رحلة ديللافاليه إلى العراق

المؤلف:


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

بغداد سنة ١٦١٦ م

لا بأس أن أبدأ الآن بالتحدث عن هذه المدينة التي مكثت فيها فترة طويلة واطلعت عليها جيدا فزرت معالمها وطفت بضواحيها.

ملاحظتي الأولى أوجهها إلى الذين يخلطون بين بابل القديمة وبغداد ويظنون أنهما شيء واحد كما يعتقد العوام. إن بابل القديمة كما ذكر الأقدمون تقع على الفرات وليست على دجلة حيث تقوم بغداد.

الملاحظة الثانية ان بناء بغداد وطراز عمارتها والكتابات العربية التي تقرأ في مواضع عديدة (١) منها محفورة ومنها بارزة تدل على أنها مدينة حديثة وهي من بناء العرب المسلمين دون أدنى شك يؤكد ذلك ما جاء من أخبار عنها في كتب تاريخهم.

ولعل سبب اعتقاد البعض أن بغداد هي بابل هو وجود كميات كبيرة من الآجر بحالة جيدة يعود بالأصل إلى بابل القديمة ومن بنايات كثيرة كانت قائمة وقد زالت معظم معالمها ولم يبق إلا بعض الآثار والجدران والحقيقة أنه لو حفر في أي موضع فيها ولمساحات كبيرة لعثر على كميات وافرة من الآجر الجيد والأسوار القديمة. من هنا تولدت القصة التي يرددها المسلمون إلى اليوم فيقولون إن البلاد كانت عامرة من بغداد إلى البصرة دون انقطاع ، فحدث ان ديكا فرّ من بغداد فعثر عليه في البصرة التي تبعد عن الأولى مسيرة ١٢ يوما وكان يقفز فوق السطوح من بيت إلى آخر حتى وصل إلى البصرة التي تقع على الخليج!!

__________________

(١) نوه بوجود الكتابات لكنه مع الأسف لم ينقلها إلينا ليته فعل.

٤١

من جهة أخرى ظن البعض أن بغداد هي سلوقية أو طيسفون نظرا لوجود الآثار الكثيرة في البلاد ، والقناة التي تبدأ من الفرات لتصب في دجلة عند بغداد (١) وقد توهم هؤلاء أيضا لأن سلوقية وطيسفون حسب رأيي الذي يستند على معلومات أكيدة كانتا في موضع آخر كما سأوضح ذلك عن قريب في وصف آثارهما الباقية.

يطلق الجميع ـ من عرب وأتراك وفرس ـ على المدينة اسم بغداد ، إلا الجهلة فقد دعوها بغدات وهذا خطأ واضح ؛ أما العوام في أوساطنا فقد سموها بابل كما أسلفنا.

كانت بغداد قاعدة الخلفاء. ذكرها ماركو بولو البندقي (٢) وهايتون الأرمني (٣) لكنهما شوها لفظ اسمها فقالا «بلداك» وحورها شاعرنا بترارك (٤) إلى «بلداكو».

وتقوم المدينة كما أسلفت على نهر دجلة وتقسم إلى قسمين : الأول على ضفة النهر الغربية أي من جهة بين النهرين وهو غير مسور ، أما الشطر الأكبر فيقع على ضفة النهر الشرقية ويحيط به سور.

بناء بغداد في كلا الطرفين من الطابوق القديم الجيد المشيد بدون ملاط ولكن بالطين كعادة الأتراك. لذا فعمارات المدينة ضعيفة لا تقاوم تأثيرات الزمن. وأكثر البيوت واطئة تكاد تكون بمستوى الطرقات أو أوطأ منها ، وقد عمد القوم إلى هذه الطريقة في البناء تفاديا للحر الشديد خلال فصل الصيف ، وللسبب عينه جعلوا غرف البيوت مظلمة فلم يضعوا فيها نوافذ بل اكتفوا بكوة صغيرة في كل غرفة. أما الهواء الطلق فلا يوجد إلا في الأفنية وفي غرف

__________________

(١) أظن أنه يشير إلى نهر عيسى.

(٢) سائح إيطالي (١٢٥٤ ـ ١٣٢٣) رحل إلى الشرق ووجهته الصين وقد مر بالعراق له كتاب روى فيه أخبار رحلته وهي منشورة.

(٣) لم أجد ذكرا لهذا الكاتب في المراجع المتيسرة لديّ.

(٤) شاعر إيطالي واسع الثقافة (١٣٠٤ ـ ١٣٧٤) يعد أبا الشعراء الإيطاليين.

٤٢

الديوان وهي الغرف المفتوحة على شاكلة الغرف الاسطنبولية. تتألف معظم البيوت من طابق واحد هو الطابق الأرضي وقد يكون في بعضها مرقاة في الفناء أو غرفة في طابق علوي لكنها ليست للسكنى. لهم في بيوتهم غرف تحتانية هي السراديب حيث يمضي أهل الدار في فصل الصيف معظم ساعات النهار.

في المدينة جوامع عديدة مشيدة على طراز خاص بها ، أما القصور فلا وجود لها.

يسكن الوالي في القلعة وهي بناء ، كبير جدا يقع في نهاية المدينة عند السور وتطل القلعة على النهر من جهته الشرقية وهي قلعة مكينة بالنسبة لهذه البلاد لكنها ـ حسب رأيي ـ لا تصمد للهجمات النارية في حالة نشوب حرب بمعناها الصحيح.

هناك أسواق تجارية عامرة ، وهي مغطاة كعادة معظم المدن التركية بعضها حسنة البناء تجد فيها بضائع كثيرة خاصة الأقمشة الحريرية لأنها تصنع في البلاد نفسها ، وهي للاستعمال المحلي لكني لم أجد في هذه الأسواق شيئا غريبا جديرا بالإعجاب.

تجد داخل أسوار المدينة مساحات كبيرة من الأراضي غير المشيدة ، وتنتشر البساتين بين البيوت وفيها أشجار مختلفة كالنخيل والرمان الجيد الكبير الحجم والليمون. كما يزرعون في بساتينهم الفجل وبعض الخضروات الأخرى. ويعتني بعضهم بزراعة نباتات غريبة ويعتزون بأشياء لا نهتم بها نحن كالأفيون وبعض النباتات المخدرة الأخرى (كذا!).

أرض المدينة مستوية فإذا لم تفلح وتسقى ويعتنى بها فهي لا تختلف عن أرض الصحراء ، أما إذا أهملت فترة فإنها تنبت في الحال نباتات برية كالخروب وغيره.

إن الأهالي يتعبون كثيرا بطريقة سحب الماء من النهر لأنهم لم يعرفوا طريقة الدواليب الكبيرة (النواعير) التي يعمل بها الفلاحون المصريون ،

٤٣

فطريقتهم البدائية تتطلب عددا من الحيوانات وجهدا كبيرا (١).

هواء المدينة نقي لكنه حار ، فتصور يا سيدي اننا الآن في شهر كانون الأول ولا يزال عدد كبير من الأهالي ينام في غرف الديوان المفتوحة.

في هذا الموسم نجد هنا البطيخ الفاخر لكنه ليس من إنتاج بغداد بل يجلب من الموصل القريبة من نينوى يحمل فوق نهر دجلة مع بضائع كثيرة على أرماث ليست من الخشب كالقوارب لكنها تصنع من مجموعة من الأحطاب المربوطة إلى بعضها فوق أجربة منفوخة بالهواء يطلق عليها اسم الكلك ومزية الزقاق أي الأجرية أنها تطوف فوق المياه مهما كانت ضحلة ولا تنكسر الأحطاب إذا ارتطمت بمواضع صخرية في النهر بعكس الأخشاب واستعمال الأكلاك في دجلة منتشر جدا شمال بغداد ، وهي تحمل بضائع مختلفة غالية القيمة قد يبلغ ثمنها أكثر من مئة ألف سكودو (٢) علاوة على المسافرين ، لكن الأكلاك لا تسير عكس التيار لذا فبعد ان تصل إلى بغداد تحل الأجربة وتعاد إلى الموصل عن طريق البر أو تباع في السوق لتستعمل في أغراض أخرى مختلفة.

لقد ذكر «زينوفون» (٣) في تاريخه أن جنديا من رودس اقترح على قائده استعمال الزقاق أو الأجربة المربوطة ربطا محكما إلى بعضها وشد الأحطاب عليها لعبور جماعته فوق دجلة ، فراقت الفكرة في عيني قائد الحملة لكنه لم يطبقها لأسباب حالت دون ذلك. كما ورد ذكر الأكلاك في مؤلفات الأقدمين ..

يمر نهر دجلة بالمدينة فيشطرها إلى شطرين كما ألمحت ، ويقوم على النهر جسر واحد مكوّن من مجموعة من القوارب العريضة يبلغ عددها ٢٩ ـ ٣٠ قاربا ، وعند ما يرتفع مستوى الماء فإنهم يضيفون عددا من القوارب.

__________________

(١) المعروف أن واسطة الري عند أهل بغداد كانت الكرود (جمع كرد) وكانت كثيرة منتشرة في مختلف أطراف بغداد على نهر دجلة انظر : كاظم سعد الدين : الكرود ، مجلة التراث الشعبي ١٠ (١٩٧٩) عدد ١١ ص ٨٩.

(٢) تعني لفظة سكودو في الأصل الترس وقد أطلقت على الدينار الذي فيه صورة الترس منذ عهد الرومان انظر : الكرملي : النقود ص ١٤٨.

(٣) انظر مجلة المورد ٤ (١٩٧٥) ٢ : ص ١٤٨ ؛ حملة العشرة آلاف ص ١٦٥.

٤٤

وتوجد مسافة بقدر عرض القارب الواحد تفصل بين قارب وآخر لكن الجسر مربوط ربطا محكما بسلسلة حديد. فالجسر ثابت وفي موضعين أو ثلاثة منه توجد أقسام متحركة غايتها قطع الجسر في الليل ليتوقف العبور بين الضفتين كعمل وقائي ضد الشائعات المنتشرة عن قرب هجوم الفرس من جهة ، والأعراب من الجهة الأخرى. فكم من دواه تتمخض عنها الليالي!

أما القسم الآخر من بغداد فلا سور له (يعني الكرخ) لذا فإن قطع الجسر في الليل يؤمن لأهالي ذلك القسم الاطمئنان. وفي وسط الجسر فتحة غايتها تقسيم الجسر إلى قسمين وسحبه عند الحاجة بحيث لا يبقى له أثر ؛ وهذا ما يحدث عند هبوب العواصف الهوجاء أو عند ارتفاع منسوب المياه خوفا من انجرافه مع التيار فالفيضانات تتكرر في هذه البلاد كما تحدث في مصر. وقد شقوا بعض الترع لنقل المياه إلى الأراضي المجاورة لأن الأمطار قليلة في تلك النواحي.

يحدث الفيضان مرة واحدة في السنة في شهر آب كما في مصر (١).

وذلك لذوبان الثلوج في الجبال. هذه الفيضانات الجارفة هي في رأيي السبب المباشر الذي حال دون إقامة جسور حجرية ثابتة على نهري دجلة والفرات ، لأنها بغزارتها تغمر الجسور ، وبقوتها تجرفها أحيانا. ولهذا يكتفي القوم في بغداد وفي غيرها من المدن بهذا النوع من الجسور المتحركة.

سكان بغداد مسلمون من مختلف الميول لذا يتوجب على واليها أن يحكم باعتدال كبير. وللباشا مجموعة من العساكر من أهل البلاد يسوسها بالعقل أكثر مما بالقوة.

هناك أمور عديدة لن أكتبها الآن وسأحدثك عنها فيما بعد.

لم أجد في بغداد أبنية جديرة بالاهتمام ..

[يروي السائح في الصفحات ٣٧٤ ـ ٣٧٦ حادثا مشؤوما وهو الخلاف بين اثنين من رجاله أدى إلى مقتل أحدهما في ١١ تشرين الثاني فاستطاع

__________________

(١) كلامه غريب ، لأن الفيضان يحدث عندنا اعتياديا في آذار أو نيسان ، لكننا نقلناه كما هو.

٤٥

صاحبنا ان يتلافى الأمر بالرشوة وبمساعدة جندي تركي أن يهرّب القاتل إلى أوروبا وأن يتخلص من جثة القتيل برميها في دجلة].

لم يكن في بغداد كنائس ، وحيث وجدت في البلاد التركية كان محرما دفن الأموات فيها ، فدفن الأموات داخل المدن كان ممنوعا إلا لذوي الشأن ، وكانت مقابر المسلمين في ضواحي المدينة كما كان للنصارى مقابرهم الخاصة حسب طوائفهم وطقوسهم. لأن المسيحيين وفدوا إلى بغداد منذ سنوات قليلة هربا من الحروب والقلاقل في البلاد الأخرى ، ولا توجد حتى الآن كنيسة خاصة بهم ولا يسمح لهم بإقامة الشعائر الدينية لذلك فعند ما يريدون إقامة القداس يجتمعون سرا في بيت خصص لهذه الغاية ويقام القداس حسبما فهمت من دون مذبح خوفا من السلطات التركية أن تعثر عليه فتكون العاقبة وخيمة ، وعوضا عنه يبسط أحد الكهنة أو الشمامسة يديه فتغطيان بقماش نظيف يقوم مقام المذبح (١).

__________________

(١) هذه الفقرة مقتبسة من رسالة أخرى بعثها في وقت لا حق أدخلتها هنا لعلاقتها ببغداد .. وأضيف : كان في بغداد كنائس عامرة في العهد العباسي ، مثل بيعة درتا وبيعة السيدة في درب دينار أو سوق الثلاثاء وبيعة مار توما في المحول وبيعة دار الروم وغيرها لكنها زالت تدريجيا منها بسبب الفيضانات العاتية المستمرة ، ومنها بفعل عوامل الزمن أو لأسباب أخرى لا مجال هنا لذكرها فمن شاء فليرجع إلى كتابنا : كنائس بغداد ودياراتها ؛ بغداد ١٩٩٤ ؛ كما أن المسيحيين الذين كانوا يسكنون بغداد بأعداد معقولة ويمارسون مختلف الأعمال كما يذكر ذلك المؤرخون ، وكما يشير إلى ذلك الجاحظ في رسالته الموسومة «الرد على النصارى» فإنهم رحلوا عنها تدريجيا بسبب الحروب والفتن في نهاية العهد المغولي بحثا عن أماكن آمنة في شمالي العراق وزال وجودهم في زمن الاحتلال الصفوي ، ولم يعودوا إلى بغداد إلا في مطلع القرن السابع عشر. أما الكنائس القائمة اليوم في أرجاء بغداد فأقدمها يرجع إلى القرن ١٩ إذ شيدت في منطقة الشورجة حتى عرفت باسم «عقد النصارى» ، والكنائس الأخرى شيدت في النصف الثاني من القرن ٢٠.

الأب بطرس حداد : كنائس بغداد ودياراتها ، ص ١٣٩ ـ ١٤٠ ؛ ومقالنا : السائح العاشق ، مجلة بين النهرين ٦ (٢٠٠٠) ص ٥٢٨ ـ ٥٣٢

٤٦

رحلة إلى بابل

منذ أيام وأنا أشتاق للخروج والسفر إلى بابل ، الواقعة على الفرات مسيرة يومين عن بغداد حيث كان برج نمرود والآثار الكثيرة التي قيل لي إنها لا تزال تشاهد هناك. لكني لم أذهب لأنه كانت قد انتشرت في تلك النواحي أخبار قطع الطرق والقتل من قبل الأعراب التابعين «لمبارك» (١).

يحكم مبارك حكما مطلقا في المناطق الواقعة ما بين بغداد وبادية العرب حتى الخليج ولا يخضع للسلطان العثماني بل يميل بالأحرى إلى الفرس لأنه أقرب إليهم ويرهب شوكتهم ، ولأنه يجري في أراضيه نهر ينبع من الأراضي الفارسية يخاف أن يقطعوه عنه وبالرغم من أن اسمه «مبارك» ولقبه سلطان أي الأمير الحر لكنه عند ما يسك نقوده الخاصة فإنه يضع شعار الشاه عليها إلى جانب شعاره ويفعل ذلك ـ حسب اعتقادي ـ تقربا لا إكراها.

الحرب بين الفرس والعثمانيين وشيكة الوقوع الآن ، وعلاقات مبارك مع ولاة بغداد ليس على ما يرام ، لذا نراه يحاول نشر الرعب في البلاد ويعيث في الأرض فسادا. ويستعد والي بغداد (٢) هذه الأيام للخروج على رأس حملة قوامها سبعة آلاف جندي ولا تعرف إلى اليوم غاية الحملة ووجهتها ، أهي ضد الفرس المجاورين أم لتأديب مبارك. ففي الأشهر الماضية كان قد أرسل أحد ابنائه ليحكم البصرة فكسر شوكة الأتراك.

__________________

(١) هو المولى مبارك بين عبد المطلب من أبرز المشعشعين الحاكمين آنذاك في منطقة الحويزة العربية راجع الملحق (٢).

(٢) هو الوالي يوسف باشا (١٦١٦ ـ ١٦٢١ م).

٤٧

لهذه الأسباب لم أذهب إلى بابل في تلك الأيام ، إذ كان عليّ أن أجد ما لا يقل عن مئة اعرابي لمرافقتي ، ولم يرق لي الخروج بحماية جنود انكشاريين. ثم بلغني فيما بعد أن شيئا من الهدوء قد عمّ تلك الجهات فقررت السفر.

غادرت بغداد في التاسع عشر من تشرين الثاني (١٦١٦) مصطحبا خمسة من حملة البنادق الماهرين بالرمي وهم : السيد السندري البندقي والرسام وابراهيم الحلبي مع جنديين من أتباع صديقي التركي. ورافقنا ثلاثة من الجمالين الماهرين برمي النبال من الأقواس مع مختلف أنواع الأسلحة الأخرى.

لم أشأ سلوك الطريق القصير المباشر عبر البادية بل حبا بالأمان توجهت إلى أقرب نقطة من الفرات لأسير بمحاذاته وأكون قريبا من الأماكن المأهولة فأنتقل من قرية إلى أخرى وكان معي بالإضافة إلى الجياد ثلاثة جمال لحمل الخيام والأفرشة والمؤونة ومحفة فيها سيدة نبيلة طاب لها المجيء معي ولم تبال بأخطار الطريق ولم أشأ تركها وحيدة في المدينة وسأتكلم عنها فيما بعد.

رافقنا كذلك ثلاثة من المكارين يحملون الأقواس ومختلف أنواع الأسلحة وأمضينا الليلة الأولى في قرية صديقي المسلم حيث استقبلنا رجاله.

في اليوم التالي مررنا بقرية «الرضوانية» ثم قضينا ليلتنا في قرية أخرى غير مسورة وبيوتها متناثرة لكنا كبيرة تستحق أن تسمى بلدة. جدير بالذكر أنه في البلاد التركية يطلق اسم قرية على كل المواقع التي ليست مدنا فإذا قرأت ـ يا سيدي ـ أسماء كثيرة في رسالتي فلا تعتقد بأنها كلها قرى صغيرة قليلة السكان لأن بعضها ـ في الواقع ـ واسعة مأهولة بعدد كبير من الناس وعامرة بالبضائع رغم أن بيوتها الحقيرة مشيدة باللبن وأشبه ما تكون بالأكواخ.

تعود هذه القرية الكبيرة إلى «محمود باشا» الذي تسنم ولاية بغداد مرتين (١) فانتهز الفرصة وكون لنفسه أملاكا كثيرة لذا لقبوه باسم «جيكال

__________________

(١) لونكريك : أربعة قرون ، ص ٥٣ ؛ وفي «دليل خارطة بغداد» للاستاذين د. مصطفى

٤٨

أوغلي» أي ابن الصرصور (١) وهو ابن ذلك الصرصور اللعين الذي كان قبطان البحر. وتسمى هذه البلدة «المحمودية» نسبة إلى محمود باشا ؛ ويفضل البعض تسميتها «الجديدة» لحداثة بنائها (٢).

مررنا في اليوم الثالث بقرية خربة اسمها «زوبية» (Zeobia) وبعد منتصف النهار وصلنا إلى نهر الفرات فأخذنا نسير بمحاذاته هناك ظهرت أمامنا جماعة من المسلمين بالبنادق والأقواس وغير ذلك كانوا نحو ثمانية أشخاص أو عشرة وكانوا ممتطين صهوات جيادهم وإذا بهم يتجهون صوبنا فتهيأنا للقتال إذ ليس من الفطنة في هذه النواحي الانتظار للتحقق من غاية القادمين ، فأشعلنا فتائل البندقيات وجمعنا العباءات والعمائم الكبيرة وغير ذلك من الألبسة الفضفاضة فوضعناها تحت أنظار السيدة المرافقة لنا التي أظهرت روحا قتالية عالية أعجبتني كثيرا فهي لم تخف البتة بل وقفت تراقبنا عند المحنة دون رهبة. أما الحيوانات فقد جمعت وراءنا واصطف حملة البنادق واستعد أصحاب الأقواس أمامهم وهكذا تحركنا لمناجزة القادمين. فلما اقتربنا قليلا جرى حوار بيننا فعلمنا أنهم جنود من بغداد فزال الغضب والتحفز وتبادلنا أطراف الحديث واستمعنا إلى آخر الأنباء ثم قالوا إنهم اعتقدوا أننا من أتباع مبارك حين رؤيتهم ألبسة الرسام وجمال القافلة لأن أولئك يسافرون دائما على الجمال. ثم افترقنا فسارت كل جماعة في طريقها. وأمضينا تلك الليلة في خان عند النهر يدعى «خان المسيب» كان بناؤه جيدا وله جدران عالية أشبه بالقلعة وقد شيد في وسط البادية لراحة المسافرين فهو مكان أمين.

__________________

جواد ود. أحمد سوسه : ذكر توليه مرة واحدة ص ٢٨٨ ؛ ولم يرد اسمه في كتاب «بغداد مدينة السلام» لكوك ، ترجمة د. مصطفى جواد وفؤاد جميل ٢ : ٢٤٦ (انظر الملحق ٣ من هذا الكتاب).

(١) جيكال تعني : زيز ، جدجد ، صرار الليل وهو على شاكلة الصرصور يقف على الأشجار في ليالي الصيف ويصدر صوتا خاصا : دوزي : تكملة المعاجم العربية نقله إلى العربية وعلق عليه د. محمد سليم النعيمي ٥ : ٣٩٩.

(٢) العزاوي : تاريخ العراق بين احتلالين ٤ : ١٦٣.

٤٩

لا يعطى المسافر في الخان إلا غرفة خالية ، وقد لا يعثر على غرفة فتبقى أمام المسافر أروقة الخان لا غير ، المهم أنه تحت سقف. ولا يدفع المسافرون

٥٠

أجرة لقاء النزول في الخان لأنه شيد من قبل الحكام لراحة المسافرين ، أو حبا للخير ولوجه الله من قبل بعض الأفراد. أما خانات المدينة وهي كثيرة فإنها تستوفي أجرا بسيطا ويعطى في بعضها للبواب شيء يسير عند تسليمه مفتاح الغرفة. وعلى المسافر النازل في الخان أن يجهز نفسه للطعام والأفرشة وغير ذلك إذ لا وجود للمطاعم في تلك البلاد ، ولا أعلم سببا لذلك. لكني أعتقد أن الناس في هذه الأطراف يقنعون بالقليل والمسافرون هم عادة فقراء يكتفون بالخبز والتمر وما شابه ذلك ويفترشون الأرض ويلتحفون بألبستهم نفسها أما المسافرون الأغنياء فإنهم يعدون «البلاو» (١) وهو الرز ويضيفون إليه اللحم إذا أمكنهم الحصول عليه فإن لم يجدوه أضافوا قليلا من السمن إليه وزيادة إلى ذلك يشربون القهوة ويدخنون التبغ (٢) ويحملون فراشا بسيطا وبعض الأواني للطبخ وخيمة ويشدون كل ذلك على حمار صغير يسير أمامهم فهم يختلفون عنا نحن الإفرنج إذ أننا ننشد الراحة في الأسفار والفراش الوثير والألبسة المتنوعة ويطيب لنا أكل الدجاج والبيض والفواكه لدى توفرها رغم أن هذه الأمتعة الكثيرة تتطلب مزيدا من الدواب لحملها. وعند النزول في مكان ما أرسل بعض رجالي إلى القرى المجاورة للبحث عن الطعام وما أشبه والحياة رخيصة جدا فمبلغ يسير يكفي لحياة رغيدة. لقد استهوتني هذه الحياة والعيش في الخيام فهي أفضل بكثير من تناول الطعام في مطاعمنا حيث يقوم على الخدمة أناس قذرون يقدمون الأكل في آنية وسخة تتقزز منها النفس ، أما طبخهم وفراشهم فالله وحده يعرف حالتها ، وأما صياح المكارين عندنا وصراخ المسافرين فيجعلون النوم مستحيلا ورهين إرادة الآخرين كما أن التكاليف عندنا أكثر بكثير مما هي عليه في هذه البلاد.

دعنا من هذا الكلام ولنعد إلى موضوع رحلتنا ففي اليوم التالي غادرنا «خان المسيب» منذ الصباح الباكر وعند منتصف النهار رأينا من بعيد عن يسارنا

__________________

(١) هو الرز المطبوخ ولا يزال بعض المتقدمين في السن يستعملون هذه اللفظة.

(٢) هذا أقدم ذكر لاستعمال التبغ في العراق انظر : يعقوب سركيس : مباحث عراقية ٢ : ١٤٥.

٥١

بلدة فيها مسجد يقال له «أبو القاسم» فهو مدفون هناك ولذا يحظى المكان بإكرام المسلمين وهو من أقارب علي وسمي الموضع باسمه.

٥٢

ثم عرجنا على خان للنزول فيه ويقع قرب قلعة مهملة تسمى «خان البير» في اليوم التالي وهو ٢٣ تشرين الثاني رحلنا مع الفجر فوصلنا إلى خرائب بابل قبل منتصف النهار بساعة فنصبنا الخيام وجلسنا لتناول الغداء بهدوء قبل زيارة الأطلال.

وصف آثار بابل

تجولت بين الآثار وطفت بها من مختلف أطرافها ، وصعدت فوق أعلى موقع ، ودخلت في كل مكان ونظرت كل شيء وأعدت النظر. وهذه هي انطباعاتي عن مشاهداتي :

في وسط سهل واسع جدا على بعد نصف ميل من الفرات الذي يجري غربا في ذلك الموضع نرى إلى اليوم فوق سطح الأرض بقايا بناء عظيم آل إلى الخراب يكوّن مجموعة هائلة ، لا يظهر أكان هكذا منذ الأول كما أظن شخصيا أم أن الخراب جعله هكذا فبان بصورة تل. مهما يكن فهو لا يشير إلى شيء. إنه مربع الشكل له مظهر البرج أو الهرم ، أوجهه تقابل جهات الأرض الأربع. ويبدو لي أن القسم الممتد من الشمال إلى الجنوب هو أطول قليلا من القسم الآخر الممتد من الشرق إلى الغرب ، ولعل الخراب فعل ذلك. يبلغ طول محيطه الكلي نحو ألف وخمسمائة خطوة تقريبا أي ما يقارب النصف ميل.

إن هذا القياس إضافة إلى الموقع وشكل البناء يتفق مع ما كتبه «سترابون» في وصف الهرم المشيد على ضريح «بيلوس» ومع ما ورد في الكتاب المقدس (١) باسم «أرض نمرود» في بلاد بابل كما يطلق عليها إلى الآن.

كيف كان هذا البناء الجميل في وقته؟

إن هيرودوتس (٢) الكاتب والمؤرخ القديم يصفه بدقة فيقول ، إن البناء

__________________

(١) يعتمد صاحبنا في كثير من أخباره على التوراة ، وهنا ينوه بما جاء في سفر التكوين ١٠ و ١١.

(٢) مؤرخ يوناني شهير (نحو ٤٨٠ ـ ٤٢٥ ق. م) يلقب بأبي التاريخ.

٥٣

كان فيه ثمانية أبراج الواحد فوق الآخر وهو بناء متراص تحيط به مرقاة خارجية للصعود (١).

أما «سترابون» فإنه لا يذكر المرقاة ، ولا يتوقف لوصف جمال البناء لأنه يضيف بأن البناء قد خرب قبل عهد «أحشويرش» (٢) ولما قدم «الإسكندر الكبير» (٣) قرر إعادة البناء لكن موته المفاجىء حال دون تحقيق رغبته (٤).

يلاحظ أن تلول الخرائب الظاهرة حاليا لا تقدم أية إشارة إلى بناء سابق أو مدينة كبيرة كانت قائمة ، كل ما هنا لك بعض الأسس والجدران المائلة التي تشاهد على بعد خمسين أو ستين خطوة من التل. أما البقية فهي أرض مستوية ولا توجد بقايا أبنية فوق الأرض ما عدا التل الكبير ، بالرغم من أننا نعرف كم كانت عظيمة أبنية بابل ... مهما يكن فهذا تأثير الزمن الذي يخرب كل شيء.

فقد مضى على بناء المدينة أربعة آلاف سنة أو أقل من ذلك قليلا. وما يظهر الآن على قلّته أدهشني فعلا. ألم يذكر «ديودورس الصقلي» وهو مؤرخ قديم أن الآثار الماثلة على عهده كانت نزرة جدا؟

إن ارتفاع التل الأثري عن سطح الأرض يختلف هنا وهناك لكنه أعلى من أي قصر من قصور نابولي وليس له شكل محدد خاص لأنه خراب ففيه قسم مرتفع وآخر بالعكس وفيه قسم منحدر وآخر منبسط وبالإمكان الصعود إليه.

كما تظهر عليه آثار انحدار مياه الأمطار ، ولا أثر فيه لمرقاة للصعود أو باب للدخول ، وإذا ما تسلقت إليه تجد بعض الكهوف المنهارة التي لا تفصح على أصلها وهي حسب اعتقادي تختلف عما كانت عليه بالأصل ولعل هذه المغارات من عمل أهل البادية حفروها للالتجاء إليها ، وبالرغم من أن البدو يهابون المكان ولا يقتربون منه لاعتقادهم بوجود «هاروت وماروت» فيه (٥) ، وهذان ـ في

__________________

(١) انظر الوصف في كتاب «مقدمة في تاريخ الحضارة القديمة» تأليف طه باقر ، ص ٥٧٠.

(٢) ملك الفرس (٤٨٥ ـ ٤٦٥ ق. م) ابن داريوس.

(٣) الاسكندر المقدوني (٣٥٦ ـ ٣٢٣ ق. م) من أشهر القادة والفاتحين.

(٤) قدم الاسكندر إلى بابل سنة ٣٣١ ق. م.

(٥) سورة البقرة ١٠٢.

٥٤

اعتقادهم ـ ملاكان أرسلهما الله لتفقد الأرض واستطلاع أخبار البشر ، ـ كما يتناقلون ـ وقعا في حب امرأة التجأت إليهما ليعدلا بينها وبين زوجها ، فطلبا منها أمرا فاحشا ، فوافقت بشرط أن يلقناها الدعاء الذي بقوته ينتقل الملائكة صعودا ونزولا بين السماء والأرض حسب رغبتهم ، فأفشيا السر ؛ وما ان تعلمت الكلمات الضرورية حتى تلفظت بها في الحال وحلقت إلى السماء تاركة الملاكين في قنوط ، فعاقبهما الرب على ميولهما نحو الحرام وأبقاهما سجينين في المغارة ببابل ، وهما معلقان بشعرهما حتى يوم الحشر ، ولا أعلم أهما معلقان بشعر الحواجب أم بشعر الأهداب ... يا لها من خرافات!

لنعد الآن إلى خرائب البرج. إن المواد المستعملة في البناء هي أغرب ما في المكان لقد فحصتها جيدا وضربت المعول في أكثر من مكان فكسرت بعض القطع فإذا بكل ما أمامي آجر كبير الحجم وسميك مصنوع من الطين المجفف في الشمس ومبني بالطين أيضا إذ لا أثر للملاط فيه. لكنهم رغبة بتقوية البنيان أضافوا بين صفوف اللبن خليطا من القصب المسحوق والتبن بصورة حصران وفي بعض صفوف البناء وخاصة في الأماكن التي هي ركائز مهمة لتحمل الثقل فقد وضعوا آجرا مفخورا بنفس الحجم السابق ، وهنا استعملوا الملاط الجيد والقار ، لكن كمية اللبن هي أكثر بكثير من الآجر المفخور. وقد طاب لي أخذ نماذج من مختلف أنواع الآجر والحصران والقار ليطلع عليها الآثاريون ، وسأحملها معي إلى إيطاليا.

ولقد ورد ذكر استعمال القار في البناء عوضا عن الملاط في هذه البلاد في مؤلفات «جيوستينو» (١) في كتابه المعنون «مختصر تروكو» في سياق كلامه عن بنايات «سميراميس» لكن الكتاب المقدس نفسه في أثناء ذكره لهذا البرج والمدينة يعتبرها من عمل «نمرود» (٢). أما المؤرخون المدنيون فإنهم يعزون

__________________

(١) مؤرخ لاتيني من ابناء المئة الثانية اشتهر بمختصر التاريخ العام لمؤلفه «تروكو بومبيو» المعاصر للامبراطور أغوسطس.

(٢) يشير إلى سفر التكوين ١ : ٨ وما يليه و ١١ : ٣.

٥٥

البناء إلى «بيلوس» لذا لخص «بيللارمينو» (١) الفكرة في كتابه الذي طبع منذ وقت قصير ـ وقد اطلعت عليه في اسطنبول ـ فقال إن نمرود هو بيلوس نفسه.

وهكذا نرى سترابون وهيرودوتس يسميان الموضع «ضريح بيلوس» بينما تدعوه التوراة برج بابل ونمرود.

لقد طلبت من الرسام ان يرسم منظر بابل فانكب على العمل حالا ورسم لوحتين فيهما التل الأثري من جهتين بحيث يظهر في آخر الأمر من مختلف جهاته.

__________________

(١) روبرتو بيللارمينو (١٥٤٢ ـ ١٦٢١) لاهوتي ايطالي من الرهبنة اليسوعية.

٥٦

الحلة

انتهينا من زيارة بابل ، وكان لدينا متسع من الوقت في ذلك النهار فقررت زيارة مدينة من هناك تسمى «الحلة» لا يذكرها الجغرافيون الغربيون بالرغم من أنها أهم بلدة في ربوع بابل. فسرنا إليها وقد عزمت المبيت فيها ، فالنزول فيها خير من البقاء في العراء. فوصلنا إليها في وقت صلاة العشاء وقبل أن نصلها رأينا مسجدا على الطريق يطلقون عليه اسم «مسجد الجمجمة» (١) لأنه أقيم في موضع عثروا فيه على جمجمة أحد الأولياء.

أمضينا اليوم التالي في الحلة الواقعة على نهر الفرات وتتكون من قسمين على عدوتي النهر ، وفيها جسر من القوارب كجسر بغداد عدد قواربه ٢٤ قاربا.

بيوت الحلة شبيهة ببيوت بغداد ، مشيدة باللبن القديم وهي واطئة البناء وليس فيها إلا الطابق الأرضي وفي البيوت حدائق عامرة بمختلف أنواع الأشجار المثمرة خاصة النخيل ، ونظرا لارتفاع هذه الأشجار وكثافتها فقد أرسلت ظلالها على البلدة كلها فالناظر إليها من بعيد لا يرى سوى غابة نخيل واسعة.

الحلة بلدة كبيرة ، وفيها قلعة صغيرة لكنها قوية تقع على النهر ، كما توجد فيها أسواق عامرة بعضها حسنة البناء والطراز لكنها مظلمة جدا. يحكم المدينة «سنجق» يخضع لباشا بغداد.

كانت بعض البساتين جميلة حقا عامرة بالحمضيات ومختلف الأشجار

__________________

(١) جاء في كتاب : الاشارات إلى معرفة الزيارات ، للهروي : «مدينة الحلة بها مشهد الجمجمة يقال إنها خاطبت عيسى ابن مريم (ع) ويقال علي بن ابي طالب (رض) والصحيح ان عيسى ابن مريم لم يدخل العراق ...» دمشق ١٩٥٣ ص ٧٦.

٥٧

الأخرى. وذكر لي أن أحد البساتين من أملاك بعض النساء وهن بنات أحد الولاة المتوفين.

لم أجد أبنية جديرة بالإعجاب أو آثارا قديمة لكن المنطقة الواقعة على الفرات بأكملها قديمة وقد قامت بعد انقراض بابل.

لقد ذكر الأهالي خبرا لم أفهمه في بادىء بدء لصعوبة تفاهمي بالعربية فلم أعره انتباهي وقد تأسفت جدّا بعد فوات الأوان. لقد أخبروني أنه على مسيرة نصف نهار من الحلة في طريق يختلف عن الطريق الذي سلكته يوجد قبر «حزقيال النبي» ويفد إليه اليهود سنويا للتبرك به (١) ويقع على نهر كوبار أو كابور ـ كما يلفظه العرب حاليا ـ المذكور في الكتاب المقدس في سفر حزقيال (٢) ويتدفق النهر في أرض بين النهرين من منبع شهير يسمى «رأس العين» ثم يصب في الفرات. كم كان هذا الموضع جديرا بالزيارة فصاحبه من الأنبياء العظام ولأن مثواه حسب شهادة «سفر الشهداء» (٣) هو أيضا قبر سام وارفكشاد (٤) من أجداد سيدنا إبراهيم. أنه سوء حظي الذي حرمني من هذه الزيارة المهمة.

غادرت الحلة ضحى الخامس والعشرين من تشرين الثاني ، وأمضينا الليل في «خان البئر» المار ذكره حيث نزلنا في طريق الذهاب ، وقد هرع عدد كبير من البدو رجالا ونساء لرؤيتنا عند سماعهم بوجود إفرنج بين ظهرانيهم فأعددنا لهم «البلاو» وهكذا أمضوا مساء مرحا معنا ثم عادوا إلى خيمهم.

__________________

(١) يشير إلى ناحية الكفل المعروفة ، قال الحموي : معجم البلدان ١ : ٥٩٤ «بر ملاحة بالفتح والحاء مهملة موضع في أرض بابل قرب حلة دبيس يقال لها القسونات فيها قبر حزقيل المعروف بذي الكفل يقصده اليهود من البلاد الشاسعة للزيارة».

(٢) يسمى في الكتاب المقدس «نهر كبار» (حزقيال ١ : ١ و ٣).

(٣) يدعى «سفر الشهداء الروماني» وهو كتاب يضم اسماء الشهداء والأولياء النصارى منذ أقدم العصور النصرانية وهو مقسم على أيام السنة وما يذكره المؤلف يرد في الكتاب المذكور بتاريخ ١٠ نيسان (العدد : ثالثا).

(٤) سفر التكوين : الفصل ١٠.

٥٨

عدنا إلى بغداد في الطريق المباشر عبر الصحراء إذ رأيت ليس من الفطنة أن أتنقل من مكان إلى آخر ومعي هذا العدد الكبير من الحاشية ، فأمضينا الليلة الثانية في خان يقع قرب قلعة غير مأهولة يدعى «خان النص» لأنه يقع في منتصف الطريق بين الحلة وبغداد ومن عادة العرب أن يسموا المواقع بأسماء الآبار ومنابع المياه لأهميتها وهذه عادة قديمة نرى أثرها في الكتاب المقدس.

بعد يومين من حلولنا في هذا المكان سمعنا أن شرذمة قوية من الأعراب أغارت على قافلة هناك أو بمقربة من ذلك المكان فنهبتها ومن حسن حظي ـ فضلا عن أني لم أر أحدا من هؤلاء ـ أن لقيت أحد كبار قواد بغداد كان قدم إلى هنا قبلنا بأمر من الباشا ومعه مائة فارس ونيف ليستميل شيخا ويصحبه إلى بغداد ، وهو من رؤساء العرب أو أن شئت فقل هو أمير من أمرائهم كما أظنه شخصيا كان من أصدقاء الأتراك اسمه «ناصر بن مهنا» ليرافقه إلى بغداد فيخرج مع الوالي إلى الحرب (١) وقد أكثر قائد بغداد من فرسانه مبالغة في تعظيم هذا الشيخ وهكذا سرنا مطمئنين إلى بغداد فوصلناها في ٢٧ تشرين الثاني بعد زيارة موفقة لبابل (٢) لم تدم فرحة هذه الزيارة الناجحة فقد بلغني خبر من اسطنبول عن طريق حلب مفاده أن السلطة كانت غاضبة على الإفرنج. ولم تكن الأخبار واضحة.

فمن رسالة وردتني من السفير الفرنسي في اسطنبول يفهم ان الحكومة صبت جام غضبها على الرهبان فأعدمت راهبا من الفرنسيسكان (٣) وزجت في السجن الرهبان اليسوعيين (٤) ثم خرجوا بعد ذلك سالمين بعد أن افتداهم

__________________

(١) انظر الملحق رقم ٤.

(٢) يعقوب سركيس : قشعم في التاريخ (مباحث عراقية ١ : ٩٣ ـ ٩٤) وقد أورد الباحث في مقاله هذه الفقرة الأخيرة من الرحلة.

(٣) النسبة إلى مؤسس الرهبنة فرنسيس الأسيزي (١١٨٢ ـ ١٢٢٦ م) ولا تزال هذه الرهبنة قائمة ومنتشرة في أقطار عديدة.

(٤) رهبانية أسسها القديس أغناطيوس دي لويولا سنة ١٥٤٠ لا تزال قائمة ومنتشرة في بلاد العالم.

٥٩

السفير الفرنسي حسبما فهمت ، فهم تحت حمايته لأن الباليوس أي القنصل البندقي لا يهتم بهم. ويقال إن الأتراك اكتشفوا علاقة هؤلاء ببعض أمراء الغرب (١) وعلى أثر ذلك أمر السلطان أن يدفع الإفرنجة العائشين في ولاياته الجزية كما يدفعها النصارى من أهل البلاد وهذا تدبير جديد لم يعمل به أبدا من قبل لأنه يضرب عرض الحائط كل معاهدات السلام مع أصدقائه أمراء الغرب ... ولعل الاستعداد للحرب ضد الفرس والحاجة الماسة إلى المال كانا من وراء هذا التدبير ... كما يجب أن لا نغفل قلة الفطنة عند بعض الإفرنج في تصرفاتهم مع الأتراك .. لقد تأسفت جدا لما حدث لأني تركت عند اليسوعيين صندوقا فيه أوراقي الخاصة وملاحظاتي التي سجلتها في اسطنبول وهي ملاحظات ثمينة تعبت جدا في جمعها وفيها رويت مستهل رحلتي ومشاهداتي في اسطنبول ومقتل نصوح باشا وملابسات مقتله وغير ذلك (٢).

سلوقية وطيسفون

أعود إلى موضع رحلتي لأتحدث عن سفرة أخرى قمت بها في ضواحي بغداد. فقد أخبرني بعض اليهود بوجود آثار ترجع إلى عهد «نبوخذنصر» لكنهم كانوا على خطأ حسب رأيي فالآثار أحدث عهدا مما يزعمون.

في الثالث من كانون الأول (١٦١٦) سرت إلى تلك المنطقة مع أهل بيتي كافة يرافقنا رجل تركي واحد وإذ كان الموضع الذي نسعى إليه يقع على نهر دجلة إلى الجنوب من بغداد فقد ركبنا قاربا توخيا للراحة والأمان. فالسفر في البر غير أمين نظرا للاضطرابات السائدة. وبينما نحن ننحدر مع النهر رأينا

__________________

(١) هامر : تاريخ الامبراطورية العثمانية ٨ : ٢١٩ ـ ٢٢٨.

(٢) تسنم نصوح باشا مناصب عديدة منها ولاية ديار بكر وبغداد (١٦٠٨ م) وصاهر السلطان (هامر ٨ : ٢٠٧) واستقام في الوظائف العالية وقتل في رمضان ١٠٢٣ ه‍ وسبب قتله ظلمه وتعاليه وقيل اكتشاف ميوله إلى الفرس (هامر ٨ : ٢١١) ذكر الرحالة ترجمته في الجزء الأول : ٥٦ ـ ٥٧ ؛ انظر أيضا المحبي : خلاصة الأثر ٤ : ٤٤٨.

٦٠