المدارس النحويّة

الدكتور شوقي ضيف

المدارس النحويّة

المؤلف:

الدكتور شوقي ضيف


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٧
الصفحات: ٣٧٥

«فى». وقد سمّى حروف الزيادة حشوا ولغوا وصلة (١) كما أطلق على الظرف اسم المحل (٢). وكان يسمى الاسم المنصرف والآخر الممنوع من الصرف على التوالى ما يجرى وما لا يجرى أو المجرى وغير المجرى ، وعبّر مرارا بالإجراء عن الصرف (٣).

وكان يسمى التمييز مفسّرا ، يقول تعليقا على قوله سبحانه : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) نصب الذهب لأنه مفسر ، لا يأتى مثله إلا نكرة ، فخرج نصبه كنصب قولك : عندى عشرون درهما ، ولك خيرهما كبشا ، ومثله قوله : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً). وإنما ينصب على خروجه من المقدار الذى تراه قد ذكر قبله ، مثل ملء الأرض أو عدل ذلك ، فالعدل مقدار معروف ، وملء الأرض مقدار معروف ، فانصب ما أتاك على هذا المثال ما أضيف إلى شىء له قدر ، كقولك عندى قدر قفيز (٤) دقيقا ، وقدر حملة تبنا ، وقدر رطلين عسلا. فهذه مقادير معروفة يخرج الذى بعدها مفسّرا ، لأنك ترى التفسير خارجا من الوصف يدل على جنس المقدار من أى شىء هو ، كما أنك إذا قلت : عندى عشرون ، فقد أخبرت عن عدد مجهول قد تمّ خبره ، وجهل جنسه ، وبقى تفسيره ، فصار هذا مفسّرا عنه ، فلذلك نصب» (٥). وسمّى المفعول لأجله فى بعض المواضع تفسيرا يقول تعليقا على الآية الكريمة : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) نصب (حذر) على غير وقوع من الفعل عليه ، لم يرد يجعلونها حذرا ، إنما هو كقولك : أعطيتك خوفا وفرقا ، فأنت لا تعطيه الخوف ، وإنما تعطيه من أجل الخوف ، فنصبه على التفسير ليس بالفعل (أى ليس مفعولا به) كقوله عزوجل (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) وكقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً»)(٦).

وأكثر من تسمية البدل تكريرا وتبيينا وتفسيرا وترجمة (٧) ، وكأنه بكل ذلك

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٥٨ ، ١٧٦ ، ٢٤٥.

(٢) معانى القرآن ١ / ٢٨ ، ١١٩.

(٣) معانى القرآن ١ / ٤٢ ، ٤٢٨ وانظر ٢ / ١٩ ، ٢ / ١٧٥.

(٤) مكيال للحبوب.

(٥) معانى القرآن ١ / ٢٢٥.

(٦) معانى القرآن ١ / ١٧.

(٧) معانى القرآن ١ / ٧ ، ٥١ ، ٥٦ ، ١٩٢ ، ٣٢٠ ، ٣٤٨ وانظر ٢ / ٥٨ ، ٦٩ ، ١٣٨ ، ١٧٨ ، ٢٧٣ ، ٣٦٠.

٢٠١

كان يريد أن يشرح معناه. ويستخدم كلمة الإتباع كثيرا للدلالة على أن الكلمة من التوابع ومثلها كلمة الرد (١) ، وهو أول من اصطلح على تسمية العطف بالحروف : الواو وأخواتها باسم عطف النسق (٢) ، وكذلك هو أول من اصطلح على تسمية النعت باسمه (٣) وكان سيبويه والبصريون يسمونه الصفة.

وحاول ، بجانب هذه المصطلحات الجديدة التى أراد بها أن يسوّى لنحو بلدته صورة متميزة ، أن يخالف الخليل وسيبويه فى تفسيرهما وتحليلهما لكثير من الألفاظ والأدوات ، فمن ذلك : «اللهم» إذ كان الخليل يرى أنها لزمتها الميم المشددة عوضا عن «يا» التى كان ينبغى أن تتقدمها ، ولذلك لا تجتمعان. وذهب الفراء إلى أنها اختزال من كلمة «يا الله أمنّا بخير» حدث ذلك فيها لكثرة دورانها على لسانهم (٤). وهو تخريج بعيد. ومن ذلك «هلمّ» كان الخليل يرى أنها مركبة من ها التنبيهية وفعل لمّ ، ولكثرة استعمالها حذفت الألف من ها وأصبحت كأنها كلمة واحدة. وكان الفراء يرى أن أصلها «هل أمّ» من فعل أمّ أى قصد ، فخففت الهمزة ، بأن ألقيت حركتها على اللام وحذفت ، فصارت «هلم» (٥). وتخريج الخليل أقرب ، لأنها تخلو من معانى الاستفهام. ومن ذلك «إياك» ولواحقها كان الخليل يذهب إلى أن إيا اسم مضمر مبهم أضيف إلى الضمير لتخصيصه وذهب غيره من البصريين إلى أن «إيا» ضمير والكاف وأخواتها حروف تبين حال الضمير من التكلم والخطاب والغيبة ، بينما ذهب الفراء إلى أن «إيا» حرف زيد دعامة ، ولواحقه هى الضمائر التى تكون فى موضع نصب حسب مواقعها (٦). ومن ذلك «لن» كان الخليل يرى أن أصلها «لا أن» فحذفت الهمزة تخفيفا والألف لالتقاء الساكنين ، وكأنه وصلها بأن حتى يعلل لنصبها المضارع ، وذهب الفراء إلى أن أصلها «لا» وأبدلت الألف نونا فيها

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ١٧ ، ٧٠ ، ٨٢ وانظر ٢ / ٩٧.

(٢) معانى القرآن ١ / ٤٤ ، ٧٢ وانظر ٢ / ٧٠.

(٣) معانى القرآن ١ / ١١٢ ، ١٩٨ ، ٢٧٧ وانظر ٢ / ١٤٥ ، ٢٥٠ ، ٣٦٤ ، ٣٦٦.

(٤) معانى القرآن ١ / ٢٠٣ وابن يعيش ٢ / ١٦ وانظر الكتاب ١ / ٣١٠.

(٥) معانى القرآن ١ / ٢٠٣ وابن يعيش ٤ / ٤٢ والهمع ٢ / ١٠٦.

(٦) الهمع ١ / ٦١.

٢٠٢

على نحو ما أبدلت ميما فى «لم» (١). ومن ذلك «لكن» ذهب البصريون إلى أنها بسيطة ، وذهب الفراء إلى أن أصلها «أن» زيدت عليها لام وكاف ، وطرحت الهمزة للتخفيف ، كما زيدت عليها اللام والهاء فى بعض اللغات ، فأصبحت «لهنّك» (٢). ومن ذلك «كم» ذهب البصريون إلى أنها بسيطة موضوعة للعدد ، بينما ذهب الفراء إلى أنها مركبة من الكاف وما ، وكثرت فى كلامهم ، فحذفت الألف تخفيفا ، وسكنت الميم (٣). ومن ذلك «أنت» ولو احقها كان الخليل يعدّ «أن» الضمير والتاء وتوابعها حروف تدل على الخطاب ، وكان الفراء يذهب إلى أن «أنت» بسيطة وليست مركبة (٤). ومن ذلك «هو» كان يذهب فيها إلى أن الهاء هى الضمير والواو صلة ، وكذلك «هى» الهاء الضمير والياء صلة ، بدليل سقوطهما جميعا فى التثنية تقول هما وقد ألحقوا بالهاء حينئذ ميما ، ليقوا بالميم فتحة الألف (٥). ومن ذلك «ويحك وويلك» ذهب البصريون إلى أنهما مؤلفان من ويح وويل ، بدليل مجيئهما هكذا فى الكلام ، وذهب الفراء إلى أن أصلهما «وى» ووصلا بحاء مرة وبلام مرة مع إضافة كاف الخطاب (٦).

ومن ذلك «مذ ومنذ» ذهب البصريون إلى أنهما بسيطتان ومنذ هى الأصل ، وذهب الفراء إلى أنهما مركبتان وأن أصلهما «من ذو» أى من الجارة وذو الطائية التى تأتى بمعنى الذى ، وكأنك حين تقول «ما رأيته مذ يومان» إنما تقول :

«ما رأيته من الزمان الذى هو يومان» (٧). وبنفس التفسير فسّر «ماذا» فى قولك :

«ماذا صنعت» فجعلها مركبة من ما الاستفهامية وذا الطائية (٨). ومن طرائف تفسيره تحليله لكلمة «الآن» فقد ذهب إلى أن أصلها «أوان» حذفت منها الألف الوسطى وغيّرت واوها إلى الألف وأدخلت عليها الألف واللام. ويعقّب

__________________

(١) المغنى ص ٣١٤ والرضى على الكافية ١ / ٢١٨ وابن يعيش ٨ / ١١٣ والهمع ٢ / ٣.

(٢) معانى القرآن ١ / ٤٦٥ وانظر المغنى ص ٣٢٢.

(٣) معانى القرآن ١ / ٤٦٦ وانظر الإنصاف المسألة رقم ٤٠.

(٤) الرضى على الكافية ٢ / ١٠ وانظر الكتاب ٢ / ٦٧.

(٥) مجالس العلماء للزجاجى (طبع الكويت) ص ١٣٧.

(٦) ابن يعيش ١ / ١٢١.

(٧) ابن يعيش ٨ / ٤٦.

(٨) معانى القرآن ١ / ١٣٨.

٢٠٣

على هذا التفسير بقوله : «وإن شئت جعلت الآن أصلها من قولك : آن لك أن تفعل ، أدخلت عليها الألف واللام ثم تركتها على مذهب فعل (أى على أصلها الفعلى) فأتاها النصب من نصب فعل ، وهو وجه جيد» (١).

وكان يذهب إلى أن أصل «الذى» ذا المشار بها وكذلك أصل «التى» تى المشار بها. (٢) ومر بنا فى ترجمة الخليل توجيهه لمنع الصرف فى أشياء وأنه حدث فيها قلب أتاح لها منع الصرف ، إذ وزنها لفعاء لا أفعال كما قد يتبادر ، وذهب بعض النحويين إلى أن جمعها أفعال غير أنها أشبهت فعلاء مثل حمراء فمنعوها من الصرف توهما ، وذهب الفراء إلى أنها جمعت على أفعلاء مثل بيّن وأبيناء ، فأصبحت أشيئاء ، وحذفت الهمزة من وسطها لكثرتها فى الاستعمال ، فأصبحت أشياء (٣). ومن آرائه الطريفة أن أصل «بلى» التى يجاب بها فى النفى فى مثل أليس معك الكتاب؟ فيقال بلى للدلالة على الرجوع عن النفى ، يقول : أصلها بل العاطفة فى مثل ما قام زيد بل عمرو ، إذ بل تدل فى هذا التعبير على الرجوع عن النفى ، بالضبط مثل بلى فى جواب الاستفهام عن النفى ، وكل ما فى الأمر أنهم رادوا عليها ألفا حتى تصلح للوقوف عليها (٤). ومر بنا فى ترجمة الكسائى تفسيره لإلا الاستثنائية.

وعلى هذه الشاكلة كان الفراء ـ يحاول بكل جهده ـ أن يضع تفسيرا جديدا لبعض الكلمات والأدوات كما كان يحاول جاهدا أيضا أن يضع فى النحو مصطلحات جديدة ، مستعينا فى ذلك كله بعقله المتفلسف الخصب. وما زال يلحّ فى ذلك حتى استطاع حقّا أن يكوّن للكوفة مدرسة مستقلة فى النحو ، لا كل الاستقلال ، فهى لا تزال تعتمد على ما وضعت البصرة من أسس ، ولكنها فى الوقت نفسه تحاول التميز والتفرد وأن تكون لها شخصيتها المستقلة ، وقد أتيح لها ذلك على يد الفراء لا من حيث ما قدمنا من تحليل بعض الأدوات والكلمات وجلب مصطلحات مبتكرة فحسب ، بل أيضا من حيث النفوذ إلى

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٤٦٧ وما بعدها.

(٢) الهمع ١ / ٨٢.

(٣) معانى القرآن ١ / ٣٢١.

(٤) معانى القرآن ١ / ٥٣.

٢٠٤

آراء كثيرة فى العوامل والمعمولات ومدّ السماع والقياس حينا وقبضهما حبنا آخر ، وبذلك كله استوت للنحو الكوفى صورة مختلفة عن صورة النحو البصرى اختلافا واضحا.

٣

العوامل والمعمولات

أخذ الفراء يردّد النظر فى العوامل والمعمولات التى فرضها البصريون على النحو وقواعده ، وتحول ذلك عنده إلى ما يشبه سباقا بينه وبينهم ، وأحيانا يلتقى بهم وبخاصة بالأخفش على نحو ما مر بنا فى ترجمته ، وأحيانا يفترق ، ويهمنا أن نقف عند مواضع افتراقه ، لأنها هى التى تفرق النحو الكوفى ، كما تصوّره ، من النحو البصرى.

ونقف أولا عند العوامل ، ومرّ بنا أنه كان يرى ما رآه الأخفش من أن العامل فى رفع المضارع هو تجرده من العوامل ، أو كما قال هو تجرده من الناصب والجازم. وكان البصريون يذهبون إلى أن العامل فى المفعول به هو الفعل السابق له أو ما يشبهه من مصدر واسم فاعل ، وكان الكسائى يذهب إلى أن العامل فيه هو خروجه عن وصف الفعل. وذهب الفراء إلى أن العامل فيه هو الفعل والفاعل معا ، وبذلك عدّد العامل فيه (١) ، كما عدّده فى مثل «قام وقعد محمد» إذ جعل لفظة محمد فى مثل هذا التعبير فاعلا للفعلين معا ، على نحو ما أسلفنا فى غير هذا الموضع. وعدّده أيضا فى مثل «يا تيم تيم عدىّ» إذ جعل كلمتى «تيم» مضافتين معا إلى عدى. وقد يكون هذا الرأى أوجه من رأى سيبويه إذ ذهب إلى أن «تيم» الأولى هى المضافة إلى عدىّ والثانية مقحمة بين المضاف والمضاف إليه ، والأصل «يا تيم عدى تيمه» فحذف الضمير من تيم الثانية وأقحمت. وذهب المبرد إلى أن «تيم» الثانية مضافة إلى عدى مقدرة ، أى أنها

__________________

(١) الرضى ١ / ١٨ ، ١١٦ والهمع ١ / ١٦٥.

٢٠٥

على نية الإضافة إلى مقدر مثل المضاف إليه (١).

وكان يذهب إلى أن «كان» يليها فاعل مرفوع وحال منصوب ، وقد يسمى اسمها شبه فاعل وخبرها شبه حال ، وقد يقول إن الخبر نصب بخلوه من العامل (٢). وذهب إلى أن حاشا الاستثنائية فى مثل «جاء القوم حاشا زيد» فعل لا فاعل له ، وزيد مجرورة بلام مقدرة ، والأصل «حاشا لزيد» وحذفت اللام لكثرة الاستعمال ، وكان سيبويه يذهب إلى أنها دائما حرف جر. وجمع المبرد بين الرأيين ، فقال إنها تكون حرف جر كما ذهب سيبويه ، وقد تكون فعلا ينصب ما بعده بدليل تصرفه إذ يقال حاشى وأحاشى (٣). وكان البصريون وأستاذه الكسائى يذهبون إلى أن نعم وبئس فعلان ماضيان لا يتصرفان ، وخالفهما ذاهبا إلى أنهما اسمان مبتدآن لعدم تصرفهما ولدخول حرف الجر عليهما فى بعض كلام العرب وأشعارهم كقول أعرابى بشّر بمولودة : «والله ما هى بنعم المولودة» (٤). وذهب الكسائى مع البصريين إلى أن صيغة التعجب فى مثل «ما أكرم محمدا» فعل ماض ، وذهب الفراء إلى أنها اسم مبنى خبر لما الاستفهامية ، فما ليست تعجبية بمعنى شىء وإنما هى استفهامية ، واحتج لاسمية صيغة التعجب بأنه قد يدخلها التصغير فى مثل قول الشاعر : «يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا» والتصغير إنما يدخل فى الأسماء لا فى الأفعال (٥).

وذهب ـ كما مر بنا فى غير هذا الموضع ـ إلى أن لو لا فى مثل «لولا السفر لزرتك» هى التى تعمل الرفع فى كلمة السفر أو بعبارة أخرى فى تاليها ، فكلمة السفر مرفوعة بها ، وكان الكسائى يذهب إلى أن المرفوع بعدها فاعل لفعل مقدر ، وذهب سيبويه إلى أنه مبتدأ محذوف الخبر (٦). وكان يذهب إلى أن

__________________

(١) الهمع ١ / ١٧٧.

(٢) معانى القرآن ١ / ١٣ وانظر الرضى ١ / ٧٤ والهمع ١ / ١١١ ، ١٥١.

(٣) ابن يعيش ٢ / ٨٤ والإنصاف : المسألة رقم ٣٧ والهمع ١ / ٢٣٣.

(٤) فى معانى القرآن ١ / ٢٦٨ : بئس ونعم دلالة على مدح أو ذم لم يرد منهما مذهب الفعل مثل قاما وقعدا ، وانظر ٢ / ١٤١ حيث ينص على اسميتهما وابن يعيش ٧ / ١٢٧ والإنصاف المسألة رقم ١٤.

(٥) ابن يعيش ٧ / ١٤٣ والإنصاف : المسألة رقم ١٥.

(٦) معانى القرآن ١ / ٤٠٤ وابن يعيش ٣ / ١١٨ والرضى ١ / ٩٣ ، ٢ / ١١٨ والإنصاف : المسألة رقم ١٠.

٢٠٦

«حتى» تنصب المضارع بنفسها لا بأن مضمرة وجوبا كما ذهب البصريون (١) وذهب إلى أن «ليت» كما ترفع الخبر قد تنصبه مع نصب الاسم كقول بعض الشعراء : «يا ليت أيام الصبا رواجعا» وزعم أن ليت حينئذ تجرى مجرى «أتمنى» وأوّل ذلك الجمهور على أن الخبر محذوف و «رواجعا» حال ، وأوّله الكسائى على حذف كان مقدرة قبل الخبر أى «يا ليت أيام الصبا كانت رواجع» (٢)

وكان يذهب إلى أن «مالك ، وما بالك ، وما شأنك» تنصب الاسم الذى يليها معرفة ونكرة كما تنصب كان وأظن لأنها نواقص فى المعنى وإن ظننت أنهن تامات ، فتقول «مالك الناظر فى أمرنا» و «مالك ناظرا فى أمرنا» ، وكذلك أختاها. وبذلك وجّه الإعراب فى قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) وقوله : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) وكأنه جعل كل هذه الحروف أفعالا ناقصة ، بل لقد صرح بذلك فى تضاعيف كلامه (٣).

وإذا تركنا العوامل إلى المعمولات لقيتنا له آراء كثيرة وخاصة حين يعمد إلى التقدير والتخريج ، من ذلك أنه كان يذهب مذهب الأخفش فى أن المرفوع بعد إذا وإن الشرطية فى مثل : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) و (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) مبتدأ وليس فاعلا لفعل محذوف كما ذهب إلى ذلك سيبويه وجمهور البصريين (٤). وكان يجعل الاسم المنصوب فى باب الاشتغال فى مثل «محمدا لقيته» منصوبا بالهاء التى عادت عليه من الفعل ، بينما ذهب الكسائى إلى أن الضمير ملغى ، وذهب البصريون إلى أن «محمدا» فى المثال مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور (٥). وذكرنا أنه كان يذهب فى مثل قام وقعد محمد إلى أن محمدا فاعل للفعلين جميعا ، بينما كان يذهب الكسائى إلى أن الفعل الأول فاعله محذوف ولا فاعل له ، وذهب البصريون إلى أن محمدا

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ١٣٤ وما بعدها وانظر الهمع ٢ / ٨.

(٢) ابن يعيش ٨ / ٨٤ والرضى ٢ / ٣٢٢ والمغنى ص ٣١٦ والهمع ١ / ١٣٤.

(٣) معانى القرآن ١ / ٢٨١.

(٤) الرضى ١ / ١٦٢ وانظر ابن يعيش ٩ / ١٠ والمغنى ص ٦٤٣.

(٥) الرضى ١ / ١٤٨ والإنصاف المسألة رقم ١٢ والهمع ٢ / ١١٤ وانظر معانى القرآن ٢ / ٢٠٧.

٢٠٧

فاعل للفعل الثانى ، أما الفعل الأول ففاعله مضمر مستتر فيه (١). ومر بنا فى ترجمة الفراء أنه كان يذهب إلى أن المنادى مبنى على الضم ، فليس محله النصب كما ذهب إلى ذلك سيبويه وجمهور البصريين ، وليس مرفوعا معربا كما ذهب إلى ذلك أستاذه الكسائى (٢). ومر بنا أيضا أنه خالفه فى أنه لا يصح العطف على اسم إن بالرفع إلا إذا كان اسمها غير واضح الإعراب كأن يكون مبنيّا على نحو ما فى الآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ويوضح ذلك قائلا ، رادّا على أستاذه : «عطف (وَالصَّابِئُونَ) على الذين ، والذين حرف على جهة واحدة فى رفعه وخفضه (أى أنه مبنى لا يتغير آخره) فلما كان إعرابه واحدا وكان نصب إنّ نصبا ضعيفا ، وضعفه أنه يقع على الاسم ولا يقع على خبره (لأن الخبر عنده مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخول إن ، وهو المبتدأ الذى أصبح اسمها) جاز رفع الصابئين ، ولا أستحب أن أقول إن عبد الله وزيد قائمان لتبين الإعراب فى عبد الله ، وقد كان الكسائى يجيزه لضعف إن ، وقد أنشدونا هذا البيت رفعا ونصبا :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنى وقيّار بها لغريب

وليس هذا بحجة للكسائى فى إجازته : إن عمرا وزيد قائمان ، لأن قيارا قد عطف على اسم مكنى عنه (يريد الضمير) والمكنى لا إعراب له فسهل ذلك كما سهل فى الذين إذ عطفت عليه (الصَّابِئُونَ) ... وأنشدنى بعضهم :

وإلا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما حيينا فى شقاق

وقال الآخر :

يا ليتنى وأنت يا لميس

ببلد ليس به أنيس (٣)»

وكان يخالف أستاذه أيضا فى إعراب الضمير المتصل بأسماء الأفعال فى مثل «مكانك» بمعنى قف و «عندك ولديك ودونك» بمعنى خذ و «وراءك»

__________________

(١) الرضى ١ / ٧٠ وما بعدها والمغنى ص ٥٤٢ والهمع ٢ / ١٠٩.

(٢) الرضى ١ / ١٢٩ والإنصاف : المسألة رقم ٤٥.

(٣) معانى القرآن ١ / ٣١٠ وانظر المغنى ص ٥٢٧ والهمع ٢ / ١٤٤.

٢٠٨

بمعنى تأخّر و «أمامك» بمعنى تقدّم و «عليك» بمعنى الزم فقد كان الكسائى يذهب إلى أنه مفعول به ومحله النصب ، وذهب جمهور البصريين إلى أنه مجرور بالإضافة ، بينما ذهب الفراء إلى أنه مرفوع على الفاعلية لأنه قد يليها منصوب مثل «عليك زيدا» (١). ومر بنا أنه كان يوافق أستاذه فى أن الأسماء الخمسة تعرب من مكانين ، فإذا قلت «هذا أبوك» كانت علامة الرفع فى كلمة «أبوك» الواو والضمة التى قبلها وإذا قلت «رأيت أباك» كانت علامة النصب الألف والفتحة التى قبلها ، وإذا قلت مررت بأبيك كانت علامة الجر الياء والكسرة التى قبلها (٢). وذهب سيبويه والبصريون إلى أن تمييز «كم» الخبرية مجرور دائما وإن جاء منصوبا شذوذا ، وتمييز «كم» الاستفهامية منصوب دائما إلا إذا جرّت مثل «بكم درهم اشتريت هذا الكتاب» ، وذهب الفراء إلى أنه يجوز فى تمييزهما جميعا النصب والجر بمن مضمرة (٣) ، وقد علق على كم التكثيرية فى الآية الكريمة : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) ملاحظا أن ما يليها قد يأتى مجرورا ومنصوبا ومرفوعا يقول ، من ذلك قول العرب كم رجل كريم قد رأيت وكم جيشا جرّارا قد هزمت ... وأنشدوا قول الشاعر :

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت علىّ عشارى (٤)

رفعا ونصبا وخفضا ، فمن نصب قال : كان أصل كم الاستفهام وما بعدها من النكرة مفسر (ممّيز) كتفسير العدد ، فتركناها فى الخبر على جهتها وما كانت عليه فى الاستفهام فنصبنا ما بعدكم من النكرات كما تقول عندى كذا وكذا درهما. ومن خفض قال : طالت صحبة من للنكرة فى كم ، فلما حذفناها أعملنا إرادتها ، فخفضنا ، كما قالت العرب إذا قيل لأحدهم كيف أصبحت؟ قال : خير عافاك الله ، فخفض ، يريد بخير ، وأما من رفع فأعمل الفعل الآخر ونوى تقديم الفعل كأنه قال كم قد أتانى رجل كريم» (٥)

__________________

(١) الرضى ٢ / ٦٥ والهمع ٢ / ١٠٦ وانظر معانى القرآن ١ / ٣٢٣ حيث صرح بأنه لا يجوز أن يتقدم منصوبها عليها فلا يقال زيدا عليك مخالفا بذلك أستاذه ، وقارن بالهمع ٢ / ١٠٥.

(٢) الهمع ١ / ٣٨ وابن يعيش ١ / ٥٢.

(٣) المغنى ص ٢٠٢ والهمع ١ / ٢٥٤.

(٤) فدعاء : معوجة رسغ اليدمن كثرة الحلب ، والعشار : جمع عشراء وهى الناقة الحامل فى شهرها العاشر.

(٥) معانى القرآن ١ / ١٦٨.

٢٠٩

وكأنه كان يجوّز الرفع مع كم التكثيرية على هذا الوجه الذى خرّج به الرفع فى البيت. ويبدو أنه لم يكن يأخذ بفكرة التقدير فى الجار والمجرور والظرف حين يقعان خبرا أو نائب فاعل أو صفة أو حالا ، فقد كان البصريون يقدرون أنهما متعلقان بمحذوف تقديره استقر أو مستقر ، أما هو فقد مر بنا أنه كان يعرب الظرف حين يقع مبتدأ فى مثل «محمد عندك» خبرا منصوبا بالخلاف. وطبيعى أن يمدّ ذلك فى مواضعه الأخرى. أما الجار والمجرور فكان يجعل الجار هو الخبر فى مثل الكتاب لك كما كان يجعله فى محل نصب فى مثل مر زيد بعمرو ، ومن هنا جعله نائب الفاعل مع الفعل اللازم حين يبنى للمجهول مثل «مرّ بعمرو (١)». ولعله من أجل ذلك كان يسميه الصفة على نحو ما مرّ بنا آنفا. وبذلك نفهم إعرابه مثل «كل رجل وصنعته» فقد كان سيبويه والبصريون يقدرون الخبر محذوفا تقديره مقترنان ، وكان يذهب إلى أن الخبر لم يحذف ، وإنما أغنت عنه الواو فكأنها هى الخبر ، وبذلك تكون هى الرافعة للمبتدأ ، إذ هو وخبره يترافعان أو بعبارة أخرى كلاهما يرفع صاحبه ، يقول تعليقا على قول بعض الشعراء : «هلا التقدم والقلوب صحاح» : «بم رفع التقدم (أى المبتدأ) قلت : بمعنى الواو فى قوله خ خ والقلوب صحاح كأنه قال : خ خ العظة والقلوب فارغة وخ خ الرّطب والحر شديد (٢) ومعنى ذلك كله أن الحروف عنده كانت تعرب إعراب الأسماء حين تطلبها العوامل. وكان يذهب إلى أن الفاء العاطفة لا تفيد الترتيب أحيانا كقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً)(٣) وفى الوقت نفسه ذهب إلى أن الواو العاطفة قد تفيد الترتيب (٤) ، مما جعل ابن هشام يعمم عنده قائلا : «وقال الفراء إن الفاء لا تفيد الترتيب مطلقا ، وهذا مع قوله إن الواو تفيد الترتيب غريب» (٥). وكان سيبويه والبصريون يرون أن «أو» لا تأتى للإضراب بمعنى بل إلا إذا تقدمها نفى أو نهى ، وذهب الفراء إلى أنها تأتى للإضراب مطلقا دون شرط ، محتجّا بقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى

__________________

(١) الهمع ١ / ١٦٣.

(٢) معانى القرآن ١ / ١٩٨ وانظر الرضى ١ / ٩٧ والهمع ١ / ١٠٥.

(٣) معانى القرآن ١ / ٣٧٢.

(٤) المغنى ص ٣٩٢ والهمع ٢ / ١٢٩.

(٥) المغنى ص ١٧٣.

٢١٠

مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) ويقول بعض الشعراء :

بدت مثل قرن الشمس فى رونق الضّحى

وصورتها أو أنت فى العين أملح (١)

وذهب جمهور البصريين إلى أن الذى تكون دائما اسما موصولا ، بينما ذهب الفراء مع يونس إلى أنها قد تكون موصولا حرفيّا أو حرف موصول ، يريد أنها تكون مصدرية مثل ما المصدرية ، يقول تعليقا على الآية الكريمة : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) : «إن شئت جعلت الذى على معنى خ خ ما تريد خ خ تماما على ما أحسن موسى فيكون المعنى تماما على إحسانه» وتلا ذلك بتوجيه أنه يجوز أن تكون اسم موصول سواء قرئت (أحسن) بالنصب على أنها فعل والعائد محذوف ، أو قرئت بالرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير «الذى هو أحسن» (٢). وكان البصريون يذهبون إلى أن لو تكون شرطية دائما ، وقدروا فى مثل قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أن جوابها محذوف يدل عليه ما قبلها ، والتقدير : يود أحدهم التعمير لو يعمر ألف سنة لسرّه ذلك. وهو تكلف واضح فى التقدير. وذهب الفراء إلى أنها تأتى شرطية ، وقد تأتى حرفا مصدريّا ، مثل أن المصدرية تماما ، فتؤوّل مع ما بعدها بمصدر يعرب حسب العوامل ، ويقع ذلك غالبا بعد ودّ ويودّ مثل «يودّ لو رآك» أى يود رؤيتك ، وقد تأتى بدونهما كقول الأعشى :

وربما فات قوما جنّ أمرهم

من التأنّى وكان الحزم لو عجلوا (٣)

وكان سيبويه يذهب إلى أن العامل فى كلمة اليوم من مثل «أما اليوم فإنى ذاهب» هو أما لما فيها من معنى الفعل ، وذهب الفراء ، إلى أن العامل خبر إن (٤). وكان البصريون يعربون غير فى الاستثناء إعراب ما بعد إلا ، وذهب الفراء إلى أنها مبنية فى الاستثناء لقيامها مقام إلا (٥).

ومن يرجع إلى توجيهه للإعراب فى الآيات القرآنية يرى نفسه أمام ذهن

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٧٢ وانظر ٢ / ٣٩٣.

(٢) معانى القرآن ١ / ٣٦٥ والهمع ١ / ٨٣.

(٣) معانى القرآن ١ / ١٧٥ والمغنى ص ٢٩٣ وما بعدها والهمع ١ / ٨١.

(٤) المغنى ص ٦٠.

(٥) الرضى ١ / ٢٢٦.

٢١١

سيال بالخواطر التى تفد عليه من كل صوب ، من ذلك توجيهه لإعراب «أى» فى قراءة من رفعها فى قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) ومعروف أن قراءتها بالنصب واضحة ، إذ تكون مفعولا للفعل ننزعن. أما بالرفع فذهب الخليل إلى أنها استفهامية ومفعول الفعل محذوف ، والتقدير : لننزعن الفريق الذين يقال فيهم أيهم أشد. وقال يونس : بل المفعول جملة أيهم والفعل معلّق عنها كما يعلق فى باب ظن حين تدخل هى وأخواتها على جملة استفهامية. وذهب سيبويه إلى أنها أى الموصولة مبنية على الضم وحذف صدر صلتها ، والتقدير : لننزعن الذى هو أشد. وقال الكسائى والأخفش : من فى الآية زائدة وكل شيعة هى المفعول به ، وجملة أى مستأنفة. ثم جاء الفراء فعرض فيها ثلاثة وجوه : الوجه الأول أن يكون الفعل واقعا على موضع «من» تمشيا مع رأيه فى أن الحروف تعرب حسب العوامل التى تطلبها ، وكأن «من» هى مفعول ننزع ، ويمثل لذلك بقولهم : «قد قتلنا من كل قوم» و «أصبنا من كل طعام» ، ثم تستأنف بعد ذلك جملة (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) بتقدير فعل محذوف عامل فيها هو ننظر أى ننظر أيهم أشد على الرحمن عتيّا. والوجه الثانى أن يكون تقدير الآية ثم لننزعن من الذين تشايعوا على هذا ، ينظرون بالتشايع أيهم أشد على الرحمن عتيّا ، فتكون أى فى صلة التشايع. والوجه الثالث أن يكون التقدير : ثم لننزعن من كل شيعة بالنداء ، أى لننادين أيهم أشد على الرحمن عتيّا (١).

ومن ذلك تعليقه على الآية الكريمة : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فقد وقف بإزاء أن فى قوله تعالى : (بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) ملاحظا أنها تفيد الجزاء مثل إن ، ومن هنا كانا يتعاوران الموضع الواحد فى الكلام ، ويفرق بينهما فى الاستعمال على هذا النحو : «إذا كان الجزاء لم يقع عليه شىء قبله وكان ينوى بأن الاستقبال كسرتها وجزمت بها فقلت أكرمك إن تأتنى ، فإن كانت ماضية قلت أكرمك

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٤٧ وانظر مجالس العلماء للزجاجى ص ٣٠١ والمغنى ص ٨١.

٢١٢

أن تأتينى ، وأبين من ذلك أن تقول أكرمك أن أتيتنى ، كذلك قول الشاعر :

أتجزع أن بان الخليط المودّع

وحبل الصّفا من عزّة المتقطّع

يريد : أتجزع بأن أو لأن كان ذلك ، ولو أراد الاستقبال ومحض الجزاء لكسر إن وجزم بها كقول الله جلّ ثناؤه : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا)(١).

ومن ذلك الآية الكريمة : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) فقد قال إنه يصح دخول أن فى قوله تعالى (لا تَعْبُدُونَ) ولكنها لما حذفت رفع الفعل ، ثم وقف بإزاء قراءة (لا تعبدوا إلا الله) وقال إنها مجزومة بالنهى وليست جوابا لأخذ الميثاق الذى يدل على الاستحلاف كأنها جواب ليمين كما ذهب إلى ذلك بعض النحاة ، لأن الأمر لا يكون جوابا لليمين. وجوّز فى القراءة الأولى أن يكون الأصل النهى وأخرج الفعل (لا تَعْبُدُونَ) مخرج الخبر ، ويؤيده أن بعده (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). وكان الكسائى يذهب فى قراءة (لا تعبدوا) إلى أن أصلها بأن لا تعبدوا ، فحذف الجار وأن ، وهو تقدير بعيد ، ونسب ابن هشام ذلك أيضا إلى الفراء ، ولم يذكره فى تعليقه على الآية (٢).

ومن ذلك مخالفته أستاذه فى إعراب خيرا من قوله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) فقد كان الكسائى يذهب إلى أن خيرا منصوبة على إضمار يكن ، وذهب الفراء إلى أنها مفعول مطلق ، إذ التقدير آمنوا إيمانا خيرا لكم فهى صفة للمصدر المحذوف ، وردّ على الكسائى بأن كلامه يبطله القياس لأنك تقول : اتق الله تكن محسنا ، ولا يجوز أن تقول اتق الله محسنا وأنت تضمر تكن ، ولا يصلح أن تقول : انصرنا أخانا وأنت تريد تكن أخانا (٣).

ومعروف أن (أَرَأَيْتَكُمْ) فى مثل قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) بمعنى أخبرونى ، وكان سيبويه يعرب التاء فيها فاعلا والكاف حرف خطاب. وقال الكسائى بل الكاف مفعول به. وقال الفراء إن العرب تطابق فى هذا التعبير

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٥٨ ، ١٧٨ ـ ١٨١ وانظر الرضى على الكافية ١ / ٥٣.

(٢) معانى القرآن ١ / ٥٣ وانظر المغنى ص ٤٥٢.

(٣) معانى القرآن ١ / ٢٩٥.

٢١٣

بين الكاف والمخاطب ، فتقول للواحد أرأيتك بفتح الكاف وللواحدة أرأيتك وتقول للرجال أرأيتكم وللنسوة أرأيتكن. ومن هنا ذهب إلى أن التاء حرف خطاب ، والكاف هى الفاعل لأنها تطابق المسند إليه. ويضعف رأيه أنه قد يستغنى عنها فى التعبير فيقال أرأيت وأن الكاف لم تقع قط فى موضع رفع (١).

وعلى هذا النحو كان لا يزال يلحّ فى تحليل صيغ الذكر الحكيم ومواضع كلمه فى الإعراب على ذهنه مستخرجا منه فيضا من الآراء ، مخالفا البصريين وسيبويه ، وقد يخالف أستاذه ، وهو فى كل ذلك إنما يريد أن يشكّل النحو الكوفى فى صيغته النهائية ، بحيث تستقر قواعده ، ويستقر توجيهه للصيغ العربية ، وتستقر مصطلحاته وتستقر فيه العوامل والمعمولات متخذة كل ما يمكن من أوضاع جديدة.

٤

بسط السماع والقياس وقبضهما حتى فى القراءات

كان الفرّاء يتوسع مثل أستاذه الكسائى فى الرواية عن الأعراب المتحضرين ، وإن كنا نلاحظ أنه إنما كان يتتبّع فصحاءهم ، ممن سميناهم فى غير هذا الموضع ، أمثال أبى ثروان وأبى الجراح. وتدل كثرة ما رواه عن العرب وقبائلهم أنه كانت له رحلة واسعة إلى الجزيرة ، إذ يكثر فى كتابه معانى القرآن أن يقول : «وسمعت العرب تقول» أو يقول : «أنشدنى بعض بنى أسد أو بعض بنى كلاب أو بعض ربيعة أو بعض بنى عامر أو بعض بنى حنيفة» إلى غير ذلك من قبائل كثيرة. وأكثر أيضا من الرواية عن المفضل الضبى. أما الكسائى فله الحظ الأوفر من الأشعار التى استشهد بها فى معانى القرآن. وقلما يذكر اسم الشاعر الجاهلى والإسلامى الذى ينشد من شعره ، اكتفاء بأن ذلك كان معروفا متداولا بين

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٣٣٣ ، وانظر مجالس ثعلب (طبع دار المعارف) ص ٣٧٢ والمغنى ص ١٩٨ والهمع ١ / ٧٧.

٢١٤

علماء اللغة والنحو فى عصره. وكثيرا ما يتوارد مع سيبويه فيما ينشد من أشعار ، مما يدل على أنه كان يضع كتابه نصب عينه وبصره (١).

وقد مضى مثل النحاة البصريين وأستاذه الكسائى لا يستشهد بالحديث النبوى فى كتابه «معانى القرآن» ، إلا ما جاء عرضا وعفوا (٢) بحيث لا يصح التعميم عنده وأن يقال إنه كان يستشهد به ، فقد كانوا يصطلحون على أن روايته بالمعنى وأنه رواه أعاجم غير ثقات فى العربية. أما القراءات فهى محور الكتاب ، وقد أدار عليها توجيهاته لها من أساليب العرب ، متحدثا عن لغاتهم التى تجرى مع القياس والتى تشذ عنه فى رأيه ، مما جعله يردّ بعضها أحيانا ، كما ردّ بعض القراءات.

وليس معنى ذلك أنه لم يكن يتوسع فى السماع من العرب ، بل لقد كان يتوسع فيه إلى أقصى حدّ أمكنه ، ملتمسا منه القياس ، وخاصة إذا اتفق ذلك مع بعض آى الذكر الحكيم وبعض قراءاته. وقد يمدّ القياس إلى أحكام لم ترد فى القرآن ولا على ألسنة العرب ، ونضرب بعض الأمثلة لما بسط فيه القياس معتمدا على القرآن وقراءاته وأشعار الشعراء. فمن ذلك أنه جوّز إذا اجتمع شرط وقسم وتقدم القسم أن يكون الجواب للشرط ، والبصريون يوجبون أن يكون الجواب للأول ، ويتضح الخلاف فى مثل «لئن قمت أقوم معك» فالبصريون يحتّمون أن تكون أقوم جوابا للقسم لوجود اللام الموطئة المؤذنة به وبذلك تكون مرفوعة ، ويجوّز الفراء أن تكون جوابا للشرط ، فيقال «لئن قمت أقم معك» بجزم المضارع فى الجواب ، واحتجّ لذلك بقول الأعشى :

لئن منيت بنا عن غبّ معركة

لا تلفنا من دماء القوم ننتفل (٣)

والبصريون يؤولون مثل ذلك بأن اللام زائدة (٤). وقد وقف بإزاء الآية الكريمة :

__________________

(١) انظر على سبيل المثال الجزء الأول من معانى القرآن ص ٣٤ ، ٦٧ ، ٩١ ، ١٢١ ، ١٢٧ ، ١٢٨ ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٦٢ ، ١٧٧ ، ١٨٦ ، ١٨٧ وقارن بكتاب سيبويه على الترتيب ١ / ٤٢٤ ٦٢٧ ، ٢ / ٣٠٤ ، ١ / ٣٥٢ ، ٢٤٠ ، ٢٣٩ ، ٣٦ ، ٤٤ ، ١٥٢ ، ٥٣ ، ٢٢ ، ٢٥.

(٢) معانى القرآن ١ / ٢٦٦ ، ٤٦٩.

(٣) منيت : بليت. عن غب : بعد عاقبة.

ننتفل : نتنصل.

(٤) معانى القرآن ١ / ٦٨ والمغنى ص ٢٦١.

٢١٥

(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) وقال إن الواو معناها السقوط أى زائدة فى جواب إذا متابعا فى ذلك الأخفش ومثّل لسقوطها فى الجواب بآية الصافات : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ) فإن ناديناه هى الجواب فى رأيه ، وكذلك بقوله تعالى فى سورة الزمر : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) مستدلا بآية مماثلة فى نفس السورة إذ حذفت فيها من نفس العبارة الواو ، وتمثّل بقول بعض الشعراء :

حتى إذا قملت بطونكم

ورأيتم أبناءكم شبّوا (١)

وقلبتم ظهر المجن لنا

إن اللئيم العاجز الخبّ (٢)

فإنّ «قلبتم» وهى الجواب زادت فى أولها الواو. والبصريون يؤولون مثل ذلك بأن الجواب محذوف ، والواو عاطفة الجملة المذكورة معها عليه (٣). وجوّز فى الآية الكريمة : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) أن يكون كل من الحرفين : اللام ومن وضع فى مكان صاحبه ، على طريقة القلب المكانى ، وقال إن ذلك طريقة معروفة للعرب فى تعبيرهم ، واستشهد له بقول بعض الشعراء :

إن سراجا لكريم مفخره

تحلى به العين إذا ما تجهره

قائلا : «العين لا تحلى إنما يحلى بها سراج لأنك تقول حليت بعينى ، ولا تقول حليت عينى بك إلا فى الشعر (٤)». ووقف بإزاء قراءة الآية : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) ملاحظا أن الفعل الأخير فى هذه القراءة (ولا تخشا) معطوف على فعل مجزوم وأثبتت فيه الألف ، ووجّه ذلك بأنه قد يكون مستأنفا وقد يكون فى موضع جزم وإن كانت فيه الياء ، واحتج بأن العرب قد تصنع ذلك ، موردا قول بعض بنى عبس :

ألم يأتيك والأنباء تنمى

بما لاقت لبون بنى زياد (٥)

__________________

(١) قملت : كثرت. بطونكم : عشائركم.

(٢) المجن : الترس ، وقلب ظهر المجن :

كناية عن المعاداة. والخب : الغادر.

(٣) معانى القرآن ١ / ٢٣٨ والمغنى ص ٤٠٠.

(٤) معانى القرآن ١ / ١٣١.

(٥) اللبون : الناقة غزيرة اللبن.

٢١٦

فأثبتت الياء فى «يأتيك» وهى فى موضع جزم ، وأورد فى ذلك أيضا قول بعض الشعراء :

هجوت زبّان ثم جئت معتذرا

من سبّ زبّان لم تهجو ولم تدع

إذ أثبت الواو فى «تهجو» مع وجود لم الجازمة (١). وكان البصريون لا يجيزون أن تقع اللام المؤكدة فى خبر لكن على نحو ما تقع فى خبر إن ، وجوّز ذلك الفراء محتجّا بقول بعض الشعراء : «ولكننى من حبّها لكميد» واحتج البصريون بأن ذلك شاذ لا يعوّل عليه (٢).

واشترط البصريون لمجىء كان زائدة أن تكون بلفظ الماضى وأن تتوسط بين مسند ومسند إليه مثل «ما كان أجمل هذا المنظر» ، وجوّز الفراء زيادتها بلفظ المضارع لقول بعض الشعراء «أنت تكون ما جد نبيل». وجوّز أيضا زيادتها فى آخر الكلام قياسا على إلغاء ظن آخره ، فتقول «زيد مسافر كان» كما تقول «زيد مسافر ظننت» ومنع ذلك البصريون لعدم وروده فى السماع (٣). ومرّ بنا فى الفصل الخاص بالكسائى وتلاميذه أنه كان يعمل إن النافية عمل ليس لسماع ذلك عن بعض العرب ولقراءة سعيد بن جبير : (إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم) بتخفيف النون فى إن ونصب عبادا ومنع ذلك الفراء محتجّا بأنها من الحروف التى لا تختص ، فالقياس فيها أن لا تعمل ، وكأنه بذلك قدّم القياس على السماع (٤).

وعلى نحو ما نرى فى المثالين الآنفين كان تارة يبسط ظلّ القياس وتارة يقبضه غير ملتفت إلى السماع. ومما بسطه فيه دون شاهد يسنده إضافة. اسم الفاعل المحلى بالألف واللام إلى العلم قياسا على جواز إضافته إلى المعرف بالألف واللام ، فتقول الضارب زيد كما تقول الضارب الرجل (٥). ومما قبضه فيه مع عدم أخذه بالسماع مجىء مرفوعين بعد كان ، وجوّز ذلك الجمهور على أن فى كان ضمير

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ١٦١.

(٢) معانى القرآن ١ / ٤٦٥ والإنصاف المسألة رقم ٢٥.

(٣) الهمع ١ / ١٢٠.

(٤) الهمع ١ / ١٢٤.

(٥) الرضى على الكافية ١ / ٢٥٩.

٢١٧

شان محذوف هو اسمها والجملة خبرها لمجىء ذلك كثيرا على لسان الشعراء كقول بعضهم :

إذا متّ كان الناس صنفان شامت

وآخر مثن بالذى كنت أصنع (١)

وقد يقف لينصّ على أن العرب قد يغلطون ، يقول تعليقا على قراءة الحسن البصرى آية يونس : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) فى مكان القراءة المشهورة (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) بعد أن صحح قراءته : «وربما غلطت العرب فى الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز ، فيهمزون غير المهموز ، سمعت امرأة من طيئ تقول : رثأت (أى رثيت) زوجى بأبيات ، ويقولون لبّأت (أى لبيت) بالحج وحّلأت (أى حلّيت) السويق ، فيغلطون ، لأن حلأت قد يقال فى دفع العطاش من الإبل ، ولبأت ذهب إلى اللبأ (اللبن عقب الولادة) الذى يؤكل ، ورثأت زوجى ذهبت إلى رثيئة اللبن وذلك إذا حلبت الحليب على الرائب» (٢).

ولعلنا بكل ما قدمنا نكون قد عرفنا موقف الفراء من كلام بعض العرب ، فهو قد يخطّئهم. وقد يرد بعض ما سمعه منهم مؤمنا بأنه شاذ لا يقاس عليه ولا يصح طرده فى العربية. وإذن فما يتردد فى بعض الكتابات من أن البصرة كانت تخطّئ العرب بينما كانت الكوفة تقبل كل ما يروى عنهم ، حتى لربما بنت على الشاهد الواحد قاعدة غير صحيحة. وهى حقّا قد تتوسع فى القياس على نحو ما رأينا عند الفراء أحيانا من بنائه قاعدة دخول اللام على خبر كأن لشاهد واحد سمعه. ولكن ليس معنى ذلك أنها كانت تصنع ذلك بكل شاهد ، بل لقد كانت تتكاثر الشواهد أحيانا ، وترفض القاعدة والقياس على نحو ما رفض الفراء إمامها الحقيقى إعمال إن النافية. وأدخل من ذلك فى الغلط على الكوفة ونحاتها ما تحدثنا عنه فى الفصل الخاص بنشأة نحوها مما يقال عنها من أنها تعتدّ بالقراءات ، بينما كانت البصرة كثيرا ما تعدل عن هذا الاعتداد ، وقد أوضحنا هناك خطأ هذا القول وأن سيبويه والخليل جميعا لم يردّا قراءة من القراءات وأن الأخفش احتجّ فى غير موضع لبعض القراءات التى يظنّ أنها خارجة على

__________________

(١) الهمع ١ / ١١١.

(٢) معانى القرآن ١ / ٤٥٩.

٢١٨

قياس النحو البصرى ، وصوّرنا ذلك من بعض الوجوه فى حديثنا عنه ، وأشرنا إلى أن الكسائى كان يرّد بعض القراءات ولا يجوّزها وأن البصريين الذين خطّأوا بعض القراءات إنما اقتدوا فى ذلك بالفرّاء. ومن يرجع إلى كتابه «معانى القرآن» يجد الآيات التى خطّأوا القرّاء فيها قد سبقهم إلى تخطئة جمهورها الأكبر ، فهو الذى فتح لهم هذا الباب على مصاريعه. ونحن نسوق بعض ما قرأناه له من ذلك فى الجزءين المطبوعين من الكتاب ، ولا بد أن وراءه فيما لم ينشر منه مادة أخرى من هذه التخطئة.

وأول ما يلقانا به أنه سقطت فى بعض المصاحف ألف الوصل والقطع من كلمة (الأيكة) فكتبوها هكذا (ليكة) يقول : والقراء يقرءونها على التمام أى (الأيكة) (١). وكأنه بذلك ينكر قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر : (ليكة) بفتح اللام وسكون الياء وفتح التاء فى آية الشعراء (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ)(٢) وهم من أصحاب القراءات السبع المتواترة. ولا يلبث أن يقف عند قراءة حمزة بن حبيب الزيات ، أستاذ الكسائى وأحد أصحاب هذه القراءات ، للآية الكريمة : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) فقد قرأها (يخافا) بالبناء للمجهول ، وأثبت ذلك الفرّاء قائلا : «ولا يعجبنى ذلك» واستشكل عليه بأنه يترتب على قراءته أن يكون الخوف قد وقع على ضمير الاثنين وعلى (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) وكأن الفعل ليس له نائب فاعل واحد بل له نائبان ، والنحويون يوجّهون ذلك بأن عبارة (أَلَّا يُقِيما) بدل اشتمال من ألف الاثنين (٣). ووقف بإزاء قراءة عاصم ـ وهو من أصحاب القراءات السبع المتواترة ـ لكلمة (يَؤُدُهُ) بسكون الهاء فى قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) وقال إذا كان قد ظن هو ومن شاكله من القرّاء أن الجزم فى الهاء ، وإنما هو فيما قبل الهاء ، فهذا وإن كان توهما ، خطأ. وكان حريّا به أن لا يذكر هذا التوهم والخطأ لأنه عاد فقال موجها للقراءة بأن من العرب من يجزم الهاء ، أو بعبارة

__________________

(١) معانى القرآن ١ / ٨٨ ، ٢ / ٩١.

(٢) انظر تفسير أبى حيان المسمى باسم البحر المحيط ٧ / ٣٧.

(٣) معانى القرآن ١ / ١٤٥ وانظر البحر المحيط ٢ / ١٩٧.

٢١٩

أخرى يسكّنها ، إذا تحرك ما قبلها فيقول ضربته ضربا شديدا ، وكان ينبغى أن يحمل القراءة على هذه اللغة مباشرة دون تشكيك فيمن قرأوا بها وأنهم ربما توهموا خطأ أن الجزم على الهاء لا على ما قبلها (١). وقرأ القراء (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) برفع ثمود ونصبها ، ووجّه سيبويه النصب على أن أما أشبهت الفعل فثمود منصوبة بها ، أما الرفع فعلى أنها مبتدأ. ورد الفراء قراءة النصب قائلا : «وجه الكلام فى ثمود الرفع لأن أمّا تحسن فى الاسم ولا تكون فى الفعل» (٢). وكان حسبه أن يقول قراءة الرفع أفصح. ووقف بإزاء الآية الكريمة : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) وقال نصب الأرحام يريد واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ثم ذكر قراءة إبراهيم النخعى لها ـ وكان يتابعه فى ذلك حمزة ـ بالجر عطفا على الضمير المجرور بدون إعادة الجار ، وقال : «فى ذلك قبح لأن العرب لا تردّ (لا تعطف) مخفوضا على مخفوض وقد كنى عنه (أى أضمر كالهاء فى به) .. وإنما يجوز هذا فى الشعر لضيقه» (٣). وقد حمل صاحب الإنصاف البصريين مسئولية تضعيف هذه القراءة (٤) ، مع أن الفراء ـ كما رأينا ـ هو أول من ضعّفها ، وتبعه فى ذلك المبرد (٥) ، فحمل ذلك النحاة على البصريين عامة. ومرّ بنا فى ترجمة الأخفش أنه كان يصحح هذه القراءة مستمدّا منها الحكم بجواز العطف على الضمير المخفوض بدون إعادة الخافض. وعرض الفرّاء لقراءة (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) بضم الباء ، وقال إن تكن فيه لغة مثل حذر بكسر الذال وحذر بضمها فهو وجه ، وإلا فإنه أراد قول الشاعر :

أبنى لبينى إن أمّكم

أمة وإنّ أباكم عبد

وهذا (أى تحريك الحرف المتوسط بالضم) فى الشعر يجوز لضرورة القوافى ، فأما فى القراءة فلا (٦). وأنكر قراءة ابن عامر مقرئ أهل الشام للآية الكريمة : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) بالفصل بين قتل

__________________

(١) انظر معانى القرآن ١ / ٢٢٣ وراجع ٢ / ٧٥.

(٢) معانى القرآن ١ / ٢٤١.

(٣) معانى القرآن ١ / ٢٥٢.

(٤) الإنصاف : المسألة رقم ٦٥.

(٥) ابن يعيش ٣ / ٧٨.

(٦) معانى القرآن ١ / ٣١٤.

٢٢٠