رحلة ديللافاليه إلى العراق

المؤلف:


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

التي أرسلها إليك عن رحلتي وتعمل على تنظيمها ، ولا بأس أن تعيد النظر فيها ، وعند عودتي نضعها في صياغتها النهائية.

أما القصائد التي نظمتها وأرسلت بعضها فلا ضرر من إضافتها إلى الكتاب ، ولكن لا بد ان تنوه في قصيدتك بالسفينة التي أبحرت بي إلى الشرق واسمها «الدلفين الكبير» فلها منزلة عظيمة في نفسي (١) فبها بدأت رحلتي الشرقية .. لقد أعددت صورة لها أضيفها إلى اللوحات التي سأحملها عند عودتي.

وبالسنبة لرحلاتي فأنا في منتصفها الآن ، وستكون رحلتي القادمة إلى أصفهان في بلاد فارس ، فهي هدف رحلتي الشرقية ولي أمل كبير بأن أكملها بعون الله. ومن هناك انتقل إلى مادي وأرى قزوين وأزور البلاط حيثما يكون وأطلع على مختلف الأشياء الغريبة ثم أعود إلى بلادي إما عن طريق تركية أو أي طريق آخر. وقد انتهت الاستعدادات اللازمة للسفر إلى أصفهان ، فاشتريت خمسة عشر بغلا وأكثر لأنها ضرورية للذهاب إلى هناك ، ولأن الجمال غير مجدية في تلك الطرق. لكن ما يؤخرني إلى الآن هو خبر انتشر في هذه الأيام مفاده أن الحرب قد اشتعلت على الحدود. لأن حاكم تلك المنطقة بلغه عن والي بغداد أنه أبعد بعض القوات الغربية التي كان يستخدمها فطردها من الولاية ، فاستغل الفرصة وخرج في الحال على رأس خمسة آلاف أو ستة وتوغل في الأراضي التركية فعاث فيها فسادا. وعلى أثر ذلك يستعد والي بغداد ليخرج إليه بنفسه ولذلك ترك جانبا الحملة التي كان يعدها ضد الأعراب.

مهما يكن من أمر فالطرق المؤدية إلى غايتي كثيرة ، وسأسلك الطريق الذي لا قتال فيه ولعل قعقعة السلاح تصمت بعض الوقت فأنتهز الفرصة للعبور.

بلغ تحياتي إلى الأصدقاء كافة كتب في بغداد في اليوم العاشر من كانون الأول ١٦١٦.

__________________

(١) لبى صديقه هذا الطلب فنظم قصيدة في السفينة المذكورة أدخلها في مقدمة الرحلة (طبعة ١٨٤٣).

٨١

ملحق الرسالة

لقد ركبت الشياطين رؤوس الفرس فعاثوا في الأرض فسادا ، وخربوا بلدة كبيرة على الحدود اسمها «مندلي» تبعد عن بغداد مسيرة ثلاثة أيام فاستولوا على قلعة صغيرة مبنية باللبن ، وفتكوا بأكثر الجنود الذين كانوا فيها ، وأسروا عددا من الناس ، وسرقوا أموالهم ، ولا يعرف بالتأكيد هل تركوا البلدة أم بقوا فيها وقووا مفارزها.

وبعكس ما كان يشاع في بغداد من قبل فإن الوالي لم يخرج إلى الحرب بنفسه بل أرسل ابنه يقود الحملة ، وقوام جيشه نحو خمسة آلاف أو ستة جمعوا على وجه السرعة. كما أرسل مع الحملة ذلك الشيخ أو الأمير العربي الذي نوهت به أعلاه. وكان معه خمسمائة فارس من أتباعه (١) لذلك توقفت عن المسير قافلة التجار العرب التي كانت على أهبة السفر إلى بلاد فارس وستبقى هنا بضعة أشهر تنتظر عاقبة الأمور.

أما أنا فقد عيل صبري وأريد العودة إلى إيطاليا في أسرع وقت. لذا قررت الذهاب إلى أصفهان واتفقت مع بعض المكارين الفرس العائدين إلى بلادهم من دون قافلة. سنكون نيّفا ومائة من المسلحين جيدا بيننا خمسة عشر من حملة البنادق. ولعلنا نسافر يوم غد نحو تلك الجهة. إني راحل ولا أهاب شيئا بالرغم من قلة عددنا ... وأملي وطيد أننا لن نصاب بأذى.

ملاحظة أخيرة

.. ستصلك صورتي التي رسمت في بغداد وأنا لابس الزيّ المحليّ. أرجو أن تعرضها على الأصدقاء كافة ، وعلى سيدات الأسرة لكي يضحكوا قليلا على لحيتي الغريبة التي سينتهي أمرها بعد أيام عندما أدخل الحدود الفارسية وستبقى الشوارب فقط على عادة تلك البلاد.

كتب في بغداد ٢٣ كانون الأول ١٦١٦.

__________________

(١) يشير إلى الشيخ ناصر بن مهنا الذي تكلم عنه سابقا.

٨٢

الرسالة الثامنة

عشرة بغداد في ٢ كانون الثاني ١٦١٧

«كان من المقرر أن أغادر بغداد عشية عيد الميلاد ، كما كتبت إلى سيادتكم وذلك برفقة بعض التجار الفرس الموجودين هنا والذين قرروا العودة إلى ديارهم. فلما رأوني عازما على السفر بالرغم من نشوب الحرب ، اتفقنا على الرحيل سوية. وكان للمكارين الذين اتفقت معهم على السفر رسائل توصية من الوالي تسمح لهم بالمرور. كما كان لي بعض الأصدقاء المسلمين في الجبهة باستطاعتهم إرسال بعض الجنود برفقتنا بضعة أيام. لكن التجار الفرس تأخروا في إعداد لوازم السفر فاضطررت إلى الانتظار حتى اليوم فأنا على أتم الاستعداد للرحيل ، وقد نقلت خيامي وأمتعتي خارج المدينة وسأقضي هذه الليلة في البيت لأرحل عند أية إشارة تبدر من أولئك الرجال ، ولعل ذلك يتحقق اليوم أو غدا أو بعده. مهما يكن فلن يطول الانتظار.

في هذه الأيام الأخيرة التي أمضيتها في بغداد ، وقعت في يدي بعض الأشياء الجديرة بالاهتمام ، ويطيب لي أن أشارك سيادتكم بالاطلاع عليها ، ولذلك حررت هذه الرسالة المختصرة وسأبعثها مع نماذج قليلة من الأشياء التي سأذكرها الآن.

أول هذه الأشياء هي جذور عطرة ولقد كسرتها إلى قطع لأضعها داخل الظرف ويوجد منها أنواع متباينة في الغلظ. ويقول العارفون بالعقاقير والأفاوية أن الحجم الطبيعي يكون كالراوند (١) ومصدر هذه الجذور من بلاد التتر فإن أولئك القوم يأتون إلى هنا حاملين المسك ويسمى هنا السنبل الخطوي والنسبة إلى خطا (٢) ليميز عن سنبل الرند ولهما رائحة مشابهة ، وقد بدأ استيراد هذا السنبل إلى بغداد منذ سنتين فقط ووصل منه إلى حلب ، وانتشر في البلاد العثمانية لكنه لم يصل بعد إلى إيطاليا حسب اطلاعي ويستعمله القوم

__________________

(١) انظر الملحق (٧) أيضا.

(٢) أبو الفداء : تقويم البلدان ص ٥٠٤ ـ ٥٠٥.

٨٣

هنا بحرقه مع التبغ فإن له رائحة طيبة وطعما لذيذا. وقد استعمله أحد أصحابنا البندقيين إذ خلطه مع صابون الغسيل فحصل على نتيجة حسنة ويضعه بعضهم في صندوق الألبسة فيعبقها بشذاه. فعليك يا سيدي أن تبحث في مؤلفات الأقدمين لنرى مدى معرفتهم به.

أرسل لك شيئا آخر هو «الفستق الناعم» الذي يختلف عن الفستق العادي حجما ولونا لكنه يشبهه بالطعم وينمو في ماردين والموصل ويسمى بالعربية «البطم» (١) ويلوث بالملح من أجل إدامته وقد أرسلت لك منه ولم أتحقق إن كانت مملحة أم لا ، تذوقها بعد كسرك القشرة طبعا!

كما أرسل أيضا ثلاثة من أنواع الطين المنتشر في بغداد ويستعمل للاستحمام فيزيد من طراوة الجسم والشعر وإني متأكد من مفعوله الحسن وقد دعاه قدماء اللاتين «طين الشعر» ونوه به «بيلونيو» لكنه لم يصف إلا نوعا واحدا.

أما النماذج التي أرسلها إليك فالأول وهو أجودها ومصدره البصرة ، ويميل لونه إلى الخضرة ويسمى «طين البصرة».

الثاني أحمر اللون ويأتي من بلاد الكرد لذا يسمى «كيل كردستان». ان هذين النوعين يزيدان من طراوة الجلد ويجملان الشعر خاصة طين كردستان. وقد جربت شخصيا هذين النوعين فأعجبت بفعلهما حقا خاصة الطين الثاني فهو جيد للغاية ، ولا يذهب أي إنسان يحترم نفسه إلى الحمام إلا ومعه كمية من هذه الطينة. ويستعملها البعض بسحقها ونقعها بالماء كما هي على طبيعتها بينما يعتني آخرون بإعدادها وذلك بعجنها مع الورد أو العطور المختلفة أو المياه المعطرة ثم تكور إلى كتل صغيرة وتحفظ لوقت الاستعمال.

النوع الثالث هو الطين المستخرج من ضفاف دجلة في بغداد نفسها ولذا يسمى «طين الشط» وهذه الطينة لا تختلف باللون عن غرين الأنهار الأخرى كالتيبر مثلا لكن مفعولها أحسن من غيرها وقد أخبرني الحلاق إن هذه الطينة

__________________

(١) يختلف البطم عن الفستق فهو أصغر حجما ويشبه الحبة الخضراء المنتشرة في شمال العراق ؛ أوراق شجره صغيرة وتحتوي على مادة التربانتين (المنجد).

٨٤

تقضي على الحشرات التي تعشعش في شعر الرأس واللحية.

أرسل لك أخيرا لحاء شجرة لا يختلف بالشكل والحجم عن الدارصيني لكنه أثقل وزنا وأثخن مادة وتسمى هذه القشرة «ديرم» ويكثر أهل بغداد رجالا ونساء من استعمالها والنساء بصورة خاصة لتنظيف الأسنان. يكسرون قطعة منه بالظفر أو بالأسنان وينقعونها بالماء أو باللعاب حتى تلين فتتبين مزايا الديرم الرائعة في تنظيف الأسنان وتقوية اللثة.

لم أعلم من أية شجرة يؤخذ هذا اللحاء ومن أين مصدره. قال لي بعضهم إنه لحاء شجرة الجوز .. فإن صدقوا في كلامهم فالحصول عليه هين حتى في بلادنا حيث تنمو أشجار الجوز. بينما قال آخرون إنه يأتي من الهند عن طريق البصرة. وادعوا أنه والمسواك شيء واحد. وبعد بحثي في المعاجم العربية رأيت ان المسواك هو كل خشب يستعمل لتنظيف الأسنان عادة. على كل لا أعلم ماهية الديرم بالضبط ، كل ما أعلم أنه جيد لتنظيف الأسنان (١).

لقد طفت في الأسواق باحثا عن القاقلة فوجدت ان العرب المعاصرين يبيعون عادة عند هذا الطلب ما يسمونه «حماما» ولا أعرف كنه هذه العطاريات إذ لم أقرأ عنها في كتب الأقدمين فلا أعلم أهي القاقلة الحقيقية أم لا ، فعليك يا سيدي ان تتحرى عنها وها أنا أرسل لك نوعين من هذه العطاريات التي تباع هنا. النوع الأول منهما يطلق عليه العارفون بهذه الأشياء اسما خاصا هو «حماما ياقوتي» أي قاقلة ياقوت. وياقوت هي جزيرة في المحيط الشرقي حيث يكثر الياقوت أو بالأحرى الياقوت الزعفراني ، فهم يطلقون على كل هذه الأنواع اسم ياقوت. أنا شخصيا لا أعرف بالضبط طبيعة هذه العقاقير. إنها

__________________

(١) الديرم : القشر الأخضر لثمر الجوز تدلك به شفتا المرأة. انظر : عزيز جاسم الحجية بغداديات ٢ : ١٥ ، بغداديات ١٩٦٨ ؛ والمسواك أغصان صغيرة من أشجار طيبة الرائحة كالقم والسمر والسواك والأراك وغيرها ، وخير المساويك ما اتخذ من شجر الأراك لتطهير الفم وجلي الأسنان والمسواك من سنن المسلمين. انظر : البيهقي ، أحمد بن الحسين : السنن الصغرى ، بغداد ١٩٨٨ ، ج ١ : ٢٧ ـ ٣٠ ؛ د. محمود الحاج قاسم محمد : دعوة للعودة إلى السواك ، بغداد ٢٠٠٠.

٨٥

بالنسبة إليّ أعشاب يابسة لا غير وهكذا صارت لأنها أتت من مكان بعيد ومضى زمان طويل على قطفها.

أما النوع الثاني فله اسمه الخاص وهو «عين الحمام» لأن البذر الذي يباع في الأسواق يشبه عين الحمام ، ولا أعرف بالضبط ماهيته ، لكنه بالتأكيد بذور بعض الأزهار ، وهذا ما يتيسر في الأسواق بهذا الاسم.

وقد بحثت باجتهاد لأحصل على القرفة وكان أملي الحصول عليها بسهولة استنادا إلى ما قال لي طبيب يهودي نقلا عن كتاب «لابن سينا» حيث ذكر ان ما نسميه القرفة يسميه العرب «قصبة الذريرة» أو «الذريرة» وأكد لي الطبيب المذكور إمكانية الحصول عليها في بغداد فطلبت منه كمية للاطلاع عليها ، فإذا بها لا تطابق ما كنت أعتقده لأن قصبة الذريرة الموجودة في بغداد هي عبارة عن عيدان تأتي من إحدى مدن الهند المسماة «ديو» وتستعمل كدواء لتخفيف حرارة الجسم ويطلقون عليها هناك اسم «كرياتا» وهذه العيدان مرّة الطعم جدا فهي ليست القرفة أبدا.

لست خبيرا يا سيدي بالأفاوية والعقاقير ، لكن بعضهم أخبرني أن قصبة الذريرة التي نحن بصددها موجودة في إيطاليا.

عرفت مؤخرا أن المعدن الذي لاحظته في البداية عند الفرات وقلت إنه أبيض اللون يسمى هنا «البورق» ويستعمله القوم لطلاء سقوف الدور وجدرانها بعد حرقه وسحقه جيدا ونظرا لثقل وزنه فلم أرسل لك منه نموذجا لكني سأحمل كمية قليلة منه كما سأحمل قليلا من الطلق الذي تستعمله النساء في هذه البلاد بعد سحقه جيدا فيرشن على الشعر أو على أقنعة الرأس ليزيد من إظهار بهاء اللون الأسود فهو يعطي انطباع اللون الفضي ولهذا السبب يطلقون عليه اسم «ماي الفضة» بالرغم من كونه مسحوقا وليس سائلا. إن استعماله قديم فقد ذكر «تريبيليو بوليون» (١) إن الامبراطور «كالينو» (٢) كان يرش على

__________________

(١) مؤرخ لاتيني من أبناء المئة الثالثة بعد المسيح.

(٢) امبراطور روماني (٢٦٠ ـ ٢٦٨ م) أديب وفيلسوف ضعيف الشخصية مات مقتولا.

٨٦

شعره مسحوق الذهب كالنساء!

وأخيرا لا بد من كلمة بخصوص «الهيل» فنحن لا نعرف إلا نوعا واحدا منه في إيطاليا بينما يميز أهل هذه البلاد نوعين منه يسمى الأول «القاقال الكبير» لكبر حجمه طبعا والثاني «القاقال الصغير» وهذا أكثر انتشارا وهو من النوع الذي يصل إلى إيطاليا بينما يعتبر النوع الأول نادر الوجود ولم أعثر عليه هنا ... وليتأكد سيدي بأنه سيحصل عليه.

لقد عرضوا علي «القسط» لكنه من النوع المتوفر في البندقية وفي إيطاليا عامة حسب قول العطار البندقي ، فهو ليس من النوع النادر المطلوب. فليعذرني سيدي ، لأني أكتب إليه بسرعة ، فالمكارون والخدم يحيطون بي والناس في هرج ومرج ، ولا أعلم كيف استطعت كتابة هذه الأسطر!

تحياتي الحارة!

كتب في بغداد في ٢ كانون الثاني ١٦١٧

٨٧
٨٨

القسم الثاني : في بلاد فارس (*)

الرسالة الأولى

أصفهان ١٧ آذار ١٦١٧

يطيب لي سرد بعض الأخبار عن رحلتي من بغداد إلى هنا ، وسأرسل كتابي هذا مع رجل مسافر إلى إيطاليا في الطريق البري ، وهكذا سيصل إليك كتابي بأسرع وقت ، لكن ضيق وقتي لن يسمح لي بإطالة الكلام فسأختصر!

غادرت بغداد في اليوم الرابع من السنة الحالية ١٦١٧ (كانون الثاني).

كان الفرس قد شنوا الحرب على الأتراك قبيل عيد الميلاد فجردوا حملة على منطقة بغداد ودمروا بلدة كبيرة اسمها «مندلي» ولكي يتجنب الوالي مزيدا من الخراب أعدّ جيشا قوامه سبعة آلاف أو ثمانية آلاف من رجاله أرسله لمحاربة الفرس. وعلى أثر ذلك توقفت القوافل بين البلدين ولم يتجرأ التجار من مسلمي بغداد على السفر. لكن بغداد كانت بحاجة إلى بضائع كثيرة تأتيها عبر بلاد الفرس مما أجبر الوالي على ترك الحدود مفتوحة رغم الأذى الذي لحق به وهو بعمله هذا يستفيد أولا من ضرائب المكوس ويستفيد ثانيا أنه يزود المدينة بما تحتاج إليه من بضائع لذا كان يشجع القوافل على السفر ويقدم لها التسهيلات ويعدها بالأمان.

فلما كنت عازما على السفر وأعلم أن بلاد الفرس صديقة لبلدي من دون

__________________

(*) إن هذا القسم وإن كان خاصا بإيران فإننا ترجمنا ما رأيناه مكملا لأخبار الرحلة ومفيدا لتاريخ العراق.

٨٩

شك ، لذلك انتهزت الفرصة واتفقت مع مكاري فارسي كان آنذاك في بغداد وكان مشتاقا للعودة إلى أهله فاستحصل على إذن من الوالي للمرور بأمان له شخصيا ولمن معه من أفراد وأموال إضافة إلى قواص من قبل الباشا يرافقنا على حسابنا إلى الحدود ويقينا تحرشات الجنود.

لقد نال المكاري ما طلب بسهولة ورأيت الفرصة سانحة لي للغاية فقررت السفر ضمن القافلة الصغيرة التي أعدها الرجل من أشخاص قليلين وحددنا موعد السفر يوم الرابع من كانون الثاني. لكن عشية ذلك اليوم ظهر أن بعض نصارى بغداد ممن يتبعون حساب التقويم القديم (١) الذي لم يخضع للإصلاح والتبديل الذي أجراه البابا غريغوريوس الثالث عشر (٢) يحتفلون بالأعياد بعدنا بعشرة أيام ، وكان ذلك اليوم حسب تقويمهم ٢٤ كانون الأول أي ليلة عيد الميلاد ، لذا اجتمع أقارب السيدة معاني وصديقاتها ليسهروا معها ويحتفلوا بالمناسبتين أي : بعيد الميلاد ومناسبة رحيلنا وطبقا لعاداتهم فإنهم أوقدوا نارا في فناء الدار (٣) وشرع الصبيان يقفزون فوقها كما نفعل نحن في روما في عيد القديسين بطرس وبولس (٤) وأشعلت بعض الفتيات شموعا عسلية من تلك النار وحملت كل صبية شمعتها فترة من الوقت إلى أن تعبن فوضعن الشموع على المنارة وبقيت مشتعلة طوال الوقت واهتمت كل فتاة بملاحظة شمعتها والاعتناء بها لأنهن يعتقدن أن الشمعة التي تنطفىء أثناء الحفلة تدل على سوء الطالع وما شاكل ذلك من الخرافات وإذا انطفأت شمعة الفتاة فلن تجد فتى أحلامها.

__________________

(١) انظر الملحق رقم (٩).

(٢) غريغوريوس الثالث عشر بابا روما (١٥٧٢ ـ ١٥٨٥).

(٣) لا تزال عادة إيقاد النار معروفة عند المسيحيين ويطلق عليها نار الرعاة أو شعلة عيد الميلاد ؛ نرسيس صائغيان : نظرة في عادة إيقاد النار ليلة عيد الميلاد ، نشرة الأحد ١١ (١٩٣٢) ٨٢٣.

(٤) يقع هذا العيد في ٢٩ حزيران من كل سنة حسب الطقس الروماني.

٩٠

مغادرة بغداد

كنت قد صرحت بأني ابن تاجر بندقي معروف في تلك الديار ، وفي نيتي السفر إلى هرمز لأن الذهاب إلى هناك غير ممنوع. لكن الوالي ساوره الشك في أمري ، فأنا إفرنجي وقد كثرت التساؤلات عن شخصي بواسطة بعض رجاله ، لذلك لم أنشر خبر سفري لأن توجست شرا وخفت أن يلقى القبض عليّ. فطلبت من المكارين أن يسبقوني إلى خارج المدينة ويجتمعوا عند أسوار القلعة. وبعد أن تقرر موعد الرحيل في الرابع من ذلك الشهر ، وتأكدت أن رجال الحكومة انتهوا من تفتيش الأمتعة ، أرسلت أمتعتي على وجبات وطلبت من ذويّ الخروج إلى المكان المحدد عند العصر ولكن من دروب مختلفة ، وعند غروب الشمس خرجت ماشيا وأنا بالزيّ المحليّ وكأني في طريقي إلى دجلة للنزهة.

وجدت خارج باب المدينة في منطقة مستوية عددا من الرجال الترك المرموقين راكبين الجياد الأصيلة لعلهم من حاشية الوالي كان عددهم نحو ستين إلى سبعين رجلا وهم يتسابقون في ذلك الميدان الفسيح ويرمي الواحد للآخر بعض العصي. وهذا النوع من الألعاب معروف عندنا ويتطلب ذوقا وإحساسا فوقفت أراقبهم وشعرت بحسن الطالع لمشاهدة هذا السباق الجميل قبل رحيلي. وعند حلول الظلام عادوا إلى المدينة ولم يبق في المكان أحد فانحدرت إلى موضع خفيّ قريب من النهر حيث تجمع الأصدقاء وإلى أن خيم الظلام وأغلقت أبواب المدينة. لقد سخرنا حقا من الأتراك وتخلصنا من القواص المعين لمرافقتنا فلم نخبره بموعد السفر.

وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل حزمنا أمتعتنا وشرعنا بالرحيل فسرنا بسرعة كبيرة طيلة الليل دون توقف فبغالنا قوية وجيادنا أصيلة وخوفنا كبير من أن ينكشف أمر رحيلنا فيرسل الوالي رجاله في أثرنا وعند الفجر وصلنا إلى ضفة نهر ديالى وقد سبق ذكره ولم نجد هناك إلا قاربا واحدا فاستغرق العبور مدة طويلة إلى منتصف النهار.

يساورني الشك في أن نهر ديالى هو المعروف باسم نهر «جندا» في كتب الأقدمين وقد غرق فيه حصان أصيل مقدس (كذا!) يعود لقورش أثناء حملته

٩١

على بابل ، فغضب الملك وقرر تقسيم النهر المذكور إلى ثلاثمائة رافدا بحيث يمكن العبور عليه مشيا ، فأضاع فصل الصيف بأكمله في هذه العملية حسب رواية «هيرودوتس».

عبرنا نهر ديالى وتوقفنا في الضفة الثانية عند قرية «بهرز» عندئذ فقط شعرنا بالأمان ببعدنا عن بغداد فلا تنالنا يد الوالي ؛ كذلك أمضينا النهار بالاستراحة وأخلدنا للنوم إلى منتصف الليل فنهضنا وتابعنا رحلتنا بنفس النشاط السابق. كانت المنطقة التي نسير فيها تابعة لولاية بغداد ، وكانت الأرض هناك مستوية قاحلة تتخللها بعض المستنقعات لا تختلف عن البادية الجرداء إلا في الأماكن المأهولة وهي قليلة ، لقد كانت جافة لا من طبيعتها ولكن لأن يد الإنسان لم تمتد إليها لأني وجدت أعشابا كثيرة وأدغالا برية منتشرة.

في اليوم السادس من كانون الثاني مررنا بقرية تسمى «تكية» ثم عبرنا قرية أخرى أكبر حجما لكنها بدائية تسمى «شهرابان» هناك رأينا جيش بغداد وقد انتشر في أرض واسعة خضراء ونصب خيامه عليها ولا أعرف سببا لعدم تقدمه ، أرحمة بالفرس أم خوفا منهم ... اني أرجح السبب الثاني لأن الأتراك اتخذوا موقف الدفاع.

لم أقترب من مواضع الجيش لكن الرسام وبعض المسافرين اقتربوا منهم قليلا فلم يتعرض لهم الجنود بل تركونا نمر بسلام.

ثم مررنا بقرية أخرى تسمى «هارونية» (١) نسبة إلى رجل اسمه هارون. توقفنا هناك وأمضينا الليل وقد باغتنا بعض اللصوص ، ساعدهم الظلام الحالك فجاؤوا زاحفين وسرقوا بعض الأمتعة من رجال القافلة كافة ولا أعلم ماذا سرقوا من خيمتي ، لكن الرسام شعر بوجودهم فخرج إليهم وأطلق عيارا ناريا على أحدهم رآه يتسلل إلى الخيمة فكان خير رادع للسارق وأصحابه إذ أطلقوا سيقانهم للريح.

في اليوم السابع دفعنا ضريبة كانت تجمع في ذلك الموقع ورحلنا منذ

__________________

(١) معجم البلدان ٤ : ٩٤٦.

٩٢

الصباح الباكر فمررنا بجبال جرداء وأرض قاحلة وعند الغروب توقفنا عند قرية تسمى «قزلرباط» (١) وهي آخر موقع مأهول يخضع للسيطرة التركية ، يسوسها رجل اسمه أحمد أو محمد بك وهو رئيس قبيلة كردية وقد خلع السلطان عليه رئاسة المنطقة مدى الحياة مقابل حراسته للحدود هو ورجال قبيلته.

الأكراد

لا بد أن أسرد عليك شيئا من الأخبار عن الأكراد يا سيدي.

تقع منطقة كردستان بين الدولتين : العثمانية والفارسية ان منطقة وجودهم ليست عريضة بقدر ما هي طويلة. فالمساحة عرضا من الغرب إلى الشرق تستغرق مسيرة عشرة أيام أو اثني عشر يوما تقريبا بينما هي من الشمال إلى الجنوب طويلة جدا إذ تبدأ تقريبا من أراضي بغداد والسوس حسبما أظن وتمتد إلى ما بعد الموصل (وهي نينوى) إلى بلاد مادي وأرمينيا وما بعدها إلى البحر وهي منطقة مكينة لأنها جبلية متفرعة من جبل طوروس ، فالسلسلة تبدأ من هناك لتقسم آسيا وتتقدم إلى الجنوب حتى تصل إلى الخليج. هذه الجبال الشم هي الفاصل الطبيعي بين الدولتين العثمانية والفارسية حاليا كما كانت قديما الفاصل الطبيعي بين الدولة الرومانية والفرثية.

ماذا كان يطلق على كردستان في العهود القديمة يا ترى؟ هذا ما أجهله ولا أعتقد انها كانت تسمى باسم عام كما هي الآن ، بل كانت تقسم إلى شعوب عديدة وبأسماء مختلفة ويؤيد قولي هذا ما ورد في مؤلفات الأقدمين. فقد ذكر عن بعضهم باسم «كاردوكي» الذين أغاروا على زينوفون وأتباعه فألحقوا بهم الأذى بالقرب من نهر دجلة عند تراجعهم إلى اليونان ، كما يروي بنفسه في كتبه الرائعة عن حملة قورش الأصغر. إن كتابه هذا في رأيي هو من أروع ما خلف من المؤلفات (٢).

__________________

(١) تعرف اليوم باسم السعدية.

(٢) حملة العشرة آلاف ، ص ١٦٦ ؛ المورد ٤ (١٩٧٥) عدد ٢ : ص ١٠٠ ؛ مجلة سومر ٢٠ (١٩٦٤).

٩٣

وللأكراد لغة خاصة بهم تختلف عن اللغات المجاورة أي : العربية والتركية والفارسية ورغم ذلك ففي كلامهم لكنة فارسية وتقترب منها في بعض ألفاظها.

يعيش بعضهم في خيام ، وينتقلون من مكان إلى آخر مع مواشيهم ، لكن الأكثرية تعيش في قرى ويخضعون لأسياد من جنسهم ، وسيادة أمرائهم وراثية في الأكثر ، ويتقاسمون الولاء للدولتين المتجاورتين فبعضهم مع العثمانيين والبعض الآخر مع الفرس حسب قربهم من هؤلاء أو من أولئك. لكن كبار أمرائهم أحرار ينعمون بالاستقلال ولكن بدرجات ما بين القوي والأقوى هناك بين أمرائهم من يستطيع أن يعد عشرة آلاف إلى اثني عشر ألف فارس ، مثل أمير بتليس (١) الذي رأيته في اسطنبول. أما محمد بك صاحب قزلرباط الذي ذكرته قبيل قليل فبإمكانه إعداد نحو ألفين إلى ثلاثة آلاف مقاتل لا أكثر. أن الأمراء الأقوياء لا يعترفون بتبعية لأحد لكنهم يقبلون حماية أحد العاهلين وقد يغيرون الولاء من هذا إلى ذاك حسبما تقتضيه منافعهم ، كما يحدث عندنا في إيطاليا تماما! اما الضعفاء فيقبلون بالتبعية بطبيعة الحال ويرضون بالرئاسة لفترة محدودة أو مدى الحياة ولكنها غير وراثية.

يعتبر الزيّ الكرديّ مزيجا من أزياء الأتراك والفرس وهو لباس خشن. نساؤهم سافرات يتجولن بحرية بين القوم ، ويتحدثن بحرية مع الرجال أكرادا كانوا أم غرباء.

الأكراد مسلمون منهم على مذهب الفرس ، ومنهم على مذهب الأتراك بحسب التبعية السياسية التي يقبل بها أمراؤهم. يظن بهم بعض المسلمين سوءا وتنتشر في أوساطهم الخرافات ولقلة معلوماتي عنهم فلا أستطيع التبسط أكثر في عاداتهم.

في بعض أماكنهم كمدينة الجزيرة مثلا الواقعة على نهر دجلة في بلاد ما بين النهرين يسوسها أمير كردي ، وكذلك في الجبل الذي يطلق عليه الكلدان

__________________

(١) بلدة من نواحي أرمينية قرب خلاط ، معجم البلدان ١ : ٥٣٢.

٩٤

اسم «الطور» (١) فهو يخضع للأكراد أيضا وتلك المنطقة جبلية وعرة المسالك ويعيش فيها عدد كبير من النصارى الكلدان واليعاقبة والنساطرة ويتكلمون إلى اليوم اللغة الكلدانية العامية ، ويستخدمهم الأمير الكردي أحيانا كجنود مقاتلين في صفوف جيشه.

هذا كل ما استطعت جمعه من أخبار عن الأكراد.

ولنعد الآن إلى رحلتنا. ففي اليوم الثامن من كانون الثاني بارحنا «قزلرباط» قبل طلوع الشمس بعد ان دفعنا ضريبة زهيدة. وما إن تركنا تلك المنطقة حتى دخلنا في بقعة خضراء كانت مأهولة بالأتراك سابقا لكن الفرس استولوا عليها في الحروب الأخيرة ودمروها فهرب السكان كلهم على الإطلاق وقد كانت هذه المنطقة بشهادة كثيرين أقوى حامية على الحدود.

في ذلك اليوم نفسه مررنا بنهر عريض وقد عبرناه راجلين ولكن بصعوبة بالغة قالوا انه نهر ديالى الذي سبق لنا عبوره بالقارب لكنه في ذلك الموقع وهو قرب منبعه لم يكن غزير المياه.

رأينا عند عدوة النهر بقايا بناء متهدم يسمى «جاي قوناغي» (٢) التي يمكن أن أفسرها باستراحة عند النهر أو وقفة النهر.

في الليلة التالية مررنا بأرض لم أعرف اسمها. وفي اليوم التالي مررنا بموقع متهدم يسمى «قصر شيرين» والكلمة الأخيرة تعني بالفارسية «الحلوة» وتطلق على الرجال والنساء. لكن اسم هذا الموقع يدل في الأكثر على سيدة مهمة ، وفي هذه الحالة يشير إلى صاحبة القصر وهي زوجة خسرو أحد أكاسرة الفرس كان يربطهما حب عارم كما خلدته ملحمة فارسية مشهورة جدا (٣).

__________________

(١) يريد طور عابدين المنطقة الجبلية التي تقع في الشمال الشرقي من ماردين. ذكرها ياقوت في معجم البلدان ٣ : ٥٥٩ ، وغيره من الجغرافيين العرب.

(٢) القوناق : كلمة تركية تعني محط الرحال حيث يستريح المسافرون أو الرحّالة بعد قطع مسافة معينة.

(٣) الملحمة للشاعر نظامي (١١٤٠ ـ ١٢٠٢ م) وموضوعها حب خسرو لشرين.

٩٥

التقينا عند الغروب بثلة من الخيالة الفرس من أتباع «قاسم أو قصوم سلطان» حاكم الحدود وهو الذي هجم على مندلي فخربها. لقد فرحت لأني أصبحت بعيدا عن متناول الأتراك. فلما اقتربوا منا صرحت بأصلي وهويتي فأصبحت موضوع «طماشة» (١) أعني كشيء جديد غريب! فأحاطوا بي وأمطروني بوابل من الأسئلة وكانوا يتكلمون التركية فهذه اللغة سائدة بين الفرس أيضا إلى جانب لغتهم وهي لغة الخاصة في البلاط وبين مراتب الجيش .. ثم أخذوني إلى رئيسهم.

في اليوم التالي وهو العاشر من كانون الثاني ١٦١٧ صعدنا بعض الهضبات ثم توقفنا قرب جدول اسمه «ينكي امام» وبالقرب منه قرية كردية تدعى «ينكي قوناغي» أي الموقف الجديد.

في هذا المكان نزعت الزيّ القديم «أي العراقيّ» ولبست الزيّ الفارسيّ وحلقت لحيتي تاركا شاربي العريضين على عادة الفرس ، فتغير شكلي حتى أن زوجتي معاني استغربت منظري وتألمت جدا .. فحاولت إقناعها بضرورة التغيير حسب عادات البلاد التي نمر بها وأخبرتها بأني سأغير منظري من جديد عندما نعود إلى إيطاليا فهناك سأترك شعيرات قليلة في ذقني. هذه العادة الغربية يطلقون عليها هنا تهكما لحية الماعز!

لقد تكلمت عنك مرارا أمام معاني وحدثتها عن حبك للعربية فاشتاقت إلى معرفتك وقدمت نفسها لخدمتك على أمل أن تلقاك يوما فتقوم مقام المعجم الحي للكلمات العربية التي تريد معرفتها. فما أكثر الكلمات التي لا أثر لها في المعاجم المتوفرة ؛ لذلك فبحضورها يمكنك أن تضع أمامها مختلف الحشائش لتقول لك في الحال اسم كل نوع بالعربية. إنها تستطيع إعطائي جذور الأفعال وأصولها وطريقة تصريفها إضافة إلى الأرقام والأشخاص وغير ذلك.

إنه لأمر غريب حقّا لعله لم يحدث من قبل أبدا بين رجل وزوجته أن لا

__________________

(١) اللفظة وردت في الأصل.

٩٦

يعرف الواحد لغة الطرف الآخر ، وبالرغم من ذلك فإنهما يتكلمان دائما ويتفاهمان جيدا بلغة ثالثة ليست لغة أحدهما.

لم أتقدم في تعلم اللغة العربية رغم وجود الست معاني معي كما أنها لم تتعلم اللغة الإيطالية رغم ضرورتها وأهميتها.

* * *

في الطريق من بغداد إلى هنا ، ونحن نقطع الفيافي والجبال وقد غمرنا صمت عميق وفي الليالي الحالكة وأنا بقرب زوجتي الحبيبة باغتني ملاك الشعر وإذا بالشعر يتدفق تدفقا عجيبا من مخيلتي فأردت الاقتداء بالأقدمين فأضع قصيدة إكراما لزوجتي أصف فيها رحلتي وأعبر فيها عن حبي. ووضعت لهذه القصيدة الغزلية اسما هو اكليل جويريدة» نسبة إلى أسرة معاني.

* * *

لم يبق برفقتي أحد من الإفرنج. كان معي إلى الآن رجل بندقي اصطحبته من حلب ورسام فلمنكي وقد سببا لي متاعب جمة فتخلصت منهما [إذ صرفتهما] مؤخرا ؛ وأعتمد الآن على أشخاص من أهل البلاد ، فمعي الآن رجل من بلد معاني يقوم على خدمتها واسمه عبد الغني بن جرجيس وأصله من ماردين (١) ومعي رجل أرمني وثلاثة رجال كلدان ؛ أولهم طباخ ، والآخر يهتم بالجياد ويسير أمامنا ليفسح لنا المجال في الطرقات ، والثالث وقد عينته كمراسل لكنه لم يلتحق بنا بعد وهناك رجل مسلم يعتني بالجمال ، وفي بيتنا نسوة للخدمة.

أخبار عن الحويزة العربية (٢)

بلغني قبل مدة نبأ وفاة مبارك المليك العربي الذي حدثتك عنه وهو

__________________

(١) توفي الرجل في قزوين في ١١ تموز ١٦١٨ كما ذكر السائح في ص ٧٣٣.

(٢) اذكر القارىء الكريم بأن هذه الفقرات من أخبار تخص العراق أو العرب عامة التقطتها من رسائل السائح وهي غير متتالية بل يذكرها عرضا في مجرى كلامه عن الأحداث العامة.

٩٧

حاكم البلاد الواقعة بين حدود ولاية بغداد وبلاد فارس. وقد خلفه ابنه الكبير «سيد ناصر» الذي عاش وتربى في بلاد فارس ، وتزوج بإحدى بنات الملك ولذا كانت تلك الإمارة منذ سنوات تحترم الملك وتجله.

فبعد موت مبارك ذهب ناصر حالا ليتسنم الرئاسة لكن العرب الذين يعشقون الحرية رفضوا قبوله وقاوموه لأنهم توجسوا فيه نية تغلغل النفوذ الفارسي وإخضاعهم للفرس فثاروا عليه بغية طرده من مملكتهم ولأجل إسناد الرئاسة إلى ابن مبارك الأصغر الذي ترعرع بينهم ، لذلك أثاروا الاضطرابات والفتن حتى فتكوا بناصر أخيرا ولا يعرف بالقطع أمات بالسم أم بالاغتيال وأنا أرجح الاحتمال الثاني. ثم هجموا على مدينة تدعى «الحويزة» وهي عاصمة الولاية فخربوها. وكان بناء الحويزة في الغالب من القصب ما عدا القلعة وكانت قوية جدا لوقوعها بين الأهوار والمستنقعات وكان أهلها يمنعون الوصول إليها بإغراقها عند الضرورة. وقد زحف العرب إلى الأراضي الفارسية وتوغلوا فيها فنشب القتال في تلك الأطراف.

يحكم الحويزة الآن بعض الوزراء من أتباع مبارك المتوفى ، ويسكنون في القلعة أما علاقاتهم بملك الفرس فهي متذبذبة وهو لا يريد أن تضيع منه هذه الفرصة ليضع لنفسه موطىء قدم في تلك المنطقة وإلا فسوف تتحول إلى لقمة سائغة في فم بغداد.

لهذا أعد على وجه السرعة حملة بقيادة حاكم شيراز وهو نائب الملك في المنطقة المتاخمة لإمارة مبارك يسمى «امام قولي خان» وكان مع الملك في الجيش فأسرع وجرد حملة على العرب محاولا اقتحام الحويزة وقد مر بأصفهان في طريقه إلى هناك وكان مسرعا فلم يبق هنا إلا ليلة واحدة.

من أصفهان في ١٨ كانون الأول ١٦١٧

٩٨

الرسالة الرابعة

أيار ـ تموز ١٦١٨

.... لقد شرع الرسام قبل رحيله برسم لوحة للسيدة معاني بزيها العراقي الجميل ، لكنه لم يكملها وإلا لكنت أرسلتها إليكم للتعرف على هذا الزي. وسيدتي الجميلة تبدل زيها في كل بلد نمرّ به فتلبس حسب عادات ذلك البلد.

... إن السيدة معاني تتمنى بكل جوارحها إنجاب الأطفال ، وهي تشعر بالأسى لأن أمنيتها لم تتحقق حتى الآن. ويظهر أنها خلافا لتعليماتي بل عملا بنصائح بعض النسوة التجأت إلى العطار فاستعملت بعض العقاقير المحلية ، وما أكثر ما منعتها من تعاطي تلك العطاريات التي ربما تلحق الأذى بها ، وقلت لها إن إنجاب الأطفال هبة من الله يمنحها حين يشاء .. وقد أشار عليها بعضهن بأن تعاطي الخمر يفيدني فكانت تلحّ علي من وقت إلى آخر لأتناول الخمر عوضا عن الماء ، إنها تعرف جيدا ان أسرتينا كانتا تعجّان بالأولاد : فأمها رزقت باثني عشر طفلا وحملت ووضعت التوائم مرتين وبعد زواجي بابنتها رزقت بطفل جديد! أما من طرفنا فأنا شاب ومعافى بعمر الورود وإني وإن كنت غير متأكد من عمرها بالضبط إذ إن الناس في هذه الديار لا يسجلون المواليد ولا يكترثون بالكتب إلا العلماء منهم بل يكتفون بذكر سنوات الملوك والأحداث والحروب فقد استطعت بعد استجوابها والتحقيق معها بصورة عامة ذاكرا بعض الحروب والأحداث المهمة فعرفت أن عمرها كان نحو ١٨ ـ ١٩ سنة عندما تزوجتها فهي الآن قد بلغت العشرين من العمر. أما أنا فعمري ٣٢ سنة ونتمتع كلانا بالصحة والقوة ... ولا أعلم سبب عدم إنجابنا إلى الآن ...

٩٩

الرسالة الخامسة

أصفهان في ٢٢ نيسان ـ ٨ أيار ١٦١٩

... وصل إلى قزوين في ١٩ حزيران ١٦١٨ السيد عبد الله جويريدة الأخ الأكبر للسيدة معاني قادما من بغداد ، فجاء إلى أصفهان لرؤيتنا ، وإذ لم يجدنا هناك استفسر من الآباء الكرمليين عنا ، وتوجه إلى قزوين .. لقد دعوته بنفسي ليحل عندنا فيبدد بوجوده الشعور بالوحدة والحنين عند الست معاني.

* * *

في ٢٢ حزيران ١٦١٨ قابل الملك ضيوفه الأزبكيين في ساحة القصر في قزوين وبعد المداولات معهم كلمهم عن الحاضرين من ضيوفه ، وقد مدح بصورة خاصة شيخا عربيا أو أميرا من الحويزة اسمه «الشيخ نصار» (١) ونوه بأنه قام باضطرابات في بلاده وقتل بعض السفراء (لعله نزولا إلى طلب الملك نفسه) ثم هرب والتجأ إليه. وهو رجل جريء للغاية وطيب جدا ؛ وخلاصة القول أن له منزلة خاصة. وقد تحدث بإسهاب ولكن بطريقة غير واضحة بحيث إني لم أفهم كل شيء بالضبط ...

* * *

وبعد الأخبار المفرحة التي ذكرتها لا بد أن أنوه بحادث حزين حل بدارنا وذلك بوفاة مربي السيدة معاني وهو عبد الغني ، أو كما كان يحلو لها أن تدعوه «بابا غني» .. لقد تم تشييعه على عادة الشرقيين بعد غسل جثمانه ولفه بالأكفان البيض التي ورد ذكرها في الإنجيل (٢) والكفن قطعة واحدة يستعمل قسم منها لأعلى الجسم والقسم الآخر للأسفل فيلف الجثمان بحيث يصير كالقماط الذي يلف الطفل. أما دفن الميت فيجب أن يكون رأسه باتجاه

__________________

(١) في الأصل Sceic Nassar ,Emir Nassar فهل هو الشيخ ناصر المار ذكره ويظهر أنه كان من صنائع الملك الفارسي ، وما ذكرنا هذه الفقرة إلا لفائدة الدارسين لتاريخ إمارة الحويزة العربية.

(٢) متى ٢٨ : ٥٩.

١٠٠