أبو هريرة : وهو يوم غدير خمّ ، مَن صام يوم ثماني عشر من ذي الحجّة كتب له صيام ستّين شهراً».

ثمّ ردّ على نزول الآية في يوم الغدير ، وعلى فضل صيامه ، لكنّ المقصود هنا أنّه نقل عن الذهبي قوله في : «مَن كنت مولاه فعليّ مولاه» : «صـدر الحديث متواتر أتيقّن أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قاله. وأمّا : اللّهمّ وال من والاه ، فزيادة قويّة الإسناد» (١).

فثبت من شهادة الذهبي وابن كثير تواتر حديث الغدير ، وكفى بهما حجّة!!

كما شهد بتواتره الحفّاظ : ابن الجزري (٢) ، والسيوطي ، والمناوي (٣) ، والمتّقي الهندي ؛ إذ أورده في كتابه : قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة.

فقول الخصم الأثيم : «يزعم الرافضة أنّ حديث الغدير متواتر ، في حين أنّه حديث آحاد مختلف في صحّته ؛ فقد طعن جماعة من أئمّة الحديث في صـحّته ، كأبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهم وابن تيمية وابن الجوزي» تعصّب وعناد ..

أمّا أوّلاً : فإنّ الرافضين لخلافة المتقدّمين على أمير المؤمنين ، إنّما يدّعون تواتر هذا الحديث استناداً إلى رواياتهم وشهادات الأئمّة الأعلام من

____________

(١) البداية والنهاية ٥ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٢) أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب : ٣ ـ ٤.

(٣) التيسير في شرح الجامع الصغير ٢ / ٤٤٢.

٤٨

أهل السُنّة.

وأمّا ثانياً : فلو ثبت أنّ أحداً من القوم طعن في صحّة حديث الغدير فما هو إلاّ بالنظر إلى بعض أسانيده ، لا كلّها ؛ لأنّ الذهبي ـ وهو متأخّر عمّن ذكرهم ـ يقول : «متواتر أتيقّن أن رسول الله قاله».

وأمّا ثالثاً : فقد نصّ الحافظ أبو الخطّاب ابن دحية الأندلسي ـ بعد حديث الولاية ـ على أنّ من عادة البخاري في صحيحه أن يورد أحاديث مناقب عليّ ناقصةً مبتّرة ، وأنّ السبب في ذلك انحرافه عنه عليه الصلاة والسلام (١).

وعلى هذا ، فإنّ تكلّم البخاري في حديث الغدير ، وعدم إخراجه في صحيحه ، إنّما يعدّ من مطاعن البخاري ومساوئ كتابه ، وهي كثيرة جدّاً ، ولأجلها تكلّم فيه وفي كتابه كبار أئمّة القوم ، كالذهلي وأبي حاتم الرازي وأبي زرعة الرازي ، وغيرهم (٢) ..

____________

(١) نقله الإمام المجاهد السيّد مير حامد حسين النيسابوري الهندي ، عن كتاب شرح أسماء النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، وقال صاحب كشف الظنون ٢ / ١٦٧٥ : «المستوفى في أسماء المصطفى ، لأبي الخطّاب ابن دحية عمر بن علي السبتي اللغوي ، المتوفّى سنة ٦٣٣ ...» ..

وتوجد ترجمة أبي الخطّاب ابن دحية في : سير أعلام النبلاء ٢٢ / ٣٨٩ ، تذكرة الحفّاظ ٤ / ١٤٢٠ ، البداية والنهاية ١٣ / ١٤٤ ، شذرات الذهب ٥ / ١٦٠ ، وفيات الأعيان ٣ / ٤٤٨ ، حسن المحاضرة بتاريخ مصر والقاهرة ١ / ١٦٦ ، بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة ٢ / ٢١٨ ، وغيرها.

(٢) انظر : هدي الساري في مقدّمة فتح الباري ٢ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٢ / ٢٢٨ ، سير أعلام النبلاء ١٢ / ٧٠ ، وص ٣٩١ ، وص ٤٥٥ ، فيض القدير في شرح الجامع الصغير ١ / ٢٤ ، وغيرها من كتب القوم ..

ولهذا السبب أورد الحافظ الذهبي البخاري في كتاب المغني في الضعفاء والمتروكين ٢ / ٥٥٧ ، وميزان الاعتدال في نقد الرجال ١ / ١٢٥ ، وج ٣ / ١٣٨.

٤٩

وأمّا الأحاديث الباطلة والمكذوبة المخرّجة في صحيح البخاري فهي كثيرة كذلك ، كما لا يخفى على من راجع شروحه وغيرها من كتب الحديث (١).

وإذا كان هذا حال البخاري ، فما ظنّك بغيره؟!

وقوله : «أمّا الزيادة وهي قوله : اللّهمّ وال من والاه ...» فيكفي في ردّه قول الذهبي ـ في ما نقل عنه ابن كثير ـ : «وأمّا : اللّهمّ وال من والاه ... فزيادة قويّة الإسناد» ، لكنّي أذكر جماعةً من الأئمّة رووه بأسانيدهم مع تنصيص الحافظ الهيثمي على صحّتها ؛ فقد جاء في مجمع الزوائد في باب : «قوله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : مَن كنت مولاه فعليّ مولاه» (٢) :

«رواه أحمد والطبراني إلاّ أنّه قال : قالوا سمعنا رسول الله يقول : مَن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال مَن والاه وعاد مَن عاداه ... ورجال أحمد ثقات».

«وعن أبي الطفيل ... قال : مَن كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ وال مَن والاه وعاد مَن عاداه ... رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة».

«وعن عمرو بن ذي مر وسعيد بن وهب ، وعن زيد بن بثيع ، قالوا : سمعنا عليّاً يقول ... قالوا : فأخذ بيد عليّ فقال : مَن كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ وال مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وأحبّ مَن أحبّه وأبغض مَن

____________

(١) انظر : فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ١٢٧ ، وص ٣٥٣ ، وج ٨ / ٢٧١ ، وص ٤٠٦ ، وص ٥٤١ ، وج ١١ / ٢٦ ، إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ٦ / ٥٣٦ ، وج ٧ / ١٤٨ ، وج ٨ / ٤١ ، وعمدة القاري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٤٦ ، وج ١٧ / ٢٤٦ ، الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري ٢٥ / ٢٠٤.

(٢) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ٩ / ١٠٣ ـ ١٠٩.

٥٠

يبغضه ، وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله. رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح ، غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة» (١).

«وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى ... قال : فمَن كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ وال مَن والاه وعاد مَن عاداه. رواه أبو يعلى ورجاله وثّقوا ، وعبد الله بن أحمد».

«وعن زيد بن أرقم ، قال : نشد عليّ الناس : أُنشد الله رجلاً سمع النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول : مَن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال مَن والاه وعاد مَن عاداه. فقام اثنا عشر بدريّاً فشهدوا بذلك ، وكنت في مَن كتم فذهب بصري ..

رواه الطبراني في الكبير والأوسط خالياً من ذهاب البصر والكتمان ودعاء عليّ. وفي روايةٍ عنده : (وكان عليّ دعا على من كتم) ، ورجال الأوسط ثقات».

«وعن حبشي بن جنادة ، قال : سمعت رسول الله يقول يوم غدير خمّ : اللّهمّ مَن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال مَن والاه وعاد مَن عاداه وانصر مَن نصره ، وأعن من أعانه ..

رواه الطبراني ورجاله وثّقوا».

فهذا موجز الكلام في وجه استدلال علماءنا الكرام بهذا الحديث الشريف من جهة السـند ... مضافاً إلى ما ذكره السيّد.

وتبقى جهة الدلالة ..

... للبحث صلة

____________

(١) جاء في هامشه : «فطر» أخرج له خ أيضاً. ابن حجر.

٥١

عدالة الصحابة

(١٠)

الشيخ محمّد السند

وممّـا يتّصـل بالخلاف في عدالة الصحابـة أمـران رئيسـيّان ، الأوّل : ما هو مصير الوحدة الإسلامية مع الخلاف في عدالتهم ، الثاني : محطّة الفتوحات الإسلامية التي وقعت على يد الخلفاء الثلاثة هي عمدة مستمسكات القائلين بعدالتهم ومكانتهم في الدين. فلا بُدّ من تناول البحث لكلا الأمرين ..

الأوّل ـ آفاق الوحدة :

إنّ كثيراً من الضلالات ناشئة من العمى في البصيرة ، قال تعالى : (فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (١) وقال : (فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) (٢) ..

والعمى في البصيرة ينشأ من أسباب مختلفة ، تارة من ضحالة في العلم والفقه ، وأُخرى من اتّباع الهوى والمصالح الدنيوية القصيرة المدى ،

____________

(١) سورة الحجّ ٢٢ : ٤٦.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٠٤.

٥٢

وإذا اجتمع السببان فالطامّة الدهياء بين العمى والازدواجية.

قال تعالى : (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلّكم تهتدون * ولتكن منكم أُمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينْهَوْن عن المنكر وأُولئك هم المفلحون) (١) ..

هذه الآية الكريمة كما تعيّن مدار وحدة المسلمين فهي تنبّأ بملحمة خطيرة ، هي : أنّ الوحدة الإسلامية لم ولن تتمّ ولا تتحقّق في هذه الأُمّة وتنال تلك السعادة في ظلّ الأُلفة الأخوية إلاّ بالاعتصام بـ : «حبل الله» ، أي التمسّك بحبل الله ، فيكون هذا الحبل عاصماً عن الفرقة ، وعن السقوط في الهاوية ، وعن الضياع في المتاهات ؛ فما هو «حبل الله» ، وما هو سرّ التعبير بـ : «الحبل»؟!

لـ«حبل الله» ـ كما لكلّ حبل ـ طرفان ، طرف تستمسك به الأُمّة ، وطرف آخر عند الله تعالى ، أي أنّ هذا الحبل شيء رابط بين البشرية والغيب ، وسبب متّصل بين الأرض والسماء ، فلا بُدّ أن يكون قطب الوحدة ومركز الاتّحاد سبب موصل مطّلع على الغيب ؛ وهذا يعطي أنّ سفينة الوحدة والاتّحاد يجب أن ترسو على ما هو حقّ وحقيقة ، لا التوافق على الهوى والهوس.

وسياق الآية الثانية المتّصلة يصرّح بأنّ الوحدة يجب أن تكون على الخير والمعروف والاجتناب عن المنكر ، بحسب الواقع والحقيقة ، فلو

____________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٠٣ ـ ١٠٤.

٥٣

حصلت وحدة على المنكر واجتناب المعروف ، لكانت هذه فُرقة في منطق القرآن الكريم ؛ لأنّ الناس افترقوا وابتعدوا عن الحقّ ..

وهذا يدلّ على أنّ الحقّ والمعروف له وجود وحقيقة في نفس الأمر ، اتّفقت كلمة الأُمّة عليه أم لم تتّفق ، وليس الحقّ ناتجاً ومتولّداً من اتّفاق الأُمّة كي يقال : «كلّ ما اتّفقت الأُمّة عليه فهو حقّ ، وكلّ ما لم تتّفق عليه فهو باطل» ..

ومن ثمّ كان الحسن والقبح في الأفعال ، والصفات ، والاعتقادات ذاتي ، تكويني ، عقلي ، حقيقي ؛ إذ ليس حسن الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على مدحه ، ولا قبح الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على ذمّه ، بل الحسن والمدح والثناء ذاتي ؛ للكمال ، والقبح والذمّ والهجاء ذاتي ؛ للنقص ، ومن ذلك يعلم أنّ الثابت الديني ليس وليد الوفاق بل هو مرهون بالأدلّة والبراهين.

فإذا كان الحقّ ثابت في نفسه فيجب إقامة الوحدة على أساسه ، لا أن تقام الوحدة على أساس الباطل أو الحقّ الممزوج بالباطل ، فنقيم الاتّحاد ولو على النهج السقيفي أو الأُموي أو العبّاسي ، بل هذا اتّحاد على الغواية وتعاون على الإثم والعدوان ، ومن ثمّ لم يبال سيّد الشهداء عليه السلام أن يشقّ عصا المسلمين المتآلفين على النهج اليزيدي ، وقال : «إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

فالاصلاح والنصيحة للمسلمين ليس بإقرارهم على ما هم عليه مـن الفساد والغواية ، بل هو بأمرهم بالمعروف والحقيقة ونهيهم عن المنكر والباطل ، ودعوتهم للتعاون على السير على نهج الحقّ والصراط المستقيم.

٥٤

وخذ مثالاً لذلك : لو شاهدت مدمناً على المخدّرات وأردت أن تنصحه ، فإنّ نصيحته ليست بمدحه على فعله وتحسينه له ؛ فهو غشّ ودغل واحتيال ، بل نصيحته بتعليمه بسوء ما هو عليه وقبحه ، وإرشاده إلى الطريق السـوي ..

وكما قام سيّد الشهداء بتفرقة الجماعة المتجمّعة على الباطل ، قام جدّه النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بتفرقة المجتمع المكّي القرشي ، الذي كان متّحداً على عبادة الأوثان ، وأرشدهم بالأُسلوب التدريجي ، وبالحكمة والموعظة ، وبالتي هي أحسن ، والمداراة ، إلى طريق الصواب والهداية ، ولم تكن مداراته بمعنى ذوبانه في أرجاس الجاهلية ومداهنته لزيغهم وغيّهم ، نعم لا يكون العلاج إلاّ تدريجياً وبتعقّل وتروّي وتؤدة.

ولك أن تعتبر بسيرة سيّد الشهداء عليه السلام ، فإنّه لمّا رأى العالم الإسلامي ساكت على تولّي يزيد بن معاوية للأُمور وفاقاً سكوتياً أخذ في توعية الناس في المدينة المنوّرة ، ثمّ في مكّة عدّة أشهر ، يلتقي بوفود المسلمين في العمرة وموسم الحجّ ويخطب فيهم ، إلى أن أثمرت جهوده عليه السلام وبانت في مخالفة أهل العراق للسلطة الأُموية ، فخالفوا وحدة الصفّ التي كانت في جانب يزيد ، وأخذ في توسيع القاعدة الشعبية المخالفة كي تصبح أكثرية ، ثمّ توجّه صوب العراق لإنجاز الإصلاح في الأُمّة ، فلمّا رأى عودة أهل العراق عن مخالفة الصفّ اليزيدي واتّحادهم مع الوفاق الأُموي ، لم يستسلم للوحدة على الباطل والغي حتّى استشهد إحياءً لفريضة الإصلاح والأمر بالوحدة على المعروف والانتهاء عن المنكر.

فترى أنّ سيّد الشهداء عليه السلام لم يقم وزناً للوحدة والاتّحاد على الخطأ والباطل ، وأشاد بالوحدة على طريق الحقّ والهداية ، وهذا هو معنى أنّ

٥٥

الحسن والقبح للأشياء ذاتياً واقعياً ، وليس اعتبارياً خاضعاً لرأي الأكثرية والمجموع وتوافقهم.

روى الصدوق في معاني الأخبار عن ابن حميد رفعه ، قال : «جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أخبرني عن السُـنّة والبدعة ، وعن الجماعة وعن الفُرقة؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : السُـنّة : ما سـنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والبدعة : ما أُحدث من بعده ، والجماعة : أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً ، والفُرقة : أهل الباطل وإن كانوا كثيراً» (١).

وروى النعماني بسنده في كتاب الغَيْبة عن ابن نباتة ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة يقول : «أيّها الناس! أنا أنف الهدى وعيناه ، أيّها الناس! لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة من يسلكه ، إنّ الناس اجتمعوا على مائدة قليل شبعها كثير جوعها» (٢).

وفي رواية هشام المعروفة عن موسى بن جعفر عليه السلام : «يا هشام! ثمّ ذمّ الله الكثرة فقال : (وإن تُطعْ أكثر مَن في الأرض يُضلّوكَ عن سبيل الله) (٣) ، وقال : (ولئن سألتَهم مَن خلق السماواتِ والأرضَ ليقولُنّ اللهُ قل الحمد لله بل أكثَرُهُم لا يعلمون) (٤) ، وقال : (ولئن سألتَهم مَن نزّلَ من السماء ماءً فأحْيا به الأرضَ من بعدِ موتِها ليقولُنّ اللهُ قل الحمد

____________

(١) معاني الأخبار : ١٥٤ ـ ١٥٥ ح ٣ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٦٦ ح ٢٣.

(٢) انظر : الغيبة ـ للشيخ النعماني ـ : ١٧٠ ، الإرشاد ـ للشيخ المفيد ـ ١ / ٢٧٦ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٦٦ ح ٢٧ ، نهج البلاغة ـ لمحمّد عبده ـ ٢ / ٢٠٧ رقم ١٩٦.

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١١٦.

(٤) سورة لقمان ٣١ : ٢٥.

٥٦

لله بل أكثَرُهُم لا يعقلون) (١) ..

يا هشام! ثمّ مدح القلّة فقال : (وقليلٌ من عبادي الشكور) (٢) ، وقال : (وقليلٌ ما هم) (٣) ، وقال : (وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعونَ يكتُمُ إيمانَهُ أتقتلونَ رجلاً أن يقولَ ربّيَ الله) (٤) ، وقال : (ومَن آمنَ وما آمنَ معهُ إلاّ قليل) (٥) ، وقال : (ولكنّ أكثَرَهُم لا يعلمون) (٦) ، وقال : (وأكثَرُهُم لا يعقلون) (٧) ، وقال : (أكثَرَهُم لا يشكرون) (٨)» .. الحديث (٩).

ولا يخفى أنّ الروايات في صدد بيان ضوابط وموازين البصيرة الحقّة وتمييزها عن الباطل ، لا في مقام ترك المسؤولية تجاه الأكثرية والقيام بواجب هدايتهم وإرشادهم ، والعناية بأُمورهم بالإصلاح وتقويم العوج وإزالة الفساد ، بل هي في مقام بيان أنّ الاعتداد بشأن موازين منطق التفكير التي هي موازين العلم والعقل والفطرة والسُـنّة غير المحرّفة لا يكون بالمنطق الأكثري بل بالقيم والمبادئ التي تتضمّن هذه الموازين.

روى في مستطرفات السرائر بسنده عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال : «قال لي : أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكوننّ إمّعَة. قلت : وما الإمّعة؟

____________

(١) سورة العنكبوت ٢٩ : ٦٣.

(٢) سورة سبأ ٣٤ : ١٣.

(٣) سورة ص ٣٨ : ٢٤.

(٤) سورة غافر ٤٠ : ٢٨.

(٥) سورة هود ١١ : ٤٠.

(٦) سورة الأنعام ٦ : ٣٧ ؛ وتكرّرت هذه الآية في سور عديدة أُخرى.

(٧) سورة المائدة ٥ : ١٠٣.

(٨) سورة يونس ١٠ : ٦٠ ، سورة النمل ٢٧ : ٧٣.

(٩) الكافي ١ / ١٢ ضمن ح ١٢.

٥٧

قال : لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس ؛ إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا أيّها الناس! إنّما هما نجدان : نجد الخير ، ونجد الشرّ ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير» (١) ..

والإمّعة : الذي لا رأي له ، فهو يتابع كلّ أحد على رأيه ، والذي يقول لكلّ أحد : أنا معك ، أنا مع الناس.

وروى الصدوق بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال لرجل من أصحابه : «لا تكون إمّعة ، تقول : أنا مع الناس ، وأنا كواحد من الناس» (٢).

وهذه الأحاديث أيضاً في مقام تخطئة التأثّر من رأي الأكثرية بسبب الأكثرية ، والحثّ على التمسّك بما هو مقتضى البديهة الفطرية والضرورة الدينية ، وهناك توصيات عديدة في القرآن والسُنّة على طريقة التفكير والاعتقاد كمنهج منطقي ديني لا يسع المقام ذكرها.

ثمّ إنّ آية الاعتصام بحبل الله تعالى تتضمّن نبوءة بملحمة قرآنية مهمّة ، وهي : أنّ وحدة الأُمّة الإسلامية لا ولن تتمّ إلاّ بالتمسّك جميعاً بحبل الله ، فلا تأمل هذه الأُمّة يوماً ما في الخلاص من ذلّ الفُرقة والتشتّت والضعف أمام الأعداء بدون التمسّك بحبل الله ..

والرغبة في الوحدة بأن تكون على محور الاعتصام بحبل الله كي لايقعوا في الفُرقة ؛ فحبل الله هو العاصم من الفُرقة ، وبدونه سوف تكون الرغبة في الوحدة حلماً وشعاراً أجوف ومجرّد تشدّق باللسان.

وحبل الله الذي يدعو إليه القرآن الكريم هو : الثقلان ؛ لأنّه حبل طرف

____________

(١) مستطرفات السرائر (ضمن السرائر) ٣ / ٥٩٥ ، الاختصاص : ٣٤٣ ، الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ : ٢١٠ ح ٤٧ ، بحار الأنوار ٢١ / ٦٢.

(٢) معاني الأخبار : ٢٢٦ ح ١ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٦.

٥٨

منه عند الناس وطرف آخر عند الله ، وهذا القرآن الكريم قد تضمّنت عدّة سور قرآنية منه التشديد على أنّ للقرآن قريناً وملازماً لا يفترق عنه ، هو ثلّة مطهّرة من هذه الأُمّة ، لديها علم الكتاب ؛ فقد قال تعالى في سورة الواقعة : (فلا أُقسمُ بمواقع النجوم * وإنّه لقسمٌ لو تعلمون عظيمٌ * إنّه لقرآنٌ كريمٌ * في كتابٍ مكنونٍ * لا يمسُّهُ إلاّ المطهّرونَ * تنزيلٌ من ربّ العالمين * أفبهذا الحديث أنتم مُدْهِنون * وتجعلون رزقَكم أنّكم تُكذّبون) (١).

فذكر تعالى أنّ للقرآن وجوداً علوياً غيبياً غير ما تنزّل منه ، لا يصل إلى حقيقته وحقائق ذلك الوجود غير المطهّرين ـ بصيغة الجمع ـ من هذه الأُمّة ، وهم الموصوفون بالطهارة في قوله تعالى : (إنّما يريد اللهُ لِيُذْهِبَ عنكمُ الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهّرَكم تطهيراً) (٢).

وكذلك قال تعالى : (ويومَ نبعثُ في كلّ أُمّةٍ شهيداً عليهم من أنفسِهم وجئنا بكَ شهيداً على هؤلاء ونزّلنا علينا الكتابَ تبياناً لكلّ شيءٍ وهدىً ورحـمةً وبشرى للمسلمين) (٣) ..

وقد اعترف الفخر الرازي ـ وإن لم تكن أهمّية لاعترافه فأهمّية القرآن ذاتية ـ أنّ الآية دالّة على وجود شخص في زمن لا يزل ولا يخطأ يكون شاهداً على أُمّة كلّ قرن (٤) ، وإلاّ فكيف يكون شاهداً وهو مشهود عليه بالذنب أو الضلالة ؛ كما تبيّن الآية من سورة العنكبوت : (بل هوَ ـ أي

____________

(١) سورة الواقعة ٥٦ : ٧٥ ـ ٨٢.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

(٣) سورة النحل ١٦ : ٨٩.

(٤) انظر : التفسير الكبير ـ ذيل الآية ٨٩ من سورة النحل.

٥٩

الكتاب أو القرآن ـ آياتٌ بيناتٌ في صدور الّذين أُوتوا العلمَ وما يجحدَ بآياتنا إلاّ الظالمون) (١) ومثله قوله تعالى في سورة الرعد : (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينَكم ومَن عندَهُ علمُ الكتاب) (٢) وغيرها من آيات الثقلين وأنّهما مقترنان معاً لا يفترقان.

والحاصل أنّ آية الاعتصام تنبّأ بملحمة مهمّة ، وهي : أنّ ضعف وذلّ هذه الأُمّة لفرقتها لا يزول بغير الاعتصام بحبل الله ، وهما الثقلان : الكتاب والعترة ، وبذلك تتحقّق الوحدة ..

وقد أشارت الصدّيقة الزهراء عليها السلام بنت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الملحمة القرآنية في خطبتها : «فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ... وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة» (٣).

والمرتضى عليه السلام وصيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته القاصعة ـ وهي من أعظم خطبه صلوات الله عليه ؛ إذ يصف فيها ولاية أهل البيت عليهم السلام أنّها توحيد لله تعالى في الطاعة ـ يقول : «فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً ؛ فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته أُلْفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ...

وتعطفت الأُمور عليهم في ذرى ملك ثابت ، فهم حكّام على العالمين وملوك في أطراف الأرضين ، يملكون الأُمور على من يملكها عليهم ، ويمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم ...

ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله

____________

(١) سورة العنكبوت ٢٩ : ٤٩.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ٤٣.

(٣) الاحتجاج ـ للطبرسي ـ ١ / ٢٥٨ ضمن ح ٤٩ ، كشف الغُمّة ـ للأربلي ـ ١ / ٤٨٣.

٦٠