تراثنا ـ العددان [ 35 و 36 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 35 و 36 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨

الإسلامية؟! ووصفها ب (الأصولية) كاتهام وقذف؟!

مع أن الجماهير المقذوفة ـ من قبل العلمانية ـ بالجهل والقصور عن درك مفهوم السلطة في الإسلام ، هم يعلمون بأن النظم الحاكمة في بلاد الإسلام لا تعترف بأية خطوة أصولية ، بل هي في محاربة مستمرة لها بكل أشكال القمع والإرهاب ، بدعم من الحضارة الغربية ، ومساعدة من العلمانية وتزييفها وعبثها بالتراث وأصوله ومصادره.

وأما الناحية الثانية : فإن المؤلف أغفل المعارضة التي قامت ضد أنظمة الحكم في التاريخ الإسلامي منذ البداية وحتى اليوم ، فإن المعارضة السياسية لكل حاكم أو خليفة أو سلطان أو ملك أو رئيس أو أمير ، لم تزل تشكل جزءا مهما من تاريخ المسلمين ، ولها آراؤها ، وتراثها ، وثوراتها ، وحتى الدول التي أقاموها على أساس من نظام الحكم فيها ، فكيف يتغاضى المؤلف عن الثورات العلوية العديدة ، ووجهات نظرها التي بسطوها في عهودهم إلى المسلمين ، والتي تعد كل واحدة منها نظاما جاهزا متكاملا لأشكال الحكومة في الإسلام؟!

وهل يتجاهل المؤلف (عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر) الذي يعد وثيقة غنية وقيمة لهذا النوع من الإدارة؟! وهو النص الموجود أمام المؤلف فوزي ، لأنه يراجع (نهج البلاغة) في كتابه مكررا ، فهو من مصادره؟!

إن حركات المعارضة التي عاصرت الحكومات الإسلامية ، أثبتت وجود نظام للإسلام في الحكم والإدارة ، غير الذي جرى ويجري على أرض الإسلام ، وقد أعلنوها ثورات دموية لم تجف دماؤها ، وأوضحوا أطروحاتهم في عهودهم التي نشروها وأظهروها للمسلمين.

ولئن تمكنت السلطات من القضاء عليها ، وإخماد ثوراتهم في زمنها وخنق أصواتهم ، وإبادة تراثهم ، فإنهم لم يتمكنوا من محو آثارهم وذكرهم ، بل بقيت دلالات في صفحات التاريخ تدل على عظمة الأعمال التي قاموا بها

٦١

والنظرية التي بنوا عليها جهادهم.

كما إن العلمانية اليوم ، ورغم تناسيها وتغافلها عن كل تلك الجهود ، فإنها لا تتمكن من طمس آثارها ، وتجاهلها.

وأما موقفه من التراث ، فيكفي لإثبات ذلك كلامه السابق ، حيث نفى فيه وجود ما يدل على أن للإسلام نظاما في الحكم والإدارة ، بينما مئات المؤلفات والبحوث والدراسات ، قد كتبت وألفت حول هذا الموضوع ، وقد احتوت على عشرات الأدلة الشرعية الخاصة به ، كما استوعبت هذه المادة صفحات عديدة من كتب الفقه الإسلامي قديما وحديثا ، وقد رصد صديقنا الأستاذ الشيخ عبد الجبار الرفاعي قائمة لهذا الموضوع الهام في موسوعة (مصادر النظام الإسلامي) وقد طبع بأسم : مصادر الدراسة عن الدولة والسياسة في الإسلام ، يحتوي على أكثر من ٣٠٠٠ عنوان بحث ودراسة عن وكتاب حول الموضوع.

فهل يعقل جهل المؤلف فوزي بكل هذا؟! مع أنه يتظاهر بالمعرفة لأنه دخل في معمعة بحث (تدوين السنة) الحساس؟!

* السلطة التشريعية في الإسلام :

ويؤكد المؤلف في عرض سلبيات الحضارة الإسلامية ، على :

(أن المجتمع الإسلامي كان ـ على توالي العصور ـ خاليا من السلطة التشريعية اللازمة).

فيكرر التأكيد في ص ١٢ على :

(غياب السلطة التشريعية في المجتمع الإسلامي).

وعلى الرغم من التفاته إلى وجود عنصر تشريعي هام في الحضارة الإسلامية ، وهو (الاجتهاد) فإنه يحاول الالتفات على هذا العنصر فيقول في ص ١٥ :

(لقد نشأ عن غياب السلطة التشريعية في المجتمع الإسلامي أن

٦٢

حل الاجتهاد محل هذه السلطة ، لاستنباط أحكام للمسائل التي لم تنص عليها الشريعة).

وحاول تزييف الاجتهاد بدعواه أن :

(رجال الفقه الإسلامي لم يحصروا حق الاجتهاد بفرد أو جماعة ، وإنما أعطوا لكل مسلم حق الاجتهاد ، دون أن يكون لاجتهاد أحد صفة الالزام لأحد آخر).

وجعل الاجتهاد سببا للاختلاف في قوله :

(قد اختلفت الاجتهادات وتشرذم الناس حولها بسبب الصفة الدينية التي أعطيت لها ، ونشأ من اختلافها قيام المذاهب الفقهية التي تحولت إلى مذاهب دينية طائفية).

إن هذا الاشكال يعتمد على :

١ ـ عدم تحديد (الاجتهاد) فإذا كان هو (بذل الجهد واستفراغه للوصول إلى الحجة على ما يجب على المسلم فعله ، من خلال الأدلة والمثبتات الشرعية) فمعنى ذلك أن (المجتهدين) هم يشكلون هيئة المشرعين ، الذين يحددون القوانين التي تعتبر تشريعا في المجتمع الإسلامي.

فالاجتهاد إنما هو طريقة عمل السلطة التشريعية ، لا أنه ينشأ من غياب السلطة التشريعة كما يوحيه ..

أليست السلطة التشريعية في بلاد الغرب لا تتكون إلا من مجموعة من العارفين بالقانون والدستور ، يتداولون الأمور ، ويقررون التشريع النهائي اللازم العمل به؟!

إن (العقلية التزييفية) المسيطرة على (التيارات العلمانية) تمنعها من رؤية الحقيقة ، كما هي ، وتبعثها على تشويه ما يمت إلى الإسلام حتى لو كان (جيدا) فالاجتهاد في الحضارة الإسلامية يعد من أرقى المناهج المتبعة في التشريع ومبني على أقوى أسس المنطق السليم ، لكن يأبى المؤلف إلا أن

٦٣

يجعل منه أمرا سيئا ، فيحاول أن يجعل (عدم حصر الاجتهاد بفرد أو أفراد) نقطة ضعف ، بينما هي أكبر نقطة قوة في نظام التشريع الإسلامي ، إذ تعني أن لكل فرد من أفراد المجتمع الإمكانية في التطلع إلى هذا المقام ، إذا أمكن أن يحقق لنفسه قابلية الاجتهاد وتمكن من أن يتوصل بالجد والدراسة إلى مرتبة علمية تؤهله لذلك ، فليس الاجتهاد (تمرا) أو (سندويجا) يأكله الفرد ، وإنما هو بحاجة إلى متابعة ومثابرة حتى تحصل ملكته في عقله ونفسه.

فهل القانون الغربي يمنع أي فرد أن يدرس القانون ويترقى في مدارج المدارس القانونية ، حتى يترشح إلى المجلس التشريعي ويصير مشرعا؟! أو أن السلطة التشريعية ـ مثل أية سلطة أخرى ـ محصورة في الغرب على أفراد معينين من طبقة معينة موصوفة لا تتعداها؟!

نعم ، الإسلام لم يحصر الاجتهاد في شخص أو جماعة ، وهذه مفخرة في النظام الإسلامي ، فلا تتكون سلته التشريعية من ثلة من المتحزبين في إطار وضعي معين ، ولا يتبعون أهواءا خاصة ، بل جعل صفة (الاجتهاد) ومعرفة الأحكام من أدلتها ملاكا لقابلية الدخول ضمن السلطة التشريعية ، فهل هذا نقص حتى يعرضه المؤلف ضمن ما يتصوره على الحضارة الإسلامية من (سلبيات)؟!

وأما أن الاجتهاد ليست له صفة الالزام ، فهذا جهل ببحوث هذا الموضوع الهام في علم التشريع الإسلامي ، فالاجتهاد إليه ملزم لنفس المجتهد بلا نزاع ، ولمن يرى ذلك المجتهد أعلم من المجتهدين الآخرين ، وبالنسبة إلى الموضوعات العامة التي ترتبط بإدارة الشؤون الحكومية ، فإن الالزام حتمي فيما إذا كان المجتهد الحاكم قائما بالأمر ، بعد موافقة أهل الخبرة من المجتهدين ـ أصحاب السلطة التشريعية ـ وتعينه (وليا للأمر) ويكون حكمه نافذا ، بعد ثبوت اجتهاده ، وموافقته للأصول المقررة وعدم مخالفته للدستور الأساسي للشريعة ، ولا يجوز الرد عليه حتى من مجتهد آخر.

٦٤

إن إغضاء المؤلف عن كل هذه الحقائق ، وطرحه للاجتهاد كأن تمر يؤكل ، ليس إلا مبتنيا على غرضه في تزييفه وتهوين أمره.

وأما أن الاجتهادات اختلفت ، وتشرذم الناس ، فهل أن البرلمانات في البلدان الغربية ـ ذات الحضارة الواحدة ـ لم تختلف ، ولم تختلف شعوبها ، في كل بلد حول برلمانه ، ولم تختلف تشريعاتها حسب تعدد برلماناتها؟!

وهل لهم (تشريع) واحد؟!

ثم أن الاختلاف في المذهب الفقهي ، إنما هو ناشئ من اختلاف في وجهة النظر والفهم للمصادر ، وهو يتبع اختلاف المنهج المذهبي في تحديد تلك المصادر ومدى حجيتها ، وليس العكس كما يريد المؤلف.

فلو اتحدت الكلمة ، واتفقت الروية إلى أصول الدين ، وأصول الفقه ، لما تعددت المذاهب الفقهية أصلا ، إلا بصورة ضئيلة.

فليس الاجتهاد سببا في وجود المذاهب الطائفية ، بل المذاهب الطائفية والرؤى الفكرية المتعددة هي السبب في اختلاف المذاهب الفقهية حسب مصادر الاجتهاد عندها.

* البديل الثقافي :

ليست أية حضارة معصومة من الأخطاء والعقبات التي تعترض طريقها مهما كانت الأسس والنظريات المبنية عليها رصينة ومحكمة ، وحتى تلك المستلهمة من السنن والشرائع الإلهية ، لما هو واضح من عدم عصمة الناس القائمين على عملية التطبيق ، ما يدخل في خلال ذلك من أهواء ورغبات ، أو أخطاء وتصرفات تستند إلى السهو ، لكن الهجوم على حضارة ما ـ مهما كانت ـ وتخطئتها بالجملة ، وبصورة مطلقة ، والتركيز على سلبياتها ، والتغاضي عن إيجابياتها أمر مخالف لأبسط قواعد العدل والحكمة ، ومناف للنظرة الحيادية التي يجب أن يتمتع بهما الباحث الحيادي.

٦٥

لكن الذين استهدفوا الإسلام في عصرنا لم ينصفوه في أي جانب ، لا في ماضيه ولا حاضره ، ولا في عقيدته ولا شريعته ، ولا في تاريخه ولا ثقافته ولا تراثه ، بل تراهم يشنون الغارة تلو الأخرى على كل ما يمت إليه ، وهذا هو دليل واضع على (العقلية التزييفية) التي تسيطر عليهم ، وقد جعلت غشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم ، وفي قلوبهم مرضا هو التشكيك في كل شئ إسلامي!

ومع أن المؤرخين الغربيين يشهدون بأن الإسلام إنما جاء في عصر الظلم والظلمات الجاهلية ، ليهب الأرض العدل والنور ، وينقذ البشرية من ورطات الوحشية والجهل والرذيلة ، فوهب لها الرحمة والعلم والفضيلة ، حتى أصبح الشعب المسلم يحمل مشاعل الهدى والخير والعلم ولقرون عديدة ، ومع هذا فإن العلمانيين الجدد يتجاوزون هذه الحقيقة ، وبكل جسارة ووقاحة ، ويركزون على السلبيات التي ابتليت بها الأمة الإسلامية وعلى يد شراذم ممن دخلوا التاريخ بالتزوير ، فلا يمثلون الإسلامي في أي عنصر من إيجابياته ، ولكن العلمانية تركز على هذه الأمثلة المشوهة لتشويه صورة الإسلام والأمة الإسلامية ، وتسكت عن الأمثلة الرائعة التي تزخر بها الحضارة الإسلامي في الحكم والعلم والأخلاق.

ومن أطوار تزييفهم مقارنتهم بين (التقدم التكنولوجي) و (الثقافة الإسلامية) مع أنهما من مقولتين ، لا يمكن المقارنة بينهما ، فالثقافة الإسلامية لا بد أن تقاس بالثقافة الغربية المعاصرة ، حتى يتبين ما بينهما من التفاوت ، أما التقدم العلمي والتكنولوجي فلا يكون دليلا على التفوق الثقافي والفكري ، بقدر ما هو دليل على المثابرة على العمل واستغلال الظروف والإمكانات ، بينما ظلت الأمة الإسلامية ، وبفعل الغربيين المستعمرين وعملائهم الحكام في المنطقة ، بعيدة عن كل إمكانات العمل الجاد ، بل سد أبواب الابداع والاختراع على الشعب المسلم ، ومواجهة المبتكرين بالاستهانة ، وحتى

٦٦

التحقير والقتل والتشريد ، مما اضطر العقول الشرقية إلى الهجرة إلى الغرب لتوفر الإمكانات هناك ، وتقديرهم لكل عقل متتبع مبدع ، واحتضانه إلى حد قطع ولائه عن أهله ووطنه وانتمائه إلى شعبه ودينه!

أما بعد الحرية النسبية التي حصلت عليها البلدان الإسلامية ، فإن التقدم العلمي والتكنولوجي يتحقق بسرعة فائقة على أيدي أبناء المسلمين ، وإن إبداعاتهم تزهو ، وصناعتهم تزدهر بشكل فائق ، ولكن هل تسمح الدول الاستعمارية لها بمثل ذلك ، كلا ، فإنها تحاول بشتى الصور والاتهامات صدها وإيقاف كل محاولة من هذا القبيل ، ولو بشن الحرب ، وقصف المعامل والمصانع بأطنان القنابل ، كما حدث بالنسبة إلى العراق ، أو تسعى لفرض الحصار الاقتصادي أو العزلة السياسية لقطع السبل عن وصل البلدان الإسلامية إلى هذا الهدف ، كما تقوم بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية في إيران.

إن محاولة المؤلف تعتمد أساس تضحيل الثقافة الإسلامية والاستهانة بها ، وتشويه صورة التاريخ الإسلامي ، مقدمة للطعن في السنة ، التي هي عماد التشريع الإسلامي ، فسرد مجموعة مما تصوره (سلبيات) و (إشكاليات) لكنها ضحلة لا تعتمد على المنطق السليم ، ولا النقل الصحيح ، ولا الاستنتاج الصائب ، ومع ذلك فقد حشد في كتابه ـ بمناسبة ولا مناسبة ـ قضايا ووقائع تاريخية ، وتحدث عنها بشكل يبدو (صائبا) فيها.

إن وجود فجوات عميقة في التاريخ الإسلامي ، تخدش في الموروث الإسلامي العزيز ، وتنجر سلبياته على سمعة الدين والعقيدة والشريعة ، مما لا يمكن إنكاره ، ولكن على ماذا تدل؟ وبماذا تعالج؟ وكيف تغرض؟! ولماذا تعرض؟!

إن المسلمين ـ عامة ـ يعتقدون بالدين الإسلامي وأصوله الأساسية وهي

٦٧

التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، على أساس الاستلهام من القرآن والنبي ، ولهم مشتركات تجمعهم هي الكعبة ، وصوم شهر رمضان ، والصلاة اليومية ، والزكاة ، ولم يختلف اثنان من المسلمين في شئ من هذه (الثوابت) المسلمة وقد اختلفوا في معرفة أشياء أخرى من الإسلام ومعارفه مما يشكل الفروع العلمية ، وإن ذلك نشأ من اختلافهم في طرق الإثبات ـ كما وكيفا ـ بما لا يشكل أبدا عقبة في وحدتهم وانتمائهم الديني ، ولا في أخوتهم الإسلامية.

فطائفة كبيرة من المسلمين التزمت بأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم مرشدين لهم ، وأئمة يعرفونهم أحكام الدين ، ويهتدون بهديهم في السيرة والخلق والعمل ، لأنهم خلفاء الرسول الذين نصبهم أئمة للأمة ، وأمر بالتمسك بهم للنجاة من الضلال ، والتخلص من الانحراف عن الإسلام.

وطائفة أخرى تمسكت بسنة الصحابة لفرضهم مرشدين أمنا على هذا الدين ، وقد كانت هذه الطائفة الأكثر عددا ، والأقوى يدا ، وقد كانت السلطة على طول التاريخ بأيديهم وأيدي من وقف معهم في هذا الطريق.

ومع أن الصحابة ، لم يقل أحد بعصمتهم من الأخطاء والانحرافات ، لا عقيديا ولا فكريا ولا عمليا ، فإنهم أصبحوا في نظر الطائفة المتمسكة بهم طرقا إلى الدين ، ومن خلالهم تصل أحكامه وتفسر آياته وتعرف سيرته ، فلا بد أن يوثقوا ويلتزم برأيهم ـ أيا كانوا ومهما كان فعلهم ـ ولأنهم يمثلون المسلمين الأولين القائمين بأمر الإسلام ، فلا بد أن نلتزم بهم ، فإن التشكيك في هؤلاء يعني التشكيك في نفس الإسلام ومسلماته ، وإن رفض الصحابة ، والتجاسر عليهم ، والاعتراض على سيرة أحدهم يساوي رفض الدين كله ، والكفر بالإسلام من أصله والمساس بالمعتقدات الأساسية الثابتة كلها.

ومهما كانت أسباب هذه الفكرة ودوافعها ، ومنشأ وجودها في أنظار هذه الطائفة ، ولماذا يسوون بين الصحابة والإسلام ، فإن ثمارها واضحة ، فإن

٦٨

الحكام الذين حكموا التاريخ الإسلامي قد استغلوا هذه الفكرة لتبرير كل ما يصدر منهم من مخالفات ، وحصنوا أنفسهم ضد كل خارج أو معترض ، وضد كل محاسبة أو مسألة ، فلذلك بقيت الطبقة الحاكمة مطمئنة من أن يثور عليهم عامة المسلمين.

أما الشيعة ، الذين لم يلتزموا بهذه الفكرة ، ولم يلتزموا بما فرعوا عليها ، فإنهم التزموا بالأصول الإسلامية الثابتة ، واعتمدوا على أهل البيت النبوي طريقا إلى معرفة أحكام الإسلام ، ولم يسكتوا عن التصرفات التي كان الحكام والأمراء والولاة يقومون بها متجاوزين أحكاما ثابتة في الدين ، ولم يعترفوا لهم بحق في التعدي على حقوق الله وحقوق الناس ، وكان في مقدمة هؤلاء أئمة أهل البيت أنفسهم الذين تولوا أمر الدين ، وهم : فاطمة الزهراء ، وعلي أمير المؤمنين والحسن والحسين سبطا رسول الله ، والأئمة الآخرون ، وكذلك العلويون الذين نذروا أنفسهم للتصدي للمخالفات والخروج عن أحكام الدين.

بينما عامة الناس من الطائفة الأخرى تحافظ على عقائدهم الأساسية بالإسلام ، وإنما يجدون هم في الالتزام بسنة الصحابة طريقا لتلك المحافظة ، ويعدون تصرفات الخلفاء ـ الذين يمثلون الحكومة الإسلامية ـ أمورا وقتية ، وتصرفات خاصة ، تزول وتفنى ، ولا يبقى سوى الإسلام بأصوله وشموخه وعظمته ، وقد دأب المنظرون التابعون للسلطات في توجيه تلك التصرفات بغرز أفكار انحرافية مثل : الإرجاء ، والجبر ، والتذرع بالاجتهاد والرأي ، وغير ذلك من الأفكار الانحرافية التي تقنع الناس ، وتمنعهم من التحرك للإصلاح ، ومن أخطر ما بثوه : كفر المعارضة ، وخروجها عن الدين ووجوب التصدي لها بأسم الإسلام.

وفي نفس الوقت كان المؤمنون بالإسلام في أصوله الثابتة ومسلماته الأساسية يعارضون كل التصرفات ويفندون الأفكار الموجهة لها ، لكنهم

٦٩

يعرض البديل الحق والمتين والصادق ، وهم أئمة أهل البيت وتوجيهاتهم الرائعة ، وفقههم الناصح العادل ، وسيرتهم المجيدة وبذلك كانت تتبخر جهود المضللين بتكفير المعارضة ، وكيف تكفر طائفة يقودها أئمة أهل البيت النبوي؟! وتسوقها إرشاداتهم القيمة العادلة؟!

إن الشيعة لما عارضوا ما لم يوافق الحق من التصرفات المريبة والخارجة عن حدود الشريعة ومسلماتها ، والسيرة الفاسدة التي قام بها أناس بأسم الخلافة والحكومة الإسلامية ، لم يزيفوا إلا أعمال هؤلاء ، وكانت معارضتهم من أجل المحافظة على الإسلام وأصوله ، وجاؤا ببديل أوثق وأتقى وهم أهل البيت عليهم‌السلام.

فإذا عرضوا إشكالات التاريخ الإسلامي ، ومخالفات الخلفاء والأمراء ، فإنما هو بهدف توجيه العامة من الناس إلى الحق الصحيح مما جاء به الإسلام في أحكامه وفروعه وسيرته وتشريعه ، وتنبيههم إلى أن الصحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما تكون فضيلة ـ وما أعظمها ـ إذا لم تقترن بمخالفته فيما جاء به من أصول وفروع وسيرة ، وأن الصحابة الطيبين الذين لم يخالفوا النبي في شئ من ذلك وبقوا إلى آخر الخط على هديه وسيرته كثيرون ، لكن من خرج منهم عن السيرة الإسلامية والنبوية العادلة فلا أبقى لنفسه كرامة ، وليس له عند الله ورسوله والمؤمنين حرمة.

ولا يجوز أن يعتدي على أحد منهم ما لم يثبت تعديه هو على الإسلام.

فالمهم لكل مسلم الحفاظ على الإسلام وأصوله وهديه ، وليس لأحد حق على حساب كرامة الإسلام مهما كان ، خليفة أو صحابيا أو سلطانا أو أميرا.

وأما العلمانيون ـ ومنهم المؤلف ـ فإنهم يستغلون السلبيات التي وقعت في التاريخ الإسلامي وعلى أيدي رجال من الصحابة وغيرهم ، لضرب أصل

٧٠

الإسلام وتشويه صورته وتزييف تشريعاته ، ووسيلة إلى ضرب السنة التي هي مصدرها.

واستخدامهم لهذا إنما هو من قبيل (كلمة حق يراد بها باطل) فوقوع تلك المخالفات أمر ثابت ، لكن المسؤول عنها إنما هم القائمون بها ، لا الإسلام ولا السنة ولا التشريعات المعتمدة عليها.

فليست المخالفات سببا للهجوم على الدين بقدر ما هي وسيلة لتوجيه عامة المسلمين وتصحيح مسارهم ، وهديهم إلى الإسلام الحق والصحيح.

إن محاولة ضرب الدين بتصرفات السلاطين ، إنما هو الهدف الذي أراده السلاطين الفاسدون أنفسهم ، أمثال معاوية والحجاج وخلفاء بني أمية وبني العباس وآل عثمان ، ومن تلاهم من قواد وملوك ورؤساء الدول الإسلامية في هذا العصر.

ثم إن العلمانية التي تستهدف ضرب الإسلام بعرض هذه القضايا ، فإنما تفرغ ساحة العالم الإسلامي من أية ثقافة أو حضارة ، لتدعو إلى استبدالها بالحضارة الغربية الحديثة ، فإذا زيفت الشريعة الإسلامية ، فلا بد من تبني الشريعة الغربية ، وبذلك تتحقق مآرب عملاء الغرب في تضحيل الحضارة الإسلامية ، وتعظيم حضارة الغرب المادية محلها.

وفي نفس الوقت فإن العلمانية تكون ـ بعملها اللئيم هذا ـ قد أسقطت الأوراق التاريخية من أيدي الباحثين الذين يعرضون مآسي التاريخ الإسلامي ، لدعوة الناس إلى الإسلام ، فإن عملهم ـ وهم يحاولون تزييف الإسلام به ـ يجعلهم في نظر عامة الناس ، من المعارضين للإسلام.

ويجرون معهم ، كل من يحاول فهم التاريخ بصورة صحيحة إلى قفص الاتهام بالمعارضة الإسلامية وتزييف شريعته!

وهذا في نفسه مكسب للعلمانية ، أن تبدد مساعي الاصلاح في العالم الإسلامي ، إن لم تحظ بمأربها الأول على الأقل.

٧١

ولكن إذا كانت العلمانية فاشلة في أساليبها لتزييف الشريعة ، فهي في هذه المحاولة أكثر فشلا.

٧٢

* كلمة الختام :

فهذا كتاب (تدوين السنة) لإبراهيم فوزي ، في (عنوانه) ومؤداه ، وفي (غرضه) ومؤشراته ، قد بسطنا ما عليه من الملاحظات حيث لم يلتزم باستخدام العنوان بشكل صحيح ، ولا أدي حق العنوان بصورة علمية حيادية مجردة ، بل عرض له منحازا وبصورة غير موضوعية ، مما يثير التساؤل حول صحة النتائج التي توصل إليها ، كما إنه لم يتبع منهج التوثيق المعترف به علميا ، فكانت معاملته مع المصادر بشكل قلق يثير الريبة في صحة منقولاته وتماميتها.

وأما هدفه فقد تلخص في (تزييف الشريعة الإسلامية) والسعي في إيحاء عدم إمكان تطبيقها ، وقد استولت هذه الروح التزييفية على عقل المؤلف وقلمه ، في كل صفحات الكتاب ، فراح يتابع الإشكاليات على السنة التي تعتمد عليها الشريعة الإسلامية ، وبينما نجده يعمم بعض هذه الإشكاليات على السنة ، لكنه يخص قسم المعاملات من الشريعة بالاستهداف ، فجعلها مركزا للإشكاليات ، وتبلورت عندها النتيجة التي طلبها من كتابه كله ، وهي تزييف الشريعة وإبعادها عن حيز التطبيق ، وداعيا إلى استبدالها بالشريعة الغربية الحديثة ، حيث راح يمجد بها ويزمر لها بأنها تتفق والمبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية.

ونحن في القسم الآخر من قراءتنا هذه تصدينا لإشكالياته على السنة ، ففندناها وأثبتنا خلوها من الصحة والدقة ، وعدم مطابقتها لواقع الحال في ما تصوره عن السنة المعتمدة في الفقه ، وإنما خلطه في الهجوم على الإسلام بين أصوله وأحكامه وبين ما توصل إليه الناس وجعلوه إسلاما أو تصوروه أصلا أو حكما ، وأن المفارقات التي قرأها وعددها لا تحمل إلا على تاريخ المسلمين وليس هو يمس الإسلام بشئ ، وإنما هو صرة خاطئة في أذهان أولئك الناس كما هو في ذهن المؤلف ومن لف لفه من العلمانيين.

٧٣

ثم إن البديل الثقافي الذي اقترحه المؤلف لا يمكن أن يكون هو الشريعة الجارية في الحضارة الغربية المعاصرة ، لفراغها وتنافيها من أبسط القيم والمبادئ البشرية وسقوطها وخروجها عن أبسط قواعد المنطق والعدل ، وإن تظاهر الغربيين بدعوى حقوق الإنسان ، والحرية ، والمساواة بين البشر ، وبين المرأة والرجل ، ليس إلا إعلانا يستخدمونه ضد الأديان والشعوب الشرقية ، لتضحيل ثقافاتهم ، وتفريغهم من شرائعهم وأصول حضاراتهم المبتنية على التقاليد والأعراف الخاصة بهم ، ودفعهم إلى التبعية الحضارية للغرب المستهتر بالقيم والمبادئ ، وحقوق الإنسان والرجل والمرأة ، والمعتمد على القوة والإكراه والسطو والقهر.

إن العلمانيين ـ بمثل ما قام به المؤلف ـ ليسوا إلا أبواقا مزيفة مأجورة للدعاية الغربية ، وأيد عملية للحضارة الغربية في تزييف الإسلام وعقيدته وشريعته ، يقومون بما قام به المستشرقون من قبل بأسم الدراسات العلمية والجامعية ، وما قام به الرتل الخامس من أعمال تخريبية ضد الشعوب الأخرى ، ولكن بلسان عربي ، وبأقلام عربية ، بدعوى صلته بالإسلام من خلال دراسة مصادره وتراثه وفكره وشريعته ، وما هم إلا أجانب بعداء عن هذا الشعب وهذا الدين وهذا التراث.

إن قراءتنا هذه أثبتت زيف كل هذه الدعاوى الباطلة ، بالحياد والتجرد ومعرفة التراث الإسلامي ، بهدف تزييفه ونقده ودراسته! إن عنوان (تدوين السنة) ليس إلا قناعا يراد به السيطرة على قول القراء ، وليس محتواه إلا (تزييف الشريعة) وقطع أصولها وتسخيف أحكامها ، ولكن أخفق المؤلف في مسعاه ، لأنه لم يعرف (من أين تؤكل الكتف) كما يقول المثل المشهور.

(والله المستعان على ما يصفون).

٧٤

حكم الجمع بين الصلاتين

على ضوء المذاهب الفقهية

السيد حسن الحسيني

آل المجدد الشيرازي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العلي الحكيم المالك ، الذي هدانا إلى أكمل الأديان وأقوم المسالك ، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد المبعوث بالشريعة السمحة التي لا يزيغ عنها إلا هالك ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم نجوم الاهتداء وأنوار الحوالك.

أما بعد :

فما زالت طوائف من أهل الخلاف ، وعصائب من ذوي التعصب والاعتساف ، يشنعون على أصحابنا الشيعة الإمامية ـ أعزهم الله تعالى ـ تجويز الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير علة ويستعظمون ذلك منهم! مع كونه من الأمور القطعية الثابتة عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما سيتبين لك ذلك إن شاء الله تعالى ـ.

على أنا ـ شهد الله ، وكفى به شهيدا ـ لن نتعبد في هذه المسألة إلا بما ثبت لدينا من أدلة الشرع الشريف من الكتاب والسنة ، بما لا مبرر معه لذلك

٧٥

التهويل والتشنيع والإرجاف!

فحداني ذلك إلى جمع هذه الرسالة الموسومة ب : (إعلام أهل الملة بجواز الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير علة) ، وقد أودعتها من البراهين الجلية ما تثبت به الحجة على الخصم ، وضمنتها الجواب عن الشبه الواهية التي تشبثوا بها لمنع من الجمع.

ولا بد ـ أولا ـ من تحرير محل النزاع فنقول :

إعلم ـ رحمك الله ـ أنا معاشر الإمامية مطبقون على استحباب تفريق الصلوات الخمس في الحضر على المواقيت المعهودة ، وإتيان كل منها في وقت فضيلتها ، وكتبهم شاهدة بذلك ، وأحاديثهم في ذا الباب مستفيضة (١) ، وأن الجمع عندهم رخصة لا غير ، إلا في عصري يوم عرفة وعشاءي ليلة المزدلفة ، فإن الجمع عندهم سنة كما عليه سائر أهل الإسلام ، وإلا في عصر الجمعة ، فإن السنة عندهم جمعها مع الأولى لقيام الدليل على ذلك.

وقد خالفت فيه العامة :

فقالت : الحنفية : لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة والمزدلفة.

وأجازه الشافعي لعذر المطر ليلا كان أو نهارا.

ومنعه مالك في النهار وأجازه في الليل ، وأجازه أيضا في الطين دون المطر في الليل.

واختلفوا في عذر المرض ، فالمشهور من مذهب الشافعي والأكثرين أنه

__________________

(١) قال شيخنا الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في (الذكرى) : ١١٩ ـ : بعد كلام له في استحباب التفريق ـ : وبالجملة كما علم من مذهب الإمامية جواز الجمع بين الصلاتين مطلقا ، علم منه استحباب التفريق بينهما بشهادة النصوص والمصنفات بذلك. انتهى.

وقال صاحب (العروة الوثقى) ـ من أئمتنا المتأخرين ـ : يستحب التفريق بين الصلاتين المشتركتين في الوقت كالظهرين والعشاءين. (كتاب الصلاة ـ فصل أوقات اليومية ونوافلها ـ مسألة ٧).

٧٦

لا يجوز ، وجوزه أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ، وكذا أباحه مالك إذا خاف أن يغمى عليه أو كان به بطن.

ومن رام الوقوف على أسباب الجمع وشروطه عندهم فعليه بكتب فروعهم.

وقد دلت السنة الصحيحة الصريحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه جمع بين الصلاتين في الحضر دون عذر ، وما أراد بذلك إلا التوسع على أمته رفع الحرج عنهم ، وهذا مما اتفق أهل الإسلام على صحته ، وقد رواه الفريقان بأسانيد متعددة وطرق مختلفة.

لكن المنكرين لإباحة الجمع تأولوا تلك النصوص على غير ظواهرها  ـ كما ستعرف إن شاء الله ـ وطعنوا على أهل الحق باختيارهم جواز الجمع مطلقا.

إذا تقرر ذلك ، فاعلم أن الكتاب والسنة يدلان على حقية مذهب أصحابنا الإمامية في مسألة الجمع بين الصلاتين بقول مطلق وصحته ، وهما المرجع عند الاختلاف كما قال الله تعالى : (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) [سورة النساء ٤ : ٥٩].

دليل جواز الجمع بين الصلاتين من القرآن الكريم :

أما الكتاب العزيز فقوله عز من قائل : (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) (٢).

تقريب الاستدلال بالآية : أن الله سبحانه وتعالى قد افترض على عباده في اليوم خمس صلوات ، أربعا منها من دلوك الشمس ـ وهو الزوال على

__________________

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

٧٧

الصحيح ـ إلى غسق الليل ـ وهو انتصافه ـ ، فالظهر والعصر من زوال الشمس عن كبد السماء إلى غروبها ، وتشتركان في الوقت إلا أن الأولى قبل الثانية ، وكذا المغرب والعشاء تشتركان في الوقت من الغروب إلى غسق الليل إلا أن المغرب قبل العشاء ، وأفرد تبارك وتعالى صلاة الفجر بالذكر في قوله جل ثناؤه : (وقرآن الفجر).

فالآية دالة على وجوب الصلوات الخمس ومتضمنة لبيان أوقاتها على ما هو المعروف من مذهب أصحابنا الإمامية ، ولازم اتساع الوقت جواز الجمع كما لا يخفى على ذي درية.

وقد رووا ذلك عن باقر العلم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الصحيح.

قال عليه الصلاة والسلام : قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم : (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) أربع صلوات سماهن الله وبينهن ووقتهن ، وغسق الليل هو انتصافه ، ثم قال تبارك وتعالى : (وقرآن الفجر أن قرآن الفجر كان مشهودا) فهذه الخامسة.

وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما الصلاة والسلام في قوله تعالى : (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) قال : منها صلاتان أول وقتهما من زوال الشمس إلا أن هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه.

وهذا مذهبه ومذهب آبائه وأبنائه الطاهرين الكرام صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين ، وهم عيبة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسفن نجاة الأمة ، وعدل القرآن ، وأمناء الوحي ، فمن ذا الذي ينكر فقه هؤلاء الأمجاد؟ أم أي منصف يعرض عن مذهب أولئك الأسياد؟! فالمتعين على المسلم الانقطاع إليهم في الأصول والفروع ، لأنهم أدرى بمقاصد القرآن العظيم والذكر الحكيم ، كيف لا؟! وقد نزل الكتاب في بيوتهم ، فهم أولى

٧٨

بالاتباع من الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل المذاهب الفقهية ، لأن هؤلاء أيضا ينتهون في العلم إليهم عليهم‌السلام ، وقد أخذ الإمامان أبو حنيفة ومالك عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، وقوله : (لولا السنتان لهلك النعمان) يشهد بها الخافقان.

ولنعم القول قول شيخ الإسلام العلامة الشيخ سليم البشري المالكي : إن الأئمة الاثني عشر أولى بالاتباع من الأئمة الأربعة وغيرهم ، لأن الأئمة الاثني عشر كلهم على مذهب واحد قد محصوه وقرروه بإجماعهم بخلاف الأربعة ، فإن الاختلاف بينهم شائع في أبواب الفقه كلها فلا تحاط موارده ولا تضبط.

قال : ومن المعلوم أن ما يمحصه الشخص الواحد لا يكافئ في الضبط ما يمحصه اثنا عشر إماما ، هذا كله مما لم تبق فيه وقفة لمنصف ، ولا وجهة لمتعسف. انتهى (٣).

أخرج الصدوق ابن بابويه رحمه‌الله في (الفقيه) بإسناده عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، وجمع بن المغرب والعشاء في الحضر من غير علة بأذان واحد وإقامتين.

وأخرجه الشيخ رحمه‌الله في (التهذيب) بإسناده عن عمر بن أذينة ، عن رهط منهم الفضيل بن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وأخرج في (العلل) عنه عليه‌السلام قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر والعصر في مكان واحد من غير علة ولا سبب ، فقال له عمر ـ وكان أجرأ القوم عليه ـ : أحدث في الصلاة شئ؟ قال : لا ، ولكن أردت أن أوسع على أمتي.

__________________

(٣) المراجعات ـ للإمام شرف الدين العاملي رحمه‌الله ـ : ١٢٩

٧٩

وأخرج في (العلل) أيضا بإسناده عن عبد الملك القمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : أجمع بين الصلاتين من غير علة؟ قال : قد فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أراد التخفيف عن أمته.

وأخرج ثقة الإسلام الكليني ـ رحمه‌الله تعالى ـ في (الكافي) بإسناده عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علة ، وصلى بهم المغرب والعشاء الآخرة قبل سقوط الشفق من غير علة في جماعة ، وإنما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتسع الوقت على أمته.

وأخرج الشيخ رحمه‌الله في (تهذيب الأحكام) و (الاستبصار) بإسناده عن إسحاق بن عمار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : نجمع بين المغرب والعشاء في الحضر قبل أن يغيب الشفق من غير علة؟ قال : لا بأس (٤).

ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول :

ذكر الإمام فخر الرازي في (مفاتيح الغيب) (٥) كلاما شافيا في تفسير الآية آنفة الذكر ، قال : فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة ـ وحكاه عن ابن عباس وعطاء والنضر بن شميل ـ كان الغسق عبارة عن أول المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات : وقت الزوال ، ووقت أول المغرب ، ووقت الفجر.

قال : وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين ، وأن يكون أول المغرب وقتا للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مطلقا ، إلا أنه دل الدليل على أن الجمع

__________________

(٤) تفصيل وسائل الشيعة ٤ / ٢٢٠ ـ ٢٢٣.

(٥) مفاتح الغيب (التفسير الكبير) ٢١ / ٢٦ ـ ٢٧.

٨٠