تراثنا ـ العددان [ 35 و 36 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 35 و 36 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨

٢ ـ للاستشهاد على ما ذكرنا ممن قبل ، من أن في الناس من لا يروقه قول الحق وبيان الحقيقة ، وحين لا يمكنه الرد المتين المستند إلى العقل والدين ، يتفوه بهذه الكلمات ، اقتداء بشيخ إسلامه ابن تيمية المشحون منهاجه بالأباطيل والافتراءات.

٣ ـ للعلم بأن فيمن ينسب نفسه إلى السنة المحمدية ، ويزعم كونه (داعية) إليها (مدافعا) عنها (غيورا) عليها ... أناسا غير منصفين بأدنى شئ من آدابها ، وليقارن بين كتابات هؤلاء وبين كتابات الشيعة.

٤ ـ للتنبيه على أن من يفتتح ما كتبه بالتكفير والشتم والتضليل وغير ذلك لطائفة من المسلمين ... لا يستبعد منه الكذب والخيانة والتدليس في أثناء ما كتبه وخلال البحوث.

٥ ـ ولأنا سوف نعرض عن التعرض بشئ لأمثال هذه العبارات ـ وما أكثرها ـ في الكتاب.

وثانيا : إن السيد من كبار فقهاء الأمة الإسلامية ، ومن أعاظم علماء الطائفة الشيعية ، وكتابه (المراجعات) من المصادر المعتبرة لدى المسلمين حتى أن بعض علماء السنة المحققين ينقلون عنه ويعتمدون عليه ، قال العلامة الشيخ محمود أبو رية ـ من كبار علماء الأزهر المشاهير المحققين ـ في كلام له حول بعض الروايات : (وإذا أردت الوقوف على هذه الروايات فأرجع إلى كتاب المراجعات التي جرت بين العلامة شرف الدين الموسوي ـ رحمه‌الله ـ وبين الأستاذ الكبير الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر سابق) (٧).

وقد وصف الأستاذ عمر رضا كحالة السيد ومؤلفه بقوله :

(عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي. عالم فقيه مجتهد. ولد بالمشهد الكاظمي مستهل جمادى الآخرة ، وأخذ عن طائفة من علماء العراق ،

__________________

(٧) أضواء على السنة المحمدية ، ٤٠٤.

١٤١

وقدم لبنان ، ورحل إلى الحجاز ومصر ودمشق وإيران ، وعاد إلى لبنان ، فكان مرجع الطائفة الشيعية ، وأسس الكلية الجعفرية بصور ، وتوفي ببيروت في ٨ جمادى الآخرة سنة ١٣٧٧ ، ونقل جثمانه إلى العراق فدفن بالنجف.

من آثاره : المراجعات ، وهي أسئلة وجهها سليم البشري إلى المترجم فأجاب عنها. أبو هريرة. الشيعة والمنار. إلى المجمع العلمي العربي بدمشق. والفصول المهمة في تأليف الأمة) (٨).

وثالثا : قد اعترف هذا القائل في كلامه بأن أحدا من أهل السنة لم يرد على المراجعات ، فلماذا لم يردوا؟! أما كانوا يرون وجوب (تحذير المسلمين من عدوهم) على كل (داعية)؟! أو لم يكونوا دعاة كما كان هذا القائل؟!

ورابعا : قد اعترف هذا القائل في كلامه بأن هذا الكتاب قد أثر في المسلمين ، لكن قال : في بسطاء المسلمين وعامتهم!

وقال آخر : (وفي عصرنا أيضا نجد كتابا يسعى جادا للدخول إلى كل بيت (٩). رأيت طبعته العشرين في عام ١٤٠٢ ، ويوزع على سبيل الهدية في الغالب الأعم ، واسم الكتاب المراجعات. ذكر مؤلفه شرف الدين هذا الحديث بالمتن الذي بينا ضعف أسانيده (١٠) وقال : بأنه حديث متواتر. ثم نسب للشيخ سليم البشري رحمه‌الله ، شيخ الأزهر والمالكية أنه تلقى هذا القول بالقبول وأنه طلب المزيد ...) (١١).

__________________

(٨) معجم المؤلفين ٥ / ٨٧.

(٩) بل إن أبناء (البيوت) يقبلون عليه ويسعون وراء الحصول عليه وجلبه إلى البيوت. ولا يخفى ما تدل عليه كلمة أبناء (البيوت) من معنى ، منطوقا ومفهوما!

(١٠) يعني : حديث الثقلين .. وقد بينا في رده صحة قول السيد وغيره بتواتره ، فراجع كتابنا : (حديث الثقلين : تواتره .. فقه) كما سنبين ذلك هنا باختصار حين يأتي التعرض له إن شاء الله ، وقد بلغني وقوف الدكتور على الكتاب المذكور ، ولكن لم يصلني حتى الآن أي اعتراض عليه ، لا منه ولا من غيره.

(١١) حديث الثقلين وفقه ـ للدكتور علي أحمد السالوس ـ : ٢٨.

١٤٢

وقال في كتيب أسماه : (عقيدة الإمامة عند الشيعة الإمامية .. دراسة في ضوء الكتاب والسنة. هل كان شيخ الأزهر البشري شيعيا؟!) (١٢).

قال في مقدمته : (وقبل أن أختم البحث رأيت أن أشير إلى الفرية الكبرى التي جاء بها الكاتب الشيعي شرف الدين الموسوي في كتابه (المراجعات) وأن أنبه إلى براءة الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر مما نسبه إليه هذا المؤلف).

ثم قال في الصفحة ١٧٠ : (مما رزئنا به في عصرنا كتاب يسعى جادا للدخول إلى كل بيت ، رأيت طبعته العشرين في عام ١٤٠٢ ...).

وقال في الخاتمة : (ومن أكبر هذه المفتريات الكتاب المسمى (المراجعات) الذي لم يكتف مؤلفه بجعل الأحاديث الموضوعة المكذوبة أحاديث ثابتة متواترة ، بل نسب لشيخ الأزهر الشيخ سليم البشري رحمه‌الله أنه سلم بهذا وأيده. بل سلم بعقيدة الشيعة الجعفرية ، ورأى أن أتباع المذهب الشيعي الجعفري أولى بالاتباع من أي مذهب من المذاهب الأربعة).

وقال ثالث : (وأما كتاب المراجعات فقد استحوذ على اهتمام دعاة التشيع ، وجعلوه أكبر وسائلهم التي يخدعون بها الناس. أو بعبارة أدق : يخدعون به أتباعهم وشيعتهم ، لأن أهل السنة لا يعلمون عن هذا الكتاب

__________________

(١٢) اسم ضخم! ولكنه في ١٨٠ صفحة من القطع الصغير! وقد جعل عليه عنوان (هل كان شيخ الأزهر البشري شيعيا؟) ليوهم أنه سيحقق عن هذا الموضوع ، ولكن عندما تراجعه لا تجد إلا الاستبعاد! إلا أن تشيع شيخ الأزهر دليل على تحقيقه وإنصافه ، وهكذا يكون حال كل مسلم إن حقق وأنصف! كما دعا إلى ذلك السيد شرف الدين في كل ما حقق وصنف! بخلاف حضرة الدكتور وأمثاله ، المدافعين عن بني أمية اقتداء بابن تيمية! ولسان حالهم (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) والذي يؤكد ما ذكرنا في خصوص السالوس أنه يحاول إيجاد ضجة على الشيعة وأهل السنة المحققين المنصفين ـ من علماء الأزهر وغيرهم ـ الدعاء إلى التقريب بين المسلمين ، وذلك بإصدار كراريس ، أحدها في آية التطهير ، والآخر في حديث الثقلين ، وثالث في عقيدة الإمامة عند الشيعة ... والحال أن كلا منها فصل من فصول كتابته الكبير الذي أسماه ب : (أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله) فلاحظ وتأمل!

١٤٣

ولا غيره من عشرات الكتب التي تخرجها مطابع الروافض ، اللهم إلا من له عناية واهتمام خاص بمذهب الشيعة. وقد طبع هذا الكتاب أكثر من مائة مرة ، كما زعم ذلك بعض الروافض. والكتاب في زعم مؤلفه واقعة من وقائع التقارب بين أهل السنة والشيعة ، وهو عبارة عن مراسلات بين شيخ الأزهر سليم البشري ، وبين عبد الحسين هذا ، انتهت بإقرار شيخ الأزهر بصحة مذهب الروافض وبطلان مذهب أهل السنة.

والكتاب ـ لا شك ـ موضوع مكذوب على شيخ الأزهر ، وبراهين الكذب والوضع له كثيرة تعرض لبعض منها ، وقبل ذلك نشير إلى أن الروافض من دأبهم وضع بعض المؤلفين ونسبتها لبعض مشاهير أهل السنة ، كما وضعوا كتاب (سر العالمين) ونسبوه إلى حجة الإسلام محمد الغزالي.

أما مظاهر وأمارات الكتاب والوضع في هذا الكتاب فمنها :

أولا : الكتاب عبارة عن مراسلات خطية بين شيخ الأزهر سليم البشري وبين هذا الرافضي ، ومع ذلك جاء نشر الكتاب من جهة الرافضي وحده ، ولم يصدر عن البشري أي شئ يثبت ذلك.

وثانيا : أن هذا الكتاب لم ينشره واضعه إلا بعد عشرين سنة من وفاة البشري ، فالبشري توفي سنة ١٣٣٥ ، وأول طبعة لكتاب (المراجعات) هي سنة ١٣٥٥ في صيدا.

وثالثا : أن أسلوب هذه الرسائل واحد هو أسلوب الرافضي ، ولا تحمل رسالة واحدة أسلوب البشري.

ورابعا : أما نصوص الكتاب فتحمل في طياتها الكثير والكثير من أمارات الوضع والكذب.

والحقيقة المفجعة : أن هذا الافتراء يطبع عشرات المرات بأسم

١٤٤

التقريب ، ولا أحد من أهل السنة ينتبه بهذا الأمر الخطير) (١٣).

أقول :

أولا : إن كتاب (سر العالمين وكشف ما في الدارين) لأبي حامد محمد الغزالي ، صاحب إحياء العلوم. وقد نسبه ـ فيمن نسبه ـ إليه كبير الحفاظ والمؤرخين المعتمدين من أهل السنة ، ألا وهو شمس الدين الذهبي ـ المتوفى سنة ٧٤٨ ه ـ في كتابه المعروف (ميزان الاعتدال) واعتمد عليه ونقل منه ، فلاحظ الكتاب المذكور (١٤).

وعلى هذا الأساس نسبته الشيعة إليه ، فلماذا الافتراء؟! ولماذا الانكار من هؤلاء الطلبة الأصاغر المتأخرين لما يقر به أكابر أئمتهم المعتمدين؟!

وثانيا : إن هذا الذي يعترف به ـ متفجعا ـ من أقوى أدلة صحة المراجعات ، واعتبار ما تحتويه من استدلالات ، وإلا فعلماء قومه مقصرون أمام الله والرسول ومشايخ الصحابة المقتدى بهم في مذهبهم! رغم طبعها عشرات المرات كما ذكره ، ورغم أنها تدعو إلى المناظرة بصدر رحب ... كما ذكر السيد رحمه‌الله.

__________________

(١٣) مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة ٢ / ٢١٣ ـ ٢١٧ للدكتور ناصر بن عبد الله الغفاري ، وهو رسالة لنيل درجة الماجستير ، أجيزت بتقدير ممتاز! نشر : (دار طيبة في الرياض سنة ١٤١٣ ه في جزءين كبيرين.

(١٤) ميزان الاعتدال ، ترجمة الحسن بن الصباح ١ / ٥٠٠.

وممن نسب الكتاب إلى الغزالي : الحافظ الواعظ سبط ابن الجوزي الحنفي ـ المتوفى سنة ٥٨١ ه ـ صاحب التاريخ الشهير (مرآة الزمان) وغيره من المصنفات ، وله : (تذكرة خواص الأمة) الذي أورد فيه بعض ما يتعلق بأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، بأسانيده إلى النبي عليه وآله الصلاة والسلام ، ولأجله رموه بالترفض مع الثناء عليه ووصفه بالحفظ والفقه كما لا يخفى على من لاحظ ترجمته في (الجواهر المضية في طبقات الحنفية) و (الفوائد البهية في طبقات الحنفية) وغيرهما.

١٤٥

وثالثا : ما ذكره بعنوان (وبعبارة أدق ...) بكذبه قول زميله القائل : (قد أثر في بسطاء المسلمين وعامتهم) وقول الآخر : (يسعى جادا للدخول إلى كل بيت ...) على حد تعبيرهما.

ورابعا : المراجعات ليس موضوعة ، كما مر وسيأتي.

وخامسا : إن الأمارات التي ذكرها ، تعود الثلاثة الأولى منها إلى مطلب واحد سنجيب عنه في الجواب عن السؤال عن الكوارث التي منعت طبع الكتاب وضيعت نسخته. والرابعة يظهر بطلانها من خلال ما سنوضحه حول نصوص الكتاب.

السبب في تأخير طبع الكتاب :

ثم إنه قد اعترض على كلام السيد في المقدمة بأنه :

(ماذا يعني الموسوي بالحوادث والكوارث التي أخرت طبع هذه المراجعات أكثر من ربع قرن من الزمن؟ إنه سؤال لا جواب عليه ، لأن الموسوي لم يقدم لنا حادثة أو كارثة واحدة من هذه الحوادث والكوارث ، وإذا عدنا إلى كتب التاريخ التي أرخت لهذه الحقبة من الزمن التي تمت فيها هذه المراجعات المزعومة نقلب صفحاتها فلا نجد فيها ما يمنع من نشرها).

أقول :

وهذا جهل أو تجاهل. لقد أشرنا من قبل إلى أن السيد ـ رحمه‌الله ـ كان في طليعة الشخصيات الإسلامية التي قاومت الاحتلال الفرنسي للبنان ، فقد قاد شعبه في مواجهة الاحتلال ، واستخدام كافة الأساليب لها ، ووقف بصرامة يطالب خروج الفرنسيين من بلاده ، ويدعو إلى الوحدة السورية المستقلة ، فأوعز المحتلون إلى عملائهم بالتخلص من هذا القائد ، واستغلوا عميلا عربيا يدعى : (ابن الحلاج جبران) من أهالي مدينة صور ، واقتحموا دار السيد ،

١٤٦

وشهر العميل مسدسه في وجه السيد ، فركله برجله فوقع على ظهره وسقط المسدس من يده ، وتعالت الأصوات وصيحات النساء ، ففر الفرنسيون من الدار ، وتوافدت الجموع إليها من كل جانب تشتاط غضبا فأمرهم السيد القائد بالهدوء.

قال رحمه‌الله في كلام له :

(وكان من ذلك أن عزم الفرنسيون ، وعزمت ذيولهم ، أن يتخلصوا مني عن طريق الاغتيال ، لتنهار هذه الجبهة إذا خلوت من الميدان ، وفي ضحى يوم الثلاثاء ١٢ ربيع الثاني سنة ١٣٣٧ ه ، الموافق ١٤ كانون الثاني سنة ١٩١٩ م ، والدار خالية من الرجال ، أقبل فتى من رجال الأمن العام الذين أملى لهم الفرنسيون أن يشتطوا على المسلمين والأحرار من أهل الدين ، وأقبل معه رجلان من الجند الفرنسي ، وكانوا جميعا مسلحين ، فاقتحموا الباب ، ثم أحكموا أرتاجها ، ودنا الفتى العربي ابن الحلاج شاهرا مسدسه ، وهو يطلب أن أعطيه التفويض الذي كنا أخذناه من وجوه البلاد وثائق تخول الملك فيصل أن يتكلم باسمنا في عصبة الأمم.

وحين أصبح على خطوة مني ركلته برجلي ألقته على ظهره فسقط المسدس من يده ، وأتبعت الركلة بضربات عنيفة بالحذاء على رأسه ووجهه ، وعلت صيحة نسائنا في الدار ، فملئت الطريق خلف الطريق خلف الباب ، فإذا الرهبة تتولى هزيمة الجنديين وصاحبهما مخفقين ، وقد كادت الأيدي والأرجل أن تقضي عليهم ...) (١٥).

ثم إن السيد دعا إلى مؤتمر للتحاور مع رجالات السياسة والفكر ، لاتخاذ القرارات المناسبة للاستمرار بالمواجهة والسيطرة على الموقف حتى الوصول إلى الهدف ، فعقد المؤتمر في منطقة (الحجير) ومثل المؤتمرين في وفد إلى

__________________

(١٥) بغية الراغبين ٢ / ١٥٠.

١٤٧

سوريا للاجتماع مع الملك فيصل ، حتى إذا رجع وثب الفرنسيون بجيش جرار إلى جبل عامل توجه نحو قرية (شحور) لإلقاء القبض على السيد وقتله ، ...

قال رحمه‌الله :

(ومهما يكن فقد كان نصيبنا من هذه الجيوش حملة جرارة قدرت بألف فارس مجهزين بالمدافع الثقيلة والدبابات والمدرعات ، زحفت بقيادة الكولونيل (دنجير) إلى (شحور) وما كاد الفجر يتضوأ بأضوائه الندية حتى كانت المدافع الثقيلة منصوبة على جبلي (الطور) و (سلطان) المشرفين على القرية ، وهبط الجيش يتدفق بين كروم التين ، ويلتف حول القرية ، في رهبة أوحشت سكينة الفجر المستيقظ لذكر الله تعالى في مستهل شهر رمضان المبارك سنة ١٣٣٨ ، وكنت أهوم بعد صلاة الفجر بنعاس بعد تعب السفر وتعب السهر ، وكانت وصيفتنا (السعيدة) تتهيأ لصلاتها ، فأشرفت على مدخل القرية ـ وهي تتبين الصبح ـ فراعها أن ترى أن آذان الخيل تنتشر بين أشجار التين في مثل هذا البكور ، فأجفلت مذعورة ، ورجعت توقظني من نومي.

نهضت مسرعا إلى أرديتي ، وانسللت أتخطى الأزقة والمضايق ، ثم خرجت من بين العسكر وهم لي منكرون ، وتركتهم يتظننون ، وانسحبت أهبط الوادي إلى غار على شاطئ الليطاني ، كان لجأ إليه جدنا السيد صالح في محنة الجزار.

أما الجند فطفق يسأل عني ، واستوقف الصغار من أفراخي مع عمهم السيد محمد وخالهم السيد حسن ، حتى يستنطقهم والسيف مصلت فوق رؤوسهم ، ولكنهم أجمعوا على أني في دمشق ، ولما استيأسوا من العثور على تفرقوا في القرية يأكلون ويشربون ويحطمون ، ولم يغادروا (شحورا) قبل أن يحرقوا الدار ... فحكم علي بالنفي المؤبد مع مصادرة ما أملك. وقد احتلوا دارنا في صور بعد أن صيح نهبا في حجراتها ، فعظمت المصيبة وجلت الرزية بنهب المكتبة الحافلة بكتبها القيمة ، وفيها من نفائس الكتب المخطوطة

١٤٨

ما لا يكاد يوجد في غيرها. وكان لي فيها كتب استفرغت في تأليفها زهرة حياتي وأشرف أوقاتي ، فإنا لله وإنا إليه راجعون) (١٦).

ثم إنه شرد به ـ طاب ثراه ـ مع أهل وذويه إلى دمشق ، فبقي بها مدة وانتقل منها إلى فلسطين ، ومنها إلى مصر ، وهو في جميع هذه الأحوال متنكر وراء كوفية وعقال على نسق المألوف من الملابس الصحراوية اليوم ، حتى إذا قصد الهجرة إلى العراق أرسل إليه بأمان وطلب منه العدة إلى وطنه ، وكان العودة يوم الجمة ١٨ شوال سنة ١٣٣٩ ه.

والخلاصة : إنه لما يئست قوات الاحتلال من القبض عليه ، عادت فسلطت النار على داره في (شحور) فتركتها هشيما تذروه الرياح ، ثم احتلت داره الكبرى الواقعة في (صور) بعد أن أباحتها للأيدي الأثيمة تعيث فيها سلبا ونهبا ، حتى لم تترك فيها غاليا ولا رخيصا ، وكان أوجع ما في هذه النكبة تحريقهم مكتبته العامر بكل ما فيها من نفائس الكتب وأعلاقها ، ومنها مؤلفاته الكثيرة القيمة التي كانت خطية في ذلك الوقت ، والمكاتيب والمراجعات.

فهذا موجز تلك الحوادث والكوارث ، كما في مقدمته (المراجعات) وغيرها من المؤلفات ، وفي كتاب (الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين مصلحا ومفكرا وأديبا) وغيره مما كتب بترجمة السيد ، وإن شئت التفصيل فراجع (البغية) بقلمه الشريف ، فقد ذكر فيها جميع تلك الكوارث والحوادث بما فيها من خصوصيات وجزئيات ... وإليها أشار ـ رحمه‌الله ـ في مقدمة (المراجعات) ثم صرح بأن الصحف التي ينشرها الآن كلها بلفظه وخطه ...

لكن البعض لا يصدقون السيد ـ الصادق المصدق ـ فيما يقول أو لا يرون ما لاقاه وقاساه ـ مع شعبه ـ كوارث! أو يريدون إنكار تلك الجهود ، أو استنكار ذلك الجهاد ضد الاستعمار! فيذكرون للتأخير سببا من عندهم ، بوحي من

__________________

(١٦) بغية الراغبين

٢ / ١٦٣.

١٤٩

ظنونهم السيئة الفاسدة ، وأغراضهم الباطلة الكاسدة ، فيقول قائل منهم :

(والذي دفع الموسوي إلى تأخير نشر وطباعة (المراجعات) إنما هو حاجة في نفسه ، إذ أن الفترة التي كانت فيها المراجعات ، والتي اعتبرها فترة غير ملائمة لمثل هذا الأمر ، إنما تعني أواخر الخلافة العثمانية التي مهما قيل فيها فإنها تظل خلافة تدين بالإسلام وتدفع عنه أعداءه وخصومه ، وتناهض كل الفرق الضالة التي اتخذت من الإسلام ستارا لضرب الإسلام والكيد للمسلمين كالرافضة وغيرهم ، والموسوي خشي على نفسه من نشر هذه المراجعات في ظل هذه الخلافة ، لما فيها من مخالفة للكتاب والسنة وعقيدة الأمة ، الأمر الذي قد لا تسمح الخلافة العثمانية بنشره ، لذا فإنه كان ينتظر فرصة مناسبة ومؤاتية لنشره هذه الأباطيل ...

والأمر الثاني الذي دفعه إلى تأخير نشر مراجعاته : أنها مراجعات لا أصل لها ، فلا بد له من تأخيرها ، إذ لو نشرها في الوقت الذي تمت فيه هذه المراجعات لتصدى إلى تكذيبه العديد من العلماء ، لا سيما شيخ الأزهر الذي كذب عليه وقوله ما لم يقل ، فلما مات شيخ الأزهر ومات بعض أقرانه ، ونسي الأحياء منهم أمر هذه المراجعات ، وما كان فيها من وقائع وتفصيلات ، ولما اطمأن الموسوي لهذا كله سارع عندئذ لنشر أباطيله).

أقول :

لقد ذكر أمرين هما السبب ـ بزعمه ـ في تأخير نشر (المراجعات) :

أما الأول : فلا يتفوه به عاقل ، إذ الخلافة العثمانية كانت في تلك الأيام على وشك الانهيار والاضمحلال ، ولم تعد قادرة على حفظ كيانها ، على أنه كان بالإمكان طبع الكتاب ـ لولا الحوادث والكوارث ـ في غير بلاد الخلافة العثمانية ...

وعلى الجملة ، فهذا الأمر مما لا يصغى إليه ، وتضحك الثكلى به ،

١٥٠

ولعله لذا لم نجده عند غير هذا المتقول.

وأما الأمر الثاني : فقد أشار إليه غيره أيضا ، وهو مردود بما ذكرناه في بيان واقع الحال.

على أنا نسأل هؤلاء عن السبب للحقيقة المفجعة ، وهي عدم رد أحد من علماء السنة على هذه المراجعات ، لا سيما ممن نشأ في ظل الخلافة العثمانية التي كانت تناهض كل الفرق الضالة على حد زعمه؟! وعن السبب لنشر مثل هذه التشكيكات والتكذيبات ، في مثل هذه الظروف وبعد نحو الخمسين عاما على طبع المراجعات؟! وعن السبب في تأخير طبع رد أحدهم على كتاب (أبو هريرة) مدة ١٨ سنة ، أي بعد وفاة السيد بسنين (١٧)؟! ثم تبعه غيره ، يأخذ اللاحق من السابق ، فيكررون المكرر (١٨).

السبيل لتوحيد المسلمين :

وهنا يقول القائل : (إن ما يسعى إليه الموسوي إنما هو ضرب من المستحيل ، إذ أنه ، لو افترضنا الصدق فيها ، فهي محاولة للتوفيق بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر!

إن السبيل الوحيد لتوحيد المسلمين ولم شتاتهم ، وإزالة الفرقة بينهم إنما يكون بالعودة إلى الكتاب والسنة ، وفهم السلف الصالح لهما ، كما أوضح ذلك الحق سبحانه وتعالى حيث قال : (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) وكنا أوضح النبي

__________________

(١٧) كتاب : أبو هريرة راوية الإسلام ، لمحمد عجاج الخطيب ، ألفه ردا على كتاب : (أبو هريرة) للسيد شرف الدين ، فرد عليه الشيخ عبد الله السبيتي بكتاب : (أبو هريرة في التيار).

(١٨) لاحظ : دفاع عن أبي هريرة ، لعبد المنعم صالح العلي ، ثم : أبو هريرة وأقلام الحاقدين ، لعبد الرحمن عبد الله الزرعي ، وهكذا ...

١٥١

صلى الله عليه [وآله] وسلم حيث قال : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي. (أخرجه الإمام مالك والترمذي وأحمد). فهل يستجيب الرافضة لله وللرسول؟ هيهات هيهات).

ويقول آخر : (مفهوم التقريب عند هذا الموسوي هو أخذ المسلمين بعقيدة الروافض ، وهو في سبيل ذلك يضع وقائع وهمية وحوادث لا حقيقة لها ، ويزعم أنها وقائع تقارب بين السنة والشيعة لتصفية الخلاف ، ولكن لم يكن لهذه المؤامرات من أثر إلا عند طائفته) (١٩).

أقول :

إن مفهوم التقريب لدى السيد وطائفته هو التعريف بالشيعة ، وبيان عقيدتها في مسألة الإمامة ـ التي هي أعظم خلاف بين الأمة ـ وذكر شواهدها وأدلتها في كتب السنة ، والبحث والتحقيق حولها عن طريق الجدل الحق ، ثم الأخذ بما اتفق الكل على روايته ونقله في الكتب المشهورة بين المسلمين ، وعلى هذا الأساس استند السيد في (المراجعات) وغيرها من كتبه إلى ما جاء في كتب السنة من الأحاديث من طرقهم ، ومن هذا المنطلق يمكن التوقيف بين الطائفتين ، ... ولا استحالة ... وبذلك يكون قد تحقق ما أمر سبحانه وتعالى بقوله : (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ...) وإلا فإن كل طائفة ترى الحق فيما ترويه وتعتقده ، وتحكم ببطلان ما تذهب إليه الطائفة الأخرى.

فالمراد من (الرد إلى الرسول) في الآية الكريمة ، ومن (السنة) في الأحاديث الآمرة بالرجوع إليها هو : الأخذ بما ثبت صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو ما اتفق الكل على روايته بأسانيدهم.

وأما خصوص : (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله

__________________

(١٩) مسألة التقريب ٢ / ٢١٧.

١٥٢

وسنتي) فليس بحديث صادر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونسبة روايته إلى أحمد والترمذي كذب ، إذ هو ليس من أحاديث مسند أحمد وجامع الترمذي قطعا.

نعم ، رواه مالك في (الموطأ) لكن بسند منقطع! كما نص على ذلك شراحه ، كالجلال السيوطي في (تنوير الحوالك) وقد أوصله ابن عبد البر القرطبي ، لكن بسند ضعيف! وقد حققنا حال هذا الحديث المزعوم في رسالة مفردة مطبوعة (٢٠)

والخلاصة : إن السيد يدعو إلى الوئام بين المسلمين عن طريق البحث الصحيح والجدل الحق ، في الحديث والسيرة والتاريخ وغير ذلك ، لا عن طريق تناسي الماضي ، لأن هذا لو أفاد في برهة من الزمن فلا يكاد يجدي على المدى البعيد ، ولا يعطي النتيجة المطلوبة ، بل إن معنى ذلك بقاء الانطباعات عن القضايا في النفوس والأذهان ، وهذا ما يؤدي ـ بطبيعة الحال ـ إلى مضاعفات لا تكاد تقبل العلاج من أي طرف كان.

وقد عرفت السيد إلى من أهدى كتابه! وأي شئ ترجى منه!

هذا تمام الكلام حول المكابرات ، المتعلقة بمقدمة المراجعات.

للبحث صلة ....

__________________

(٢٠) مجلة (تراثنا) العدد ٢٩ ، شوال ١٤١٢ ه ، ص ١٧١ ـ ١٨٧.

١٥٣

في رحاب نهج البلاغة

(٥)

نهج البلاغة عبر القرون

شروحه حسب التسلسل الزمني

السيد عبد العزيز

الطباطبائي لقد حظي نهج البلاغة من أول يوم بعناية العلماء والأدباء ، فجلب أنظارهم واستقطب جهودهم ، فبادروا إلى روايته وقراءته وإجازته واستنساخه ومقابلته والتعليق عليه ، فلم نر في تراثنا الخالد ما يوازيه في كثرة المخطوطات القديمة ، ولا ما يدانيه أو يبلغ نصف ذلك كما تقدم الايعاز إليه.

وكذلك تناوله العلماء والأدباء بالشرح منذ القرن السادس وحتى يومنا هذا ، بحيث يتعذر أو يتعسر إحصاء شروحه جميعها ، وأول من تناولها بالإحصاء :

١ ـ المحدث النوري ـ المتوفى سنة ١٣٢٠ ه ـ فسردها في خاتمة المستدرك ، ص ٥١٣ ، فبلغت ٢٦ شرحا.

٢ ـ الحجة المجاهد السيد محسن الأمين العاملي رحمه‌الله ـ المتوفى سنة ١٣٧١ ه ـ أحصاها في أعيان الشيعة ٨ / ٢٤٥ ، فعد ٣١ شرحا.

٣ ـ وتطرق لها السيد هبة الدين الشهرستاني ـ المتوفى سنة ١٣٨٦ ه ـ في كتابه (ما هو نهج البلاغة؟) المطبوع سنة ١٣٥٢ ه فنقل ما ذكره المحدث النوري وزاد عليه فبلغ بها إلى ٤٥ شرحا.

٤ ـ ثم عبد العزيز الجواهري النجفي ، نزيل طهران ـ المتوفى بها سنة

١٥٤

ه ـ عدها في (فهرست كتابخانه عمومي معارف) المطبوع سنة ١٣٥٣ ه ، في ج ١ ص ١٤١ ـ ١٤٧ ، فلغت ٥١ شرحا.

٥ ـ ثم الشيخ ضياء الدين ابن يوسف الحدائقي الشيرازي ـ المتوفى أول رجب سنة ١٤٠٨ ه ، في ج ٢ ص ١٢٤ ـ ١٣٩ ، فأنهاها إلى ٦٦ شرحا.

٦ ـ وشيخنا الحجة الأميني قدس الله روحه ـ المتوفى سنة ١٣٩٠ ه ـ في كتابه المنقطع النظير : (الغدير) في ترجمة الشريف الرضي ، في المجلد الرابع منه ، فأنهاها إلى ٨٩ شرحا.

٧ ـ وزميلنا العلامة الشيخ عزيز الله العطاردي دام مؤيدا ، سردها في مقدمته لطبع (شرح نهج البلاغة) لشارح من القرن الثامن ، وأنهاها إلى ٨٣ ٢٥٤ ، وأنهاها إلى ١٠١ شرحا.

٩ ـ وشيخنا الحجة ، كبير الباحثين الشيخ آقا بزرك الطهراني ، قدس الله روحه ـ المتوفى سنة ١٣٨٩ ه ـ منحها ـ كالمعتاد ـ دراسة شاملة في موسوعته الخالدة (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) في ج ١٤ ص ١١١ ـ ١٦١ ، المطبوع سنة ١٣٨١ ه ، فأنهاها إلى ١٤٨ شرحا.

١٠ ـ الشيخ حسين جمعة ، المعاصر ، أفرد كتابا لدراسة الشروح ، طبع في بيروت سنة ١٤٠٣ ه وسنة ١٤١٣ ه في ١٧٢ صفحة بأسم (شروح نهج البلاغة) وأنهاها إلى ٢١٠ شرحا.

١١ ـ الشاب العراقي النبيل عبد الله المنتفكي ، له : (معجم شروح نهج البلاغة) لم يطبع بعد.

هذا ما وفقنا عليه من إحصائيات الشروح ، والمكثرون منهم ربما حصل

١٥٥

لهم بعض التكرار ، وربما عدوا بعض الترجمات المحضة شروحا ، ثم إنهم عدوا شرح خطبة واحدة كالشقشقية وخطبة همام ونحوهما من شروح نهج البلاغة ، وكذا شرح كلام واحد كشروح عهده عليه‌السلام إلى الأشتر ، أو شروح بعض الحكم وقصار الكلم عدوها من شروح (نهج البلاغة).

على أن كلا من العهد ، والحكم ، له عشرات الشروح ، ربما تبلغ المائة شرح ، وأنا لا أعد هذه كلها من شروح النهج ، وإنما اقتصر على شرح نهج البلاغة نفسه ، سواء أتمه الشارح أو لم يقدر له أن يتمه ، مبسوطا كان أو على نحو التعليق والشروح الموجزة ، وأما شرح الخطبة الواحدة ونحوها فلا أعده من الشروح.

وأنا أذكر شروح (نهج البلاغة) بشئ من البسط والتفصيل في ترجمة الشارح ، مستوعبا جوانب البحث عسى أن يكون فيه بعض المعلومات المستجدة ، ولا يكون تكرارا واجترارا ، ونظمت الشروح حسب التسلسل الزمني ، فأقول : إنهم كما اختلفوا في عدد الشروح اختلفوا في أقدمها وفي :

أول من شرح (نهج البلاغة)؟

١ ـ فقالوا : هو علي بن ناصر ، مؤلف : أعلام نهج البلاغة ـ وهو شرحه عليه ـ وهو معاصر الشريف الرضي ، فهو أول من شرحه (١).

٢ ـ وقالوا : هو الشريف المرتضى. علم الهدى ، أخو الرضي ، لما شرح الخطبة الشقشقية (٢).

٣ ـ وقالوا : بل هو الشريف الرضي نفسه ، هو أول من شرح (نهج

__________________

(١) كشف الحجب : ٥٣ ، الذريعة ٢ / ٢٤٠ و ١٤ / ١٣٩ ، الغدير ٤ / ١٨٦ ، أعيان الشيعة ٨ / ٢٤٥ و ٣٦٣ وفي الطبعة السابقة ٤١ / ٢٦٦ و ٢٦٧ ، مصادر نهج البلاغة ١ / ٢٠٣ ، طبقات أعلام الشيعة / القرن الخامس : ١٣٢ ، فهرست المكتبة المركزية لجامعة طهران ٥ / ١٦٠٦.

(٢) الذريعة ١٤ / ١٣٩.

١٥٦

البلاغة) ، حين شرح بعض الفقر خلال الخطب وفسر بعض المواد اللغوية ، فهو أول الشراح (٣).

٤ ـ وقالوا : هو قطب الدين الراوندي ـ المتوفى سنة ٥٧٣ ه ـ مؤلف : منهاج البراعة (٤).

٥ ـ وقالوا : هو ظهير الدين البيهقي ، علي بن زيد ، فريد خراسان ـ المتوفى سنة ٥٦٥ ه ـ مؤلف : معاج نهج البلاغة (٥).

٦ ـ وقالوا : هو الإمام الوبري ، أحمد بن محمد الخوارزمي ، من أعلام القرن السادس (٦).

والأول لا يصح.

لأن المؤلف من أعلام القرن السابع! فقد أرخ في كتابه (زبدة التواريخ) وفاة الأتابك أوزبك في سنة ٦٢٢ ه ، والله العالم كم عاش بعدها.

وأول من صدر منه هذا الوهم ، فزعم أن علي بن ناصر كان أول من شرح (نهج البلاغة) هو السيد إعجاز حسين الكنتوري ـ رحمه‌الله ـ ذكر ذلك في كتابه (كشف الحجب) ثم تبعه من بعده ، كصاحب الذريعة ، وصاحب الغدير ، وصاحب أعيان الشيعة اعتمادا عليه.

__________________

(٣) الذريعة ١٤ / ١٣٧ و ١٣٩ و ١٤٦ ، الأستاذ دانش بزوه في مقدمته لشرح البيهقي على نهج البلاغة : ٤٨ ، والعطاردي في مقاله عن الشراح القدامى ـ في (كاوشي در نهج البلاغة ـ : ٢٧٧ وعد ثانيهم المرتضى في : ٢٧٨.

(٤) ابن أبي الحديد في مقدمة شرحه على نهج البلاغة ١ / ٦ ، رياض العلماء ٢ / ٤٢١ ، والعطاردي في مقدمته على شرح الكيدري ١ / ١٣.

(٥) البيهقي نفسه قال في مقدمة شرحه ، ص ٤ : ولم يشرح قبلي من كان من الفضلاء السابقين هذا الكتاب ...

والمحدث النوري في خاتمة المستدرك ٣ / ٤٨٩ و ٥١٣ ، والخياباني في وقائع الأيام ، والشهرستاني في : ما هو نهج البلاغة ، والمحدث القمي في الكنى والألقاب ٣ / ٢٨.

(٦) ابن يوسف الشيرازي في فهرست مكتبة سبهسالار ٢ / ١٢٣ ، عبد العزيز الجواهري في فهرست مكتبة المعارف الإيرانية ١ / ١٤٤.

١٥٧

وإنما نشأ هذا الوهم على أثر جملة وردت في بداية الكتاب ، وذلك أن السيد علي بن ناصر ـ رحمه‌الله ـ كان قد نظم أبيات في تقريظ (نهج البلاغة) ، فأملاها على بعض تلامذته ، ضمن شرحه نهج البلاغة فكتب : قال السيد دام علوه .. وأورد الأبيات ، وحين رأى الكنتوري عند تصفحه للكتاب في نظرة خاطفة جملة (قال السيد دام علوه) توهم أنه كلام الشارح ، ويريد به الشريف الرضي ، فبنى على أنه شرح النهج في حياة الرضي ، فهو أول شراحه وهو معاصر الرضي!

ولم يتصفح الكتاب أكثر فيرى أنه يحكي فيه عن الوبري ويحكي عن الراوندي ـ المتوفى سنة ٥٧٣ ه ـ في عدة مواضع معبرا عنه بقوله : قال بعض الشارحين ...

والنص الذي يحكيه هو لقطب الدين الراوندي موجود في شرحه حرفيا ، ولربما كان علي بن ناصر أول شراح (نهج البلاغة) في القرن السابع ، فإن الوبري والبيهقي والراونديين والكيدري والماهابادي والفخر الرازي كلهم شراح (نهج البلاغة) في القرن السادس.

والثاني أيضا لا يصح.

فإن الشريف المرتضى وإن كان قد شرح الخطبة الشقشقية إلا أنه لم يثبت أنه أخذها من (نهج البلاغة) وشرح الخطبة التي في النهج ، بل هو بنفسه كأخيه كان له طرق وأسانيد إلى رواية خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ورسائله وحكمه وشعره وغير ذلك ، وكان له طرق وأسانيد إلى رواية كتب الأقدمين ممن ألف كتبا مفردة في جمع خطب أمير المؤمنين ورسائله عليه‌السلام ، كالكلبي والواقدي وأبي مخنف والمدائني وابن المديني والسيد عبد العظيم الحسني وإبراهيم الثقفي والجلودي وغيرهم (٧) فكان يرويها عن مشايخه كالشيخ المفيد مثلا بطرقه

__________________

(٧) راجع : تراثنا ، العدد الخامس ، ص ٢٧ ـ ٤١.

١٥٨

وأسانيده إلى مؤلفيها كما كان يرويها أخوه الرضي وكما يرويها الشيخ الطوسي والنجاشي في فهرستيهما (٨).

والثالث أيضا خطأ.

فإن الشريف الرضي وإن كان تكلم على بعض الفقر ، وفسر بعض الجمل ، إلا أن ذلك لا يعد شرحا على (نهج البلاغة) ، بل (نهج البلاغة) اسم لهذا الكتاب المجموع ما احتواه من خطب ورسائل ونصوص وما يتبعه من تفسير وشروح لغوية.

وهذا الوهم نشأ من تخيل أن (نهج البلاغة) اسم لخطب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما حدث مثله لابن تغري بردي في النجوم الزاهرة ، حيث ترجم لابن نباتة فقال : وكان بارعا في الأدب وكان يحفظ (نهج البلاغة) وعامة خطبه بألفاظها ومعانيها (٩).

وابن نباتة توفي سنة ٣٧٤ ه قبل أن يؤلف الرضي (نهج البلاغة) بستة وعشرين سنة ، فإنه فرغ من تأليفه في رجب سنة ٤٠٠ ه ، وتقديره أنه حفظ (نهج البلاغة) قبل تأليفه بخمسين سنة ، وهذا يتوجه بتخيل أن (نهج البلاغة) اسم لخطب أمير المؤمنين عليه‌السلام فيريد أنه كان يحفظ خطبه عليه‌السلام فعبر عنها ب (نهج البلاغة).

والرابع أيضا لا يصح.

فإن القطب الراوندي قد فرغ من شرحه على (نهج البلاغة) أواخر شعبان

__________________

(٨) راجع تراجم هؤلاء المؤلفين في فهرستي الشيخين الطوسي والنجاشي.

(٩) النجوم الزاهرة ٤ / ١٤٦ ، وابن نباتة هو عبد الرحيم بن محمد الفارقي ، ولد سنة ٣٣٥ ، وتوفي سنة ٣٧٤ ه.

ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٦ / ٣٢١ وقال : الإمام البليغ الأوحد ، خطيب زمانه ... صاحب الديوان الفائق في الحمد والوعظ ، وكان خطيبا بحلب للملك سيف الدولة ، وكان خطيبا مفوها ، بديع المعاني ، جزل العبارة ، رزق سعادة تامة في خطبه ...

أقول : والفضل كله يعود إلى حفظه لخطب أمير المؤمنين عليه‌السلام ومواعظه.

١٥٩

سنة ٥٥٦ ه ، والسيد فضل الله الراوندي والإمام الوبري وظهير الدين البيهقي فريد خراسان قد سبقوه إلى ذلك ، فقد فرغ البيهقي من شرح النهج سنة ٥٥٢ ه ، وقد شرحه بعد السيد فضل الله الراوندي والوبري ، فالراوندي ـ على هذا ـ رابع الشراح لا أولهم.

والخامس ، وهو البيهقي أيضا لا يصح.

كما عرفت ، فالوبري كان قد شرح (نهج البلاغة) قبل البيهقي ، وهو ينقل فيه عن الوبري في شرحه في مواضع كثيرة.

والسادس أقربها إلى الصواب.

وهو أن يكون الوبري أول من شرح (نهج البلاغة) كما ظهر مما تقدم.

وأل من ذهب إلى هذا القول ونبه عليه ، هو العلامة الشيخ ضياء الدين ابن يوسف الحدائقي الشيرازي (١٠).

وأنا أقول : ربما يكون أقدم الشراح وأولهم ، هو السيد فضل الله الراوندي ، إذ نعلم أنه ـ رحمه‌الله ـ رحل من كاشان إلى بغداد لطلب العلم في سن مبكرة ، وقرأ هناك على أعلامها ، ووجد بها نسخة الأصل من (نهج البلاغة) بخط المؤلف الرضي ـ رحمه‌الله ـ فنسخ عليها نسخة لنفسه وفرغ منها في ربيع الأول سنة ٥١١ ه.

ثم أخذ يعلق عليه القيود والشروح ويفسر غريبه ويوضح مبهمه ، فكان أحد الشروح المذكورة في الذريعة وغيره.

وعلى هذا يكون هذا الكتاب أقدم الشروح وأولها ، والسيد أبو الرضا الراوندي أول الشراح ، فلنبدأ به قبل الوبري

__________________

(١٠) هو من نسل صاحب الحدائق ، توفي ـ رحمه‌الله ـ في شيراز بعد عناء وبلاء أول شهر رجب سند ١٤٠٨ ذكره في : فهرست كتابخانه مدرسة عالي سبهسالار ٢ / ١٢٣ ، المطبوع سنة ١٣٥٨.

١٦٠