رحلة سبستياني

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي

رحلة سبستياني

المؤلف:

الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي


المترجم: الأب د. بطرس حداد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٦

البعثة الثانية الى الهند الشرقية

ملخص ما كتبه سبستياني عن العراق في المجلد الثاني من رحلته الى الهند الشرقية

الكتاب الاول (ملخص الفصول الاولى)

في ٧ شباط ١٦٦٠ وبعد ان ودعت جميع الاصدقاء في روما ، اخذت طريق نابولي ، من اجل العودة الى الشرق ثانية ... في اواخر تموز رست في ميناء هذه المدينة سفينة فرنسية اسمها سان بيترو كانت وجهتها طرابلس في لبنان ... فصعدنا عليها. وفي الحادي عشر من آب وصلنا طرابلس ، فنزلنا الى البر في اليوم التالي ...

سافرنا الى حلب ... وعندما وصلنا الى هذه المدينة استقبلنا القنصل بيكيت والاباء الرهبان ...

٨١
٨٢

الفصل السابع والعشرون

السفر الى ماردين ثم الموصل

وكان المناخ لا يزال حارا ، ولذا كان من الضروري السفر ليلا والاستراحة نهارا في ظل خيمة اشتريتها في حلب ، وبعد ان عبرنا الفرات انقسمت قافلتنا الى قسمين ، سار القسم الاول في طريق اورفا ، بينما اتجه القسم الثاني ، وهو اقل عددا ، في طريق ديار بكر ، وكنت انا بضمن القافلة الثانية ، وقد دفعت الرسوم في البيرة ...

مررنا في تلك الليلة بالقرب من جبل قره داغ ، وعند انبلاج الصبح كنا قد انتهينا من القسم الجبلي العالي فاصبحنا في سفحه الثاني ، واذا بمدينة ديار بكر تظهر على امتداد بصرنا ، ان لمدينة ديار بكر اسما ثانيا عند الاقدمين وهو آمد Amid Amit. وبعد ان عثرنا على ينبوع ماء قراح بارد انزلنا الرحال وامضينا النهار كله ، وعند حلول الليل انقسمت قافلتنا من جديد قبل ان ندخل المدينة ، فقد دخل بعض افراد القافلة الى ديار بكر ، اما القسم الثاني فكان مؤلفا من عدد صغير من الخيول والبغال ، فقد اسرع في ترك اطراف المدينة قبل دفع الرسوم ، وسلكنا طريقا بين الوهاد والحفر الى ان اتينا الى تل ومن هناك ألقينا نظرة عابرة على المدينة دون ان يلمحنا احد ، وامضينا ذاك النهار في العراء اذ لم ننصب الخيام ، لقد كان الجو حارا جدا ، وعند المساء تابعنا سيرنا ، وكان ظلام الليل حالكا لانعدام ضوء القمر ، فمررنا بأودية وعرة المسالك ، وبعد يومين او ثلاثة اقتربنا من ماردين وتقع هذه المدينة على جبل اشم ، فأمضينا في جوار المدينة يومين او ثلاثة ، لان مكاري القافلة كان ماردينيا. ثم ابدلنا خيولنا باخرى ، لكن الخيول الجديدة لم تكن بقوة الاولى ، وبعد ان تزودنا بالامتعة اللازمة ، هبطنا الى سهل قوجحصار ، فسرنا في طرق ملتوية وعرة

٨٣

ومنحدرة ، وبنعمة من رب العالمين اننا لم نسقط من عن خيولنا اثناء الانحدار ، ولما بلغنا السهل رأينا هناك قافلة وجهتها نصيبين ، فسرنا في ركابها ووصلنا المدينة المذكورة بعد يومين ... وقد هطلت امطار غزيرة علينا في سفرنا ... ثم عاودنا السير.

في اليوم التالي من سفرنا هذا ، حدث ان غلاما مسيحيا يبلغ من العمر اثني عشر عاما هرب من سيده وهو احد الانكشاريين ، فاضطررنا إلى التوقف ، ريثما يفتش الرجل على المملوك الهارب ، وشاركه في التفتيش بعض افراد القافلة ، الى ان وجدوا الفتى مختبئا في حفرة مليئة بالماء الاسن ، فجروه واخذوه الى القافلة وكبلوه بالقيود ، ثم انهار عليه صاحبه ضربا ورفسا ، فتألمنا جدا لحاله ، ولم يكن بوسعنا ان نفعل شيئا ، وفي ذلك اليوم لم نتقدم في سفرنا بسبب ذلك الحادث. اما في الليلة التالية فاننا قطعنا مسافة حسنة ، وقد اكتشفنا عن بعد وجود ستة عشر لصا ممتطين خيولهم ، فوقع الخوف في قلوب المسافرين بالرغم من ان عددهم كان اكبر من عدد اللصوص ، ومع القافلة نحو خمسين انكشاريا ... وقد اقترب اللصوص منا كثيرا في الليلة التالية وكادوا ان يهاجمونا ، لكننا سبقناهم في الهجوم وامطرناهم بوابل من الرصاص ... ففروا من امامنا.

كان معنا رجل موصلي اسمه نعمة الله ، وكان يهتم بامورنا ويحافظ على امتعتنا ، وعندما نركن الى النوم كان يضع الامتعة تحته خوفا عليها ، لكنه تركنا في هذه البقعة وسار الى منطقة قريبة يسكنها الاكراد.

اخذنا بعد ذاك نسير في النهار خوفا من مباغتة اللصوص ، وفي الليل نزلنا في سهل فسيح ، لكننا وجدنا ان المياه هناك لم تكن جيدة ، على كل حال فان الماء الذي اخذناه في اليوم السابق لم يكن قد نفد بعد.

عندما ننام نضع اغراضنا في الوسط بيننا وبين الخيول ، فننام من جهة وتربط الخيل من الجهة الثانية ، وذلك حفاظا على الامتعة ، وكنا نتناوب الحراسة ، وبالرغم من كل ذلك فعندما نهضنا في الصباح وقمنا لنحمل الخيل ، لاحظنا ان بعض الاغراض مفقودة ، فهلعت قلوبنا لا للاغراض نفسها ولكن

٨٤

لان ما لنا من دراهم ورسائل رسمية وبراءات مهمة كانت موزعة بين الاغراض ، فاخذنا نبحث عن الاغراض المسروقة ، فلا بد ان نجدها عند احد افراد القافلة ، لكن جهودنا ذهبت ادراج الرياح! فتابعنا مسيرتنا والحزن يحز في نفوسنا ، ثم اخذت اتفحص الامتعة غرضا غرضا ، فظهر لي ان المسروق لم يكن على جانب من الاهمية ، بل هو خرج المأكولات ...

في اليوم الثالث من تشرين الاول وصلنا الموصل ، وكان التعب قد اخذ منا كل مأخذ ، فقد تركنا القافلة وقطعنا مسافة كبيرة بسرعة فائقة لاننا اردنا ان ندخل المدينة قبل حلول الظلام. اما الذين تأخروا مع القافلة فقد اضطروا إلى المبيت خارج السور ، وقد هجم عليهم الاكراد في تلك الليلة وكبدوهم خسائر تقدر بخمسمائة قرش.

٨٥
٨٦

الفصل الثامن والعشرون

مكوثنا في الموصل وسفرنا الى بغداد

نزلنا في احد خانات المدينة ، وخلال المدة التي قضيناها في ام الربيعين ، زارنا اكثر من مرة سليمان البنا فاكرم وفادتنا ، اما سليمان فهو ذاك الرجل الذي رافقني من نابولي الى مسينة في رحلتي الاولى ، وقد دعانا احيانا لتناول الطعام على مائدته. وقد طلبنا منه ان يستعلم عن الاكلاك النازلة الى بغداد في نهر دجلة ، لاننا اردنا السفر باسرع وقت ممكن الى البصرة قبل انحسار المياه.

امضينا في الموصل نحو عشرة ايام ، زرنا خلالها كنائس النساطرة واليعاقبة.

دعانا الاخ الاصغر للقس الياس ـ الى داره ـ وقدم لنا بعض المبردات ، وكان هذا القسيس قد رحل معي في سفرتي السابقة من بغداد الى حلب ، وقدمت له مساعدات جمة في روما ، وقد اراد شقيق القسيس ان يذهب بنا الى مكان قريب في جبل الكرد يسمى القوش (١) Alcus (وطن النبي ناحوم (٢)

__________________

(١) قرية تقع على بعد ٢٦ ميلا شمالي الموصل ، سكانها مسيحيون ينتسبون الى الطائفة الكلدانية.

كان كري بطريق المشرق في بغداد فترة طويلة من الزمن ، وبعد خراب عاصمة العباسيين على ايدي المغول بفترة ، انتقل الكري البطريركي الى مراغة ، ثم تنقلوا من موضع الى آخر حسب الظروف ، الى ان اتوا الى القوش نحو سنة ١٤٣٦ ، وبعد بداية القرن السادس عشر كانوا يقيمون في دير السريان هرمز القريب من القوش (ذخيرة الاذهان ٢ / ٨٤).

(٢) راجع الملحق رقم (١٦).

٨٧

المعروف بالالقوشي Elceseo بقصد زيارة البطريرك ابن عمه (١) ، نظرا الى ان البطريرك السابق ، وهو عمه ، كان قد انتقل الى جوار ربه قبل مدة قصيرة (٢) ، بعد ان طعن في السن ، ومات وهو على ضلاله ، وان كان القس الياس بعد رجوعه من روما قد اقنعه بغلطه وحرضه على الخضوع للحبر الاعظم ، لكن تحريضه كان بلا جدوى ، فقد كان البطريرك يخاف من ان يتهم بانه افرنجي. وكان عمر البطريرك الجديد (٣) ، ابن اخي البطريرك المتوفى ، اربعة عشر عاما ، وقد رسم قبل سنة اسقفا ، وفي السنة السابقة لهذه كان قد سيم قسيسا ، بعد ان امضى سنتين كراهب من اتباع القديس باسيلوس (٤). فهكذا يكون مجرى الامور ، حيثما تقلد المراتب الكنسية بالوراثة في اسرة واحدة (٥) ، او حيث تشوب الايمان القويم شوائب فتعكر صفاءه.

وكان اخو القس الياس ، واسمه عبد الله ، يامل بان زيارتي للبطريرك ابن عمه ، قد تحركه على تقديم الطاعة للجد الاعظم (٦) لكن وقتي كان محدودا

__________________

(١) البطريرك الجديد هو ايليا يوحنا مروجين ، انتخب سنة ١٦٦٠ ومات في ١٧ ايار ١٧٠٠ (عواد : اثر قديم ص ٣٩ ، تيسران ـ الصائب : خلاصة تاريخية ص ١٤٧).

(٢) توفى البطريرك السابق في ١٨ حزيران ١٦٦٠.

(٣) راجع الملحق رقم (١٧).

* هذا وهم من المؤلف فالرهبان الكلدان كانوا يعيشون على طريقة او قوانين القديس انطونيوس.

(٤) نصت قوانين الكنيسة الشرقية (النسطورية) منذ اقدم الازمنة على ان يقوم البطاركة بعد انتخاب قانوني (شابو : السهندوسات الشرقية ص ٣٦١ و ٣٦٥ و ٤٢٠ و ٥٥٤ و ٦٠٦ ـ ٦٠٧) وحدث في عصور الانحلال ان انتخب البطريرك طيماتاوس الثاني بالباصيدي في منتصف القرن الخامس عشر فسن قانونا حصر بموجبه المنصب البطريركي في عشيرته ، وهو اول من عين خلفا له من ذوي قرابته وأسامة رئيس اساقفة لكي يخلفه بعد موته ، وقد سار على هذا المنوال خلفاؤه من بعده (ذخيرة الاذهان ٢ / ٨٣).

(٥) انظر الملحق رقم (١٨).

٨٨

وكنت اترقب السفر في كل لحظة ، لذلك رفضت السفر الى القوش ، وفضلا عن ذلك فان الاب جيوفاني تاديو (١) Ctio Taddeo كان طريح الفراش فلم يسعني ان اتركه.

احتفلت الموصل في تلك الفترة باعياد يطلقون عليها اسم «الزينة» وبالتركية «دولمنا» (٢) وذلك بايقاد المشاعل خلال ليال متتالية ، وبتحميل الطرقات خاصة في الاسواق «البزار» وقد امر الوالي باقامة الزينات بمناسبة استيلاء الاتراك على حصن مكين كان في يد النصارى ، ولا اعلم موقع ذاك الحصن (٣) ، لكن احد الجنود قال لي بان غاية الاحتفال كان للدعاية ولخداع الشاه الايراني بانتصارات خيالية ، كي لا يهاجم المملكة من جهة ايران : لانه ، اعني الحادث يفهمنا ان الدولة العثمانية تخيف في ظواهرها لا في حقيقتها ، ويعرف الاتراك كيف يظهرون انفسهم اكثر مما هم في الواقع.

الكلك هو عبارة عن مجموعة من العبيدات اليابسة المعوجة ، تربط حزما حزما فوق قرب منفوخة بالهواء فتسند حزم الاعواد كي لا تغطس من ثقل البضائع. والكلك مربع الشكل ، لا دفة له ولا جؤجو (مقدمة) بل يستعملون مجذافين هما بالاحرى قطعتان معوجتان من الخشب تنتهيان بلوح مسطح من الخشب ايضا ، ونظرا لبساطة تكوينه ، لذلك فمن ابسط الامور اعداد ثلاثة اكلاك او اربعة في مدة قصيرة من الزمن ، فلكي نحث على الاسراع في تحضير الاكلاك ، خرجنا من المدينة ونزلنا الى شاطىء النهر يومين او ثلاثة ،

__________________

(١) نقل يعقوب سركيس هذا الاسم خطأ «جيوتاديو» مباحث عراقية ١ / ٣٤٣.

(٢) دولمنا كلمة تركية وهي دوننما وتعني الزينة ، والاصح كتابتها طوننما لانها مشتقة من طون بمعنى الثوب واللون والزينة (هذا التعليق للاب الكرملي وجدناه في قاموس تركي ـ فرنسي من كتبه الخاصة).

(٣) جاء في كلشن خلفا «وفي سنة ١٠٧٠ كان النصر في كل الجهات حليف السلطان ... وانه بعد ما حاصر قلعة رواد تمكن من فتحها وتغلب على حاميتها ، وزفت البشائر بهذا الفتح الى كل مكان وخاصة بغداد حيث اعلنت فيها الافراح ثلاثة ايام بلياليها واقيمت فيها معالم الزينة» ص ٢٥٩.

٨٩

وفي هذه الاثناء تدهورت حالة الاب جيوفاني تاديبو الصحية ، ورأيته عاجزا عن السفر ، فنصحته بالبقاء مع احد رفاق السفر في بيت سليمان للمعالجة ، واعطيته كمية كافية من المال ، على امل تحسن حالته ، فيتبعني من ثم الى الهند لكنه الح على السفر معنا.

في العاشر من تشرين الاول (١٦٦٠) ركبنا الرمث ، وكان محملا بالكبريت ومكتظا بالمسافرين.

فلم يكن بالامكان ان نجد مكانا للاستلقاء عليه او البسط الفراش فوقه ، قبل سفرنا قدم الشاهبندر وهو موظف الكمرك ، الى الموضع الذي كان فيه الكلك ، فاوقفنا ليفتش الامتعة ، وكان يود الرجل ان ياخذ اكبر كمية من المال فوضع مختلف العراقيل ، وفي الاخير ارتضى بالقليل وتركنا لشأننا.

تحرك الرمث ، وبعث ثلاث ساعات من السير مع تيار النهر ، مر الكلك بمنطقة حجرية فكاد ان يغرق ، فاضطررنا جميعنا إلى النزول الى الماء لنخلص ، وبعد محاولات شتى ومشاق كبيرة عاد الكلك الى فوق الماء ، واخذ يجري بسرعة جنونية مع التيار ، وبالكاد استطعنا اللحاق به والصعود عليه.

وكانت بعض الزقاق قد تمزقت نتيجة لذلك الارتطام فاخذ الكلك يغطس ثانية خاصة حيث كان الماء عميقا ، وبدأ الماء يتسرب الى الاغراض حتى وصل الى وسط اجسامنا ، فملأ الخوف قلوبنا ، وبدأنا نصرخ يا يسوع ويا مريم ، وكان الاخرون يصرخون يا الله ويا محمد ، وفي هذه الاثناء دفعنا التيار قريبا من حافة النهر ، وبالرغم من كوننا لا نزال في وسط الماء ، فقد قفزنا للحال الى اليابسة ، ونشرنا ألبستنا تحت الشمس وعرضنا امتعتنا للهواء لتنشف ، اما الزاد فقد تلف. وكان لنا شيء من الخمر في قنينة ، نظرا الى ان الخمر تفيد للتطبيب لا للسكر ، فعثر احدهم على القنينة ، فاخذها للحال وعرضها على الجميع قائلا : انظروا هوذا سبب هلاكنا ، انه ذنب الافرنج ، ورمى القنينة على صخرة فحطمها.

ارسل الكلاك في طلب قرب جديدة من الموصل ، فاصلح من شأن الرمث ، وهكذا اكملنا سفرنا.

٩٠

وكان التيار يسيرنا فلم يستعمل اكلاك المجاذيف ، وكنا نرتطم احيانا بضفاف النهر ... ثم وصلنا الى شلال صغير (١) وفي ذلك خطر السقوط وانقلاب الكلك. فتوقفنا هناك ثم حلوا الاكلاك ، ولم يبق الا كلكنا كاملا ، فقام بحله ذاك الكلاك الذي كان قد حطم قنينة الخمر ، وكان لا بد من الانتظار ساعات طويلة ريثما تتم عملية شد الاكلاك من جديد. اما صحة الاب تادييو فقد كانت في تدهور مستمر ... ثم تعافى ولله الحمد ...

ان الترجمان الذي اصطحبناه من حلب ، تركنا في الموصل لانه رفض بيع حصانه ، فعاد الى وطنه ولم نجد لنا بديلا عنه ، لذا كنا نجد انفسنا في صعوبات وانعزال لاننا لا نفهم لغات تلك البلاد.

اكملنا سفرنا الى تكريت ، وكان السفر صعبا وشاقا ، والمناخ حار والشمس حارقة ، ولم نستطع شراء شيء في تكريت الا بيضات ثلاثا وديكا ..

وبعد ستة ايام اخرى ولربما سبعة وصلنا الى بغداد ، فذهبنا الى الاباء الكبوشيين بعد ان تركنا امتعتنا في الفندق Alfandica اي في الكمرك ، حيث استلمناها فيما بعد ، بعد جدال ونقاش طويلين ، وبعد ان فقدنا بعضها.

__________________

(١) انظر الملحق (١٩).

٩١
٩٢

الفصل التاسع والعشرون

سفرنا الى البصرة بواسطة دجلة

عند وصولي الى بغداد ، رأيت على شاطيء النهر القس الياس ، وكان يأتي كل يوم الى هناك منتظرا قدومي ، فقد بلغه خبر سفري الى هذه الجهة ، لقد ساعدني هو والاباء لاحصل على دانك يتوجه الى البصرة ، وقد طلبنا جواز مرور من الوالي ، ولكننا لم نأخذه ، لان ربان الدانك قال ان لا ضرورة له ، وانه مرخص لحمل الافرنج على قاربه الى اية جهة يسافرون. ولم نتمكن من الحصول على مترجم في بغداد ليسافر معنا.

وبعد ان تزودنا بالطعام الضروري ، تركنا الزوراء في ٢٥ تشرين الاول ، دون مترجم ونحن لا نعرف اللغة. فرأينا الدانك محملا بالبضائع المختلفة ، مكتظا بالمسافرين حتى اننا لم نجد موضعا نجلس فيه ، وبالكاد تمكنا من الجلوس بالقرب من السارية وقد توقعت المصائب في هذا الدانك ، لان الاحمال كانت كثيرة ، ولم تفد احتجاجات المسافرين وصراخاتهم ، فقد كانوا يكدسون البضائع ، وذلك لان القبطان كان جشعا للغاية.

من الصعوبة بمكان ان اعبر عن المشقات التي لاقيتها في هذا السفر ، فمن وقت الى اخر كان الدانك يجنح الى هذه الجهة او تلك او يرتطم بضفاف النهر ، وفي كل يوم كانت صراخات المسافرين تتعالى فتصم الاذان ، وكم من مرة توقفنا لننزل البضاعة او لنحمل غيرها ، او نضطر للنزول الى الماء لدفع الدانك ، والويل ثم الويل لمن يتأخر عن النزول ، فان ضربات العصي تنهال على راسه ، ولكن لا بد من الاعتراف بانهم كانوا يلزمون جانب الاحترام بالنسبة الينا.

اردنا التخلص من هذا الدانك ، فحاولنا اول مرة عندما وصلنا الى بلدة

٩٣

الحي ، فلم نفلح ، وهكذا في اماكن اخرى ، وكانت نيتنا ان نستأجر دانكا صغيرا كافيا لنا ، ولشخص ارمني اسمه السكندر رافقنا من بغداد ، واصله من دياربكر ، لكننا لم نجد ضالتنا. ان جهلنا اللغة الحق بنا اضرارا كثيرة ، وبالرغم من كل ذلك ، فان الارمني والجندي الانكشاري ورجلا مسلما تظهر على محياه سمات النبل والوقار ، قدموا لنا مساعدات جمة اكثر من مرة ، وكان الرجل المسلم يحاول ان يدخل الفرح الى نفوسنا ، وكان الرجل هرما وسمينا جدا ، لكنه مع ذلك خفيف الظل سريع النكتة ، فكنا نتفاهم بالحركات وبالايماءات وبكلمات معدودات هي خليط من التركية والفارسية والعربية.

في الثالث عشر من تشرين الثاني وصلنا الى المجر Magger وتعتبر هذه المنطقة نهاية حدود ولاية بغداد ، فكان من واجب القبطان ان يدفع رسوما عن الحمولة ، وقد طلب الشاهبندر ضريبة اكثر مما يستحق ، فلم يتفقا على مقدار الضريبة ، وهنا تدخل احد البحارين ، الذي كثيرا ما انعمنا عليه بالمساعدة ، فاراد ان يظهر براعته للقبطان فاقترح عليه ان يصرح بان الحمولة طبيعية ، وان كان هنا كمية اكثر من الحمولة العادية فليتقاضى اجرها من المسافرين الافرنج ، فطاب الاقتراح للربان واخذ بالعمل بحسب هذه المشورة ، فاستدعانا الشاهبندر وطلب منا جوازات السفر (عدم تعرض) واذ لم يكن معنا ، اعتمادا على وعد الربان نفسه ، للشاهبندر بواسطة الحركات ان الربان نفسه لم يهتم للجوازات ، فانكر الربان بكل وقاحة ما قاله في بغداد ، عندئذ امر الشاهبندر بالقاء القبض علينا.

ليس بامكاني ان اشرح او ان اعبر عن شعوري في تلك اللحظة ، لقد اخذت اتصور نفسي ورفاقي سجناء في ذلك الموضع البعيد ، بين اعراب لا استطيع التحدث اليهم لجهلي لغتهم ، فانقبض قلبي ، ورأيت ابواب الخلاص مسدودة في وجهي. واذ بواحد منهم يقترح علينا حلا للمشكلة بان ادفع عشرين قرشا ، ففرحت بهذا الحل ، لكن قلة ذات اليد جعلتني احتج بان الضريبة عالية ، فتدخل الجنود الانكشاريون والملا واسكندر الارمني ، وهكذا هبطت الى خمسة قروش نتيجة وساطتهم ، وتظاهر اسكندر وهو يخفي ابتسامة

٩٤

خبيثة بانه يدفع الضريبة عنا ، واخذ يقرعنا بكلمات صارمة!.

اكملنا السفر ، وبعد فترة دخلنا في منطقة ولاية البصرة الجميلة فرأينا صباح احد الايام عددا كبيرا من البجع يحلق فوق رؤوسنا ، فقام البعض وصوبوا النار عليه ، فمنعهم بعض المسافرين المسلمين قائلين ان صيد البجع اثناء طيرانه حرام ...

ثم وصلنا الى منطقة بدأنا نشعر فيها بالمد والجزر ... وفي منتصف ليلة الحادي والعشرين من تشرين الثاني ، اذ كنا نياما ، تعالت صراخات النساء تشق عنان السماء ، فقد كان تيار النهر جارفا ، فاخذ يهز الدانك هزا قويا ، فارتطم الدانك بصخور الساحل ، وتحطمت من جراء الارتطام بعض قطعه ، فتسربت المياه الى داخله وكادت تغرقه. فحل الخوف في نفوس الراكبين ، واخذ الربان يصرخ ، والبعض يبكي ويولول بينما كان اخرون يلطمون وجوههم ، وسارع اخرون إلى تخليص الامتعة ، والحق يقال ان الواحد كان يساعد الاخر من اجل النجاة ، فأشعلت مصباحا كان معي وسألت الاب كوتيفريدو انكان بامكاننا انقاذ الامتعة فأومأ بالايجاب ، وللحال ربطنا الامتعة بسرعة ، واذ لم اكن خبيرا بالسباحة فقد حاولت الاقتراب من الشاطىء بواسطة لوح من الخشب واخيرا رميت نفسي فسقطت على منطقة طينية فانطمرت فيها بينما غمرتني الاوحال ، فحاولت التخلص بكل قواي ، وبعد جهود شاقة استطعت ان اسحب نفسي فارتميت على اليابسة ، وهناك وجدت شابا مسلما ، اومأت اليه ان يذهب لمساعدة الاباء الاخرين ، فاسرع ذاك الشاب الطيب ونزع ثيابه كلها تاركا اياها عندي ، ورمى بنفسه في الماء ، ثم عاد سابحا ومعه الاب كوتيفريدو وهما يتعاونان في حمل الاغراض ...

صباح اليوم التالي وجدنا دانكا ... فركبنا مع اسكندر الارمني والملا والشاب المذكور واحد الجنود وكان اسمه قادر باشا ، فأكملنا سفرنا دون خوف من الاعراب او اي شخص آخر ، ثم ابدلنا الدانك في Amma ، وفي القرنة وقد اوقفنا الشاهبندر في القرنة مدة خمس وعشرين ساعة ، واخيرا وصلنا الى البصرة بعد ايام اربعة ، وكان ذلك اليوم عيد القديسة كاثرينة (اي

٩٥

٢٥ تشرين الثاني) ، بعد سفر خطر جدا قاسينا منه الامرين واستغرق شهرا كاملا ، وقد استقبلنا الآباء الكرمليون على الرحب والسعة واظهروا نحونا محبة كبيرة.

٩٦

الكتاب الثالث من المجلد الثاني (١)

الفصل السابع عشر

... الى البصرة

... اخيرا وصلت السفينة «المسماة» كاباريس Cabares نحو مطلع شهر حزيران سنة ١٦٦٤ فصعدنا عليها لنعود الى البصرة ... وفي المساء هبت ريح الشمال فحدثت زوبعة بحرية هائلة ، فانزلت المرساة. وقد لاحظنا عند سير السفينة ، ان سارية المقدمة قد انكسرت وتكاد ان تتحطم ، وفي هذه الحال ستجر بقية السواري ، فتحدث الطامة الكبرى ، لذا رأينا من الضروري ان نكمل الابحار بانتباه وحذر كبيرين ، لان الرياح كانت بعكس اتجاهنا ، اخيرا وصلنا الى نهر البصرة في الرابع عشر من تموز (١٦٦٤) بعد اربعين يوما من سفر مضنك للغاية.

__________________

* اهملنا تعريب الكتاب الثاني من المجلد الثاني لان احداثه كلها تدور في الملبار (الهند).

٩٧
٩٨

الفصل الثلاثون

في البصرة

كان الحر شديدا للغاية ... لقد جعلني السفر في هذا الموسم افكر بجهنم النار ... ولم استطع الرقاد او الاخلاد الى الراحة ، كما لم تفدني مختلف الوسائط التي اتخذتها من اجل التخفيف من شدة القيظ. ولما كان الاب كوتيفريدو مريضا فقد تركني وسافر ، كما ان الاب جيوفاني تاديبو كان متوعك المزاج على اثر سفره في البحر ، لذا كنا بامس الحاجة الى الراحة ، ولهذا السبب قررت البقاء في هذه المدينة الى نهاية ايلول.

تمر في البصرة سفن كثيرة ، لذا فان البحارة من مختلف المذاهب المسيحية كانوا يأتون الى كنيستنا لحضور المراسم الدينية ، فكنا نقيم القداس الكبير مصحوبا بالموسيقى ، وقد منحت سر التثبيت الى كثيرين خلال وجودي في هذه المدينة ...

اجتمع في ديرنا جمع كبير من اتباع القديس يوحنا ، ويطلق عليهم اسم الصابئة المندائيين ، وقد نقلوا اليّ تذمرهم من الاب رئيس الدير ، لانه لا يسمح لهم بالدخول الى الكنيسة كما انه لا يمنح العماد لاولادهم ، وكانوا يؤكدون لي بانهم نصارى.

فاجبتهم ، حسنا يفعل الاب المذكور لانكم لستم نصارى ... ولذا لا يحل تعميد اطفالكم ... ولقد وجدنا بعضا منهم قد تنصروا ، وكان واحد منهم اسمه ايزيدورو بانفيليو كان قد نال العماد في روما على عهد البابا انوشنسيوس العاشر ... وعاد الى وطنه (فاصبحت حياته في هذا المحيط صعبة تكتنفها الاخطار) ... لقد التقيت به اكثر من مرة فشجعته على الثبات في معتقده ،

٩٩

فوجدت ان معنوياته كانت عالية (١).

__________________

(١) في تقرير كتبه الكسندر الكرملي سنة ١٦٥٦ عن مبعوث رهبانيته في البصرة ، قال «... في سنة ١٦٥٣ تم عماد اربعة صابئين في روما ، وكانوا قد ارسلوا هناك من قبل رهباننا ، وبعد عودتهم الى البصرة حافظوا على الايمان المقدس ، واخذوا يساعدون الاباء في خدمة النفوس ...» (رباط : وثائق ١ / ٤٤٢).

١٠٠